مشاريع تطوير المرجعيّة

مشاريع تطوير المرجعيّة

طُرحت فكرة تطوير المرجعيّة ومأسستها في عدّة أفكار بقيت في عداد الإثارات النظريّة، ولم ترقَ إلى مستوى التَّنظير العملي المتكامل؛ ربّما لأنّ الواقع الحوزوي والمرجعي لا يزال ينظر بعين التقديس إلى النمط التقليدي للمرجعيّة، ويرفض أيّ مساس بالشَّكل فضلاً عن المضمون.
وفي كلّ الأحوال، فبالإمكان تسليط الضَّوء على عدّة نظرات كانت محطّ نقد السيّد فضل الله (ره) وتقويمه، وصولاً إلى طرح فكرته حول مأسسة المرجعيّة.
1- المجلس الفقهي
تطرح الفكرة أن تتشكّل المرجعيّة من مجلس يضمّ عدداً من الفقهاء، بديلاً من مرجعيّة الفرد الفتوائيّة. وترتكز هذه النظريّة على أنَّ نظريّة الأعلم التي يلتزمها الكثيرون، تنشأ من فكرة أنّ كفاءته العلميّة المتقدّمة تجعله أقرب إلى وعي الحكم الشَّرعيّ الواقعيّ من غيره؛ لأنَّ أعلميّته تجعله ينفتح على العناصر الحيّة في الاستنباط بطريقة أعمق وأشمل ممّا يدركه غير الأعلم؛ وبالتالي، فإنّ اجتماع مجتهدين متنوّعين يملكون الكفاءة الفقهيّة المتقدّمة على رأي واحد، قد يفسح في المجال لأن يكون إدراك الحكم الشّرعيّ الواقعيّ بطريقة أكثر سلامة من رأي مجتهد واحد حتّى لو كان أعلم؛ لأنّ الآراء المجتمعة عادةً تمثّل دراسة متكاملة أكثر من الدّراسة الفرديّة. وعليه، لا تكون مسألة الأعلميّة ذات موضوع أمام التعدّديَّة الاجتهاديّة في المجلس الفقهي المفترض.
كما أنّ هذا الطَّرح يخلّص الجماهير من مشكلة انتقال التَّقليد من شخصٍ إلى آخر بعد موته مثلاً؛ فإنَّ حياة النَّاس قد ترتبك عندما يختلف المجتهد الثَّاني مع المجتهد الأوّل في مفردات الأحكام الشَّرعيّة؛ فقد يفتي بالحرمة في ما يكون لدى المجتهد الأوَّل حلالاً أو بالعكس، أو يضيف بعض القيود إلى مسألة، أو ينزع بعض القيود عن مسألة، وما إلى ذلك. بينما يختلف الأمر عندما يكون هناك مجلس فقهيّ، لأنّه يطلق هذه المسألة الفقهيّة المتّفق عليها أو تلك لتمتدّ في حياة النَّاس.
ولكنّ السيّد يناقش هذا الطرح من ناحيتين؛ علميّة وعمليّة.
أمَّا المناقشة من الناحية العلميّة، فلأنّ تبنّي نظريّة تقليد الأعلم لدى كثيرين، ينطلق من بعض المعطيات الواردة في الروايات، أو من بعض المنطلقات العقلائيّة؛ ولذلك فإنَّ طرح المجلس الفقهي يواجه إشكاليَّة علميّة لدى من يتبنّون نظريّة تقليد الأعلم تبعاً لبعض أدلّتهم، بحيث لا يملك هذا المجلس شرعيَّة في مقابل الأعلم المفترض، إلَّا إذا استطاع هذا الطَّرح (المجلس الفقهي) أن يُثبت أنّ بناء العقلاء في مختلف ميادين الحياة، يقوم على أنّ التعدّدية في الرأي يتميّز عن رأي المجتهد الواحد حتّى لو كان أعلم.
وبذلك، فإنَّ السيّد يضع الإطار النظريّ للجدل حول شرعيّة المجلس الفقهي في دائرتين:
أ‌- الجدل حول نظريّة أن يكون المرجع أعلم.
ب - الجدل حول بناء العقلاء في نظرتهم إلى التعدّدية في إنتاج الرَّأي قياساً بالمجتهد الواحد.
وفي الوقت الَّذي يرى فيه السيّد أنَّ المسألة قد تبقى موضعاً للجدل بما لا يحقّق لهذه الفكرة الشّموليّة في قناعات العلماء، وبالتّالي في قناعات الناس، فإنّه يطرح إشكاليّة أخرى علميّة، وهي أنَّ المجلس الفقهيّ يمثّل أطروحة فقهيّة تستتبع حكماً شرعيّاً بلزوم الأخذ بتلك الأطروحة ومتابعتها عمليّاً؛ وعندما يقف الإنسان العامّيّ الَّذي لا يستطيع أن يميّز بين هذه الأطروحة وبين غيرها، أمام تكليفه الشَّرعيّ، فإنّه لا يستطيع أن يلتزم بهذه الأطروحة، لأنّه لا حجّة له ذاتيّة، ولم يفتِ بها الأعلم حتّى يكون تقليد الأعلم مبرئاً للذمَّة في هذا المجال.
كما أنّ من الصَّعب أن تحصل هذه الأطروحة على إجماع أو شبهه، في المجال الإسلاميّ الشيعي، لأنّ الناس فيه قد أدمنوا المرجعيّة الفرديّة بشكلٍ أصبحت المرجعيّة ـ في وعيه الشَّرعيّ ـ امتداداً للإمامة، وأنَّ المرجع عندهم له صورة القائد حتّى لو لم يكن ممارساً لقيادته، أو لم يكن متميّزاً بالعناصر القياديّة الحركيّة المنفتحة على الواقع، ما يجعل المجلس الفقهي مسألة يتصوّرها كقضيّة إداريّة لا تملك معنى القيادة.
وبنظر السيّد فضل الله، فإنّ هذه المشكلة، أعني الوجه القياديّ للمرجعيّة، لا تُحلّ بافتراض رئيس للمجلس الفقهيّ، لأنّ الحديث يُمكن أن يُطرَح حول مدى شرعيّة هذا الرَّئيس؛ هل هو الأعلم أو ليس الأعلم؟ وهل يكون رأيه ملزماً للمجلس، أو يكون رأيه أحد الآراء فيه؟ وماذا إذا اختلف مع المجلس؛ فهل يتنازل المجلس لرأيه؟ وما هو الأساس في هذا التَّنازل؟
ويعتبر السيّد هنا أنّ علامات الاستفهام الَّتي قد تواجه المجلس ككلّ، قد تواجه الرئيس بطريقة أقسى.
وأمَّا المناقشة من النَّاحية العمليَّة، فيطرح السيّد عدّة تساؤلات؛ من قبيل:
ممّن يتألّف هذا المجلس؟ وما طبيعة الدَّرجة الَّتي لا بدَّ أن يملكها هذا المجتهد أو ذاك المجتهد للفتوى؟
والسؤال الَّذي يستدعي التوقّف: من الَّذي يعيّن المجتهدين في هذا المجلس؟
وهنا، قد تُطرح عدّة إجابات:
الأولى: أنَّ الذي يعيّنهم هو الوليّ، أي المجتهد العادل المتصدّي للسلطة الإسلاميّة العامّة. ولكنّ السؤال الَّذي يُطرح هنا: هل من صلاحيَّة الوليّ أن يعيّن مجلساً فقهيّاً لإفتاء النَّاس؟ حيث إنّ كثيراً من العلماء لا يرون من شؤون الولاية ذلك، لأنّ شؤون الولاية تتّصل بإدارة شؤون الأمَّة في قضاياها العمليّة، لا في خطّها الفتوائي.
وهنا قد تُطرح إشكاليَّة، وهي مرتبطة بالظروف الاجتهاديّة والسياسيّة التي تؤسّس لديمومة الولاية، بحيث تمنع من الاختلاف عليها في المستقبل؛ وهذا ما لا يمكن ضمانه - في نظر السيّد - سواء في حركة الاجتهاد الَّتي قد لا تتبنّى فكرة ولاية الفقيه العامَّة، أو في الظروف التي قد تحيط ببقاء الكيان السياسي الَّذي يمثّل قاعدة الولاية فكريّاً وروحيّاً وسياسيّاً، ما يؤدّي إلى اختلاف النَّاس، ولا يحسم الجدل في هذا المجال.
الثانية: الانتخاب الشَّعبي. والسؤال الَّذي يطرح نفسه - بحسب السيّد فضل الله -: ما هي قيمة التَّصويت الشَّعبيّ في اختيار المجتهدين بشكل يتعيّن فيه على النَّاس إطاعتهم في المسألة الفتوائيّة، لأنّه لا دليل على شرعيّة أصوات النَّاس في هذا المجال، لأنّ النَّاس ليسوا أهل الخبرة في المجال الفقهي حتّى يرجّحوا ويختاروا.
وثمّة سؤال آخر، وهو: ماذا إذا اختلف المجتهدون فيه؟ هل نتبع رأي الأكثريّة؟ وما الدَّليل على حجّية رأي الأكثريّة أمام الأقليَّة؟ فقد لا تكون هناك أسس فقهيّة تغلّب رأي الأكثريَّة من العلماء على رأي الأقليَّة، بحيث يكون رأي الأكثريّة حجّة في ذاته، حيث ثمّة مسألة في علم أصول الفقه، وهي أنَّ الشهرة في الفتوى ليست دليلاً شرعيّاً، بمعنى أنَّ مجرّد كون هذه الفتوى مشهورة بين العلماء في مقابل فتوى غير مشهورة، لا يُعتبر أساساً للحجّية وللتَّعيّن في مقام العمل والاتّباع.
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ افتراض أنّ المجلس الفقهيّ من شأنه أن يُلغي حالة الارتباك لدى النَّاس على صعيد الانتقال من مرجع إلى آخر بعد موت الأوّل، فهذا لا يملك ديمومة في امتداد الزَّمن، لتكون فتوى المجلس الفقهيّ في هذه المرحلة ملزمةً لكلّ النَّاس على مدى الزمن، فربّما يأتي مجلس فقهي آخر يخلف هذا المجلس الفقهي، تماماً كما يأتي مرجع آخر يخلف مرجعاً قبلَه، وقد تكون آراء المجلس الفقهي الجديد مختلفة عن آراء المجلس الفقهي القديم، ما دامت المسألة تخضع لاجتهاد المجتهدين في هذا المجلس أو ذاك.
ولكلّ ذلك، يعتبر السيّد أنَّ أطروحة المجلس الفقهي ليست أطروحة بعيدةً من الجدل، كما أنّها ليست أطروحة واقعيّة في الذّهنيّة الإسلاميَّة الشيعيّة العامّة، في مرحلته على الأقلّ.
2- المرجعيّة المؤسّسة
يطرح السيّد فكرة المرجعيّة المؤسّسة مشروعاً تطويريّاً للمرجعيّة الإسلاميّة الشيعيّة، من دون أن يدخل في تحديد نظامٍ لهذه المؤسّسة، باعتبار أنَّ هذا المشروع لا بدَّ أن يتشكّل بناؤه النظريّ استناداً إلى حركة وعي شاملةٍ تؤمن بالمشروع، وتضع له نظامه بطريقة واقعيّة بعيدة من النظريّات التجريديّة.
وإذ يبني السيّد على ما طرحه الشَّهيد السيّد محمَّد باقر الصَّدر في السبعينيّات من القرن العشرين، في مشروعه لما سمّاه المرجعيّة الصَّالحة، والَّذي حدّد فيه الوسائل العمليّة لأن تتحرّك المرجعيّة كمؤسّسة ولا تبقى كشخص، يؤكّد السيّد أنَّ المرجعيّة الإسلاميّة الشيعيَّة تحتاج إلى أن تتحرّك في دائرتين:
الدَّائرة الأولى: أن لا تكون المرجعيّة شخصاً بحيث يرث أولاده تُراثه وتجربته، أو أن تكون أجهزته خاضعةً لخصوصيّاته، بل أن تكون المرجعيّة مؤسّسة، بحيث إنّ المرجع عندما يأتي، فإنّه يأتي إلى مؤسّسة تختزن تجارب المراجع السَّابقين، بحيث تكون كلّ الوثائق الَّتي تمثّل علاقات المرجعيّة بالعالم وتجاربها وخصوصيّات القضايا الَّتي عالجها، حتّى في مسألة الاستفتاءات والأسئلة والأجوبة، متوفّرةً للمرجع الجديد الَّذي يجد كلّ هذه التجارب جاهزة في مؤسّسة المرجعيّة، ليبدأ من حيث انتهى المرجع السَّابق، لا ليبدأ بعيداً من كلّ التجارب السَّابقة.
ولا يمانع السيّد - في هذه الدائرة - أن يكون للمرجع معاونون يختارهم في حركته، ولكن على أن لا يكونوا هم كلّ المؤسّسة، بل أن يكون المعاونون الَّذين ينسجم معهم في دائرة المؤسّسة، في إطار المؤسّسة.
الدَّائرة الثَّانية: أنّ المرجعيّة لا بدَّ أن تطلّ على قضايا العالم، ولو من ناحية اتّخاذ المواقف السياسيّة، أو المواقف الثقافيّة أو الاجتماعيّة، الَّتي تطلّ على كلّ مواقع المرجعيّة، أو تمتدّ إلى أبعد من هذه المواقع.
إنّ المرجع لا بدَّ أن يتحرّك في مدى العالم كلّه، بحيث لا ينحصر في إطار محدّد؛ فلا بدّ للمرجع - تبعاً لظروفه الخاصّة والمرحلة الَّتي يعيشها - أن يطلّ على مواقع مرجعيّته، ليخاطب النَّاس، ولينفتح عليهم، وليتحدّث في شؤونهم. إنَّ هذا – في نظر السيّد - هو الَّذي يمكن أن يحقّق للمرجعيّة حيويّتها وحركيّتها الَّتي تكون بها عنصراً فاعلاً في حياة كلّ النَّاس الَّذين ينتمون إليها ويتبعونها ويتّخذون مواقف منها.
إنّ المؤسّسة - في مشروع السيّد - هي الكيان الَّذي يواكب عمل المرجعيّة، ويضمن استمراريّتها للمستقبل، لتكون قيادة المرجع قيادةً تتحرّك من خلال المؤسّسة، بحيث تقدّم لها الدّراسات، وتُرتّب لها العلاقات، وتقدّم لها المشورة، بحيث ينطلق المرجع في تصريحاته السياسيّة والاجتماعيّة والعلميّة من دراسة جاهزة تقدّمها المؤسَّسة، بل حتّى إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعيّاً، فإنَّ المؤسّسة تهيّئ له الدراسات التي قد لا يستطيع أن يحيط بها بجهده الخاصّ إلَّا بعد أن يعطّل الكثير من عمله.
وأمّا الجوانب التنظيميَّة لهذه المؤسّسة العالميّة، فلا بدَّ أن تخضع لتخطيط دقيق، بحيث تتكامل المواقع في إطارها لتؤدّي المهمّة الكُبرى الَّتي ستُلقى على عاتقها.
واللَّافت أنّ السيّد لا يواجه مشكلة في عرض نموذج لصورة هذه المرجعيَّة، وهو نموذج البابويّة المسيحيّة الَّتي تنطلق في صفتها الدينية الشَّاملة نحو المواقع السياسية والثقافيّة والاجتماعيّة، وتتحرّك من خلال ممثّليها بفعّاليّة في كلّ القضايا المطروحة في البلدان الَّتي يعيش فيها المسيحيّون الكاثوليك، أو المسيحيّون بشكل عامّ، سواء في شؤونهم الداخليّة، أو في علاقاتهم بالمذاهب الأخرى في دائرة المسيحيّة، أو بالأديان الأخرى في دائرة الإسلام أو اليهوديّة وما إلى ذلك، ما يجعل المسيحيّة تتحرّك من خلال هذه المؤسَّسة من خلال ممثّليّاتها، لتطلّ على كلّ الواقع العالمي المرتبط بالمسيحيّة على مستوى العلاقات، الأمر الَّذي يجعل من البابويّة قوّة معنويّة تطلّ على كلّ مواقع العالم.
ويلاحظ السيّد أنَّ البابويّة تتحرّك ميدانيّاً لتطلّ على كلّ مواقعها الشَّعبيّة في العالم، حتّى إنّها تطلّ على مواقع غير مسيحيّة لتجتذب عواطفها، أو لتجتذب مواقفها بشكل وبآخر، ممّا يهيّئ الجوّ للمبشّرين بالمسيحيّة أو يستفيدون من ذلك.
ويرى السيّد أنَّ هذا الحضور الميداني الواسع المتحرّك الَّذي لا يفقد الصفة الروحيّة في إطلالته على المواقع الَّتي يزورها البابا، لا تعدم الوسائل لامتداد المسيحيّة، ولحلّ الكثير من المشاكل السياسيّة، بل ربّما تساهم البابويّة في حلّ كثير من القضايا السياسيّة المعقَّدة.
هذا إلى جانب الغنى الثقافيّ الَّذي يُمكن أن يتحرّك من خلال هذا الموقع الواسع للدّفاع عن المسيحيّة، وفي بلورة مفاهيمها، وفي نشر عقائدها وقضاياها، بالمستوى الَّذي تدخل فيه هذه القضايا في الكيان الفكريّ للعالم، من خلال الحضور الدَّائم في هذا المجال أو ذاك.
 
* من "موسوعة الفكر الإسلامي"، المجلّد الأوّل.
 
طُرحت فكرة تطوير المرجعيّة ومأسستها في عدّة أفكار بقيت في عداد الإثارات النظريّة، ولم ترقَ إلى مستوى التَّنظير العملي المتكامل؛ ربّما لأنّ الواقع الحوزوي والمرجعي لا يزال ينظر بعين التقديس إلى النمط التقليدي للمرجعيّة، ويرفض أيّ مساس بالشَّكل فضلاً عن المضمون.
وفي كلّ الأحوال، فبالإمكان تسليط الضَّوء على عدّة نظرات كانت محطّ نقد السيّد فضل الله (ره) وتقويمه، وصولاً إلى طرح فكرته حول مأسسة المرجعيّة.
1- المجلس الفقهي
تطرح الفكرة أن تتشكّل المرجعيّة من مجلس يضمّ عدداً من الفقهاء، بديلاً من مرجعيّة الفرد الفتوائيّة. وترتكز هذه النظريّة على أنَّ نظريّة الأعلم التي يلتزمها الكثيرون، تنشأ من فكرة أنّ كفاءته العلميّة المتقدّمة تجعله أقرب إلى وعي الحكم الشَّرعيّ الواقعيّ من غيره؛ لأنَّ أعلميّته تجعله ينفتح على العناصر الحيّة في الاستنباط بطريقة أعمق وأشمل ممّا يدركه غير الأعلم؛ وبالتالي، فإنّ اجتماع مجتهدين متنوّعين يملكون الكفاءة الفقهيّة المتقدّمة على رأي واحد، قد يفسح في المجال لأن يكون إدراك الحكم الشّرعيّ الواقعيّ بطريقة أكثر سلامة من رأي مجتهد واحد حتّى لو كان أعلم؛ لأنّ الآراء المجتمعة عادةً تمثّل دراسة متكاملة أكثر من الدّراسة الفرديّة. وعليه، لا تكون مسألة الأعلميّة ذات موضوع أمام التعدّديَّة الاجتهاديّة في المجلس الفقهي المفترض.
كما أنّ هذا الطَّرح يخلّص الجماهير من مشكلة انتقال التَّقليد من شخصٍ إلى آخر بعد موته مثلاً؛ فإنَّ حياة النَّاس قد ترتبك عندما يختلف المجتهد الثَّاني مع المجتهد الأوّل في مفردات الأحكام الشَّرعيّة؛ فقد يفتي بالحرمة في ما يكون لدى المجتهد الأوَّل حلالاً أو بالعكس، أو يضيف بعض القيود إلى مسألة، أو ينزع بعض القيود عن مسألة، وما إلى ذلك. بينما يختلف الأمر عندما يكون هناك مجلس فقهيّ، لأنّه يطلق هذه المسألة الفقهيّة المتّفق عليها أو تلك لتمتدّ في حياة النَّاس.
ولكنّ السيّد يناقش هذا الطرح من ناحيتين؛ علميّة وعمليّة.
أمَّا المناقشة من الناحية العلميّة، فلأنّ تبنّي نظريّة تقليد الأعلم لدى كثيرين، ينطلق من بعض المعطيات الواردة في الروايات، أو من بعض المنطلقات العقلائيّة؛ ولذلك فإنَّ طرح المجلس الفقهي يواجه إشكاليَّة علميّة لدى من يتبنّون نظريّة تقليد الأعلم تبعاً لبعض أدلّتهم، بحيث لا يملك هذا المجلس شرعيَّة في مقابل الأعلم المفترض، إلَّا إذا استطاع هذا الطَّرح (المجلس الفقهي) أن يُثبت أنّ بناء العقلاء في مختلف ميادين الحياة، يقوم على أنّ التعدّدية في الرأي يتميّز عن رأي المجتهد الواحد حتّى لو كان أعلم.
وبذلك، فإنَّ السيّد يضع الإطار النظريّ للجدل حول شرعيّة المجلس الفقهي في دائرتين:
أ‌- الجدل حول نظريّة أن يكون المرجع أعلم.
ب - الجدل حول بناء العقلاء في نظرتهم إلى التعدّدية في إنتاج الرَّأي قياساً بالمجتهد الواحد.
وفي الوقت الَّذي يرى فيه السيّد أنَّ المسألة قد تبقى موضعاً للجدل بما لا يحقّق لهذه الفكرة الشّموليّة في قناعات العلماء، وبالتّالي في قناعات الناس، فإنّه يطرح إشكاليّة أخرى علميّة، وهي أنَّ المجلس الفقهيّ يمثّل أطروحة فقهيّة تستتبع حكماً شرعيّاً بلزوم الأخذ بتلك الأطروحة ومتابعتها عمليّاً؛ وعندما يقف الإنسان العامّيّ الَّذي لا يستطيع أن يميّز بين هذه الأطروحة وبين غيرها، أمام تكليفه الشَّرعيّ، فإنّه لا يستطيع أن يلتزم بهذه الأطروحة، لأنّه لا حجّة له ذاتيّة، ولم يفتِ بها الأعلم حتّى يكون تقليد الأعلم مبرئاً للذمَّة في هذا المجال.
كما أنّ من الصَّعب أن تحصل هذه الأطروحة على إجماع أو شبهه، في المجال الإسلاميّ الشيعي، لأنّ الناس فيه قد أدمنوا المرجعيّة الفرديّة بشكلٍ أصبحت المرجعيّة ـ في وعيه الشَّرعيّ ـ امتداداً للإمامة، وأنَّ المرجع عندهم له صورة القائد حتّى لو لم يكن ممارساً لقيادته، أو لم يكن متميّزاً بالعناصر القياديّة الحركيّة المنفتحة على الواقع، ما يجعل المجلس الفقهي مسألة يتصوّرها كقضيّة إداريّة لا تملك معنى القيادة.
وبنظر السيّد فضل الله، فإنّ هذه المشكلة، أعني الوجه القياديّ للمرجعيّة، لا تُحلّ بافتراض رئيس للمجلس الفقهيّ، لأنّ الحديث يُمكن أن يُطرَح حول مدى شرعيّة هذا الرَّئيس؛ هل هو الأعلم أو ليس الأعلم؟ وهل يكون رأيه ملزماً للمجلس، أو يكون رأيه أحد الآراء فيه؟ وماذا إذا اختلف مع المجلس؛ فهل يتنازل المجلس لرأيه؟ وما هو الأساس في هذا التَّنازل؟
ويعتبر السيّد هنا أنّ علامات الاستفهام الَّتي قد تواجه المجلس ككلّ، قد تواجه الرئيس بطريقة أقسى.
وأمَّا المناقشة من النَّاحية العمليَّة، فيطرح السيّد عدّة تساؤلات؛ من قبيل:
ممّن يتألّف هذا المجلس؟ وما طبيعة الدَّرجة الَّتي لا بدَّ أن يملكها هذا المجتهد أو ذاك المجتهد للفتوى؟
والسؤال الَّذي يستدعي التوقّف: من الَّذي يعيّن المجتهدين في هذا المجلس؟
وهنا، قد تُطرح عدّة إجابات:
الأولى: أنَّ الذي يعيّنهم هو الوليّ، أي المجتهد العادل المتصدّي للسلطة الإسلاميّة العامّة. ولكنّ السؤال الَّذي يُطرح هنا: هل من صلاحيَّة الوليّ أن يعيّن مجلساً فقهيّاً لإفتاء النَّاس؟ حيث إنّ كثيراً من العلماء لا يرون من شؤون الولاية ذلك، لأنّ شؤون الولاية تتّصل بإدارة شؤون الأمَّة في قضاياها العمليّة، لا في خطّها الفتوائي.
وهنا قد تُطرح إشكاليَّة، وهي مرتبطة بالظروف الاجتهاديّة والسياسيّة التي تؤسّس لديمومة الولاية، بحيث تمنع من الاختلاف عليها في المستقبل؛ وهذا ما لا يمكن ضمانه - في نظر السيّد - سواء في حركة الاجتهاد الَّتي قد لا تتبنّى فكرة ولاية الفقيه العامَّة، أو في الظروف التي قد تحيط ببقاء الكيان السياسي الَّذي يمثّل قاعدة الولاية فكريّاً وروحيّاً وسياسيّاً، ما يؤدّي إلى اختلاف النَّاس، ولا يحسم الجدل في هذا المجال.
الثانية: الانتخاب الشَّعبي. والسؤال الَّذي يطرح نفسه - بحسب السيّد فضل الله -: ما هي قيمة التَّصويت الشَّعبيّ في اختيار المجتهدين بشكل يتعيّن فيه على النَّاس إطاعتهم في المسألة الفتوائيّة، لأنّه لا دليل على شرعيّة أصوات النَّاس في هذا المجال، لأنّ النَّاس ليسوا أهل الخبرة في المجال الفقهي حتّى يرجّحوا ويختاروا.
وثمّة سؤال آخر، وهو: ماذا إذا اختلف المجتهدون فيه؟ هل نتبع رأي الأكثريّة؟ وما الدَّليل على حجّية رأي الأكثريّة أمام الأقليَّة؟ فقد لا تكون هناك أسس فقهيّة تغلّب رأي الأكثريَّة من العلماء على رأي الأقليَّة، بحيث يكون رأي الأكثريّة حجّة في ذاته، حيث ثمّة مسألة في علم أصول الفقه، وهي أنَّ الشهرة في الفتوى ليست دليلاً شرعيّاً، بمعنى أنَّ مجرّد كون هذه الفتوى مشهورة بين العلماء في مقابل فتوى غير مشهورة، لا يُعتبر أساساً للحجّية وللتَّعيّن في مقام العمل والاتّباع.
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ افتراض أنّ المجلس الفقهيّ من شأنه أن يُلغي حالة الارتباك لدى النَّاس على صعيد الانتقال من مرجع إلى آخر بعد موت الأوّل، فهذا لا يملك ديمومة في امتداد الزَّمن، لتكون فتوى المجلس الفقهيّ في هذه المرحلة ملزمةً لكلّ النَّاس على مدى الزمن، فربّما يأتي مجلس فقهي آخر يخلف هذا المجلس الفقهي، تماماً كما يأتي مرجع آخر يخلف مرجعاً قبلَه، وقد تكون آراء المجلس الفقهي الجديد مختلفة عن آراء المجلس الفقهي القديم، ما دامت المسألة تخضع لاجتهاد المجتهدين في هذا المجلس أو ذاك.
ولكلّ ذلك، يعتبر السيّد أنَّ أطروحة المجلس الفقهي ليست أطروحة بعيدةً من الجدل، كما أنّها ليست أطروحة واقعيّة في الذّهنيّة الإسلاميَّة الشيعيّة العامّة، في مرحلته على الأقلّ.
2- المرجعيّة المؤسّسة
يطرح السيّد فكرة المرجعيّة المؤسّسة مشروعاً تطويريّاً للمرجعيّة الإسلاميّة الشيعيّة، من دون أن يدخل في تحديد نظامٍ لهذه المؤسّسة، باعتبار أنَّ هذا المشروع لا بدَّ أن يتشكّل بناؤه النظريّ استناداً إلى حركة وعي شاملةٍ تؤمن بالمشروع، وتضع له نظامه بطريقة واقعيّة بعيدة من النظريّات التجريديّة.
وإذ يبني السيّد على ما طرحه الشَّهيد السيّد محمَّد باقر الصَّدر في السبعينيّات من القرن العشرين، في مشروعه لما سمّاه المرجعيّة الصَّالحة، والَّذي حدّد فيه الوسائل العمليّة لأن تتحرّك المرجعيّة كمؤسّسة ولا تبقى كشخص، يؤكّد السيّد أنَّ المرجعيّة الإسلاميّة الشيعيَّة تحتاج إلى أن تتحرّك في دائرتين:
الدَّائرة الأولى: أن لا تكون المرجعيّة شخصاً بحيث يرث أولاده تُراثه وتجربته، أو أن تكون أجهزته خاضعةً لخصوصيّاته، بل أن تكون المرجعيّة مؤسّسة، بحيث إنّ المرجع عندما يأتي، فإنّه يأتي إلى مؤسّسة تختزن تجارب المراجع السَّابقين، بحيث تكون كلّ الوثائق الَّتي تمثّل علاقات المرجعيّة بالعالم وتجاربها وخصوصيّات القضايا الَّتي عالجها، حتّى في مسألة الاستفتاءات والأسئلة والأجوبة، متوفّرةً للمرجع الجديد الَّذي يجد كلّ هذه التجارب جاهزة في مؤسّسة المرجعيّة، ليبدأ من حيث انتهى المرجع السَّابق، لا ليبدأ بعيداً من كلّ التجارب السَّابقة.
ولا يمانع السيّد - في هذه الدائرة - أن يكون للمرجع معاونون يختارهم في حركته، ولكن على أن لا يكونوا هم كلّ المؤسّسة، بل أن يكون المعاونون الَّذين ينسجم معهم في دائرة المؤسّسة، في إطار المؤسّسة.
الدَّائرة الثَّانية: أنّ المرجعيّة لا بدَّ أن تطلّ على قضايا العالم، ولو من ناحية اتّخاذ المواقف السياسيّة، أو المواقف الثقافيّة أو الاجتماعيّة، الَّتي تطلّ على كلّ مواقع المرجعيّة، أو تمتدّ إلى أبعد من هذه المواقع.
إنّ المرجع لا بدَّ أن يتحرّك في مدى العالم كلّه، بحيث لا ينحصر في إطار محدّد؛ فلا بدّ للمرجع - تبعاً لظروفه الخاصّة والمرحلة الَّتي يعيشها - أن يطلّ على مواقع مرجعيّته، ليخاطب النَّاس، ولينفتح عليهم، وليتحدّث في شؤونهم. إنَّ هذا – في نظر السيّد - هو الَّذي يمكن أن يحقّق للمرجعيّة حيويّتها وحركيّتها الَّتي تكون بها عنصراً فاعلاً في حياة كلّ النَّاس الَّذين ينتمون إليها ويتبعونها ويتّخذون مواقف منها.
إنّ المؤسّسة - في مشروع السيّد - هي الكيان الَّذي يواكب عمل المرجعيّة، ويضمن استمراريّتها للمستقبل، لتكون قيادة المرجع قيادةً تتحرّك من خلال المؤسّسة، بحيث تقدّم لها الدّراسات، وتُرتّب لها العلاقات، وتقدّم لها المشورة، بحيث ينطلق المرجع في تصريحاته السياسيّة والاجتماعيّة والعلميّة من دراسة جاهزة تقدّمها المؤسَّسة، بل حتّى إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعيّاً، فإنَّ المؤسّسة تهيّئ له الدراسات التي قد لا يستطيع أن يحيط بها بجهده الخاصّ إلَّا بعد أن يعطّل الكثير من عمله.
وأمّا الجوانب التنظيميَّة لهذه المؤسّسة العالميّة، فلا بدَّ أن تخضع لتخطيط دقيق، بحيث تتكامل المواقع في إطارها لتؤدّي المهمّة الكُبرى الَّتي ستُلقى على عاتقها.
واللَّافت أنّ السيّد لا يواجه مشكلة في عرض نموذج لصورة هذه المرجعيَّة، وهو نموذج البابويّة المسيحيّة الَّتي تنطلق في صفتها الدينية الشَّاملة نحو المواقع السياسية والثقافيّة والاجتماعيّة، وتتحرّك من خلال ممثّليها بفعّاليّة في كلّ القضايا المطروحة في البلدان الَّتي يعيش فيها المسيحيّون الكاثوليك، أو المسيحيّون بشكل عامّ، سواء في شؤونهم الداخليّة، أو في علاقاتهم بالمذاهب الأخرى في دائرة المسيحيّة، أو بالأديان الأخرى في دائرة الإسلام أو اليهوديّة وما إلى ذلك، ما يجعل المسيحيّة تتحرّك من خلال هذه المؤسَّسة من خلال ممثّليّاتها، لتطلّ على كلّ الواقع العالمي المرتبط بالمسيحيّة على مستوى العلاقات، الأمر الَّذي يجعل من البابويّة قوّة معنويّة تطلّ على كلّ مواقع العالم.
ويلاحظ السيّد أنَّ البابويّة تتحرّك ميدانيّاً لتطلّ على كلّ مواقعها الشَّعبيّة في العالم، حتّى إنّها تطلّ على مواقع غير مسيحيّة لتجتذب عواطفها، أو لتجتذب مواقفها بشكل وبآخر، ممّا يهيّئ الجوّ للمبشّرين بالمسيحيّة أو يستفيدون من ذلك.
ويرى السيّد أنَّ هذا الحضور الميداني الواسع المتحرّك الَّذي لا يفقد الصفة الروحيّة في إطلالته على المواقع الَّتي يزورها البابا، لا تعدم الوسائل لامتداد المسيحيّة، ولحلّ الكثير من المشاكل السياسيّة، بل ربّما تساهم البابويّة في حلّ كثير من القضايا السياسيّة المعقَّدة.
هذا إلى جانب الغنى الثقافيّ الَّذي يُمكن أن يتحرّك من خلال هذا الموقع الواسع للدّفاع عن المسيحيّة، وفي بلورة مفاهيمها، وفي نشر عقائدها وقضاياها، بالمستوى الَّذي تدخل فيه هذه القضايا في الكيان الفكريّ للعالم، من خلال الحضور الدَّائم في هذا المجال أو ذاك.
 
* من "موسوعة الفكر الإسلامي"، المجلّد الأوّل.
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية