تمرّد بني إسرائيل على رسالة موسى(ع)

تمرّد بني إسرائيل على رسالة موسى(ع)

وكما بدأنا، نعود لنواصل الحديث عن التَّجربة النَّبويَّة للنَّبيّ موسى(ع)، فلقد أرسل الله موسى برسالته إلى النَّاس كافّةً، وكان مولوداً من عائلة مستعبدة مضطهدة خاضعة لفرعون وقومه، مسيّرة لإرادتهم، خادمة لمصالحهم، فلم يكونوا يملكون أيَّ موقعٍ للحريَّة، ولا أيّ منطلقٍ للاستقلال، وقد انتهى بهم الأمر أن يذبح الذّكور من أبنائهم، ويبقي الإناث من بناتهم، ليستخدمهنَّ للقيام بحاجته وحاجات قومه، ولولا أنَّ الله أفاض عليه من لطفه، فقدَّر له أن يتربّى في أحضان أسرة فرعون ورعاية امرأته المؤمنة، لكان ذُبِحَ كما ذُبِحَ أبناء قومه...

تجربة رائدة

وجاءته الرّسالة فيما يشبه المفاجأة، وكان برنامجها أن يهدي فرعون وقومه وجماهيره، وأن يأخذ معه بني إسرائيل في عمليَّة تحريرٍ لهم من الاضطهاد والاستعباد، في مهمَّة صعبة ثقيلة، ولم تكن رسالته مقتصرةً على ذلك ومحصورة في قومه تحريراً وهدايةً وإرشاداً، بل كانت شاملةً للنَّاس كافّةً، فهو من الأنبياء أولي العزم، وقد كان من أوائل الرّسل الّذين خصَّهم الله بكتابٍ منفتحٍ على كلِّ ما يحتاجه النّاس في شؤون العقيدة والحياة وحركة العلاقات الإنسانيَّة والمعاملات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

وكان من قيمة هذا الكتاب، وهو التَّوراة، أنَّه لم يكن مقتصراً في الالتزام بشريعته، والأخذ بتعاليمه، والانفتاح على مفاهيمه، على بني إسرائيل فقط، بل كان الكتاب الَّذي ينفتح على الهدى الَّذي يهدي النَّاس جميعاً إلى الحقّ، ويقودهم إلى الصِّراط المستقيم، وينير لهم الآفاق المظلمة في الحياة، ويمتدّ إلى مسؤوليَّات الأنبياء الّذين يأتون من بعد موسى، ويصدِّق الكتب الّتي ينـزلها الله بعده، فيكون شريعةً للأنبياء من بعده كما هو شريعته في مرحلته الرساليَّة، وهذا ما جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[1]، وقوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}[2].

وقد أراد الله لموسى(ع) أن يبدأ رسالته بتثقيف بني إسرائيل بالكتاب الَّذي أنزله عليه ليكون هدًى لهم، وليكون الإرث الَّذي يتوارثونه في امتداد أجيالهم، والذّكرى الّتي تنقذهم من عوارض الغفلة الَّتي تحجبهم عن رؤية الحقّ ووعي الإيمان...

وهكذا بدأ موسى تجربته الرّائدة الصَّعبة الّتي واجه بها الواقع المنحرف في بداية حركيّة الكتاب عند مجيئه به وتقديمه إليهم، حيث كانوا قد انحرفوا عن الخطِّ المستقيم في الإيمان التّوحيديّ بعبادتهم العجل، الأمر الَّذي هدم كلَّ ما بناه موسى في تأكيد شخصيَّتهم المتوازنة، وفي تربيته لهم منذ صراعه مع فرعون وإهلاك الله له ولقومه، ومسيرتهم معه الَّتي لا بدَّ من أن يكون شغلها بالوعظ والإصلاح والإرشاد، وخصوصاً عندما طلبوا منه أن يصنع لهم آلهةً من الأوثان، تشبّهاً بما عند الوثنيّين، فكان ردّه عليهم: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[3]، ولا بدَّ لي من أن أخرجكم من هذا الجهل المظلم إلى نور العلم، وهذا ما جعله ينشغل بالتخلّف الَّذي كان لا يزال يسيطر على عقولهم وأذهانهم، ويحرِّك فيهم حالة التمرّد الَّتي تشاغب وتزعج وتحاصر موسى بالأسئلة والمطالب البدائيَّة الَّتي لا ترتكز على قاعدةٍ من الحاجة إلى المعرفة الّتي تثقِّف العقول وتطلب الأمور النَّافعة المفيدة.

وقد أدَّى هذا الوضع إلى حصر النَّشاط الرّساليّ للنّبيّ موسى(ع) بقومه، فلم يذكر التّاريخ في القرآن وفي غيره، أنّه انطلق في الدَّعوة إلى ساحاتٍ واسعةٍ وجماعات مختلفة من أقوامٍ آخرين ممن كانوا يعبدون الأصنام ويخضعون للطّغاة، ولم يدخل في التَّجربة الرّساليَّة لهداية النّاس الذين كانوا يحيطون بمصر ويسكنون خارجها، بل كان مشغولاً بفرعون وقومه ثم ببني إسرائيل، الأمر الَّذي جعله نبيّاً محدوداً في نشاطه، وخصوصاً أنَّ الصّورة القرآنيَّة لهؤلاء النَّاس من قومه، توحي بالسَّذاجة الفكريّة، وبالتصوّر البدائيّ، أو بالرّغبة في إشغال نبيِّهم بالأسئلة والمطالب التي لا حاجة لهم بها أو بمعرفتها، بل كانت المسألة هي الرّغبة في إزعاجه وإشغاله بالتّفاهات.

قصَّة ذبح البقرة

وهذا ما نستوحيه من أسلوبهم التردّيدي فيما كانوا يطرحونه من أسئلة، كما في قصَّة البقرة التي كانت قصّةً مثيرةً من قصص بني إسرائيل، وذلك من جهتين: فهي من جهةٍ تشتمل على جانب من الإعجاز في إحياء الله الميّت القتيل الّذي اختلف القوم في قاتله، ومن جهةٍ ثانيةٍ تشتمل على صورة مجتمع بني إسرائيل من الدّاخل، إذ توضح لنا الطّريقة التي يواجه بها أفراده الأوامر الصّادرة عن موسى إليهم، ما يوحي بطبيعة المشاغبة الّتي تجعلهم يواجهون القضايا من موقع التّعقيد، لا من موقع البساطة، حيث كانوا يحوِّلون مهمّة النّبيّ في قيادته الفكريّة والعمليّة إلى مهمَّة صعبة، لأنَّ هناك فرقاً في حركة القيادة بين قيادةٍ تتحرَّك في جمهورٍ يطيع الأوامر كما ترِد في صيغة الأمر، وقيادةٍ يقف جمهورها ليسأل عن كلِّ صغيرةٍ أو كبيرةٍ، من دون أن يكون ذلك داخلاً في حساب مسؤوليَّته، إذ إنَّ ذلك يعطِّل الحركة، وينذر بالهزيمة في أصعب المواقف وأكثرها تعقيداً، عندما تكون بحاجةٍ إلى الحسم والتحرّك السَّريع.

ولا بدَّ لنا من وقفةٍ أمام هذا الحوار بين موسى وقومه، لنستجلي بعض خصائصه الموضوعيَّة، فقد طلب منهم ـ باسم الله ـ أن يذبحوا بقرةً، فاستغربوا الطَّلب، لأنهم لم يفهموا علاقته بالقضيّة المتنازع عليها، أو هكذا حاولوا أن يصوِّروا الموضوع، فاعتبروا ذلك سخرية واستهزاءً بهم من موسى، فدلَّلوا ـ بذلك ـ على أنهم لا يعرفون مقام النبوَّة، ولا يحترمون شخصيَّة النبيّ موسى بأبعادها الروحيَّة الَّتي تمنعه من أن يوجِّه إليهم طلباً باسم الله على سبيل العبث والسّخرية بهم، فإنَّ ذلك يُعتبر إساءةً إلى الله باستخدام اسمه في هذا المقام وبالكذب عليه، لأنّه يخبرهم بأنَّ الله يأمرهم بذلك من دون أساسٍ ثابت.

وهذا ما حدَّثنا الله عنه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}، أيّة بقرة، فإنَّه لم يحدِّد لهم شكلها ولونها وحركتها وعملها، {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً}، لأنَّ مثل هذا الأمر لا يخضع لأيّة مناسبة تتَّصل بحياتنا في أوضاعنا العامَّة والخاصَّة، فليس المورد مورد قربانٍ نقدِّمه إلى الله في مناسبات القرابين لنعتبرها قرباناً له، وليس المقام مقام دعوةٍ للإطعام لنقدِّم لحمها للآكلين من الفقراء، وليس هناك شيء آخر يدخل في دائرة التصوّر الواقعيّ المعقول، وليس لها أيّة علاقةٍ بالمسألة الَّتي وقع الخلاف فيها في تحديد القاتل.

وكان جواب موسى زاخراً بالمرارة بسبب ردود قومه السيِّئة عليه: {قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[4]، فقد استعاذ بالله أن يكون من فئة الجاهلين الّذين يتحدّثون في الأمور من دون علمٍ أو معرفة، لأنَّ مثل هذا التّصرّف يجعله في مستوى الإنسان الجاهل الّذي لا ينطق بالحكمة، ولا يعرف كيف يتصرّف وأين يضع كلماته، ولا يعقل مركز النبوَّة ومنطلقاتها المعرفيّة، كما أنّه لا يمكن أن يحدِّثهم عن الله بما لم يوحِ به إليه ولم ينـزله عليه، ومما لم يأمرهم به، لأنَّ ذلك يُعتبر خيانةً من الرّسول لرسالته وكذباً على الله، وكيف يمكن لموسى أن يسخر بالنّاس، وهو النّبيّ الّذي يدعوهم إلى الأخذ بأسباب الحكمة وخطوط التعقّل، وقد جاء لهدايتهم وربطهم بالجانب الجدّي في مواقع المسؤوليَّة في الحياة، ولا سيّما إذا كانت المسألة مرتبطةً بالعمل الّذي قد يكلّفهم الكثير من الجهد والمال والتَّعقيدات الاجتماعيَّة، وخصوصاً أنَّ هناك عمقاً للموقف في سرِّ الارتباط بالمعجزة الإلهيَّة!

طبيعة البقرة وصفاتها

وعادوا من جديد إلى المشاغبة، ولكن من موقع اتهامه بأنّه يحمل أمراً مبهماً لا وضوح فيه، فسألوه عن طبيعة البقرة، وقد كان بإمكانهم أن يأخذوا بإطلاق الكلمة في مقام البيان ـ كما يقول الأصوليّون ـ {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ}، وبدأ الموقف يتَّجه اتجاهاً آخر يشبه العقوبة في مواجهة التحدّي بمثله، فتحوَّل الجواب إلى نوعٍ من التّضييق عليهم بفرض قيودٍ لم تكن داخلةً في حساب التّشريع في ذاته.

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ ـ أي ليست هرمةً ـ وَلاَ بِكْرٌ ـ أي ليست صغيرةً ـ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ـ أي وسط بين ذلك ـ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ}[5]، واستجيبوا لهذا الأمر الإلهيِّ في حدوده الجديدة، ما يعني أنَّ القضيَّة لا تحتاج إلى سؤالٍ جديد، فبإمكانهم أن يكتفوا بما ذُكر، لأنَّه لم يذكر لهم زيادةً في التّفاصيل، وأن يسكتوا عمّا سكت الله عنه، لأنَّ الله لا يُحاسب العباد إلا على ما بيَّنه لهم، فلا عقاب بلا بيان، ولكنَّهم لم يكتفوا بذلك، لأنَّهم لم يكونوا بصدد الاستزادة من المعرفة، بل كانوا مستمرّين في المشاغبة وإزعاج موسى، فعادوا يثيرون كلَّ ما يتصوَّرونه من خصائص البقر مما يمكن أن يقع مورداً للسّؤال، {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا}، لأنَّ ألوان البقر تتنوَّع وتتعدَّد، فهل يفرض علينا لوناً معيَّناً لنلتزم به، لأنَّك لم تحدِّد لنا ذلك؟

وجاء الجواب الثّاني ليحدِّد أكثر، ويفرض قيوداً جديدة، ردّاً على هذا الفضول الّذي لا معنى له: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}[6]، وعاد السؤال من جديد، فهم لا يعرفون كيف يحصلون عليها، لأنَّ أنواع البقر تتشابه، فقد لا يملكون الحصول على المطلوب المحدَّد منها، فطلبوا الصّفات الّتي يمكن أن يجدوها بسهولة على الطبيعة، {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ـ في خصائصها وصفاتها الواضحة التي تجعلها أكثر وضوحاً ـ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}، وكأنَّهم شعروا بأنهم قد ذهبوا بعيداً في هذا المجال، واستنفدوا كلَّ الأسئلة المثارة حول هذا الموضوع، وابتعدوا عن الخطِّ المستقيم في هذا الإلحاح الفضوليّ الّذي لا يتناسب مع موقفهم من النبيّ، كما لا ينسجم مع طبيعة المسؤوليّة، فوعدوه بأنهم سيسلكون طريق الهدى في نهاية المطاف، {وَإِنَّا إِن شَاء اللهُ لَمُهْتَدُونَ}[7]، بالهدى الّذي ترشدنا إليه في حدود مسؤوليَّاتنا المتّصلة بالامتثال لأمر الله، والانقياد لأوامره ونواهيه.

وجاء الجواب أكثر تحديداً وتضييقاً وتقييداً: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ ـ لم يذلِّلها العمل بإثارة الأرض بأظلافها ـ  وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ ـ لا يستقى عليها الماء للزرّع ـ مُسَلَّمَةٌ ـ من العيوب ـلاَّ شِيَةَ فِيهَا ـ لا علامات فيها تخالف لون جلدها. {قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}، فإنَّ هذه الأوصاف المتعدِّدة المتنوّعة، تضعنا في موقع الوضوح الّذي لا مجال فيه للحيرة والاشتباه، ولم يملكوا سؤالاً جديداً، {فَذَبَحُوهَا}، لأنهم لم يجدوا حجّةً للامتناع، {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}[8]، لأنهم لا يعيشون في أنفسهم روح الطّاعة والانقياد.

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساًـ ولم يتبيّن لكم القاتل ـ فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}، أي اختلفتم، فكان التّوجيه الإلهيّ لموسى ـ بعد أن سألتموه ـ لإظهار الحقّ في القضيَّة المعقَّدة التي كادت تخلق مشاكل صعبة مدمِّرة، أن تذبحوا بقرةً، ليظهر الحقّ من خلال ذلك في نهاية المطاف، {وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[9]، من الحقيقة الخفيّة المعروفة لديكم في الباطن، الغامضة في الظاهر، نتيجة كتمانكم معلوماتكم، {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}، أي اضربوا القتيل ببعض البقرة، ليحيا فيحدِّثكم عن قاتله ويرجع بعد ذلك ميتاً، فيكون ذبح البقرة قرباناً يقدِّمونه إلى الله ليستجيب لهم دعاءهم بأن يكشف لهم سرَّ القاتل، ولتُحلّ مشكلتهم الاجتماعيّة بذلك، حتى لا يتبادلوا الاتهامات الّتي تثير الخلاف والشّحناء، وربما تؤدّي إلى القتال وسفك الدّماء، وليكون ذلك تقليداً دينيّاً لديهم في تقديم القربان إلى الله في كلّ مشكلةٍ يطلبون حلَّها، وفي كلّ سرٍّ يتطلّعون إلى معرفته، وليتأكَّد لهم ـ من خلال ذلك ـ أنَّ هناك حياةً بعد الموت، من خلال التّجربة الحسيّة التي تركّز المبدأ في حياتهم، حتى يزداد إيمانهم بذلك.

{كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى}، كما أحيا هذا الميّت، {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} ودلائل قدرته، كما في هذه الحادثة الّتي تتمثَّل فيها معجزة إحياء الميت، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[10]، وتحركون عقولكم في تخطيط المنهاج الفكريّ العقيديّ في قضيَّة الإيمان باليوم الآخر، على أساس المقارنة بين عمليّة الإحياء الّتي هي دليل على القدرة في عمليَّة البعث، والتَّجربة الحيَّة الماثلة أمامكم التي تكون دليلاً على طبيعة التّجربة الكبرى التي جاءت بها النّبوَّات في قضيَّة يوم القيامة.

وهذا تأكيدٌ لدور العقل في مسألة العقيدة، والَّذي نستطيع أن نأخذ من حركته في القضايا الفكريَّة، الأساس القويَّ الّذي يركِّز الفكرة على قاعدةٍ ثابتةٍ لا تهتزُّ تحت تأثير الأهواء والعواصف والحالات الطَّارئة.

انطباعان عن بني إسرائيل

ومن وحي هذه الآيات، يمكن لنا أن نخرج من هذا الموقف القلق لبني إسرائيل بانطباعين:

الأوّل: أنهم كانوا يبحثون عن الحجَّة الّتي تبرِّر لهم الامتناع عن أداء الأوامر وامتثالها، وذلك بإثارة الفضول أمام النّبيّ موسى، مما يُدخل القضيَّة في نطاق المناقشات الجدليَّة الّتي تُفقد الموقف روحانيَّته وحيويَّته وجديَّته، وتؤدّي بالنّتيجة ـ في زعمهم ـ إلى انسحاب النّبيّ من السّاحة، وإلغاء الأمر من خلال الحالة النفسيّة الّتي تثيرها هذه الأجواء النّفسيَّة.

الثّاني: أنَّ على القادة أن يأخذوا من ذلك درساً عمليّاً فيما يتعلّق بالمسؤوليّات العاديّة الّتي يوجّهونها إلى الأشخاص مما لا ينطلق من حكم شرعيّ محدَّد، بل من مهمَّات عمليّة عامّة تدخل في حركيّة العمل، فإذا واجهتهم مثل هذه النَّماذج، فإنَّ عليهم أن يعالجوا ذلك بطريقةٍ تأديبيّةٍ هادئة، كدرسٍ عمليٍّ لهؤلاء النّاس بأن يمتنعوا عن الأسئلة الّتي لا معنى لها، لئلا يعودوا إلى مثلها في المستقبل، وحتّى يعرفوا أنَّ ذلك سيكلِّفهم مسؤوليَّات ثقيلة قد لا تكون واردةً في الحساب.

وهذا ما نستوحيه من الحديث المأثور عن النّبيّ محمَّد(ص)، فقد روي أنَّ رسول الله خطب في أصحابه فقال: "إنَّ الله كتب عليكم الحجّ"، فقام عكاشة (ويروى سراقة بن مالك)، فقال: "أفي كلّ عامٍ يا رسول الله؟"، فأعرض عنه حتّى عاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله(ص): "ويحك، وما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم كفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عنه فاجتنبوه"[11]. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [المائدة: 44-45].

[2]  [الأنعام: 154].

[3]  [الأعراف: 138].

[4]  [البقرة: 67].

[5]  [البقرة: 68].

[6]  [البقرة: 69].

[7]  [البقرة: 70].

[8]  [البقرة: 71].

[9]  [البقرة: 72].

[10]  [البقرة: 73].

[11]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 22، ص 31.

وكما بدأنا، نعود لنواصل الحديث عن التَّجربة النَّبويَّة للنَّبيّ موسى(ع)، فلقد أرسل الله موسى برسالته إلى النَّاس كافّةً، وكان مولوداً من عائلة مستعبدة مضطهدة خاضعة لفرعون وقومه، مسيّرة لإرادتهم، خادمة لمصالحهم، فلم يكونوا يملكون أيَّ موقعٍ للحريَّة، ولا أيّ منطلقٍ للاستقلال، وقد انتهى بهم الأمر أن يذبح الذّكور من أبنائهم، ويبقي الإناث من بناتهم، ليستخدمهنَّ للقيام بحاجته وحاجات قومه، ولولا أنَّ الله أفاض عليه من لطفه، فقدَّر له أن يتربّى في أحضان أسرة فرعون ورعاية امرأته المؤمنة، لكان ذُبِحَ كما ذُبِحَ أبناء قومه...

تجربة رائدة

وجاءته الرّسالة فيما يشبه المفاجأة، وكان برنامجها أن يهدي فرعون وقومه وجماهيره، وأن يأخذ معه بني إسرائيل في عمليَّة تحريرٍ لهم من الاضطهاد والاستعباد، في مهمَّة صعبة ثقيلة، ولم تكن رسالته مقتصرةً على ذلك ومحصورة في قومه تحريراً وهدايةً وإرشاداً، بل كانت شاملةً للنَّاس كافّةً، فهو من الأنبياء أولي العزم، وقد كان من أوائل الرّسل الّذين خصَّهم الله بكتابٍ منفتحٍ على كلِّ ما يحتاجه النّاس في شؤون العقيدة والحياة وحركة العلاقات الإنسانيَّة والمعاملات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

وكان من قيمة هذا الكتاب، وهو التَّوراة، أنَّه لم يكن مقتصراً في الالتزام بشريعته، والأخذ بتعاليمه، والانفتاح على مفاهيمه، على بني إسرائيل فقط، بل كان الكتاب الَّذي ينفتح على الهدى الَّذي يهدي النَّاس جميعاً إلى الحقّ، ويقودهم إلى الصِّراط المستقيم، وينير لهم الآفاق المظلمة في الحياة، ويمتدّ إلى مسؤوليَّات الأنبياء الّذين يأتون من بعد موسى، ويصدِّق الكتب الّتي ينـزلها الله بعده، فيكون شريعةً للأنبياء من بعده كما هو شريعته في مرحلته الرساليَّة، وهذا ما جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[1]، وقوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}[2].

وقد أراد الله لموسى(ع) أن يبدأ رسالته بتثقيف بني إسرائيل بالكتاب الَّذي أنزله عليه ليكون هدًى لهم، وليكون الإرث الَّذي يتوارثونه في امتداد أجيالهم، والذّكرى الّتي تنقذهم من عوارض الغفلة الَّتي تحجبهم عن رؤية الحقّ ووعي الإيمان...

وهكذا بدأ موسى تجربته الرّائدة الصَّعبة الّتي واجه بها الواقع المنحرف في بداية حركيّة الكتاب عند مجيئه به وتقديمه إليهم، حيث كانوا قد انحرفوا عن الخطِّ المستقيم في الإيمان التّوحيديّ بعبادتهم العجل، الأمر الَّذي هدم كلَّ ما بناه موسى في تأكيد شخصيَّتهم المتوازنة، وفي تربيته لهم منذ صراعه مع فرعون وإهلاك الله له ولقومه، ومسيرتهم معه الَّتي لا بدَّ من أن يكون شغلها بالوعظ والإصلاح والإرشاد، وخصوصاً عندما طلبوا منه أن يصنع لهم آلهةً من الأوثان، تشبّهاً بما عند الوثنيّين، فكان ردّه عليهم: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[3]، ولا بدَّ لي من أن أخرجكم من هذا الجهل المظلم إلى نور العلم، وهذا ما جعله ينشغل بالتخلّف الَّذي كان لا يزال يسيطر على عقولهم وأذهانهم، ويحرِّك فيهم حالة التمرّد الَّتي تشاغب وتزعج وتحاصر موسى بالأسئلة والمطالب البدائيَّة الَّتي لا ترتكز على قاعدةٍ من الحاجة إلى المعرفة الّتي تثقِّف العقول وتطلب الأمور النَّافعة المفيدة.

وقد أدَّى هذا الوضع إلى حصر النَّشاط الرّساليّ للنّبيّ موسى(ع) بقومه، فلم يذكر التّاريخ في القرآن وفي غيره، أنّه انطلق في الدَّعوة إلى ساحاتٍ واسعةٍ وجماعات مختلفة من أقوامٍ آخرين ممن كانوا يعبدون الأصنام ويخضعون للطّغاة، ولم يدخل في التَّجربة الرّساليَّة لهداية النّاس الذين كانوا يحيطون بمصر ويسكنون خارجها، بل كان مشغولاً بفرعون وقومه ثم ببني إسرائيل، الأمر الَّذي جعله نبيّاً محدوداً في نشاطه، وخصوصاً أنَّ الصّورة القرآنيَّة لهؤلاء النَّاس من قومه، توحي بالسَّذاجة الفكريّة، وبالتصوّر البدائيّ، أو بالرّغبة في إشغال نبيِّهم بالأسئلة والمطالب التي لا حاجة لهم بها أو بمعرفتها، بل كانت المسألة هي الرّغبة في إزعاجه وإشغاله بالتّفاهات.

قصَّة ذبح البقرة

وهذا ما نستوحيه من أسلوبهم التردّيدي فيما كانوا يطرحونه من أسئلة، كما في قصَّة البقرة التي كانت قصّةً مثيرةً من قصص بني إسرائيل، وذلك من جهتين: فهي من جهةٍ تشتمل على جانب من الإعجاز في إحياء الله الميّت القتيل الّذي اختلف القوم في قاتله، ومن جهةٍ ثانيةٍ تشتمل على صورة مجتمع بني إسرائيل من الدّاخل، إذ توضح لنا الطّريقة التي يواجه بها أفراده الأوامر الصّادرة عن موسى إليهم، ما يوحي بطبيعة المشاغبة الّتي تجعلهم يواجهون القضايا من موقع التّعقيد، لا من موقع البساطة، حيث كانوا يحوِّلون مهمّة النّبيّ في قيادته الفكريّة والعمليّة إلى مهمَّة صعبة، لأنَّ هناك فرقاً في حركة القيادة بين قيادةٍ تتحرَّك في جمهورٍ يطيع الأوامر كما ترِد في صيغة الأمر، وقيادةٍ يقف جمهورها ليسأل عن كلِّ صغيرةٍ أو كبيرةٍ، من دون أن يكون ذلك داخلاً في حساب مسؤوليَّته، إذ إنَّ ذلك يعطِّل الحركة، وينذر بالهزيمة في أصعب المواقف وأكثرها تعقيداً، عندما تكون بحاجةٍ إلى الحسم والتحرّك السَّريع.

ولا بدَّ لنا من وقفةٍ أمام هذا الحوار بين موسى وقومه، لنستجلي بعض خصائصه الموضوعيَّة، فقد طلب منهم ـ باسم الله ـ أن يذبحوا بقرةً، فاستغربوا الطَّلب، لأنهم لم يفهموا علاقته بالقضيّة المتنازع عليها، أو هكذا حاولوا أن يصوِّروا الموضوع، فاعتبروا ذلك سخرية واستهزاءً بهم من موسى، فدلَّلوا ـ بذلك ـ على أنهم لا يعرفون مقام النبوَّة، ولا يحترمون شخصيَّة النبيّ موسى بأبعادها الروحيَّة الَّتي تمنعه من أن يوجِّه إليهم طلباً باسم الله على سبيل العبث والسّخرية بهم، فإنَّ ذلك يُعتبر إساءةً إلى الله باستخدام اسمه في هذا المقام وبالكذب عليه، لأنّه يخبرهم بأنَّ الله يأمرهم بذلك من دون أساسٍ ثابت.

وهذا ما حدَّثنا الله عنه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}، أيّة بقرة، فإنَّه لم يحدِّد لهم شكلها ولونها وحركتها وعملها، {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً}، لأنَّ مثل هذا الأمر لا يخضع لأيّة مناسبة تتَّصل بحياتنا في أوضاعنا العامَّة والخاصَّة، فليس المورد مورد قربانٍ نقدِّمه إلى الله في مناسبات القرابين لنعتبرها قرباناً له، وليس المقام مقام دعوةٍ للإطعام لنقدِّم لحمها للآكلين من الفقراء، وليس هناك شيء آخر يدخل في دائرة التصوّر الواقعيّ المعقول، وليس لها أيّة علاقةٍ بالمسألة الَّتي وقع الخلاف فيها في تحديد القاتل.

وكان جواب موسى زاخراً بالمرارة بسبب ردود قومه السيِّئة عليه: {قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[4]، فقد استعاذ بالله أن يكون من فئة الجاهلين الّذين يتحدّثون في الأمور من دون علمٍ أو معرفة، لأنَّ مثل هذا التّصرّف يجعله في مستوى الإنسان الجاهل الّذي لا ينطق بالحكمة، ولا يعرف كيف يتصرّف وأين يضع كلماته، ولا يعقل مركز النبوَّة ومنطلقاتها المعرفيّة، كما أنّه لا يمكن أن يحدِّثهم عن الله بما لم يوحِ به إليه ولم ينـزله عليه، ومما لم يأمرهم به، لأنَّ ذلك يُعتبر خيانةً من الرّسول لرسالته وكذباً على الله، وكيف يمكن لموسى أن يسخر بالنّاس، وهو النّبيّ الّذي يدعوهم إلى الأخذ بأسباب الحكمة وخطوط التعقّل، وقد جاء لهدايتهم وربطهم بالجانب الجدّي في مواقع المسؤوليَّة في الحياة، ولا سيّما إذا كانت المسألة مرتبطةً بالعمل الّذي قد يكلّفهم الكثير من الجهد والمال والتَّعقيدات الاجتماعيَّة، وخصوصاً أنَّ هناك عمقاً للموقف في سرِّ الارتباط بالمعجزة الإلهيَّة!

طبيعة البقرة وصفاتها

وعادوا من جديد إلى المشاغبة، ولكن من موقع اتهامه بأنّه يحمل أمراً مبهماً لا وضوح فيه، فسألوه عن طبيعة البقرة، وقد كان بإمكانهم أن يأخذوا بإطلاق الكلمة في مقام البيان ـ كما يقول الأصوليّون ـ {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ}، وبدأ الموقف يتَّجه اتجاهاً آخر يشبه العقوبة في مواجهة التحدّي بمثله، فتحوَّل الجواب إلى نوعٍ من التّضييق عليهم بفرض قيودٍ لم تكن داخلةً في حساب التّشريع في ذاته.

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ ـ أي ليست هرمةً ـ وَلاَ بِكْرٌ ـ أي ليست صغيرةً ـ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ـ أي وسط بين ذلك ـ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ}[5]، واستجيبوا لهذا الأمر الإلهيِّ في حدوده الجديدة، ما يعني أنَّ القضيَّة لا تحتاج إلى سؤالٍ جديد، فبإمكانهم أن يكتفوا بما ذُكر، لأنَّه لم يذكر لهم زيادةً في التّفاصيل، وأن يسكتوا عمّا سكت الله عنه، لأنَّ الله لا يُحاسب العباد إلا على ما بيَّنه لهم، فلا عقاب بلا بيان، ولكنَّهم لم يكتفوا بذلك، لأنَّهم لم يكونوا بصدد الاستزادة من المعرفة، بل كانوا مستمرّين في المشاغبة وإزعاج موسى، فعادوا يثيرون كلَّ ما يتصوَّرونه من خصائص البقر مما يمكن أن يقع مورداً للسّؤال، {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا}، لأنَّ ألوان البقر تتنوَّع وتتعدَّد، فهل يفرض علينا لوناً معيَّناً لنلتزم به، لأنَّك لم تحدِّد لنا ذلك؟

وجاء الجواب الثّاني ليحدِّد أكثر، ويفرض قيوداً جديدة، ردّاً على هذا الفضول الّذي لا معنى له: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}[6]، وعاد السؤال من جديد، فهم لا يعرفون كيف يحصلون عليها، لأنَّ أنواع البقر تتشابه، فقد لا يملكون الحصول على المطلوب المحدَّد منها، فطلبوا الصّفات الّتي يمكن أن يجدوها بسهولة على الطبيعة، {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ـ في خصائصها وصفاتها الواضحة التي تجعلها أكثر وضوحاً ـ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}، وكأنَّهم شعروا بأنهم قد ذهبوا بعيداً في هذا المجال، واستنفدوا كلَّ الأسئلة المثارة حول هذا الموضوع، وابتعدوا عن الخطِّ المستقيم في هذا الإلحاح الفضوليّ الّذي لا يتناسب مع موقفهم من النبيّ، كما لا ينسجم مع طبيعة المسؤوليّة، فوعدوه بأنهم سيسلكون طريق الهدى في نهاية المطاف، {وَإِنَّا إِن شَاء اللهُ لَمُهْتَدُونَ}[7]، بالهدى الّذي ترشدنا إليه في حدود مسؤوليَّاتنا المتّصلة بالامتثال لأمر الله، والانقياد لأوامره ونواهيه.

وجاء الجواب أكثر تحديداً وتضييقاً وتقييداً: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ ـ لم يذلِّلها العمل بإثارة الأرض بأظلافها ـ  وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ ـ لا يستقى عليها الماء للزرّع ـ مُسَلَّمَةٌ ـ من العيوب ـلاَّ شِيَةَ فِيهَا ـ لا علامات فيها تخالف لون جلدها. {قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}، فإنَّ هذه الأوصاف المتعدِّدة المتنوّعة، تضعنا في موقع الوضوح الّذي لا مجال فيه للحيرة والاشتباه، ولم يملكوا سؤالاً جديداً، {فَذَبَحُوهَا}، لأنهم لم يجدوا حجّةً للامتناع، {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}[8]، لأنهم لا يعيشون في أنفسهم روح الطّاعة والانقياد.

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساًـ ولم يتبيّن لكم القاتل ـ فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}، أي اختلفتم، فكان التّوجيه الإلهيّ لموسى ـ بعد أن سألتموه ـ لإظهار الحقّ في القضيَّة المعقَّدة التي كادت تخلق مشاكل صعبة مدمِّرة، أن تذبحوا بقرةً، ليظهر الحقّ من خلال ذلك في نهاية المطاف، {وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[9]، من الحقيقة الخفيّة المعروفة لديكم في الباطن، الغامضة في الظاهر، نتيجة كتمانكم معلوماتكم، {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}، أي اضربوا القتيل ببعض البقرة، ليحيا فيحدِّثكم عن قاتله ويرجع بعد ذلك ميتاً، فيكون ذبح البقرة قرباناً يقدِّمونه إلى الله ليستجيب لهم دعاءهم بأن يكشف لهم سرَّ القاتل، ولتُحلّ مشكلتهم الاجتماعيّة بذلك، حتى لا يتبادلوا الاتهامات الّتي تثير الخلاف والشّحناء، وربما تؤدّي إلى القتال وسفك الدّماء، وليكون ذلك تقليداً دينيّاً لديهم في تقديم القربان إلى الله في كلّ مشكلةٍ يطلبون حلَّها، وفي كلّ سرٍّ يتطلّعون إلى معرفته، وليتأكَّد لهم ـ من خلال ذلك ـ أنَّ هناك حياةً بعد الموت، من خلال التّجربة الحسيّة التي تركّز المبدأ في حياتهم، حتى يزداد إيمانهم بذلك.

{كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى}، كما أحيا هذا الميّت، {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} ودلائل قدرته، كما في هذه الحادثة الّتي تتمثَّل فيها معجزة إحياء الميت، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[10]، وتحركون عقولكم في تخطيط المنهاج الفكريّ العقيديّ في قضيَّة الإيمان باليوم الآخر، على أساس المقارنة بين عمليّة الإحياء الّتي هي دليل على القدرة في عمليَّة البعث، والتَّجربة الحيَّة الماثلة أمامكم التي تكون دليلاً على طبيعة التّجربة الكبرى التي جاءت بها النّبوَّات في قضيَّة يوم القيامة.

وهذا تأكيدٌ لدور العقل في مسألة العقيدة، والَّذي نستطيع أن نأخذ من حركته في القضايا الفكريَّة، الأساس القويَّ الّذي يركِّز الفكرة على قاعدةٍ ثابتةٍ لا تهتزُّ تحت تأثير الأهواء والعواصف والحالات الطَّارئة.

انطباعان عن بني إسرائيل

ومن وحي هذه الآيات، يمكن لنا أن نخرج من هذا الموقف القلق لبني إسرائيل بانطباعين:

الأوّل: أنهم كانوا يبحثون عن الحجَّة الّتي تبرِّر لهم الامتناع عن أداء الأوامر وامتثالها، وذلك بإثارة الفضول أمام النّبيّ موسى، مما يُدخل القضيَّة في نطاق المناقشات الجدليَّة الّتي تُفقد الموقف روحانيَّته وحيويَّته وجديَّته، وتؤدّي بالنّتيجة ـ في زعمهم ـ إلى انسحاب النّبيّ من السّاحة، وإلغاء الأمر من خلال الحالة النفسيّة الّتي تثيرها هذه الأجواء النّفسيَّة.

الثّاني: أنَّ على القادة أن يأخذوا من ذلك درساً عمليّاً فيما يتعلّق بالمسؤوليّات العاديّة الّتي يوجّهونها إلى الأشخاص مما لا ينطلق من حكم شرعيّ محدَّد، بل من مهمَّات عمليّة عامّة تدخل في حركيّة العمل، فإذا واجهتهم مثل هذه النَّماذج، فإنَّ عليهم أن يعالجوا ذلك بطريقةٍ تأديبيّةٍ هادئة، كدرسٍ عمليٍّ لهؤلاء النّاس بأن يمتنعوا عن الأسئلة الّتي لا معنى لها، لئلا يعودوا إلى مثلها في المستقبل، وحتّى يعرفوا أنَّ ذلك سيكلِّفهم مسؤوليَّات ثقيلة قد لا تكون واردةً في الحساب.

وهذا ما نستوحيه من الحديث المأثور عن النّبيّ محمَّد(ص)، فقد روي أنَّ رسول الله خطب في أصحابه فقال: "إنَّ الله كتب عليكم الحجّ"، فقام عكاشة (ويروى سراقة بن مالك)، فقال: "أفي كلّ عامٍ يا رسول الله؟"، فأعرض عنه حتّى عاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله(ص): "ويحك، وما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم كفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عنه فاجتنبوه"[11]. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [المائدة: 44-45].

[2]  [الأنعام: 154].

[3]  [الأعراف: 138].

[4]  [البقرة: 67].

[5]  [البقرة: 68].

[6]  [البقرة: 69].

[7]  [البقرة: 70].

[8]  [البقرة: 71].

[9]  [البقرة: 72].

[10]  [البقرة: 73].

[11]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 22، ص 31.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية