انفصال بني إسرائيل عن موسى(ع) وتمرّدهم عليه

انفصال بني إسرائيل عن موسى(ع) وتمرّدهم عليه

لا نزال في أجواء التّجربة النبويّة لموسى(ع)، التي تنوَّعت من حيث تعقيداتها وخطواتها.

الخطاب الإنسانيّ

كانت طريقة النبيّ موسى(ع) في تعامله مع قومه بني إسرائيل، طريقةً إنسانيّةً توجيهيّةً رساليّةً، من خلال تذكيرهم بنعم الله عليهم، ولطفه بهم، وتخطيطه لمستقبلهم في المواقع الكبرى الّتي أراد أن يرفعهم إليها، لتمتدّ بهم كرامات الله في تحويلهم إلى مجتمعٍ يملكون الملك والسّلطة فيه، ولينفتحوا في أجيالهم القادمة على النبوّة التي يختار الله بعضهم ليحصل على موقعها الرّوحيّ القدسي، ممّن يصطفيه الله من عباده انطلاقاً من القيم الروحيّة التي يتمتّع بها، إضافةً إلى تذكيرهم بالفيوضات المتنوّعة التي أفاضها الله عليهم مما لم يحصل عليها أحد من النّاس.

وهكذا انطلق معهم بأسلوب الرِّسالة الّذي يخاطب فيهم إنسانيَّتهم، ليوحي إليهم بحسِّ الكرامة في ذواتهم، وليعلِّمهم أنَّ العقيدة والالتزام والطَّاعة كلَّها، لا تمثِّل التَّعليمات المفروضة كالّتي يصدرها الكبار إليهم بالطريقة الّتي تعوّدوا عليها في عهد عبوديتهم لفرعون، مما كانوا لا يملكون معه أيّة فرصةٍ للاختيار الإراديّ، خوفاً من ضغطه عليهم وتهديده بقتلهم، بل هي فكرة في العقل يتحرّك بها في خطّ التّفكير المتوازن، وإرادة في حركة الإنسان في انفعاله بما يؤمن به، وتفاعل نفسيّ داخليّ في مواجهة الحالة الجديدة في الدّعوة، وحركة منفتحة على الكون كلّه، ليرى الإنسان ملكوت السماوات والأرض، ويتعرّف النّظام الكونيّ والحركة الإنسانيّة في القوانين التي تحكم حياته وتنظِّم أوضاعه، على أساس القاعدة المرتكزة على الحكمة في خطّ التّوازن والاستقامة، ليتحوّل جهده كلّه إلى فعل إيمان.

ولذلك، كان موسى(ع) يدعوهم إلى التأمّل والتفكّر والتذكّر وقراءة الكتاب كلّه والعالم كلّه، والحوار مع الآخرين الّذين قد يختلفون معهم في الرأي، لأنّه كان يربّيهم تربيةً ثقافيّةً تختزن العلم في داخل الذّات، وترتفع بالعقل إلى مستوى الإبداع، وهذه هي رسالة الأنبياء الّذين كانت مهمّتهم أن يرفعوا مستوى النّاس، ليكونوا في موقع القيادة للهداية والإرشاد، من خلال ما يتميّزون به من المعرفة العميقة الواسعة.

ولقد خاض موسى(ع) معهم الحوار في كلّ القضايا المتحركة في حياتهم، والمشاكل الطّارئة عليهم، ليعلِّمهم كيف يفكِّرون، وكيف يناقشون الفكر الّذي يطرح عليهم للاستزادة من المعرفة، ولكنّهم كانوا يختزنون العقدة النفسيّة التي لا تسمح لهم بالانطلاق في عمليّة التّغيير نحو الأفكار الجديدة، بفعل الجمود التاريخي الّذي أدمنوه، والّذي كان يمنعهم من حرية التّفكير في الواقع الأفضل، والمضمون الأحسن، وهذا ما عاناه موسى(ع) منهم، إذ كانوا يبتعدون عنه كلّما اقترب منهم، ويتمرّدون عليه كلّما انفتح على تربية عقولهم وتوجيه مشاعرهم في أكثر من موقف، وذلك بسبب ما اعتادوه من العبوديّة الّتي يخضع صاحبها لما يفرض عليه من الموقع الفوقيّ، لا لما يختاره بإرادته وقناعته، فكانوا ينتظرون من النبيِّ موسى(ع) أن يعاملهم بالطّريقة القاسية الّتي كان يعاملهم بها فرعون، استضعافاً واستعباداً لهم من خلال حكمه القاهر، ليحصل على طاعتهم، ويضمن استقرار ملكه من خلال انضباطهم العبوديّ.

خلاص شكليّ

وكانوا يعتبرون أنَّ معنى خلاصهم من فرعون، هو أن يعيشوا حال استرخاء ودعةٍ وطمأنينة نفسيَّة لا جهد فيها ولا تعب، بعيداً عن كلّ أجواء الصّراع ومشاكله، فلم يكونوا مستعدّين للدّخول في تجربة جديدة للالتزام الفكري وللقيم الروحيّة، بل كانوا يريدون أن يخضعوا لأهوائهم الذاتية وشهواتهم الغريزيّة، من دون أن تفرض عليهم أيّة قيادة إيمانيّة رساليّة، خضوعاً لفكرٍ منفتحٍ على الشّريعة، كما أنهم لم يكونوا مستعدّين للقتال في سبيل الاستقرار في أرضٍ جديدةٍ تكفل لهم القوّة في الموقف والقرار المستقلّ، ليكونوا القادة الحاكمين فيها، بدلاً من أن يكونوا المحكومين من قِبَل قيادات جبَّارة أخرى، كما كانت الحال في مجتمع فرعون الّذي عانوا منه الكثير، بل كانوا يتحفَّزون للهرب والتراجع عند أوّل دعوةٍ إلى المعركة.

هكذا كانوا يتصرّفون ويفكرون. أمّا النبيّ موسى(ع)، فإنّ شخصيّته في عناصره الروحيّة الرفيعة العالية الرائعة، لم تكن تلتقي بشخصيّة فرعون من قريب أو بعيد، لأنَّ هناك فرقاً بين من يريد الناس لنفسه، وبين من يريدهم لله ولأنفسهم من موقع إصلاحهم، ولهذا لم يستطع النبيّ موسى(ع) النّجاح معهم، ولم يكن من خطّته أن يحقِّق النّجاح على هذا المستوى بالطريقة الفرعونيّة المستكبرة، لأنّه كان يعمل ـ من خلال دوره الرّساليّ ـ على تغيير مفاهيمهم الخاطئة، واستبدال المفاهيم الصّحيحة الصائبة بها، وتأصيل إنسانيَّتهم، وتصفية روحيَّتهم وطريقتهم في التّفكير والعمل.

ولذلك كانت الموعظة الهادئة، والانسجام مع أوضاعهم، والعفو عن خطاياهم معه، السّبيل للوصول إلى هذا الهدف الّذي استطاع أن يعطي السَّاحة بعض النّماذج التي ارتفعت إلى مستوى الرّسالة، فعاشت مع موسى آفاقه وأحلامه.

ونتمثَّل أسلوب النبيّ موسى(ع) معهم في الحوار والدّعوة، وأسلوبهم في الهزيمة النفسيّة والتمرّد عليه، في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ}[1]. فقد دعاهم إلى فترةٍ من التأمّل يستعيدون فيها تاريخهم المظلم الغارق في العبودية والظلام، ليقارنوا بين ذاك التاريخ وبين واقعهم الجديد الّذي منحهم الله فيه الحريّة على يد رسوله بالمعجزات الخارقة، وبعد أن جعل منهم أنبياء قادةً إلى الإيمان بالله والهداية إليه، وصيّرهم ملوكاً، مع ما يعنيه ذلك من حصولهم على الامتيازات الكبرى التي تجعلهم في مركز السّلطة الّتي يملكون فيها الحكم في شؤون النّاس، ورزقهم من النِّعم ما لم يؤته أحداً من العالمين الّذين عاصروهم، وكانت هذه الدَّعوة منه لكي يواجهوا الحاضر والمستقبل من هذا الموقع وتلك النبوَّة، ليرتفعوا ـ من خلال هذا الوعي والوعد الإلهيّ ـ إلى المستوى الّذي أراد الله أن يرفعهم إليه، ليتحمَّلوا مسؤوليّة الرّسالة معه، ويعملوا على التحرّك من أجل التَّغيير من خلال قيادته الرسوليَّة.

انطلاق الرّسالة

وقد كان من خطَّة موسى أن يجعل من بيت المقدس، الأرضَ الّتي تنطلق منها رسالته وتمتدّ إلى ساحاتٍ أخرى وآفاقٍ جديدة، ليبلِّغ دعوته إلى النّاس في تلك المنطقة وفيما حولها، بحيث لا تقتصر على بني إسرائيل، كما كانت الحال الّتي أعقبت خروجه من مصر في الصّحراء المترامية التي كان يسير بقومه فيها. وربما يتساءل الإنسان عن السبب في امتناعه عن العودة إلى مصر بعد سقوط ملك الفراعنة، وانتصاره على القوم الّذين كانوا يملكون السّيطرة عليها، وما هو الأساس في رحلته إلى القدس؟!

وربما يُجاب عن ذلك، بأنَّ هذه المنطقة لم تكن خاضعةً لسلطةٍ مماثلةٍ لسلطة فرعون، في إخضاع النَّاس لربوبيّته، والاعتراف بألوهيّته، وانفعال النَّاس بأفكاره من خلال التزامهم بامتداداته، ما يجعل من حركة الدّعوة مسألةً بالغة الصّعوبة من أجل الخروج من ذهنيّة الوثنيّة المستغرقة إلى ذهنيّة التَّوحيد، بينما كانت القدس خاضعةً لبعض الأقوياء الّذين يتحركون من خلال قوَّتهم، لا من خلال ذهنيّاتهم وأفكارهم وعقائدهم المنحرفة.

هذا إضافةً إلى أنَّ هذه القرية كانت تملك بعضاً من القداسة الّتي تميِّزها عن القرى الأخرى، ما جعلها في الموقع الملائم للرّسالة في حركة الدّعوة. ولذلك كان الدّخول إليها يفرض على الدَّاخل نوعاً من العبادة في الإخلاص لله والانفتاح عليه، وهو ما نستوحيه من قوله تعالى في خطاب الله لبني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ}، والظَّاهر أنَّ المراد بها بيت المقدس الّذي أريد له أن يكون المستقرَّ لموسى وقومه، بحيث تتحرَّك فيه الرّسالة في امتدادها الجغرافي من موقع القوَّة بعد خروج موسى من مصر، باعتبار أنَّ وجود قاعدة للانطلاق في أيِّ مشروعٍ رساليّ عام، هو أمرٌ ضروريّ في موازين القوى في ساحة الصّراع بين الحقّ والباطل في واقع الحياة العامّة.

وقد أثار الله فيهم الرّغبة في الحصول على مِتَع الحياة الرّغيدة في الأغذية اللّذيذة والطعام الشهيّ، قال تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً}، من خلال القوّة القاهرة التي ستملكونها في سيطرتكم على مواقع الجبّارين الذين يسكنون فيها ويستولون عليها، والّذين كانوا يستضعفون النّاس ويبغون في الأرض بغير الحقّ، لتكون لكم الحريّة في الأخذ بما تشاؤون من النّعم الموجودة فيها، والأكل اللّذيذ مما تشتهونه من طيّباتها وثمارها في سعة من العيش الهنيء، وبذلك تحصلون على الاستقرار والسَّكينة من دون أيّة حاجةٍ إلى التنقّل من مكانٍ إلى مكانٍ في رحلة الجهد والتَّعب، {وادْخُلُواْ الْبَابَ ـ والظَّاهر أنّه باب البلد ـ سُجَّداً} شكراً لله على نعمته في انتصاركم على الطّغاة الظَّالمين الّذين يكفرون به ويصدّون عن سبيله كلّ المؤمنين الصّالحين.

{وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أي ابتهلوا إلى الله في اعترافٍ صادقٍ بالتَّوبة والنَّدم على كلّ التاريخ الخاطئ الّذي عشتموه في خطاياكم، وقولوا في ابتهالاتكم: اللّهمّ حطَّ عنّا خطايانا، واغفر لنا ذنوبنا، فإنَّ الله سوف يستجيب لكم ويغفر لكم خطيئاتكم.

{نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}، لتتحرَّروا من ثقل الخطيئة وعقدة الإحساس بالذَّنب، ولن يقتصر اللّطف الإلهيّ على غفران الخطايا، بل يمتدّ بكم في رحمته ولطفه إلى الزّيادة لكم في أعماركم وأموالكم، جزاءً لما تمارسونه في حاضركم المنفتح على الطَّاعة، من الإخلاص لله في توحيده. {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}[2] الَّذين أحسنوا القول والعمل، إضافةً إلى الإحسان في خطِّ العقيدة والإيمان.

فلسفة العذاب

ولكنَّهم لم يأخذوا بهذه الموعظة الإيمانيَّة والنَّصيحة الخيّرة، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ـ أنفسهم بالانحراف عن الخطِّ المستقيم ـ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}، فاستبدلوا الحطَّ من الخطايا، وإعلان الإصرار على التمرّد على الله، بالدّعاء، كما استبدلوا الاستكبار عليه والسّخرية والاستهزاء بالاحترام للرَّسول والرّساليّين، بالتَّواضع للحقّ، {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء}، والرّجز أصله الاضطراب ـ كما يقول الرَّاغب في مفرداته ـ ومنه قيل: رجز البعير، إذا اضطرب مشيه لضعفه. ويقول الطبرسي في مجمع البيان: "إنَّ الرِّجز بمعنى العذاب عند أهل الحجاز، ويروى عن الرّسول(ص) قوله بشأن مرض الطّاعون: "إنّه رجزٌ عُذِّب به بعض الأمم قبلكم"[3].

وهكذا أنزل الله العذاب على المنحرفين من بني إسرائيل ممّن ظلموا أنفسهم، {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}[4]، لأنَّ العذاب، دنيويّاً كان أو أخرويّاً، لا ينطلق من فراغ، بل من السَّبب الواقعيّ الّذي يتمثَّل بالفسق العمليّ، نتيجة تجاوز الإنسان الحدود الإلهيَّة المرسومة له، بأخذه بأسباب الخطيئة، وسيره في طريق العصيان. وفي هذا إشارة إلى العلاقة الوثيقة بين العمل الشرّير المنحرف عن الحقّ، وبين النَّتائج السيِّئة الّتي تطال المنحرفين الأشرار، من خلال الرّابطة العضويّة بين السَّبب والمسبّب، أو المقدّمة والنَّتيجة، في نطاق السنن الإلهيّة الّتي أودعها الله في حركة الواقع الطبيعي في النّظام الكوني.

وقد جاء هذا النصّ ـ مع بعض التّغيير في الكلمات ـ في آيةٍ أخرى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ}، لأنَّ الهدف من دخولها كما جاء في الآية السَّابقة، هو إقامتهم وسكناهم فيها لتكون مقاماً ومستقرّاً لهم، {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} مما أودعه الله فيها من الغذاء والثّمار، فليس هناك أيّ شيءٍ ممنوع عنكم، {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} في الاستغفار من ذنوبكم بطلب المغفرة من الله، {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} في تعبيرٍ عباديٍّ عن سجود الشّكر لله فيما أنعم به عليكم من ألطافه الكثيرة، {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ}، لأنَّ الله يغفر للمستغفرين الصَّادقين في توبتهم كلَّ سيِّئاتهم، {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}[5] على إحسانهم بكلِّ مظاهره ومواقعه.

ونستوحي من ذلك كلّه، أنَّ بني إسرائيل انفصلوا عن موسى(ع)، وابتعدوا عنه وخالفوا رسالته وعصوا أمره، ما جعل موسى يعيش المشكلة الصَّعبة في القيام برسالته والامتداد بها، لأنهم كانوا هم القاعدة الجماهيريّة الّتي أراد أن ينطلق بها إلى النّاس الآخرين في خطِّ الدّعوة، ويجعل منهم القاعدة في الأرض المقدَّسة لإيجاد الحركة الإيمانيّة الهادية المرشدة للنّاس كافّةً...

وهذا ما قد ندخل في بعض تفاصيله من خلال ما جاء في سورة المائدة. والحمد لله ربِّ العالمين.


[1]  [المائدة: 20].

[2] [البقرة: 58].

[3]  السنن الكبرى، البيهقي، ج7، ص217.

[4] [البقرة: 59].

[5] [الأعراف: 161].

لا نزال في أجواء التّجربة النبويّة لموسى(ع)، التي تنوَّعت من حيث تعقيداتها وخطواتها.

الخطاب الإنسانيّ

كانت طريقة النبيّ موسى(ع) في تعامله مع قومه بني إسرائيل، طريقةً إنسانيّةً توجيهيّةً رساليّةً، من خلال تذكيرهم بنعم الله عليهم، ولطفه بهم، وتخطيطه لمستقبلهم في المواقع الكبرى الّتي أراد أن يرفعهم إليها، لتمتدّ بهم كرامات الله في تحويلهم إلى مجتمعٍ يملكون الملك والسّلطة فيه، ولينفتحوا في أجيالهم القادمة على النبوّة التي يختار الله بعضهم ليحصل على موقعها الرّوحيّ القدسي، ممّن يصطفيه الله من عباده انطلاقاً من القيم الروحيّة التي يتمتّع بها، إضافةً إلى تذكيرهم بالفيوضات المتنوّعة التي أفاضها الله عليهم مما لم يحصل عليها أحد من النّاس.

وهكذا انطلق معهم بأسلوب الرِّسالة الّذي يخاطب فيهم إنسانيَّتهم، ليوحي إليهم بحسِّ الكرامة في ذواتهم، وليعلِّمهم أنَّ العقيدة والالتزام والطَّاعة كلَّها، لا تمثِّل التَّعليمات المفروضة كالّتي يصدرها الكبار إليهم بالطريقة الّتي تعوّدوا عليها في عهد عبوديتهم لفرعون، مما كانوا لا يملكون معه أيّة فرصةٍ للاختيار الإراديّ، خوفاً من ضغطه عليهم وتهديده بقتلهم، بل هي فكرة في العقل يتحرّك بها في خطّ التّفكير المتوازن، وإرادة في حركة الإنسان في انفعاله بما يؤمن به، وتفاعل نفسيّ داخليّ في مواجهة الحالة الجديدة في الدّعوة، وحركة منفتحة على الكون كلّه، ليرى الإنسان ملكوت السماوات والأرض، ويتعرّف النّظام الكونيّ والحركة الإنسانيّة في القوانين التي تحكم حياته وتنظِّم أوضاعه، على أساس القاعدة المرتكزة على الحكمة في خطّ التّوازن والاستقامة، ليتحوّل جهده كلّه إلى فعل إيمان.

ولذلك، كان موسى(ع) يدعوهم إلى التأمّل والتفكّر والتذكّر وقراءة الكتاب كلّه والعالم كلّه، والحوار مع الآخرين الّذين قد يختلفون معهم في الرأي، لأنّه كان يربّيهم تربيةً ثقافيّةً تختزن العلم في داخل الذّات، وترتفع بالعقل إلى مستوى الإبداع، وهذه هي رسالة الأنبياء الّذين كانت مهمّتهم أن يرفعوا مستوى النّاس، ليكونوا في موقع القيادة للهداية والإرشاد، من خلال ما يتميّزون به من المعرفة العميقة الواسعة.

ولقد خاض موسى(ع) معهم الحوار في كلّ القضايا المتحركة في حياتهم، والمشاكل الطّارئة عليهم، ليعلِّمهم كيف يفكِّرون، وكيف يناقشون الفكر الّذي يطرح عليهم للاستزادة من المعرفة، ولكنّهم كانوا يختزنون العقدة النفسيّة التي لا تسمح لهم بالانطلاق في عمليّة التّغيير نحو الأفكار الجديدة، بفعل الجمود التاريخي الّذي أدمنوه، والّذي كان يمنعهم من حرية التّفكير في الواقع الأفضل، والمضمون الأحسن، وهذا ما عاناه موسى(ع) منهم، إذ كانوا يبتعدون عنه كلّما اقترب منهم، ويتمرّدون عليه كلّما انفتح على تربية عقولهم وتوجيه مشاعرهم في أكثر من موقف، وذلك بسبب ما اعتادوه من العبوديّة الّتي يخضع صاحبها لما يفرض عليه من الموقع الفوقيّ، لا لما يختاره بإرادته وقناعته، فكانوا ينتظرون من النبيِّ موسى(ع) أن يعاملهم بالطّريقة القاسية الّتي كان يعاملهم بها فرعون، استضعافاً واستعباداً لهم من خلال حكمه القاهر، ليحصل على طاعتهم، ويضمن استقرار ملكه من خلال انضباطهم العبوديّ.

خلاص شكليّ

وكانوا يعتبرون أنَّ معنى خلاصهم من فرعون، هو أن يعيشوا حال استرخاء ودعةٍ وطمأنينة نفسيَّة لا جهد فيها ولا تعب، بعيداً عن كلّ أجواء الصّراع ومشاكله، فلم يكونوا مستعدّين للدّخول في تجربة جديدة للالتزام الفكري وللقيم الروحيّة، بل كانوا يريدون أن يخضعوا لأهوائهم الذاتية وشهواتهم الغريزيّة، من دون أن تفرض عليهم أيّة قيادة إيمانيّة رساليّة، خضوعاً لفكرٍ منفتحٍ على الشّريعة، كما أنهم لم يكونوا مستعدّين للقتال في سبيل الاستقرار في أرضٍ جديدةٍ تكفل لهم القوّة في الموقف والقرار المستقلّ، ليكونوا القادة الحاكمين فيها، بدلاً من أن يكونوا المحكومين من قِبَل قيادات جبَّارة أخرى، كما كانت الحال في مجتمع فرعون الّذي عانوا منه الكثير، بل كانوا يتحفَّزون للهرب والتراجع عند أوّل دعوةٍ إلى المعركة.

هكذا كانوا يتصرّفون ويفكرون. أمّا النبيّ موسى(ع)، فإنّ شخصيّته في عناصره الروحيّة الرفيعة العالية الرائعة، لم تكن تلتقي بشخصيّة فرعون من قريب أو بعيد، لأنَّ هناك فرقاً بين من يريد الناس لنفسه، وبين من يريدهم لله ولأنفسهم من موقع إصلاحهم، ولهذا لم يستطع النبيّ موسى(ع) النّجاح معهم، ولم يكن من خطّته أن يحقِّق النّجاح على هذا المستوى بالطريقة الفرعونيّة المستكبرة، لأنّه كان يعمل ـ من خلال دوره الرّساليّ ـ على تغيير مفاهيمهم الخاطئة، واستبدال المفاهيم الصّحيحة الصائبة بها، وتأصيل إنسانيَّتهم، وتصفية روحيَّتهم وطريقتهم في التّفكير والعمل.

ولذلك كانت الموعظة الهادئة، والانسجام مع أوضاعهم، والعفو عن خطاياهم معه، السّبيل للوصول إلى هذا الهدف الّذي استطاع أن يعطي السَّاحة بعض النّماذج التي ارتفعت إلى مستوى الرّسالة، فعاشت مع موسى آفاقه وأحلامه.

ونتمثَّل أسلوب النبيّ موسى(ع) معهم في الحوار والدّعوة، وأسلوبهم في الهزيمة النفسيّة والتمرّد عليه، في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ}[1]. فقد دعاهم إلى فترةٍ من التأمّل يستعيدون فيها تاريخهم المظلم الغارق في العبودية والظلام، ليقارنوا بين ذاك التاريخ وبين واقعهم الجديد الّذي منحهم الله فيه الحريّة على يد رسوله بالمعجزات الخارقة، وبعد أن جعل منهم أنبياء قادةً إلى الإيمان بالله والهداية إليه، وصيّرهم ملوكاً، مع ما يعنيه ذلك من حصولهم على الامتيازات الكبرى التي تجعلهم في مركز السّلطة الّتي يملكون فيها الحكم في شؤون النّاس، ورزقهم من النِّعم ما لم يؤته أحداً من العالمين الّذين عاصروهم، وكانت هذه الدَّعوة منه لكي يواجهوا الحاضر والمستقبل من هذا الموقع وتلك النبوَّة، ليرتفعوا ـ من خلال هذا الوعي والوعد الإلهيّ ـ إلى المستوى الّذي أراد الله أن يرفعهم إليه، ليتحمَّلوا مسؤوليّة الرّسالة معه، ويعملوا على التحرّك من أجل التَّغيير من خلال قيادته الرسوليَّة.

انطلاق الرّسالة

وقد كان من خطَّة موسى أن يجعل من بيت المقدس، الأرضَ الّتي تنطلق منها رسالته وتمتدّ إلى ساحاتٍ أخرى وآفاقٍ جديدة، ليبلِّغ دعوته إلى النّاس في تلك المنطقة وفيما حولها، بحيث لا تقتصر على بني إسرائيل، كما كانت الحال الّتي أعقبت خروجه من مصر في الصّحراء المترامية التي كان يسير بقومه فيها. وربما يتساءل الإنسان عن السبب في امتناعه عن العودة إلى مصر بعد سقوط ملك الفراعنة، وانتصاره على القوم الّذين كانوا يملكون السّيطرة عليها، وما هو الأساس في رحلته إلى القدس؟!

وربما يُجاب عن ذلك، بأنَّ هذه المنطقة لم تكن خاضعةً لسلطةٍ مماثلةٍ لسلطة فرعون، في إخضاع النَّاس لربوبيّته، والاعتراف بألوهيّته، وانفعال النَّاس بأفكاره من خلال التزامهم بامتداداته، ما يجعل من حركة الدّعوة مسألةً بالغة الصّعوبة من أجل الخروج من ذهنيّة الوثنيّة المستغرقة إلى ذهنيّة التَّوحيد، بينما كانت القدس خاضعةً لبعض الأقوياء الّذين يتحركون من خلال قوَّتهم، لا من خلال ذهنيّاتهم وأفكارهم وعقائدهم المنحرفة.

هذا إضافةً إلى أنَّ هذه القرية كانت تملك بعضاً من القداسة الّتي تميِّزها عن القرى الأخرى، ما جعلها في الموقع الملائم للرّسالة في حركة الدّعوة. ولذلك كان الدّخول إليها يفرض على الدَّاخل نوعاً من العبادة في الإخلاص لله والانفتاح عليه، وهو ما نستوحيه من قوله تعالى في خطاب الله لبني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ}، والظَّاهر أنَّ المراد بها بيت المقدس الّذي أريد له أن يكون المستقرَّ لموسى وقومه، بحيث تتحرَّك فيه الرّسالة في امتدادها الجغرافي من موقع القوَّة بعد خروج موسى من مصر، باعتبار أنَّ وجود قاعدة للانطلاق في أيِّ مشروعٍ رساليّ عام، هو أمرٌ ضروريّ في موازين القوى في ساحة الصّراع بين الحقّ والباطل في واقع الحياة العامّة.

وقد أثار الله فيهم الرّغبة في الحصول على مِتَع الحياة الرّغيدة في الأغذية اللّذيذة والطعام الشهيّ، قال تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً}، من خلال القوّة القاهرة التي ستملكونها في سيطرتكم على مواقع الجبّارين الذين يسكنون فيها ويستولون عليها، والّذين كانوا يستضعفون النّاس ويبغون في الأرض بغير الحقّ، لتكون لكم الحريّة في الأخذ بما تشاؤون من النّعم الموجودة فيها، والأكل اللّذيذ مما تشتهونه من طيّباتها وثمارها في سعة من العيش الهنيء، وبذلك تحصلون على الاستقرار والسَّكينة من دون أيّة حاجةٍ إلى التنقّل من مكانٍ إلى مكانٍ في رحلة الجهد والتَّعب، {وادْخُلُواْ الْبَابَ ـ والظَّاهر أنّه باب البلد ـ سُجَّداً} شكراً لله على نعمته في انتصاركم على الطّغاة الظَّالمين الّذين يكفرون به ويصدّون عن سبيله كلّ المؤمنين الصّالحين.

{وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أي ابتهلوا إلى الله في اعترافٍ صادقٍ بالتَّوبة والنَّدم على كلّ التاريخ الخاطئ الّذي عشتموه في خطاياكم، وقولوا في ابتهالاتكم: اللّهمّ حطَّ عنّا خطايانا، واغفر لنا ذنوبنا، فإنَّ الله سوف يستجيب لكم ويغفر لكم خطيئاتكم.

{نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}، لتتحرَّروا من ثقل الخطيئة وعقدة الإحساس بالذَّنب، ولن يقتصر اللّطف الإلهيّ على غفران الخطايا، بل يمتدّ بكم في رحمته ولطفه إلى الزّيادة لكم في أعماركم وأموالكم، جزاءً لما تمارسونه في حاضركم المنفتح على الطَّاعة، من الإخلاص لله في توحيده. {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}[2] الَّذين أحسنوا القول والعمل، إضافةً إلى الإحسان في خطِّ العقيدة والإيمان.

فلسفة العذاب

ولكنَّهم لم يأخذوا بهذه الموعظة الإيمانيَّة والنَّصيحة الخيّرة، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ـ أنفسهم بالانحراف عن الخطِّ المستقيم ـ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}، فاستبدلوا الحطَّ من الخطايا، وإعلان الإصرار على التمرّد على الله، بالدّعاء، كما استبدلوا الاستكبار عليه والسّخرية والاستهزاء بالاحترام للرَّسول والرّساليّين، بالتَّواضع للحقّ، {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء}، والرّجز أصله الاضطراب ـ كما يقول الرَّاغب في مفرداته ـ ومنه قيل: رجز البعير، إذا اضطرب مشيه لضعفه. ويقول الطبرسي في مجمع البيان: "إنَّ الرِّجز بمعنى العذاب عند أهل الحجاز، ويروى عن الرّسول(ص) قوله بشأن مرض الطّاعون: "إنّه رجزٌ عُذِّب به بعض الأمم قبلكم"[3].

وهكذا أنزل الله العذاب على المنحرفين من بني إسرائيل ممّن ظلموا أنفسهم، {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}[4]، لأنَّ العذاب، دنيويّاً كان أو أخرويّاً، لا ينطلق من فراغ، بل من السَّبب الواقعيّ الّذي يتمثَّل بالفسق العمليّ، نتيجة تجاوز الإنسان الحدود الإلهيَّة المرسومة له، بأخذه بأسباب الخطيئة، وسيره في طريق العصيان. وفي هذا إشارة إلى العلاقة الوثيقة بين العمل الشرّير المنحرف عن الحقّ، وبين النَّتائج السيِّئة الّتي تطال المنحرفين الأشرار، من خلال الرّابطة العضويّة بين السَّبب والمسبّب، أو المقدّمة والنَّتيجة، في نطاق السنن الإلهيّة الّتي أودعها الله في حركة الواقع الطبيعي في النّظام الكوني.

وقد جاء هذا النصّ ـ مع بعض التّغيير في الكلمات ـ في آيةٍ أخرى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ}، لأنَّ الهدف من دخولها كما جاء في الآية السَّابقة، هو إقامتهم وسكناهم فيها لتكون مقاماً ومستقرّاً لهم، {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} مما أودعه الله فيها من الغذاء والثّمار، فليس هناك أيّ شيءٍ ممنوع عنكم، {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} في الاستغفار من ذنوبكم بطلب المغفرة من الله، {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} في تعبيرٍ عباديٍّ عن سجود الشّكر لله فيما أنعم به عليكم من ألطافه الكثيرة، {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ}، لأنَّ الله يغفر للمستغفرين الصَّادقين في توبتهم كلَّ سيِّئاتهم، {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}[5] على إحسانهم بكلِّ مظاهره ومواقعه.

ونستوحي من ذلك كلّه، أنَّ بني إسرائيل انفصلوا عن موسى(ع)، وابتعدوا عنه وخالفوا رسالته وعصوا أمره، ما جعل موسى يعيش المشكلة الصَّعبة في القيام برسالته والامتداد بها، لأنهم كانوا هم القاعدة الجماهيريّة الّتي أراد أن ينطلق بها إلى النّاس الآخرين في خطِّ الدّعوة، ويجعل منهم القاعدة في الأرض المقدَّسة لإيجاد الحركة الإيمانيّة الهادية المرشدة للنّاس كافّةً...

وهذا ما قد ندخل في بعض تفاصيله من خلال ما جاء في سورة المائدة. والحمد لله ربِّ العالمين.


[1]  [المائدة: 20].

[2] [البقرة: 58].

[3]  السنن الكبرى، البيهقي، ج7، ص217.

[4] [البقرة: 59].

[5] [الأعراف: 161].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية