تتمّةً للحديث عن تجربة النَّبيّ موسى(ع) مع قومه، نجد أنَّه(ع) لم يستطع ـ على الرّغم من كلّ جهوده ـ أن يجعل من قومه جمهور الرّسالة الَّذي يواجه قوى الكفر والشِّرك والضَّلال، والَّذي يدخل ساحة الصَّراع ليكون في حال مواجهة قتاليَّة للقوى المضادّة المالكة للقوّة.
تخلّف قوم موسى
ولذلك، فقد كانوا يسيرون معه في حالٍ استرخائيَّة، دون أن يكلّفوا أنفسهم أيّ جهد في الموقف الرّساليّ، وهم ـ في حالهم تلك ـ لم يكفّوا عن إزعاجه بطلباتهم ومشاغبتهم، الأمر الّذي ربما عطّل خطّته في هدايتهم وإرشادهم، فقد كانوا في الفترة الّتي عاشوها تحت سيطرة فرعون وقومه، يختزنون في ذهنيّاتهم التخلّف الفكريّ الّذي يدفعهم إلى العبثيّة الحركيّة المتمرّدة على قيادتهم الصّالحة، فكان منطقهم مع موسى(ع) منطق الشّكوى من الأذى الَّذي لحقهم قبل مجيئه وبعده، وربما لم يؤمنوا بقدرته على تحريرهم والعمل على خلاصهم، حتى فاجأهم بالمعجزة الكبرى في دخوله البحر بعد انحسار الماء عن الطّريق الذي أريدَ لهم أن يسلكوه من أجل نجاتهم من فرعون وجنده، وإغراق فرعون وهلاكه في هذه التَّجربة العظيمة...
وخرجوا من البحر، وبدأوا يفكِّرون في العودة إلى ما اعتادوا عليه من التفكير الوثني الَّذي يتمثّل بعبادة آلهةٍ من الأصنام، ولم يستوعبوا تعاليم النّبيّ موسى(ع) التي أوحى الله بها إليه في التوراة، لتفتح عقولهم على الحق، وحياتهم على الاستقامة، ووعيهم على الإيمان. وكانت قصَّة عبادة العجل المظهر الحيّ للخلفيات الدّاخليّة المرضيَّة في ذواتهم الانحرافيَّة.
وهكذا أراد النبي موسى(ع) لقومه الاستقرار في مكان آمن يحصلون فيه على السَّكينة والطَّمأنينة، ويأكلون فيه من الطيّبات، ويحقّقون فيه ما يشتهون، وينفتحون فيه على الأرض المقدّسة التي تمنحهم قداسة الروح وروحية القيم، ليكونوا في الموقع القيادي الرّساليّ بإشراف النبي موسى، وليحملوا التوراة إلى الناس ـ كما جعلها الله ـ نوراً وهدًى لأبناء جيلهم وللأجيال المقبلة. فكيف واجهوا الموقف؟
لقد استغرقوا في نقاط ضعفهم، وخضعوا لأوهامهم، واستحضروا الرّعب والخوف من الأقوياء ممّن قد يضطرون إلى الدخول معهم في صراع قتاليّ ضاغط مما لم يعتادوه عندما كانوا تحت سلطة فرعون الّتي زرعت في نفوسهم كلّ عناصر الضّعف، ثم ساروا في الرّحلة الطويلة مع موسى، ولم يكونوا في هذه المرحلة في أيّ موقع من مواقع الصّراع، بل كانوا يشعرون بالأمان الَّذي يمنحهم الإحساس بالراحة، ويقوّي حال الضعف لديهم، لأنهم لم يكونوا قد دخلوا بعد في أية تجربة لحركة القوة.
الدَّعوة لدخول بيت المقدس
وهكذا بدأ النبي موسى(ع) خطابه لهم، فطلب منهم الدخول إلى بيت المقدس، كما جاء في قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ الله لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[1]، وكانت القافلة تقترب من بيت المقدس في مسيرتها في تلك الرحلة الطويلة، ولاحت لهم الأرض المقدسة من بعيد، وكأنه كان يحاول أن يوحي إليهم بالقيمة القدسيَّة التي تمثلها هذه الأرض، ليكون دخولهم إليها من موقع الميزة التي ميّزها الله بها، فهي الهدف الَّذي استهدفه موسى لتكون مكان إقامتهم الدائمة، لينظّموا أوضاعهم فيها، وليمارسوا الانطلاق منها إلى المنطقة المحيطة بها في امتدادهم الإنسانيّ مع المجتمعات الأخرى، وليستقروا في جنباتها في عمليّة إعمار للبيوت التي يسكنونها، وليجدّدوا حركتهم من خلال التوراة التي يتمثّل فيها المجد الإلهي الذي يمنحهم نور الهداية بما تشتمل عليه من التعاليم التي ترفع مستوى الناس في الحياة، فيدفعهم ذلك إلى أن يكونوا في مواقع الحكم العادل الذي تتحرك به النبوَّة في شخصيَّة موسى.
ويتابع موسى(ع) خطابه لهم في تحذيرهم من التراجع عن قاعدة الحقّ، حتّى لا يخسروا من خلال ذلك مصيرهم في الدنيا والآخرة، وخصوصاً أنَّ دخولهم إليها وسكناهم فيها هو مما كتبه الله لهم في إقامتهم فيها إلى الأمد الَّذي فرضه تعالى. ولكنّهم ـ على الرغم من ذلك ـ رفضوا هذا العرض بقوّة، لأنَّ الدّخول إليها سوف يكلّفهم صراعاً وقتالاً وتضحياتٍ في مواجهة أهلها الذين يملكون القوة القاهرة.
الهزيمة النَّفسيَّة للقوم
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}[2]، فقد كان يحكمها قوم جبَّارون لم يكونوا يسمحون لأيّ داخل إليها من أيّ قوم أن ينازعهم سلطتها، وكان قوم موسى(ع) يخافون أن يستخدم هؤلاء القوّة ضدّهم، وأن يدخلونهم من جديد في دائرة العبودية ممّا لا يكون باستطاعتهم التخلّص منها، ولم يكونوا على استعداد للدخول في صراعٍ معهم، لأنهم لم يعتادوا الصّراع مع أيّة جهة للحصول على المكاسب في الأرض أو في حركة الواقع في الحياة. ولذلك، كانت استجابتهم لموسى مشروطةً بالدخول إليها في حال من السَّلام، دون أن يكلّفهم ذلك أيّ حرب.
ولذلك، كان منطقهم في ردّ الفعل على طلبه، أن قالوا له إن دخولهم إلى هذه الأرض معلّق على خروج الجبابرة منها بهدوء وسلام واستسلام، تماماً كما كانت الحال في حركته القاهرة مع فرعون بالطَّريقة القوية الإعجازيَّة، فإذا خرجوا منها من دون أن يكلّفهم ذلك نقطة دم، كان دخولهم إليها معقولاً ومقبولاً...
وكان هناك رجلان لا ثالث معهما، أنعم الله عليهما بنعمة الإيمان الثابت القوي، وعَرَفا ـ من خلال ذلك ـ معنى المسؤوليّة في مواطن التحديات، ووقفا في مواجهة هذا الجمع المهزوم نفسياً ليقولا له: إننا نملك القوة التي تستطيع أن تحكم الفكر والناس والحياة، وكلّ هذه الأمور الّتي تمثّل وسائل القوة الغالبة، فلندخل الباب عليهم، ولنهاجمهم في عقر دارهم، ليكونوا في موقع الضّعف، ونكون في موقع القوّة، فإنَّ القوم طلاّب سلطة ونحن جنود رسالة، وستتغلَّب الرسالة على السلطة إذا أخذت بأسباب القوّة الماديّة مضافاً إلى ما تملكه من القوة الروحيّة، ولا سيَّما أن الأمر بدخول هذه الأرض كان أمراً إلهيّاً يبلغه الرسول بصدق وانفتاح، حيث يوحي ذلك بأنَّ الله سوف يتم هذا الأمر، ويحقّق لهم النّجاح، كما حقّق ذلك فيما مضى من ألطافه السابقة في هزيمته للطغاة الجبارين من الفراعنة، وقد تحدّث الله عن ذلك بقوله: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[3]، لأنَّ الله لا يخذل المتوكّلين عليه، الواثقين بصدق وعده في نصرته لعباده المؤمنين.
ولكن هذه الكلمات ضاعت في ضجيج التخاذل، وفي هدير الهزيمة النفسيَّة الَّتي كانت مسيطرةً على هؤلاء القوم، وانطلق الصَّوت المهزوم يتكلَّم بلغةٍ تحاول أن تعطي الهزيمة صفة القرار الحاسم الَّذي لا رجعة عنه، {قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا}، وكانت تلك كلمتهم الأخيرة التي لا تقبل نقاشاً. وتطوَّرت المسألة لديهم ليعلنوا الانفصال عن موسى(ع)، إذ اعتبروا أنفسهم غير ملزمين بطاعته في القتال، لأنهم يحبون الحياة أكثر مما يحبون الطاعة لله والخضوع للمقدسات الرسالية، فقالوا له: إذا شئت البقاء على إصرارك في الدخول إلى هذه المدينة، على الرغم من الخطر المحدق بالداخلين إليها بسبب قوّة هؤلاء الجبارين، فلا تنتظر منا أن نطيعك في مواجهة الخطر الذي قد يضطرنا إلى القتال، {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[4]، لنرى ما هي النتائج من هذه المغامرة.
وقد كان موسى(ع) يحدّثهم في كل مسيرته عن الله وعن قوته التي يستعين بها المؤمنون، وأنه يملأ قلوب عباده المتّقين بالشّعور بنصرته، كما كان الأمر في تاريخهم ضد فرعون. ولكنّهم تمرّدوا على موسى، وقابلوه بالموقف اللامسؤول، بأن يقاتل هو وربّه إذا كانا يريان القتال لازماً ومنتجاً للنصر ومؤدّياً إلى السّلامة، فتلك هي مسؤوليتهما في خدمة الرسالة التي أرسلها الله وحملها موسى، وفي الحصول على السلطة في ميزان القوة... أما هم (جنود موسى وأتباعه)، فلم يدخلوا في أيّ تجربة قتالية، ولم يوجِّهوا حياتهم إلى هذه الوجهة، فليتركهم لأنفسهم، لأنّهم لا يشعرون بأية مسؤولية في هذا المجال، فقد اختاروا القعود في انتظار النتائج الإيجابيَّة أو السّلبيّة، تماماً كما كانوا في صراعه مع فرعون وقومه، فلم يشاركوا في حركة الصّراع بالدّخول معه في عمليّة صناعة القوة.
وشعر موسى(ع) بالحرج من هذا الموقف الانهزاميّ المتمرّد من قومه الذين أراد أن يرفعهم إلى مستوى المسؤولية في الأخذ بأسباب القوّة، فسقطوا في الحضيض نتيجة غرقهم في وحول الضّعف الذي زرع في نفوسهم الرعب والخوف من الدّخول في أيّ حركةٍ للصّراع من أجل الدفاع عن القضايا الكبرى.
نزول العقوبة الإلهيَّة
وهكذا، فقد أية سلطة أو قوة ضغط مما يمكن أن يمارسه على هؤلاء الناس الذين كانت رحلتهم معه مملوءةً بالمشاغبة عليه والابتعاد عن تعاليمه، فرجع إلى الله ليعذر إليه، ليخرج من حدود المسؤولية أمامه على رضًى منه ومحبّة له، فتوجّه إليه ليعلن له ما كان الله يعلمه من ظروفه القاسية وأوضاعه الصعبة، ليتخفَّف من الدخول في هذه التجربة، {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي}، ولا أملك أحداً من هؤلاء مما يملكه القائد من أمر جنوده، {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[5]، الذين خرجوا عن طاعتك وتمرَّدوا على رسولك.
وجاءتهم العقوبة التي يستحقّها الخائفون المهزومون الذين رفضوا السير في خط الهدى، لأنّ الذي لا يعمل للنصر لا يستأهله، فكتب الله عليهم أن يظلّوا في التيه أربعين سنة، بحيث لا يحصلون على الاستقرار، بل يبقون في حركة دائمة، فلا يرجعون إلى مصر لأنهم فقدوا الظروف الطبيعية في العودة إليها، ولا يدخلون الأرض المقدسة.
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ}، لأنهم هم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك، وسيتحمَّلون متاعب الضّياع وأهواله، ومتاهات الصّحراء التي يغرقون في رمالها، وسيعيشون الاضطراب النفسيّ والحركيّ في الاهتزاز ومشاكله، وذلك هو مصيرهم الّذي استحقّوه كنتيجةٍ لفسقهم العقيديّ والعمليّ الّذي تجاوزوا فيه حدود ما فرضه الله عليهم وحمَّلهم مسؤوليّته. {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[6]، فلا تتألّم ـ يا موسى ـ من موقع الرحمة في قلبك، فإنّ الله سوف يغمرك بلطفه، ويرحمك برحمته، ويجعل لك من أمرك فرجاً، لأنّك أدّيت الرسالة خير أداء، وأجهدت نفسك في طاعة الله والدعوة إليه، ومنحت قومك كلّ رعاية وعناية، وعملت على رفع مستواهم العقليّ والروحيّ لينفتحوا على الله، ويحصلوا على مواقع القرب منه، وينالوا الخير من رحمته.
ولكنَّهم لا يستحقّون الرحمة، لأنَّهم رفضوا السَّير في الاتجاه الَّذي يحصلون فيه على هذه الرحمة من ربّهم الذي أفاض عليهم من نعمه، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، ولا تحزن على ما صاروا إليه من المصير الأسود الذي لا يحصلون فيه على خير.
والحمد لله ربّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [المائدة: 21].
[2] [المائدة: 22].
[3] [المائدة: 23].
[4] [المائدة: 24].
[5] [المائدة: 25].
[6] [المائدة: 26].