وقفات تفسيريَّة مع مفردات الدَّعوة إلى دخول الأرض المقدَّسة

وقفات تفسيريَّة مع مفردات الدَّعوة إلى دخول الأرض المقدَّسة

ونواصل الحديث عن تجربة النَّبيّ موسى(ع)، وربما نحتاج إلى بعض الوقفات التّفسيريَّة أمام بعض مفردات الآيات الواردة في قصَّة الدَّعوة إلى دخول الأرض المقدَّسة الّتي وجّهها موسى(ع) إلى قومه من بني إسرائيل.

تفسير معنى الملك والنبوَّة

1 ـ ما المراد من قوله: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً}[1]؛ هل المراد منه المعنى المتبادر من الكلمة، وهو السّلطة والحاكميَّة في الموقع القياديّ الّذي يحكم منه الملِك، وربما يتمثَّل ذلك بما ذكره القرآن عن بعض ملوكهم، من طالوت، إلى داود، إلى غيرهما مما لم تُذكَر تفاصيله ولم يتحقَّق لهم إلا في مدَّة قصيرة؟ والظَّاهر من الآية، أنَّ الله جعلهم ملوكاً بشكلٍ شاملٍ في مقابل قوله تعالى: {جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء}[2]، والَّذي قد يوحي بأنَّ الأنبياء فيهم كانوا معدودين، بينما كلمة "ملوك" شاملة للجميع، ما قد يبعد الكلمة عن هذا الاحتمال ظاهراً، أو أنَّ المراد هو ملك المصير والأمر والموقف والموقع، بحيث باتوا أحراراً بعد أن كانوا مستعبَدين، وباتوا مستقلّين بعد أن كانوا أتباعاً، وأصبحوا في حركةٍ فاعلة من أمرهم في حياتهم العامَّة بعد أن كانوا متحجّرين في دائرة الجمود. وبكلمةٍ أخرى، أنّهم أصبحوا يملكون تدبير شؤونهم وأمورهم بعد أن كانوا مملوكين من قِبَل فرعون وزبانيته الّذين كانوا يتصرّفون في شؤونهم كيفما يشاؤون، وبما يشاؤون، ومتى يشاؤون، في مقابل الحال الّتي كانوا لا يملكون فيها حياتهم في مختلف القضايا المتعلّقة بوجودهم الإنسانيّ، مما ينبغي أن يشعروا فيه بالحريّة والعزّة والاستقلال والكرامة، بل كانوا مجرّد شيءٍ من الأشياء الّتي يملكها الفراعنة؟!

ولعلَّ ما يجعل هذا المعنى محتمَلاً، بل راجحاً، هو أنّه لا مانع من إطلاق كلمة (الملك) على من يملك نفسه وظروفه وحركته ومصيره، ولا سيَّما أنَّ معناها في اللّغة قد يطلق على السّلطان، وقد يطلق على المالك لزمام الأمور، أو المالك لشيءٍ خاصّ.

وقد جاء في تفسير الدرّ المنثور عن النَّبيّ(ص) أنّه قال: "كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابّة وامرأة كُتب ملكاً"[3]. وجاء في ما أخرجه أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في قوله: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً}، قال: قال رسول الله(ص): "زوجة ومسكن وخادم"[4].

إلا أنَّ هذا التّفسير لا ينسجم مع سياق الآية، ذلك أنَّ الآية واردة في مقام الامتنان على بني إسرائيل، بمنحهم بعض الامتيازات الّتي تميّزهم عن الآخرين، والامتنان على قوم يفيد التّخصيص دون الاشتراك. ولما كان اتخاذ المنازل والنّساء والخدم عادةً لا تخلو منها أمّة أو جماعة عادةً بحسب السّلوك الاجتماعيّ العام لكلّ الشعوب، كما يفيد الواقع التاريخي المستمرّ في كلِّ الأزمنة والأمكنة، فإنَّ هذا الأمر لم يعد مختصّاً ببني إسرائيل دون الآخرين حتى يكون من موارد الامتنان من الله عليهم. هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر، فإنَّ إطلاق كلمة "الجعل" يتنافى وواقع حال بني إسرائيل أنفسهم، إذ لم يكونوا كلّهم ذوي منازل ونساء وخدم، وإنما كان بعضهم متَّصفاً بهذا الوصف دون البعض الآخر.

ولعلَّ التنبّه إلى ما تقدَّم، أوجب ورود بعض الرّوايات التي تنسب إلى بني إسرائيل أنهم أوَّل من ملك الخدم، كما ورد عن قتادة، وهذا يتنافى مع واقع التّاريخ. لكن إذا ما كانت هذه الأحاديث ناظرةً إلى واقع الحال التي كان عليها بنو إسرائيل في الوضع الجديد، بعيداً عن تفسير الآية، ثم حُملت عليها، عندها تكون في سياق تبيان المستوى الاقتصاديّ والاجتماعيّ لبني إسرائيل، إذ من الواضح أنّ وصف الملك في بعض الأحاديث هو وصف ناظر إلى الانقسام الاجتماعيّ داخل المجتمع الإسرائيليّ بين من كانوا ملوكاً ومن كانوا دونهم، وهو ـ بذلك ـ إنما يعكس واقعاً اقتصاديّاً اجتماعيّاً جديداً لم يكونوا عليه ثم حصلوا عليه. ولعلَّ هذا ـ بدوره ـ يؤثِّر في جانب الاستقلاليَّة الذاتيَّة ذات المدخليَّة الاقتصاديَّة الّتي تجعل الإنسان مالكاً لنفسه. ولا يخفى أنّ الاستعباد غالباً ما يسلك طريقه إلى المجتمعات من بوّابات الحاجة إلى الآخرين، لإشباع حاجاتهم الذاتيّة والخضوع لهم من خلال الانفعال بسلطتهم ومواقع القوَّة لديهم.

وتبقى علامات الاستفهام حول كلمة {وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً}، إذ إنَّ إطلاقها في الاستعمالات العامّة ينصرف إلى المالكين للسّلطة العامّة على النّاس في مراكزهم القياديَّة، مما يمكن أن يكون متعلِّقاً بالمستقبل الّذي لم تُنقَل لنا تفاصيله في مسألة حصولهم على الملك السّلطويّ الّذي حصلوا من خلاله على التحكّم في المجتمعات، من خلال قوّتهم المادّية التي مكّنتهم من الضّغط على الناس. وربما نستوحي وجود هذه الحاكميّة السّلطويّة من حديث القرآن عنهم بأنهم كانوا يقتلون الأنبياء، ما يدلُّ على سيطرتهم المطلقة الّتي كانت تمكِّنهم من القيام بمثل هذه الأعمال الوحشيَّة من دون أن يعترض عليهم أحد من النَّاس، تماماً كما هم المترفون الّذين تحدَّث القرآن عنهم في ضغوطهم على الأنبياء، وربما كان موقفهم الضَّاغط على السيّد المسيح(ع) شاهداً على ذلك؛ والله العالم.

ما هي الأرض المقدَّسة؟!

2 ـ ما هي الأرض المقدَّسة المذكورة في الآية؟

قيل: هي بيت المقدس، وقيل: هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وقيل: هي أرض الطور وما حولها، وقيل: هي أرض الشّام كلّها، وربما كان هذا هو القول الأقرب إلى الواقع التّاريخيّ، لأنّها أرض النبوّات، ومهبط الرّسالات، وساحة الأديان التوحيديَّة الكبرى، ما يجعل صفة القداسة الّتي تنطلق من طهارتها من الشّرك، أكثر التصاقاً بها، وربما كان التّعبير بالأرض يوحي بذلك بدلاً من التّعبير بالمدينة، ما قد يستفاد منه أنها كانت مقصودةً كموقعٍ للامتداد الرساليّ والحضاريّ في حركة النَّشاط المتنوّع الّذي يحقِّق الأهداف الكبرى للنبيّ موسى في مهمّته الرساليَّة في الهداية العامّة الواسعة من خلال التّبشير بالتّوراة.

المقصود بالقوم الجبَّارين

3ـ ما المقصود من كلمة {قَوْماً جَبَّارِينَ}[5] في الآية؟

قيل: إنهم العمالقة الّذين كانوا يتميَّزون بضخامة الأجسام وطولها غير المعتاد، حتى وُضعت الأساطير في الحديث عن أحجامهم الضَّخمة في العرض والطّول بما يشبه الخرافات، وقد دخلت الإسرائيليّات الخرافيّة ـ في هذا الموضوع ـ في أمّهات الكتب الإسلاميَّة. وقد تحدَّث المؤرخون عنهم، فقالوا: كان العمالقة قوماً من العنصر السّامي يعيشون في شمال جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء، وقد هاجموا مصر واستولوا عليها لفترات طويلة، ودامت حكومتهم حوالى خمسمائة عام، منذ العام 2213 قبل الميلاد، حتى العام 1703 قبل الميلاد، كما جاء في دائرة المعارف لفريد وجدي.

ويبدو أنَّ قوم موسى كانوا يعيشون الإحساس بالقوَّة القاهرة الّتي يملكها هؤلاء، وهو ما كان يجعلهم يرتجفون رعباً من التّفكير في أنهم مدعوّون إلى مواجهتهم في ساحة القتال، للحلول محلّهم في الأرض الّتي يسيطرون عليها، وربما كانوا يحملون في ذهنيّاتهم بعض الإشاعات الأسطوريَّة عنهم، مما اعتاد القصّاصون أن يتحدّثوا عنه بطريقة المبالغة في القوّة التي يملكونها.

ولهذا، كان موقفهم حاسماً في رفض الدّخول إلى هذه الأرض المقدَّسة التي يسيطر عليها هؤلاء، خوفاً من بطشهم وطغيانهم، من دون التّفكير في ما يملكونه من عناصر القوّة مقابل ما قد يتمثّل بالانحدار الواقعيّ للعمالقة في السّقوط في مواقع الضّعف، تماماً كما هي الجماعات القويّة التي قد يصيبها الوهن في امتداد الزّمن، من خلال الاسترخاء الاجتماعي الّذي تأخذ به، فتخضع للمغريات الماديّة، وتترك التّطوير لحركتها في أسبابها القويّة، فتضعف في مواجهة التحدّيات، ولا سيّما أنهم قد لا يملكون حريّة الحركة في داخل موقعهم كنتيجةٍ للتّعقيدات التي قد تفرضها ضخامة أجسامهم، كما أنَّ الهجوم المفاجئ ضمن الخطّة الدّقيقة المحكمة قد تهزمهم من ناحية نفسيّة.

وتلك هي مشكلة الّذين لا يعيشون الإيمان الواعي بالله في مواقع قدرته والثّقة برسله في وعودهم الصّادقة، مما من شأنه أن يوحي بالثّقة بالنفس، وبالطّاقة التي يختزنونها في داخل كيانهم، بما يؤدّي إلى امتلاء العقل والقلب والحركة بالله، وتفريغ الإحساس بالقوّة القاهرة لدى الآخرين.

ولهذا، رأينا الرّجلين اللَّذين أنعم الله عليهما، واللَّذين عاشا حياتهما الرّوحيَّة في خوفٍ من الله وحده الّذي يمنح المؤمنين به شجاعة الموقف وصلابة الحركة، رأيناهما كيف يدرسان الأمور دراسةً موضوعيّةً دقيقةً في موازين النّصر والهزيمة، وفي التّخطيط للدّخول إلى هذه الأرض، من خلال ما يملكه قوم موسى من القوّة العدديّة والإمكانات الهجوميّة، مقارنةً بما يملكه الجبابرة من نقاط الضّعف التي حلّت بهم، أو الإشكالات التي تصيب مواقعهم في هذه الأرض، في عمليّة الحصار أو المفاجأة في الهجوم المباغت، إضافةً إلى القوّة الرّوحيّة الّتي يختزنها المؤمنون من خلال التوكّل على الله، بما يؤدّي إلى حال الانفتاح على عناصر النّصر، وذلك من موقع الإيمان به وبرسله ووعده لأوليائه بالنّصر، وبذلك يبدأ التّفكير عندهم في الثّقة الكبيرة بالغلبة عليهم، لأنَّ مسألة النّصر في أيّة معركة، تتجلَّى في امتلاك إرادة النّصر من موقع التغلّب على التّحدّيات ضدّ الآخرين، ولو بعد حين.

معنى "كتب الله لكم"

4 ـ لقد ورد في سياق قصّة موسى في خطابه لقومه، وطلبه منهم أن يدخلوا الأرض المقدّسة، قوله: {كَتَبَ اللهُ لَكُمْ}[6]، حيث يبرز أمامنا سؤال عن المقصود بكتابة الأرض لبني إسرائيل؛ فهل المراد بذلك القضاء الإلهيّ بتوطينهم فيها، أو أنّ المراد تمليكها لهم بحيث تكون وطناً قوميّاً دينيّاً على النّحو الّذي ينادي به اليهود الآن، بأنَّ فلسطين وما حولها في امتدادها في أرض الشّام حتى نهر الفرات، تمثّل الوعد الإلهيّ لهم بامتلاكها كوطنٍ إلهيٍّ مقدَّس على امتداد الأجيال في امتدادات الزّمن؟

ولكن جلّ ما يمكن لنا استيحاؤه من ظاهر قوله تعالى: {كَتَبَ الله لَكُمْ}، أنّ المراد بالكتابة هنا، هو أنّ الله وعد بني إسرائيل بعد خلاصهم من فرعون، أن يسكنهم الأرض التي يستطيعون أن يحيوا فيها بكرامةٍ وإنسانيّةٍ على أساس الإيمان بالله والطّاعة له ولرسله. ولهذا، فإنَّ العرض الّذي قدَّمه موسى إليهم، كان بأن يدخلوها ويجاهدوا القوم الجبابرة الكفرة الموجودين فيها بصفة الحكَّام، من موقع إقامة حكم الله في الأرض على أيدي المستضعفين الّذين يريد الله لهم أن يستنفروا طاقاتهم في صناعة القوّة في مواجهة الجبّارين، وربما كانت المسألة محكومةً لمرحلة زمنيّة معيّنة في إقامتهم فيها بعد الانتصار، ريثما يملكون أمرهم في الموقع الجديد. وليس في الآيات ما يدلّ من قريبٍ أو بعيدٍ على حقٍّ قانونيّ إلهيّ لهم في هذه الأرض، ولا سيَّما أنهم امتنعوا عن الاستجابة لله في دخولها، فعاقبهم على ذلك بأن يتيهوا في بلاد الله الواسعة في حالٍ من الضّياع الحركيّ.

وفي ضوء ذلك، أبعدهم الله عن موقع كرامته والقرب منه والإنعام عليهم، الأمر الذي يجعل مسألة الوعد الإلهيّ بكتابة الأرض لهم كوطنٍ مقدَّس لا يشاركهم فيه غيرهم، أمراً بعيداً لا يلتقي بالحال المتمرّدة التي عاشوها، والفساد الّذي أفسدوا به الأرض بعد إصلاحها، ونقضهم الميثاق الذي عقدوه، والعهد الذي عاهدوه، بحيث كانوا في مواقع الطّرد من رحمة الله، على حسب النّصوص القرآنيَّة الكثيرة المتضمِّنة للنظرة السلبيّة إليهم في تاريخهم الطّويل، وبذلك يكون تقدير معنى الكتابة لهم، أن يسكنوها ويعبدوا الله فيها من خلال ما تمثّله من معاني القداسة المتَّصلة بالأجواء العباديَّة الروحيَّة.

وربما يتساءل البعض عن وجه الجمع بين إرادة الله لهم باستيطانهم الأرض المقدَّسة، وتحريمها عليهم أربعين سنةً؟ والجواب، أنّ الحديث في الآية لم يحدِّد وقتاً معيّناً ولا جماعةً معيّنين، بل إنّ الحديث كان عن الأمّة والمستقبل من حيث المبدأ، وذلك باعتبارها المنطقة الّتي أراد الله لهم الاستقرار فيها بعد خروجهم من مصر وانتهاء فترة التّيه الّتي كانت عقوبةً لهم.

أمّا ماذا حدث بعد ذلك؛ وهل اختاروا دخول الأرض أم أنهم بقوا خارجها؟ فهذا ما سكت القرآن عنه، لأنّه لم يتحدَّث عن بقاء الجبّارين في هذه الأرض، لتبقى المشكلة في دخول بني إسرائيل إليها أو خروجهم منها، أو ليختاروا الاستقرار فيها بعد حال الضّياع في متاهات الأرض.

أهميّة التّربية الفكريّة

5 ـ إنّنا نستوحي من هذه الآيات فكرة، وهي تربية الأمَّة على أساس انسجام الخطّة الحركيَّة مع الآفاق والأفكار الّتي تحملها القيادة أو تعيش من أجل تحقيقها، وصولاً إلى تحقيق الأهداف والغايات الكبرى، فقد كانت مشكلة النبيّ موسى(ع) أنّه كان يقود أمَّةً لا تؤمن بأفكاره، ولا ترتفع إلى مستوى أهدافه، بل كان أفرادها وجماعاتها يفكِّرون في الأمن الذّاتي والاسترخاء النفسيّ والرّاحة الجسديَّة، ولو على حساب مبادئهم، بينما كان موسى(ع) يفكِّر في الحياة في حجم الرسالة.

وهذا ما تعانيه الشّعوب الإسلاميَّة بفعل تزوير أفكارها وتصوّراتها للواقع، وتربيتها على أساس الارتباط بحاجاتها اليوميَّة، واعتبار هذه الحاجات الهمّ الكبير لها، وإبعادها عن كلِّ القيم الروحيّة الكبيرة الّتي تحتضن كلَّ مصالحها الحقيقيّة المستقبليّة كأمّةٍ تعيش مرفوعة الرأس بين الأمم، وبذلك تحوَّلت إلى شعوب مستعمرة للكافرين والظالمين من كلّ الأمم، في أجواءٍ ذليلةٍ تنمِّي في داخلها قابليّتها للاستعمار، بما يجعل سلوكها وطريقها في الحياة بمثابة دعوةٍ للمستعمر المستكبر إلى أن يستعمرها ويحتوي بيديه كلَّ حاضرها ومستقبلها في المجال السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والأمنيّ، لتكون لعبةً لكلِّ لاعبٍ في لعبة الأمم، وطعمةً لكلِّ طاعمٍ على موائد الآخرين، وهذا ما يجعلنا مسؤولين عن ربط الأمّة بأهدافها الكبرى، من أجل التقاء القاعدة والقيادة في الطّريق إليها على حدٍّ سواء.

الشّخصيَّة الرساليَّة

6 ـ في مناجاة موسى(ع) لله، فيما ورد في هذه الآيات، لسنا أمام موقف ضعف أو هزيمة أو هروب من المسؤوليّة، بل هو موقف الرّسول الذي يقدّم تقريره إلى الله من خلال شعوره بالمسؤوليّة أمام المشكلة التي تواجهه في مخالفة قومه لتعاليمه، وانهزامهم أمام الجبَّارين الذين يسكنون الأرض المقدَّسة، وخوفهم من الاصطدام بهم في معركة قتاليّة عند الإقدام على دخولها، فقد كان ينتظر التَّعليمات الّتي تحدِّد له موقفه في الحالة الجديدة، بعد أن فقد الجمهور الّذي كان ينتظر أن يستجيب له لإكمال المهمَّة التي تنتظره في المستقبل في حركته في هذه الأرض، ولإكمال برنامجه في بناء المجتمع الّذي قد يكون مختلطاً من جماعات شتّى، حيث لم يعد معه من قاعدته في عمليّة الحركة التنفيذيّة لخطّته في دخول الأرض أحدٌ إلا هارون وبعض المؤمنين الّذين لا يمثّلون قوّةً صداميةً ضدّ القوى المستكبرة في الأرض.

وهذا ما نستوحيه من قوله: {لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي}[7]، فكأنّه يعرض أمام ربّه واقعه الضَّعيف المحدود في طبيعة القوّة، بأسلوب الإنسان المسؤول الّذي يقف مستعداً لكلِّ شيء، بالرّغم من الحال الضّعيفة من النّاحية المادّية في موقفه أمام ساحة الصِّراع المنتظر، وليستعين بالله بعد ذلك في مواجهة الصّعوبات المحيطة به في موقفه الصَّعب.

وتلك هي صورة الشَّخصية القياديَّة الرساليَّة المنقادة لله، التي لا تتنازل عن دورها الكبير، ولا تنهزم في عمليّة هروب من المسؤوليَّة أمام التحدّيات، بل تظلّ ثابتة القدم، قويَّة الموقف، في وضوحٍ من الرّؤية، واستقامةٍ على الخطّ، وثباتٍ على الطّريق في اتجاه الهدف، لأنَّ الرّسل لا ينهزمون أمام المشاكل الطّارئة الّتي تعرض لهم مهما اشتدَّت الضّغوط عليهم، لأنّهم لا ينطلقون من حالٍ ذاتيّة تخضع في انفعالها بالحدث لآلام الذّات وأوضاعها الخاصّة، بل ينطلقون من مهمّةٍ رساليّة تنفتح على الله كمصدرٍ للمسؤوليّة من جهة، وعلى الأمّة في هدايتها إلى الطّريق المستقيم من جهة ثانية، انطلاقاً من حركتها نحو بناء الإنسان الجديد المؤمن في المستقبل الجديد. وللحديث صلة، والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [المائدة: 20].

[2]  [المائدة: 20].

[3]  الدرّ المنثور، جلال الدين السيوطي، ج 2، ص 270.

[4]  تفسير الميزان، السيّد الطباطبائي، ج 5، ص 259.

[5]  [المائدة: 22].

[6]  [المائدة: 21].

[7]  [المائدة: 25].

ونواصل الحديث عن تجربة النَّبيّ موسى(ع)، وربما نحتاج إلى بعض الوقفات التّفسيريَّة أمام بعض مفردات الآيات الواردة في قصَّة الدَّعوة إلى دخول الأرض المقدَّسة الّتي وجّهها موسى(ع) إلى قومه من بني إسرائيل.

تفسير معنى الملك والنبوَّة

1 ـ ما المراد من قوله: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً}[1]؛ هل المراد منه المعنى المتبادر من الكلمة، وهو السّلطة والحاكميَّة في الموقع القياديّ الّذي يحكم منه الملِك، وربما يتمثَّل ذلك بما ذكره القرآن عن بعض ملوكهم، من طالوت، إلى داود، إلى غيرهما مما لم تُذكَر تفاصيله ولم يتحقَّق لهم إلا في مدَّة قصيرة؟ والظَّاهر من الآية، أنَّ الله جعلهم ملوكاً بشكلٍ شاملٍ في مقابل قوله تعالى: {جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء}[2]، والَّذي قد يوحي بأنَّ الأنبياء فيهم كانوا معدودين، بينما كلمة "ملوك" شاملة للجميع، ما قد يبعد الكلمة عن هذا الاحتمال ظاهراً، أو أنَّ المراد هو ملك المصير والأمر والموقف والموقع، بحيث باتوا أحراراً بعد أن كانوا مستعبَدين، وباتوا مستقلّين بعد أن كانوا أتباعاً، وأصبحوا في حركةٍ فاعلة من أمرهم في حياتهم العامَّة بعد أن كانوا متحجّرين في دائرة الجمود. وبكلمةٍ أخرى، أنّهم أصبحوا يملكون تدبير شؤونهم وأمورهم بعد أن كانوا مملوكين من قِبَل فرعون وزبانيته الّذين كانوا يتصرّفون في شؤونهم كيفما يشاؤون، وبما يشاؤون، ومتى يشاؤون، في مقابل الحال الّتي كانوا لا يملكون فيها حياتهم في مختلف القضايا المتعلّقة بوجودهم الإنسانيّ، مما ينبغي أن يشعروا فيه بالحريّة والعزّة والاستقلال والكرامة، بل كانوا مجرّد شيءٍ من الأشياء الّتي يملكها الفراعنة؟!

ولعلَّ ما يجعل هذا المعنى محتمَلاً، بل راجحاً، هو أنّه لا مانع من إطلاق كلمة (الملك) على من يملك نفسه وظروفه وحركته ومصيره، ولا سيَّما أنَّ معناها في اللّغة قد يطلق على السّلطان، وقد يطلق على المالك لزمام الأمور، أو المالك لشيءٍ خاصّ.

وقد جاء في تفسير الدرّ المنثور عن النَّبيّ(ص) أنّه قال: "كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابّة وامرأة كُتب ملكاً"[3]. وجاء في ما أخرجه أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في قوله: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً}، قال: قال رسول الله(ص): "زوجة ومسكن وخادم"[4].

إلا أنَّ هذا التّفسير لا ينسجم مع سياق الآية، ذلك أنَّ الآية واردة في مقام الامتنان على بني إسرائيل، بمنحهم بعض الامتيازات الّتي تميّزهم عن الآخرين، والامتنان على قوم يفيد التّخصيص دون الاشتراك. ولما كان اتخاذ المنازل والنّساء والخدم عادةً لا تخلو منها أمّة أو جماعة عادةً بحسب السّلوك الاجتماعيّ العام لكلّ الشعوب، كما يفيد الواقع التاريخي المستمرّ في كلِّ الأزمنة والأمكنة، فإنَّ هذا الأمر لم يعد مختصّاً ببني إسرائيل دون الآخرين حتى يكون من موارد الامتنان من الله عليهم. هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر، فإنَّ إطلاق كلمة "الجعل" يتنافى وواقع حال بني إسرائيل أنفسهم، إذ لم يكونوا كلّهم ذوي منازل ونساء وخدم، وإنما كان بعضهم متَّصفاً بهذا الوصف دون البعض الآخر.

ولعلَّ التنبّه إلى ما تقدَّم، أوجب ورود بعض الرّوايات التي تنسب إلى بني إسرائيل أنهم أوَّل من ملك الخدم، كما ورد عن قتادة، وهذا يتنافى مع واقع التّاريخ. لكن إذا ما كانت هذه الأحاديث ناظرةً إلى واقع الحال التي كان عليها بنو إسرائيل في الوضع الجديد، بعيداً عن تفسير الآية، ثم حُملت عليها، عندها تكون في سياق تبيان المستوى الاقتصاديّ والاجتماعيّ لبني إسرائيل، إذ من الواضح أنّ وصف الملك في بعض الأحاديث هو وصف ناظر إلى الانقسام الاجتماعيّ داخل المجتمع الإسرائيليّ بين من كانوا ملوكاً ومن كانوا دونهم، وهو ـ بذلك ـ إنما يعكس واقعاً اقتصاديّاً اجتماعيّاً جديداً لم يكونوا عليه ثم حصلوا عليه. ولعلَّ هذا ـ بدوره ـ يؤثِّر في جانب الاستقلاليَّة الذاتيَّة ذات المدخليَّة الاقتصاديَّة الّتي تجعل الإنسان مالكاً لنفسه. ولا يخفى أنّ الاستعباد غالباً ما يسلك طريقه إلى المجتمعات من بوّابات الحاجة إلى الآخرين، لإشباع حاجاتهم الذاتيّة والخضوع لهم من خلال الانفعال بسلطتهم ومواقع القوَّة لديهم.

وتبقى علامات الاستفهام حول كلمة {وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً}، إذ إنَّ إطلاقها في الاستعمالات العامّة ينصرف إلى المالكين للسّلطة العامّة على النّاس في مراكزهم القياديَّة، مما يمكن أن يكون متعلِّقاً بالمستقبل الّذي لم تُنقَل لنا تفاصيله في مسألة حصولهم على الملك السّلطويّ الّذي حصلوا من خلاله على التحكّم في المجتمعات، من خلال قوّتهم المادّية التي مكّنتهم من الضّغط على الناس. وربما نستوحي وجود هذه الحاكميّة السّلطويّة من حديث القرآن عنهم بأنهم كانوا يقتلون الأنبياء، ما يدلُّ على سيطرتهم المطلقة الّتي كانت تمكِّنهم من القيام بمثل هذه الأعمال الوحشيَّة من دون أن يعترض عليهم أحد من النَّاس، تماماً كما هم المترفون الّذين تحدَّث القرآن عنهم في ضغوطهم على الأنبياء، وربما كان موقفهم الضَّاغط على السيّد المسيح(ع) شاهداً على ذلك؛ والله العالم.

ما هي الأرض المقدَّسة؟!

2 ـ ما هي الأرض المقدَّسة المذكورة في الآية؟

قيل: هي بيت المقدس، وقيل: هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وقيل: هي أرض الطور وما حولها، وقيل: هي أرض الشّام كلّها، وربما كان هذا هو القول الأقرب إلى الواقع التّاريخيّ، لأنّها أرض النبوّات، ومهبط الرّسالات، وساحة الأديان التوحيديَّة الكبرى، ما يجعل صفة القداسة الّتي تنطلق من طهارتها من الشّرك، أكثر التصاقاً بها، وربما كان التّعبير بالأرض يوحي بذلك بدلاً من التّعبير بالمدينة، ما قد يستفاد منه أنها كانت مقصودةً كموقعٍ للامتداد الرساليّ والحضاريّ في حركة النَّشاط المتنوّع الّذي يحقِّق الأهداف الكبرى للنبيّ موسى في مهمّته الرساليَّة في الهداية العامّة الواسعة من خلال التّبشير بالتّوراة.

المقصود بالقوم الجبَّارين

3ـ ما المقصود من كلمة {قَوْماً جَبَّارِينَ}[5] في الآية؟

قيل: إنهم العمالقة الّذين كانوا يتميَّزون بضخامة الأجسام وطولها غير المعتاد، حتى وُضعت الأساطير في الحديث عن أحجامهم الضَّخمة في العرض والطّول بما يشبه الخرافات، وقد دخلت الإسرائيليّات الخرافيّة ـ في هذا الموضوع ـ في أمّهات الكتب الإسلاميَّة. وقد تحدَّث المؤرخون عنهم، فقالوا: كان العمالقة قوماً من العنصر السّامي يعيشون في شمال جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء، وقد هاجموا مصر واستولوا عليها لفترات طويلة، ودامت حكومتهم حوالى خمسمائة عام، منذ العام 2213 قبل الميلاد، حتى العام 1703 قبل الميلاد، كما جاء في دائرة المعارف لفريد وجدي.

ويبدو أنَّ قوم موسى كانوا يعيشون الإحساس بالقوَّة القاهرة الّتي يملكها هؤلاء، وهو ما كان يجعلهم يرتجفون رعباً من التّفكير في أنهم مدعوّون إلى مواجهتهم في ساحة القتال، للحلول محلّهم في الأرض الّتي يسيطرون عليها، وربما كانوا يحملون في ذهنيّاتهم بعض الإشاعات الأسطوريَّة عنهم، مما اعتاد القصّاصون أن يتحدّثوا عنه بطريقة المبالغة في القوّة التي يملكونها.

ولهذا، كان موقفهم حاسماً في رفض الدّخول إلى هذه الأرض المقدَّسة التي يسيطر عليها هؤلاء، خوفاً من بطشهم وطغيانهم، من دون التّفكير في ما يملكونه من عناصر القوّة مقابل ما قد يتمثّل بالانحدار الواقعيّ للعمالقة في السّقوط في مواقع الضّعف، تماماً كما هي الجماعات القويّة التي قد يصيبها الوهن في امتداد الزّمن، من خلال الاسترخاء الاجتماعي الّذي تأخذ به، فتخضع للمغريات الماديّة، وتترك التّطوير لحركتها في أسبابها القويّة، فتضعف في مواجهة التحدّيات، ولا سيّما أنهم قد لا يملكون حريّة الحركة في داخل موقعهم كنتيجةٍ للتّعقيدات التي قد تفرضها ضخامة أجسامهم، كما أنَّ الهجوم المفاجئ ضمن الخطّة الدّقيقة المحكمة قد تهزمهم من ناحية نفسيّة.

وتلك هي مشكلة الّذين لا يعيشون الإيمان الواعي بالله في مواقع قدرته والثّقة برسله في وعودهم الصّادقة، مما من شأنه أن يوحي بالثّقة بالنفس، وبالطّاقة التي يختزنونها في داخل كيانهم، بما يؤدّي إلى امتلاء العقل والقلب والحركة بالله، وتفريغ الإحساس بالقوّة القاهرة لدى الآخرين.

ولهذا، رأينا الرّجلين اللَّذين أنعم الله عليهما، واللَّذين عاشا حياتهما الرّوحيَّة في خوفٍ من الله وحده الّذي يمنح المؤمنين به شجاعة الموقف وصلابة الحركة، رأيناهما كيف يدرسان الأمور دراسةً موضوعيّةً دقيقةً في موازين النّصر والهزيمة، وفي التّخطيط للدّخول إلى هذه الأرض، من خلال ما يملكه قوم موسى من القوّة العدديّة والإمكانات الهجوميّة، مقارنةً بما يملكه الجبابرة من نقاط الضّعف التي حلّت بهم، أو الإشكالات التي تصيب مواقعهم في هذه الأرض، في عمليّة الحصار أو المفاجأة في الهجوم المباغت، إضافةً إلى القوّة الرّوحيّة الّتي يختزنها المؤمنون من خلال التوكّل على الله، بما يؤدّي إلى حال الانفتاح على عناصر النّصر، وذلك من موقع الإيمان به وبرسله ووعده لأوليائه بالنّصر، وبذلك يبدأ التّفكير عندهم في الثّقة الكبيرة بالغلبة عليهم، لأنَّ مسألة النّصر في أيّة معركة، تتجلَّى في امتلاك إرادة النّصر من موقع التغلّب على التّحدّيات ضدّ الآخرين، ولو بعد حين.

معنى "كتب الله لكم"

4 ـ لقد ورد في سياق قصّة موسى في خطابه لقومه، وطلبه منهم أن يدخلوا الأرض المقدّسة، قوله: {كَتَبَ اللهُ لَكُمْ}[6]، حيث يبرز أمامنا سؤال عن المقصود بكتابة الأرض لبني إسرائيل؛ فهل المراد بذلك القضاء الإلهيّ بتوطينهم فيها، أو أنّ المراد تمليكها لهم بحيث تكون وطناً قوميّاً دينيّاً على النّحو الّذي ينادي به اليهود الآن، بأنَّ فلسطين وما حولها في امتدادها في أرض الشّام حتى نهر الفرات، تمثّل الوعد الإلهيّ لهم بامتلاكها كوطنٍ إلهيٍّ مقدَّس على امتداد الأجيال في امتدادات الزّمن؟

ولكن جلّ ما يمكن لنا استيحاؤه من ظاهر قوله تعالى: {كَتَبَ الله لَكُمْ}، أنّ المراد بالكتابة هنا، هو أنّ الله وعد بني إسرائيل بعد خلاصهم من فرعون، أن يسكنهم الأرض التي يستطيعون أن يحيوا فيها بكرامةٍ وإنسانيّةٍ على أساس الإيمان بالله والطّاعة له ولرسله. ولهذا، فإنَّ العرض الّذي قدَّمه موسى إليهم، كان بأن يدخلوها ويجاهدوا القوم الجبابرة الكفرة الموجودين فيها بصفة الحكَّام، من موقع إقامة حكم الله في الأرض على أيدي المستضعفين الّذين يريد الله لهم أن يستنفروا طاقاتهم في صناعة القوّة في مواجهة الجبّارين، وربما كانت المسألة محكومةً لمرحلة زمنيّة معيّنة في إقامتهم فيها بعد الانتصار، ريثما يملكون أمرهم في الموقع الجديد. وليس في الآيات ما يدلّ من قريبٍ أو بعيدٍ على حقٍّ قانونيّ إلهيّ لهم في هذه الأرض، ولا سيَّما أنهم امتنعوا عن الاستجابة لله في دخولها، فعاقبهم على ذلك بأن يتيهوا في بلاد الله الواسعة في حالٍ من الضّياع الحركيّ.

وفي ضوء ذلك، أبعدهم الله عن موقع كرامته والقرب منه والإنعام عليهم، الأمر الذي يجعل مسألة الوعد الإلهيّ بكتابة الأرض لهم كوطنٍ مقدَّس لا يشاركهم فيه غيرهم، أمراً بعيداً لا يلتقي بالحال المتمرّدة التي عاشوها، والفساد الّذي أفسدوا به الأرض بعد إصلاحها، ونقضهم الميثاق الذي عقدوه، والعهد الذي عاهدوه، بحيث كانوا في مواقع الطّرد من رحمة الله، على حسب النّصوص القرآنيَّة الكثيرة المتضمِّنة للنظرة السلبيّة إليهم في تاريخهم الطّويل، وبذلك يكون تقدير معنى الكتابة لهم، أن يسكنوها ويعبدوا الله فيها من خلال ما تمثّله من معاني القداسة المتَّصلة بالأجواء العباديَّة الروحيَّة.

وربما يتساءل البعض عن وجه الجمع بين إرادة الله لهم باستيطانهم الأرض المقدَّسة، وتحريمها عليهم أربعين سنةً؟ والجواب، أنّ الحديث في الآية لم يحدِّد وقتاً معيّناً ولا جماعةً معيّنين، بل إنّ الحديث كان عن الأمّة والمستقبل من حيث المبدأ، وذلك باعتبارها المنطقة الّتي أراد الله لهم الاستقرار فيها بعد خروجهم من مصر وانتهاء فترة التّيه الّتي كانت عقوبةً لهم.

أمّا ماذا حدث بعد ذلك؛ وهل اختاروا دخول الأرض أم أنهم بقوا خارجها؟ فهذا ما سكت القرآن عنه، لأنّه لم يتحدَّث عن بقاء الجبّارين في هذه الأرض، لتبقى المشكلة في دخول بني إسرائيل إليها أو خروجهم منها، أو ليختاروا الاستقرار فيها بعد حال الضّياع في متاهات الأرض.

أهميّة التّربية الفكريّة

5 ـ إنّنا نستوحي من هذه الآيات فكرة، وهي تربية الأمَّة على أساس انسجام الخطّة الحركيَّة مع الآفاق والأفكار الّتي تحملها القيادة أو تعيش من أجل تحقيقها، وصولاً إلى تحقيق الأهداف والغايات الكبرى، فقد كانت مشكلة النبيّ موسى(ع) أنّه كان يقود أمَّةً لا تؤمن بأفكاره، ولا ترتفع إلى مستوى أهدافه، بل كان أفرادها وجماعاتها يفكِّرون في الأمن الذّاتي والاسترخاء النفسيّ والرّاحة الجسديَّة، ولو على حساب مبادئهم، بينما كان موسى(ع) يفكِّر في الحياة في حجم الرسالة.

وهذا ما تعانيه الشّعوب الإسلاميَّة بفعل تزوير أفكارها وتصوّراتها للواقع، وتربيتها على أساس الارتباط بحاجاتها اليوميَّة، واعتبار هذه الحاجات الهمّ الكبير لها، وإبعادها عن كلِّ القيم الروحيّة الكبيرة الّتي تحتضن كلَّ مصالحها الحقيقيّة المستقبليّة كأمّةٍ تعيش مرفوعة الرأس بين الأمم، وبذلك تحوَّلت إلى شعوب مستعمرة للكافرين والظالمين من كلّ الأمم، في أجواءٍ ذليلةٍ تنمِّي في داخلها قابليّتها للاستعمار، بما يجعل سلوكها وطريقها في الحياة بمثابة دعوةٍ للمستعمر المستكبر إلى أن يستعمرها ويحتوي بيديه كلَّ حاضرها ومستقبلها في المجال السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والأمنيّ، لتكون لعبةً لكلِّ لاعبٍ في لعبة الأمم، وطعمةً لكلِّ طاعمٍ على موائد الآخرين، وهذا ما يجعلنا مسؤولين عن ربط الأمّة بأهدافها الكبرى، من أجل التقاء القاعدة والقيادة في الطّريق إليها على حدٍّ سواء.

الشّخصيَّة الرساليَّة

6 ـ في مناجاة موسى(ع) لله، فيما ورد في هذه الآيات، لسنا أمام موقف ضعف أو هزيمة أو هروب من المسؤوليّة، بل هو موقف الرّسول الذي يقدّم تقريره إلى الله من خلال شعوره بالمسؤوليّة أمام المشكلة التي تواجهه في مخالفة قومه لتعاليمه، وانهزامهم أمام الجبَّارين الذين يسكنون الأرض المقدَّسة، وخوفهم من الاصطدام بهم في معركة قتاليّة عند الإقدام على دخولها، فقد كان ينتظر التَّعليمات الّتي تحدِّد له موقفه في الحالة الجديدة، بعد أن فقد الجمهور الّذي كان ينتظر أن يستجيب له لإكمال المهمَّة التي تنتظره في المستقبل في حركته في هذه الأرض، ولإكمال برنامجه في بناء المجتمع الّذي قد يكون مختلطاً من جماعات شتّى، حيث لم يعد معه من قاعدته في عمليّة الحركة التنفيذيّة لخطّته في دخول الأرض أحدٌ إلا هارون وبعض المؤمنين الّذين لا يمثّلون قوّةً صداميةً ضدّ القوى المستكبرة في الأرض.

وهذا ما نستوحيه من قوله: {لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي}[7]، فكأنّه يعرض أمام ربّه واقعه الضَّعيف المحدود في طبيعة القوّة، بأسلوب الإنسان المسؤول الّذي يقف مستعداً لكلِّ شيء، بالرّغم من الحال الضّعيفة من النّاحية المادّية في موقفه أمام ساحة الصِّراع المنتظر، وليستعين بالله بعد ذلك في مواجهة الصّعوبات المحيطة به في موقفه الصَّعب.

وتلك هي صورة الشَّخصية القياديَّة الرساليَّة المنقادة لله، التي لا تتنازل عن دورها الكبير، ولا تنهزم في عمليّة هروب من المسؤوليَّة أمام التحدّيات، بل تظلّ ثابتة القدم، قويَّة الموقف، في وضوحٍ من الرّؤية، واستقامةٍ على الخطّ، وثباتٍ على الطّريق في اتجاه الهدف، لأنَّ الرّسل لا ينهزمون أمام المشاكل الطّارئة الّتي تعرض لهم مهما اشتدَّت الضّغوط عليهم، لأنّهم لا ينطلقون من حالٍ ذاتيّة تخضع في انفعالها بالحدث لآلام الذّات وأوضاعها الخاصّة، بل ينطلقون من مهمّةٍ رساليّة تنفتح على الله كمصدرٍ للمسؤوليّة من جهة، وعلى الأمّة في هدايتها إلى الطّريق المستقيم من جهة ثانية، انطلاقاً من حركتها نحو بناء الإنسان الجديد المؤمن في المستقبل الجديد. وللحديث صلة، والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [المائدة: 20].

[2]  [المائدة: 20].

[3]  الدرّ المنثور، جلال الدين السيوطي، ج 2، ص 270.

[4]  تفسير الميزان، السيّد الطباطبائي، ج 5، ص 259.

[5]  [المائدة: 22].

[6]  [المائدة: 21].

[7]  [المائدة: 25].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية