تتمّةً لما مضى من حديثٍ عن تجربة النّبيّ موسى(ع)، نواصل حديثنا حول الملاحظات التفسيريَّة الَّتي أشرنا إلى بعضها. ونضيف إليها:
التمرّد على الله
7 ـ إنَّ إطلاق كلمة "الْفَاسِقِينَ" على تلك الجماعة الَّتي تمرَّدت على النّبيّ موسى(ع)، هو من جهة التمرّد العمليّ على الأمر الَّذي أصدره الله إليهم من خلال نبيِّهم، بالدّخول إلى الأرض المقدَّسة في تلك الفترة، وطريقتهم في الاستخفاف به وبالله في قولهم: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[1]، فكأنَّهم يستهينون بقدرة الله وقدرة نبيِّهم على مواجهة الجبَّارين. ولعلَّ هذا يكشف عن ضعفهم الإيمانيّ بالله وبالنَّبيّ، بحيث يبدو ذلك ارتداداً على أدبارهم، وانفصالاً عن قاعدة الإيمان، من خلال هروبهم من المسؤوليَّة، وخسرانهم مصيرهم، بسبب عدم استماعهم إلى إنذار موسى لهم، وتحذيره إيّاهم من النَّتائج السَّلبيّة في الواقع الحاضر وفي المستقبل، وإعلاناً عن حركة الانفصال بينه وبينهم، وعن فقدان الرّابطة الوثيقة الّتي تربطه بهم، ليسيروا ـ هم ـ في اتجاه الانحراف الخاطئ، ويتابع ـ هو ـ سيره في الخطِّ المستقيم...
التيه أربعين سنة
8 ـ لقد كان القضاء الإلهيّ عليهم بالتّيه مدّة أربعين سنة في عمليَّة اللااستقرار الَّذي فرضه عليهم، عقوبةً لهم على التمرّد، فلم يحصلوا من خلال موقفهم الانهزاميّ الرّافض للطّاعة على الرّاحة والاستقرار، ولم يطمئنِّوا إلى حياةٍ مدنيَّةٍ مستقرَّةٍ في بلدٍ معيَّن، ولم يعيشوا عيشة البدو في خيمٍ يستظلّونها ويرعون أغنامهم حولها، بل كانوا يتخبَّطون في حال قلقٍ واهتزاز، ما أدَّى بهم إلى حالٍ من الضَّياع النفسيّ والتيه الحركيّ.
ونلاحظ أنَّ هذه العقوبة الدّنيويَّة لم تقتصر على الَّذين ظلموا أنفسهم بالمعصية وتمرَّدوا على الأمر، بل امتدَّت إلى موسى والمؤمنين معه، الّذين لم تُتحْ لهم فرصة دخول الأرض المقدَّسة، لأنَّ البلاء إذا حلَّ بالأمّة من خلال سلوكها السَّلبي، عمَّ جميع أفرادها، حتى الصَّالحين منهم.
ويبقى موسى مع المؤمنين به، يحمل التّوراة إلى النّاس كافّةً، وتنتهي قصَّته مع بني إسرائيل، ويبقى المستقبل الّذي تحرّك في خطواته محاطاً بالضّباب، لأنَّ القرآن لم يحدّثنا عن كثيرٍ من تفاصيل حياته الخاصّة والعامّة، وانتقاله إلى رحاب الله... ولكنَّ هناك بعض العناوين التي لا بدَّ من ملاحظتها والتوقّف عندها:
مخاطبة اليهود المعاصرين للنّبيّ(ص)
1 ـ اليهود المعاصرون للنَّبيّ محمَّد(ص) امتداد لمن سبقهم. إنَّ الله يخاطب في كثير من الآيات اليهود الَّذين كانوا معاصرين للنبيّ محمَّد(ص)، مع أنَّ القضايا المطروحة فيها حدثت مع القوم الّذين كانوا معاصرين للنبيّ موسى(ع)، فكيف يخاطب الله بها غير أصحابها؟
والجواب عن ذلك، أنَّ الجماعة التي عاصرت انطلاقة الإسلام في الدّين الَّذي جاء به النبيّ محمّد(ص)، كانت امتداداً حركيّاً وثقافيّاً لتلك الجماعة في مفاهيمها وقناعاتها وتمرّدها وبغيها وتعقيداتها النفسيَّة ضدّ الرسل والرسالات التي لم تكن تتَّفق مع المزاج الخاص لها، فقد مارست مع النبي محمّد(ص) الأساليب التي مارسها أولئك مع النبي موسى(ع) من اللفّ والدّوران، وإرباك العلاقات، والمشاغبة على أتباع الدّين الإسلامي الجديد، وربما تميَّزوا عنهم بتحالفاتهم مع المشركين من أجل إثارة الحرب ضدّ المسلمين، كما حدث في واقعة الأحزاب، وبالفوضى الّتي كانوا يثيرونها في المجتمع الإسلاميّ، من خلال التَّخطيط للفتن وتمزيق وحدتهم، وبالتّنسيق مع المنافقين في هذا الاتجاه العدواني.
وفي ضوء ذلك، قد نستفيد ممّا تقدَّم، أنَّ كلَّ فئةٍ من الفئات التي تكون امتداداً لتاريخٍ معيّن تتبنَّاه وترضى به، تعتبر شريكةً للفئات الّتي تحركت في ذلك التّاريخ، من خلال التقاء ممارساتهم بممارسات الأشخاص الّذين عاشوا فيه، كما جاء في حديث الإمام عليّ(ع) في قوله: "الرّاضي بفعل قوم كالدّاخل فيه معهم، وعلى كلّ داخلٍ في باطلٍ إثمان؛ إثم العمل به، وإثم الرّضا به"[2]. وقوله(ع): "أيّها النّاس، إنّما يجمع النّاس الرّضا والسّخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمَّهم الله بالعذاب لمّا عمَّوه بالرّضا، فقال سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}[3]،فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة، خوار السكَّة المحماة[4] في الأرض الخوَّارة"[5].
وعلى هذا الأساس، نستطيع أن نحاسب أيّة فئة في مجتمعنا إذا كانت مشدودةً إلى أيّ تاريخ انشداداً نفسيّاً وعمليّاً وانتمائيّاً وثقافيّاً، وأن نخاطبها تماماً بكلّ السّلبيّات التي تحرّكت في ذلك التاريخ، لأنَّ الرضا والانتماء يجعلانها في الموقف نفسه وفي الاتجاه ذاته، ما يجعل من الماضي قاعدةً للحاضر والمستقبل في مركز الوحدة الفكريَّة والروحيَّة للفكرة والحركة.
التمرّد المستمرّ لبني إسرائيل
2 ـ إنّ الآيات القرآنيّة تعطينا صورةً مجملةً عن بني إسرائيل الَّذين كانوا يعيشون التمرّد والقلق والطّفولة الفكريّة الّتي كانت تقفز من طلبٍ إلى طلب، ومن حاجةٍ إلى حاجة، لأنهم لم يرتكزوا إلى قاعدةٍ فكريَّة أو روحيَّة، بل كانوا يتحركون بوحي شهواتهم وأطماعهم ونزواتهم، فكانوا يقدِّمون الطّلبات التي يريدون الاستجابة لهم فيها حتى على سبيل المعجزة، ولكن دون جدوى.
الرّحابة النبويّة
3 ـ إنَّ هذه الآيات وغيرها تعطينا فكرةً واضحةً عن القوّة الرساليّة الروحيّة التي كان يتميَّز بها النّبيّ موسى(ع)، حينما كان يواجه كلَّ مواقف التمرد والطغيان والدلع والطّفولة الفكريّة والعمليّة برحابة الصَّدر وهدوء الرّسالة الواثقة بنفسها، ككلِّ الأنبياء الّذين حملوا الرّسالة بقوّة، وواجهوا كلَّ أشكال التمرّد والطّغيان بروحٍ واثقةٍ برسالتها، ومنسجمةٍ مع مسؤوليّاتها في الأسلوب والهدف، لأنهم كانوا يدركون أنّ دور الرّسول هو أن لا يعيش لمزاجه، بل للرّسالة، وأنّ عليه أن يتابع كلَّ إمكانات الهداية ليطرحها في السّاحة، ويحركها في مجال الدّعوة والعمل.
وهذا ما نحتاجه في عملنا الرّساليّ عندما تواجهنا مواقف التمرّد والطّغيان ونكران الجميل والاتهام الكاذب والسّباب، وغير ذلك من التحدّيات التي تقابل الرّسل والرّسالات؛ أن نقف في خطِّ الرّسالات الهادئ الواثق بالله، المنطلق من موقع الرّسالة لا من موقع الذّات.
أوَّل جمهور رساليّ!
4 ـ لماذا أفسح الله لبني إسرائيل هذا المجال الواسع في النّعم والألطاف والرعاية؟ والجواب: لعلّ رسالة موسى(ع) كانت أولى الرسالات المتحركة في نطاق جمهورها الّذي عملت من أجله على صعيد الرّسالة وعلى صعيد الواقع، فنحن نلاحظ أنَّ الرسالات السابقة، كرسالتي نوح وإبراهيم(عليهما السّلام)، لا تشعرنا بوجود المؤمنين كقوّةٍ تتحرّك مع النبيّ في صراعه، أو يتحرّك معها النبيّ في خطواته العمليّة، بل كان الصّراع يتَّجه إلى الجوّ الَّذي يعيش فيه النّبيّ وحده مع الخصوم الرّئيسين للرّسالة، ففي إطار رسالة نوح، لا نشعر بالمؤمنين إلا من خلال وصف الكفّار لهم بأنهم {أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}[6]، ثم لا نجد لهم أية حركةٍ، بل نجد نوحاً يواجه كلّ التحدّيات كما لو كان وحده، وفي نطاق رسالة إبراهيم، كان(ع) يواجه الكفَّار وحده، وكان يواجه طاغية زمانه الّذي حاجّه إذ آتاه الله الملك وحده... وكانت القضيّة كلّها قضيّة الإيمان والكفر في إطارهما العقيديّ، في حدود المعلومات التي حدَّثنا القرآن عنها في شؤون الرّسالتين والرّسولين.
أمّا النّبيّ موسى(ع)، فقد كان يحمل قضيَّة العقيدة في صراع الإيمان والكفر، إضافةً إلى قضيّة الاضطهاد الّذي عاناه شعبه من بني إسرائيل من حكم فرعون، فكانت مهمَّته السَّعي إلى تحقيق خلاصهم من ذلك، وهكذا كانت الرّسالة تتحرّك في اتجاهين؛ في صراع الإيمان ضدّ الكفر، وفي صراع العدل ضدّ الظّلم، وبهذا كان للرّسالة جمهورها المتحرّك البارز في نشاطه في السَّاحة العامَّة. ولكنّ هذا الجمهور الذي أخرجه موسى من أجواء العبوديَّة إلى فضاء الحريَّة، بفضل الرّسالة المنتصرة على الطغيان الفرعوني، وبفضل الرسول القوي الذي منحه الله كلّ أسباب القوَّة الّتي أهلك بها فرعون قومه؛ إنَّ هذا الجمهور لم يكن في مستوى الرِّسالة، فقد كان يسير مع الرَّسول للاستعانة بقوَّته في الصِّراع على أساس قضيَّته الحياتيَّة المباشرة، لا على أساس قضيَّة الرّسالة في الالتزام والانتماء. ولكن كان لا بدَّ للرّسالة من الاحتفاظ بجمهور الرّسول، أو بمقدارٍ منه، بحيث تمنحه مقداراً كبيراً من الأجواء الهادئة الواسعة، على صعيد إيجاد مجتمع متوازن متكامل، يتنفَّس فيه روحيَّة الرّسالة في حياتها وأهدافها، ويشعر بأنَّ الأجواء الجديدة هي أجواء الرّحمة والرّعاية، حتى مع أشدّ التحدّيات قساوةً وضراوةً، وقد كان موسى(ع) يحاول بجهده الطّويل أن يحقِّق ذلك في تجربته.
ولعلَّ هذه التّجربة كانت لا تخلو من بعض النّجاح، لأنّنا رأينا انفصال مقدارٍ كبيرٍ من هذا الجمهور عن الخطّ المنحرف والتزامه الخطّ المستقيم، كما تشير إلى ذلك بعض الآيات.
وباختصار، إنَّ الخطَّة كانت تتلخَّص في أن لا تفقد الرّسالة جمهورها، لتجعله يشعر بأنّها لا تضطهده حتى في حال تمرّده ومشاغبته على الرّسول، ولهذا أعطته المجالات الرّحبة للالتقاء بخطّ الإيمان فكراً وروحاً وحياةً، وهذا ما نلاحظه في أسلوب النبيّ موسى(ع) في مواعظه ونصائحه ووصاياه وتحذيراته، وتذكيره لهم بنعم الله وألطافه عليهم، ليشجّعهم على السَّير معه في مهمّته الرّساليّة التي قد يحتاج فيها إلى الاستعانة بهم، في الانطلاق إلى جماهير أخرى في مواقع جديدة.
سبب التّركيز على بني إسرائيل
5 ـ لماذا ركَّز القرآن كثيراً على بني إسرائيل، بحيث شغل جوَّ القرآن كلّه بهم، حتى لنشعر بأنّنا نلتقي بهم في كلِّ سورة؟
والجواب: إنَّنا نشعر بأنَّ صراع الإسلام مع التَّحريف في الرسالات السّماويّة المتقدّمة، ومع جمهورها الممتدّ في الزّمن في خطّ الانحراف، لم يكن صراعاً بسيطاً، بل كان يمثّل الصّراع حول المفاهيم الأصيلة للخطّ الإيماني العريض، وللتّفاصيل التي يتضمّنها هذا الخطّ، وكان خطّ الانحراف ـ إلى جانب ذلك ـ يعتبر في موقع الخطورة الكبرى التي تواجهها رسالة الله الّتي يؤمن الخطّ الإيمانيّ بها ويصدِّق بأنبيائها، ما كان يؤدِّي إلى إقامة الحواجز التي تمنع النَّاس من الالتفاف حول الرّسالة والامتداد في مفاهيمها وشرائعها. ولذلك، كان لا بدَّ للقرآن من أن يوضح الفكرة عن هذا الجمهور الضَّالّ، باعتباره القوَّة الأولى الفاعلة التي تهدِّد حركة الخطّ الإيماني، وبما يعطي الأصالة للأفكار الصَّحيحة المستقيمة السَّليمة الّتي حاولت الفئات المضادّة ـ وفي مقدّمهم اليهود ـ أن تجعلها بعيدةً عن الوضوح للنَّاس، عندما كانوا يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً.
وفي ضوء ذلك، فإنَّ طبيعة القضيَّة ليست في الاهتمام بهذا الشَّعب من خلال ما يملك من قيمةٍ ومنـزلةٍ وكرامة، بل هي قضيَّة الاهتمام بتاريخ الرّسالات السماويّة الّتي يصدّقها الدّين الإسلامي في القرآن وفي سنَّة النبيّ محمّد(ص)، في حديثه عن جمهورها المنحرف أو المستقيم، وعن أفكارهم المحرّفة والخاطئة، باعتبار أنّ الإسلام الَّذي هو خاتمة الأديان، يمثّل الامتداد الحيّ لهذه الرّسالات، ما يجعل لحركة هذه الرّسالات وتاريخها ومفاهيمها تأثيراً كبيراً في حركة الإسلام في حاضره ومستقبله، فيما يتعلَّق بالأجواء السلبيّة أو الإيجابيّة لحركة التّاريخ والفئات المنتمية إليه.
ولعلّ ما يؤكِّد الفكرة، أنّنا نرى الإسلام يرفض هذا التّاريخ لهذه الفئات ويحاكمه وينقده، فكيف يجتمع هذا الواقع مع نظرة القداسة والتَّكريم التي يطرحها السؤال أو يوحي بها البعض في المفهوم الخطأ الّذي يتحدّث به هؤلاء بأنّ القرآن يؤكّد تفضيل بني إسرائيل على العالمين، غير ملتفتٍ إلى أن المقصود تفضيل النّعمة لا تفضيل المنـزلة والقيمة؟! والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [المائدة: 24].
[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 40.
[3] [الشّعراء: 157].
[4] السكّة المحماة: حديدة المحراث إذا أُحميت في النّار تصبح أسرع غوراً في الأرض.
[5] نهج البلاغة، ج 2، ص 181.
[6] [هود: 27].