عاش إبراهيم(ع) عمراً طويلاً حتى بلغ سنّ الشَّيخوخة، وكانت امرأته قد بلغت سنّ العجائز ولم يولد لهما ولد، ولكنَّ الله سبحانه أفاض عليهما من رحمته بما يشبه الإعجاز، فرزقهما الولد الَّذي بشَّرته به الملائكة فيما يشبه المفاجأة العجيبة له ولزوجته، كما جاء في قوله تعالى: {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}[1]، فقد بلغ سنّاً لم يعد معها للإنسان العادي أيّة فرصةٍ للإنجاب، بسبب ضعف حيويَّته الإنتاجيَّة في مسألة النّسل. ولكنَّ الملائكة استنفروا إيمانه وثقته المطلقة بقدرة الله على كلِّ شيء، فهو الَّذي يحيي الموتى، فكيف لا يبعث الحياة في الطّاقة الجسديَّة، بحيث تنفتح على حيويَّة جديدة، الأمر الَّذي يجعل الإنسان ـ ولا سيَّما إذا كان في موقع النبوَّة ـ بعيداً عن اليأس والقنوط في تقدير الله له في حاجاته الطبيعيَّة بالطَّريقة العجائبيَّة، وهذا ما أثاروه أمامه في ردّ فعلهم على استغرابه!
{قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ}[2]، أي من اليائسين. وهكذا انفتحت روحه الإيمانيَّة على الأمل الكبير بالله، من خلال قدرته الَّتي لا حدَّ لها، {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ}[3]، لأنَّ المؤمنين الصَّالحين المهتدين، يؤمنون بأنَّ رحمة الله تتَّسع لكلِّ شيء، في إفاضاته على عباده، حتى فيما يشبه المستحيل التَّكوينيَّ الواقعيّ.
البشارة المفاجأة
أمَّا زوجته العجوز، فقد أثقلتها المفاجأة، وعاشت في حال الاستغراب والتعجّب بعدما سمعت ما بشَّر به الملائكة زوجها إبراهيم، {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ}. قيل إنَّه الضَّحك المعروف الَّذي يعتري الإنسان عند الفرح، وقيل إنَّ "ضحكت" بمعنى "حاضت" ـ عن مجاهد ـ وروي عن الصَّادق(ع) أيضاً أنّه يقال: ضحكت الأرنب إذا حاضت، والضّحك ـ بفتح الضّاد ـ الحيض.
وهكذا انتقلت البشارة إليها من قِبَل الملائكة: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}، بحيث انطلق الحديث عن البشرى بالولد والحفيد: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً}، وهو تعبير عن الدّعاء على نفسها بالويل، ولكنَّها كلمة تجري على أفواه النّساء إذا طرأ عليهنّ ما يتعجّبن منه. وقيل: إنها لم تتعجَّب من قدرة الله، ولكنَّها أرادت أن تعرف هل تتحوَّل شابّةً أم تلد على تلك الحال، وكلّ ذلك عجيب. وهكذا عبَّرت عن ذلك الأمر بقولها: {إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ}[4]، فإنَّ هذه البشرى مظهر من مظاهر رحمة الله الَّتي وسعت كلَّ شيءٍ من خلال قدرته على الأمور كلِّها في نظام الكون وحركة الإنسان في حياته.
الإيمان يعني الأمل
وقد أراد الملائكة أن يردّوها إلى التّفكير من خلال الإيمان، لا من خلال الواقع المألوف والسنّة الطبيعيّة المعتادة للنّاس في حياتهم، فالمؤمن لا يخضع في تصوّره لمسألة الإمكان وعدمه للمألوف مما اعتاده النّاس في نظام حياتهم، بل عليه أن يطلَّ على الأفق الإيماني الواسع الّذي يلتقي بالله في قدرته المطلقة الَّتي لا يحدّها شيء، وأن يفكّر في أنَّ الأشياء المألوفة لا تحمل في ذاتها عنصر الحتميَّة في الوجود بما تتضمّنه من علاقة المسبّب بالسَّبب، إلا من خلال التّقدير الإلهيّ لوجود الأشياء بحكمته في مواقع القدرة الَّتي لا تقتصر على حال خاصّة أو على وضع معيّن أو أسباب محدودة، فهو القادر على أن يخلق أشياء أخرى لم يألفها النّاس، للحكمة التي تنطلق بها القدرة الإلهيّة المتحركة وفق الموازين الحكيمة.
لقد أراد الملائكة أن يثيروا في امرأة إبراهيم ـ كما أثاروا في إبراهيم(ع) ـ حسَّ الإيمان العميق، لتفكّر في هذا الاتجاه، لأنَّ المؤمن إذا سار في تفكيره على هذا المستوى، فإنّه سينفتح على الحياة بكلِّ ما فيها من انطلاقات الأمل، حتى في الطّرق المسدودة طبيعيّاً، لأنّه يشعر ـ في عمقه الإيماني ـ بأنَّ السّدود، مهما بلغت من الإحكام والقوَّة، لا تثبت أمام قدرة الله الّذي إذا قضى شيئاً ـ أيَّ شيء ـ {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[5]، فهو سبحانه، لا تحكمه الأسباب لتحدِّد مواقع قدرته، لأنَّه الخالق لها بإرادته الّتي تمنح السَّبب معناه والوجود حركيَّته، وإذا أراد أن يهدم السّدود، فإنها تتحوَّل بقدرته إلى هباء في أقلّ من لحظة.
وهذا ما يجب على المؤمن الواعي المجاهد أن يعيشه في خطِّ الدَّعوة والجهاد، فلا يتعقَّد من أيِّ مشكلةٍ تواجهه، بل يعمل على استنفاد كلِّ التّجارب، منتظراً الفرج الكبير من خلالها أو من خلال الغيب، فلا يستسلم لليأس عندما تحاصره عناصره الطبيعيَّة من كلِّ جهة، وبهذا يبقى للمؤمن في حياته عينٌ على الواقع حيث يخوض التّجربة، وعينٌ على الغيب متفائلاً بالأمل الكبير القادم من غيب الله في آفاق القدرة المطلقة والرَّحمة الواسعة.
الله يجيب دعاء إبراهيم
وقد تحدَّث الله سبحانه وتعالى في سورة الصّافّات، عن أنَّ إبراهيم(ع) كان قد طلب منه سبحانه أن يرزقه غلاماً طيِّباً صالحاً حليماً، يؤنس وحشته، ويرافق مسيرته، ويعينه في شيخوخته، وذلك قوله تعالى في دعاء إبراهيم لربّه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}[6]، واستجاب الله دعاءه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}[7]. ونلاحظ أنَّ إبراهيم(ع) لم يطلب ولداً، أيّ ولد، من خلال إرضاء غريزة الأبوَّة في داخله، بل أراده ولداً صالحاً يتحرَّك في طاعة الله، ليعزِّز خطَّ الصَّلاح في الحياة المرتكزة على قاعدة الإيمان بالله، لأنَّ المؤمن الَّذي لا يبتعد عن الرَّغبات الطّبيعيَّة في شخصيَّته، يبقى ـ دائماً ـ في هاجس العلاقة بالله والإيمان به في كلِّ قضاياه.
واستجاب الله دعاءه، فرزقه إسماعيل الَّذي منحه الله الصَّدر الواسع الَّذي اتَّسع لكلّ الأوضاع السلبيَّة التي كانت تواجهه في مسيرة الالتزام بالرّسالة الإلهيّة، الَّتي أوكل الله إلى أبيه إبراهيم أمر إبلاغها، فصبر على الأذى، وانفتح على الخير، بما تمثّله هذه الصّفة الإنسانيَّة من وداعةٍ وهدوء طبعٍ، وصفاء روحٍ، وانفتاحٍ على كلّ الناس.
وهذا ما لاحظناه في مواجهته للصَّدمة القويّة، من خلال البلاء الَّذي تعرَّض له، فلم تهتزّ مشاعره، ولم تتغيَّر مواقفه، بل تقبَّل الأمر بإيمان الصَّابر، وصلاح المنفتح على رضوان الله فيما أُمر به.
الولادة المعجزة
ويبقى لنا أن نستوحي من دعاء إبراهيم(ع) في طلب الولد الصَّالح، أنّه قد هاجر إلى بلاد جديدة، بعد صراعه المرير مع قومه الَّذين أرادوا إحراقه عقاباً له على تكسير أصنامهم، فأنجاه الله من نارهم، وقال لها: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[8]، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[9]، فقد عزم على الهجرة من بلده أور الكلدانيّة ـ في بابل ـ إلى بلاد الشّام، ليتفرَّغ لعبادة ربّه، وليبدأ تجربةً جديدةً من تجارب الدَّعوة في موقع جديد، يكون ساحةً جديدةً مميَّزة يملك فيها حريّة الحركة لما يريد قوله وفعله، وهناك تزوَّج واستقرَّ به المقام، ودعا الله إلى أن يمنحه ـ في زواجه ـ الولد الصّالح.
وربما نستفيد من هذا العرض، أنَّ البشارة بإسماعيل كانت قبل البشارة بإسحاق، لأنها كانت منطلقةً من طلبه ذلك من الله، فهو لم يرزق ولداً من زواجه هذا، بينما كانت البشارة بإسحاق منحةً من الله في وضعٍ غير مألوف، لأنه كان قد بلغ من الكبر عتيّاً، ولأنَّ زوجته وصلت إلى السنّ الّتي لا تسمح للمرأة بأن تحمل بالولد، لأنها ـ كما قالت عن نفسها ـ {أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ}[10]، الأمر الّذي جعل ولادة إسحاق شبيهةً بالمعجزة، بينما كانت ولادة إسماعيل خاضعةً للأوضاع الطبيعيَّة في الإنجاب، وبذلك تكون ولادته سابقةً لولادة إسحاق، كما ورد في تفسير العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي، قال: قلت لأبي عبد الله جعفر الصَّادق(ع): كم كان بين بشارة إبراهيم بإسماعيل وبشارته بإسحاق؟ قال: "كان بين البشارتين خمس سنين، قال الله سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، يعني إسماعيل، وهي أوَّل بشارة بشَّر الله بها إبراهيم في الولد"[11].
الابتلاء الصَّعب
وقد أحبَّه إبراهيم(ع) حبّاً شديداً، ورعاه رعايةً أبويّةً حانيةً، وربّاه تربيةً رساليّةً صالحةً، وجعله عندما بلغ سنّ الشّباب، رفيقاً له في غدواته وروحاته، وفي الاستعانة به في بناء البيت، والمشاركة في وضع المنهج السَّليم للقادمين إليه والطَّائفين به في عبادتهم لله. وقد أراد الله ابتلاءه وامتحانه في محبَّته له بالدَّرجة الَّتي لا يتحمَّلها إلا من بلغ في محبَّة الله وطاعته شأناً عظيماً ممن امتحن الله قلبه للإيمان، كما شارك إسماعيل أباه في هذا الامتحان الصَّعب، في تكليفه بالامتثال لأمر الله في تقديم نفسه للذَّبح طواعيةً واختياراً للحصول على رضوان الله، كلّ ذلك ليظهر فضله للنّاس، وليكون قدوةً لهم في مواقع التَّضحية في خطِّ طاعة الله التي يبحثون فيها عن القدوة الحسنة والنَّموذج الأعلى في المعنى المتجسِّد للإيمان. وهذه هي القصَّة المنفتحة على التجربة الرساليّة التي لم يسبق لأحدٍ قبلهما ولا بعدهما أن قام بمثلها في الخضوع لله في أمره الربوبيّ.
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَـ وأصبح يتحرَّك معه في مسيرته، بحيث أصبح قادراً على أن ينطلق في أموره الخاصَّة والعامَّة، بعد أن بلغ سنَّ الرّشد الَّتي يستطيع معها أن يقوم بحاجاته وحاجات الآخرين، والّتي تمكّنه من اتخاذ قراره المستقلّ في أوضاعه، بما في ذلك قضيّة المصير ـ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ـ وهذا في الوعي النّبويّ يمثّل أمراً إلهيّاً للقيام بهذه المهمَّة، امتثالاً لأمر الله، لأنَّ الرّؤيا الصَّادقة الّتي يحسّ بها النّبي باليقين الرّساليّ، تمثّل أسلوباً من أساليب الوحي الإلهيّ.
وقد كان المنام وسيلةً يوحي من خلالها الله إلى بعض أنبيائه ببعض القضايا الّتي يريد لهم أن يقوموا بها أو أن يبلّغوها للنّاس. ونلاحظ أنَّ إبراهيم(ع) لم يقل إنَّه رأى في المنام قيامه بالذَّبح الفعليّ، بل إنّه رأى أنّه يتحرّك لذبحه، وذلك من خلال مقدّمات فعل الذَّبح قبل العمل الحاسم ـ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}، وكأنَّ الأب والابن فهما من هذا الأمر أنّه تكليف بالذّبح فعلاً، باعتبار أنَّ القيام بالمقدِّمات يوحي بأنَّ المطلوب هو تحقيق الذَّبح، لأنَّ المسألة في إيحاء الطَّلب، ليست تمثيليّةً في وعيهما للمسألة.
وفي ضوء ذلك، أراد إبراهيم(ع) من ولده أن يحدِّد موقفه من هذا الأمر الإلهيّ الصَّعب، لأنَّ المسألة خطيرة بالنِّسبة إليه، وعليه أن يفكِّر تفكيراً عميقاً في الموضوع. وقد خاطبه إبراهيم(ع) بالقول إنَّني أنا والدك الّذي لا يحبّ أن يقدم على تنفيذ الأمر الإلهيّ إلا بعد أن تأخذ قرارك فيه بالمقدار الَّذي يتعلَّق بك، ليكون الموقف واحداً في امتثال أمر الله طاعةً له، مع صعوبته الذّاتيّة علينا جميعاً.
التَّسليم لإرادة الله
ولعلَّ إبراهيم(ع) كان يعرف أنَّ ولده سوف يستجيب لنداء الله، لما يعرفه من عمق إيمانه، وصدق إسلامه، وصلاحه في خطِّ الشَّريعة الحقَّة. ولم ينتظر إبراهيم طويلاً، فقد أجابه ولده فوراً بشكلٍ حاسم: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ـ فإذا كانت هذه القضيَّة إرادة الله، فلتكن إرادته هي الحاكمة علينا في كلّ أمورنا، لأنّنا لا نملك من أنفسنا إلا ما ملَّكنا الله إيّاه، فهو المالك لنا جميعاً، وإليه تعود مسألة الاختيار الّتي لو ملكناها لكان اختيارنا تبعاً لإرادته ـ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[12]، فلن أجزع، ولن أهرب أو أتهرَّب، بل سأقدِّم نفسي للذَّبح من موقع المستسلم لله، الخاضع لأمره ونهيه، الخاشع لعبادته، فتلك هي إرادتي، وسأثبت عليها بمشيئة الله، لأنَّ كلَّ ما أتحرّك فيه أو أتَّصف به، هو هبةٌ منه في ما ينعم به على عباده.
{فَلَمَّا أَسْلَمَاـ وجههما وأمرهما وحياتهما لله ورضيا بقضائه ـ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}[13]، أي صرعه على أحد جانبي جبهته وهو الجبين، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}، لأنّه لم يرَ في الرّؤيا أنّه ذبح ولده، بل كانت الصّورة أنّه بدأ بالعمليَّة بطريقةٍ إعداديَّة توحي بالجدّيّة والانتهاء بها إلى نتيجتها الطبيعيَّة ـ كما فهمه إبراهيم ـ كما أنَّ الأمر الصَّادر عن الله لم يكن أمراً جدّياً في واقعيّة الذّبح، بل كان أمراً امتحانيّاً للاختبار، ولإظهار الموقف الإسلاميّ الإيمانيّ البارز الّذي يصل إلى مستوى القمَّة في الطَّاعة لله والإخلاص له والاستسلام له بشكلٍ صارخ، فيما يمثّله موقف إبراهيم وولده من الامتثال لأمر الله لإيصاله إلى نهايته الحقيقيَّة، ولم تكن هناك أية مصلحة واقعيَّة في ذبح إبراهيم لولده كفعلٍ معيّن في ذاته. ولكنَّ الله لم يخبرهما بإرادته الجدّية بصراحة، بل تركهما يفهمان المسألة من خلال طبيعة الموقف، لتبرز القيمة الرّوحيَّة في موقفهما المتحرِّك بكلّ جديّة، من خلال امتثالهما للأمر حتى نهايته.
القدوة الحسنة
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[14]، الجزاء الأحسن في الدّنيا والآخرة، بعد نجاحهم في اجتياز الامتحان الصَّعب والبلاء الشَّديد في مواقع الطاعة، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ}[15]، الَّذي لم يعهد مثله في ابتلاء الله لأنبيائه وأوليائه، {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}[16]. وقد ذكرت الرّوايات أنَّه كبش عظيم جاء به جبرئيل من عند الله ليكون فداءً عن ولده وبدلاً منه، {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[17]، كرمزٍ لاحترام موقفه، ليكون ذلك عظةً ودرساً للآخرين في تأكيد موقفهم الإسلاميّ في طاعة الله، وتحيّةً للقدوة الرّائدة المتمثّلة بشخص هذا النبيّ العظيم، الّذي تقدَّم بكلِّ وداعة الإيمان وصفاء الإسلام وقوَّة الإخلاص لله، ليذبح ولده الحبيب الَّذي تجاوب معه، فاستعدَّ لتقديم نفسه قرباناً لما يريد الله له ولأبيه أن يجسِّداه من الطّاعة، {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[18].
وقد جسَّد هذا الولد في موقفه إخلاص العبوديَّة لله، بالطَّريقة المميَّزة الّتي لم يسبقه إليها أحد في الخضوع لله، منطلقاً بالمضمون الّذي دعا به إبراهيم الله عندما طلب منه ولداً صالحاً منسجماً مع الأجواء الرّوحيّة والامتدادات العباديّة الّتي يؤسِّس لها النّبيّ إبراهيم لبناء ذريّةٍ تلتقي بالرِّسالة، وتعيش في مواقع القرب من الله، الأمر الَّذي لا بدَّ للناس من أن يقتدوا به، لتكون القدوة في إبراهيم(ع)، وفي الأسرة الَّتي أكرمه الله بها، بحيث جعل موقع النّبوَّة يمتدّ في أولاده وأحفاده كمظهرٍ من جزائه للمحسنين.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [الحجر: 53، 54].
[2] [الحجر: 55].
[3] [الحجر: 56].
[4] [هود: 71 ـ 73].
[5] [البقرة: 117].
[6] [الصافات: 100].
[7] [الصافات: 101].
[8] [الأنبياء: 69].
[9] [الصافات: 99].
[10] [هود: 72].
[11] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 12، ص 136.
[12] [الصافات: 102].
[13] [الصافات: 103].
[14] [الصافات: 104، 105].
[15] [الصافات: 106].
[16] [الصافات: 107].
[17] [الصافات: 108، 109].
[18] [الصافات: 110].