الموقف الحسيني في عاشوراء(*)
من الآيات التي كان يردِّدها الإمام الحسين (عليه السلام)(1) في يوم عاشوراء، كلَّما استقبل صحابياً من أصحابه أو فرداً من أهل بيته وهو يستأذنه للقتال، كان يتمثّل بهذه الآية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23] وكأنّه كان يريد أن يوازن بين هؤلاء الذين ثبتوا معه وبين أولئك الذين حاربوه، فأولئك الذين حاربوه كانوا قد عاهدوه من خلال رؤسائهم ومن خلال وجهائهم ومن خلال الأفراد الذين بايعوا مسلماً في الكوفة باسمه، عاهدوه على أن ينصروه وأن يواجهوا الحكم الظالم معه، وأن يكونوا الجنود المجنّدة في موقفه من ذلك الحاكم الظالم، ولكن عندما خوَّفهم الطغاة وأغروهم وعندما استيقظت نقاط ضعفهم في داخلهم، عند ذلك نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وانطلقوا يقطعون ما أمَرَ الله به أن يوصل وانطلقوا في خطّ الفساد في الأرض، فانطبقت عليهم الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد : 25].
أصحاب الحسين والوفاء بالعهد
إنَّ الله سبحانه وتعالى جعل العهد في كلّ موقع يعاهد فيه إنسان إنساناً، سواء كان عهداً بين القيادة والناس أو كان عهداً بين الناس أنفسهم أو بين القادة أنفسهم، فإنَّ هذا العهد يمثّل عهد الله، لأنَّ الله أمَرَ بأن يفي الناس بعهودهم وذلك في قوله تعالى: {... وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 34] وهكذا أعطى هؤلاء العهد من أنفسهم أمام الله، على أساس أنْ ينصروا الإمام الحسين (عليه السلام) وأعطوا من أنفسهم الالتزام بأن يصلوا الذين أمَرَ الله بأن يوصلوا وهم أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهَّرهم تطهيراً.
لقد كان الحسين (عليه السلام) البقيّة الباقية من أهل البيت (عليهم السلام)، لكنّ أولئك قطعوا ما أمَرَ الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض، باعتبار أنّ كلّ فئة تُسانِد ظالِماً وتُقاتِل معه وتنضم إليه؛ فإنَّ من الطبيعي أن تكون من المفسدين في الأرض، لأنَّ حكم الظالم يمثّل حكم الفساد في الأرض، وأوضاع الظالم تمثّل أوضاع الفساد في الأرض، وهكذا لأنَّ الحسين (عليه السلام) أراد أن يقول: أيُّها الناس وازِنوا الموقف بين المعسكرين، بين المعسكر الذي انضمّ إلى الإمام الحسين (عليه السلام) والمعسكر الآخر.
إنَّ أصحاب الحسين (عليه السلام) هم من الذين تحدَّث الله عنهم {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ*الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ*وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد: 19 ـــ 21] وأراد الحسين (عليه السلام) أن يركِّز في هؤلاء أمام الناس هذه القيمة الإسلامية، وهي أنّهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وعندما جاءتهم المشاكل، وأراد منهم الآخرون أن يغيِّروا أو يبدِّلوا، رفضوا أن يبدِّلوا وأصرّوا على أن يبقوا مع الحسين (عليه السلام)، حتّى في الموقف الذي وقَفَ فيه الحسين (عليه السلام) ليحلّهم من بيعته قائلاً: "إنَّ هذا اللّيل قد غَشِيَكُم فاتّخذوه جَمَلا(1) وأنتم في حلٍّ من بيعتي"(2)، ولكنّهم لم يغيِّروا ولم يبدّلوا بل قالوا: لا نتخلَّى عنك يا بنَ رسول الله، حتّى لو قُتِلْنا وقُطِّعْنا وأُحْرِقْنا، لأنّنا ننطلق في الوقت معك والالتزام بخطّك، من خلال أنّك وليّ الله وابن وليّه ومن خلال أنّك إمام هذا الدين وقائد المسلمين.
قالوا له يا بن رسول الله لقد التزمنا بالإسلام، قالوا له ذلك بموقفهم وإنْ لم يقولوا له بكلامهم. قالوا له يا بن رسول الله لقد التزمنا بالإسلام بكلّ أحكامه ومفاهيمه والتزمنا بقيادتك على أساس أنّها القيادة الإسلامية التي ركَّزها رسول الله، عندما قال: "حسين منّي وأنا من حسين"(3) وعندما قال: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة"(4) "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"(5) فالتزمنا قيادتك لأنَّ رسول الله أراد لنا أن نلتزم قيادتك في إمامتك، وعندما صرخت بهذا الصوت: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالِماً ولا مفسداً وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّةِ جدّي"(6) لما صرخت بهذا الصوت وحدَّدت موقفك وطبيعة ثورتك وحركتك، بأنّها تهدف إلى إصلاح ما أفسده الظالمون والمنحرفون من الواقع الإسلامي، سرنا معك، لأنَّ الله أراد منّا أن نصلح. يا حسين، لستَ وحدك المسؤول. إنَّنا مسؤولون في أن ننطلق معك، لنصلح ولنقوّيَ حركة الإصلاح، بما تقوّي به حركتك وموقف الإصلاح، بما تثبّت به موقفك لأنَّ كلّ مؤمن وكلّ مسلم مسؤول عن أن يطلب الإصلاح في أُمّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لأنَّ رسول الله قال للأُمّة كلّها "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته"(7).
الإصلاح مسؤولية الجميع
إنّ كلّ واحدٍ منكم مسؤول بحسب حجمه وبحسب دوره وإمكاناته، عن أن يصلح ما أمكنه من الإصلاح، سواء كنت ممّن يجب عليك أن تصلح بيتك أو تصلح جيرانك أو أقرباءك أو الناس من حولك. إنَّ الإصلاح في أُمّة رسول الله هو مسؤولية لكلّ فرد من أفراد هذه الأُمّة كلٌّ بحسب دوره، وإمكاناته في كلّ المجالات التي يتحرّك فيها. وهكذا قالوا له يا بن رسول الله لقد قلتَ "أُريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"(1)، لأنّك رأيتَ المعروف في ما يتمثّل في طاعة الله في كلّ قضايا الإنسان والحياة، ورأيت أنّ المعروف يُترَك وأنّ الناس يتركون طاعة الله في عبادتهم وفي معاملاتهم وفي حربهم وفي سلمهم وفي كلّ علاقاتهم ورأيتَ المنكر، والمنكر هو كلّ شيء حرَّمه الله وكلّ شيء أنكر الله أن يفعل، ورأيتَ الناس يتحرّكون بالمنكر فيرتكبون المحرَّمات ويلتزمون الظالمين ويقفون من أجل أن يدعموا المنحرفين ولا يرفعون في وجههم صوتاً. وعندما أصبح المعروف متروكاً والمنكر يعمل به الناس، عند ذلك قلت: أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. وكنّا يا بن رسول الله معك، لأنَّ الله حمَّل كلّ مسلم أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، ولأنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حذَّر المسلمين من أنّهم إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسوف يقعون في مصائب كثيرة وفي بلايا عديدة، وقال في ما قال "لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليُسلطن الله شرارَكم على خياركم فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم"(2).
الله أَوْلى بالحقّ
لقد وجَّه رسول الله الأمر إلينا جميعاً، ولهذا فنحن مأمورون بأنْ نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر ـــ كما أنتَ يا بن رسول الله مأمور بذلك ـــ مأمورون بأن ندعم الذين يأمرون بالمعروف، إذا كانوا في موقع القيادة أو المسؤولية. أنْ نثور معهم على الظلم إذا ثاروا عليه، وأن نكون معهم في خطّ العدل إذا كانوا معه، وقد قلت "فَمَنْ قَبِلَني بقبول الحقّ فالله أوْلى بالحقّ"(1)، لقد قلتَ للناس وقليلاً ـــ يا بن رسول الله ـــ أن يقول القادة للنّاس ما قلته لهم، إنَّ كثيراً من القيادات تقول للنّاس اقبلوني لشخصي واقبلوني لعبقريتي واقبلوني لمركزي، ولكنّك وحدك يا بن رسول الله في خطّ الرسول وفي خطّ أبيك وفي خطّ كلّ الصالحين، قلت "فمن قبلني بقبول الحق" لم ترد لهم أن يقبلوك لشخصك. إنّك قلت للنّاس أيُّها الناس اقبلوا الحقّ، فإذا قبلتم الحقّ ورأيتم أنّي على الحقّ فاقبلوني، وإذا قبلتموني باسم الحقّ فلن يكون لكم جميل عليّ، إنّما أنتم تقبلون الحقّ الذي هو أمر الله سبحانه وتعالى وهو صفة الله "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ"، الله هو الذي يجازي مَن يقبل الحقّ. قالها الحسين (عليه السلام)، كقيادة تريد لهم أن لا يلتزموا بشخصها ولكنّها تريد لهم أن يلتزموا من خلال موقع الحقّ في شخصيّتها وفي واقعها. لقد قلت ذلك يا بن رسول الله ونحن معك في ذلك قبلناك... قالها أصحاب أبي عبد الله لأبي عبد الله (عليه السلام)، قالوها بموقفهم وإنْ لم يقولوها بلسانهم، قالوا له يا بن رسول الله لقد قبلنا بالحقّ ولقد رأيناك إمام الحقّ، ولهذا فسنقبلك لأنَّ الحقّ يتجسَّد فيك، وسنقبلك لأنَّ القيادة تتجسَّد فيك، وسنقبلك لأنَّ رضاك رضى الله، ولأنَّ سخطك سخط الله، ولأنّك لا تنحرف عن طريق الله كما لم ينحرف عن ذلك أبوك وأخوك وجدَّك (عليه السلام) عندما انطلق الحقّ، ليكون عنوان شخصيّتكم وعنوان دعوتكم وحركتكم.
هذا ما قالوه له، وبعد أن قالوا ثبتوا على القول، عندما جاءتهم كلّ التهاويل وعندما تجمَّعت العساكر الكثيرة في وضع غير متكافئ، لأنّ أقلّ إحصاء لجماعة الحسين (عليه السلام) كان سبعين رجلاً، وأكثر إحصاء كان ثلاثمئة رجل ونيّف، بينما جماعة ابن زياد يتراوح عددها ما بين أربعة آلاف، حسب ما قدَّره البعض، وثلاثين ألفاً حسب تقديرات أخرى.
لم يكن هناك أيّ نوع من أنواع التوازن بين هذه الفئة القليلة وبين تلك الفئة الكبيرة، ووقف أولئك يستعرضون قوّتهم وينطلقون بمختلف الأساليب، ليهزُّوا القوّة التي يعيشها هؤلاء المؤمنون السائرون مع الحسين (عليه السلام)، ولكنّهم لم يفلحوا في أن يسقطوا أحداً. بقيت هذه القلّة ثابتة في مواقعها وبدأت تتحرّك في الخطّ الإسلامي الذي انفتح على الله، فانفتح على الحسين من خلال الله، والذي انفتح على شريعة الله، فانفتح على الثورة في خطّ شريعة الله. وهكذا وقفوا وكانوا يستأذنون الحسين (عليه السلام) في القتال، وكان الحسين يستقبل كلّ واحدٍ منهم بهذه الآية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} صدقوا بالكلمة، وصدقوا بالموقف {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} ويشير إلى الذين استشهدوا معه {وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} ويشير إلى الذين يتحرّكون في خطّ الشهادة {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23] وتلك هي قصّة الثائرين المجاهدين مع الحسين (عليه السلام).
نتمسَّك بالإسلام ولا يأسرنا الواقع
في هذا الجوّ، علينا أن نفكّر ونحن في موسم عاشوراء، هل هناك عهد بيننا وبين الله أم ليس هناك عهد؟ هل هناك عهد بيننا وبين الحسين (عليه السلام) عبر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أم ليس هناك عهد؟ عندما ندرس المسألة كمسلمين، وإنّي دائماً أذكّركم بهذه الصفة، انتبهوا دائماً إلى صفتكم الإسلامية قبل أن تنتبهوا إلى صفتكم العائلية أو الإقليمية أو القومية أو غير ذلك من الصفات الطارئة، لأنَّ صفتكم الإسلامية هي التي تحدِّد لكم مواقعكم الوطنية والإقليمية والقومية، لتقول لكم أين تقفون في هذه الدائرة أو تلك، وأين تبتعدون عن هذه الدائرة أو تلك. لا تأخذوا صفتكم الأخرى الوطنية والإقليمية والقومية، لا تأخذوا هذه الصفات، لتحدِّدوا من خلالها صفتكم الإسلامية، كما يفعل بعض الناس عندما يريد أن يقول أنا لبناني. فإذا كنت لبنانياً فعليَّ أنْ أُلاحظ مصلحة لبنانيتي في حركة إسلامي، فلا أحاول أن أزعج الواقع اللبناني بالإسلام، فإذا جاء الإسلام ليزعج بعض الواقع اللبناني، قلت للإسلام تأخَّر ولتتقدّم اللبنانية. وهذا هو الذي يمارسه الكثيرون ممّن يملكون صفات دينية رسمية وممّن يملكون صفات سياسية أو اجتماعية. إنّهم يقولون لك: إنّنا في لبنان فكيف تتحدّثون عن الإسلام في لبنان؟ إنَّ الإسلام لا يوافق الصيغة اللبنانية، كأنَّ المسألة هي أنّ على الإسلام أن يتعامل في كلّ بلد من خلال طبيعة الخطوط الحمر، التي يفرض عليه البلد أن يتعامل معها. ولو كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) موجوداً في هذه الأيام، لقال له الكثيرون من الناس: إنَّ عليك أن تلاحظ صفتك المكيّة أو الحجازيّة في حركة الإسلام، حتّى لا تزعج هذه الصفة. كذلك يفكِّر آخرون بأنَّ صفتنا القومية هي التي تحدِّد لنا صفتنا الإسلامية وموقفنا الإسلامي. نحن عرب فإذا كنّا عَرَباً واصطدم العرب مع غير العرب، فعلينا أن نكون مع العرب حتّى لو كانوا ظالمين، وضدّ غير العرب حتّى لو كانوا مسلمين مظلومين، لأنَّ المسألة أنّ القومية تتقدَّم على الإسلام. ولكنَّ هذه رموز قد تتحرّك معكم في الدنيا، أمّا في يوم القيامة {... فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون : 101].
في يوم القيامة تسأل عن موقفك من ربّك ومن رسوله ومن كتابه ومن شريعته. إذاً لا تغفلوا عن صفتكم الإسلامية وحاولوا أن تحدِّدوا حركة صفاتكم الأخرى من خلال الإسلام. على هذا الأساس أنتَ عندما صرت مسلماً وقلت: أشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، فقد التزمت بعهد الله، لأنَّ معنى أشهد أن لا إله إلاّ الله هو الالتزام بوحدانية الله في الألوهية، لا الالتزام بغيره، وعندما تقول أشهدُ أنَّ محمّداً رسول الله فإنّك تقول لرسول الله: يا رسول الله إنّي ألتزمُ بكَ من خلال الرسالة التي حملتها من الله، لأنَّ طاعتك هي طاعة الله ولأنَّ الله قال لنا {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ...} [النساء : 80]، أنتَ وأنا والآخرون نلتزم بعهد مع الله أن نوحّده وأن لا نشرك به شيئاً. أن نوحّده في العقيدة فلا نعتقد بوجود إله غيره وأن نوحّده في العبادة فلا نطيع غيره في أيّ شيء، إلاّ في ما يتّفق مع طاعته.
وهكذا نحن ملتزمون برسول الله، لأنَّ الله أرادنا أن نطيع رسول الله في ما يأمرنا به.. إذاً نحن في عهد مع الله ومع رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي عهد مع الحسين، باعتبار أنّ الحسين (عليه السلام) سارَ في خطّ التزامنا بعهد الله ورسوله ولأنّنا في احتضاننا للحسين (عليه السلام) في كلّ سنة في مجالس عاشوراء، نعبّر عن التزام بخطّه وبثورته. هنا قد نحتاج أن نفكِّر أيّها الإخوة؛ هل صدقنا الله عهده أم نقضنا عهد الله؟ إنَّ الذين لا يلتزمون بالإسلام بل يلتزمون بغيره خطّاً للعقيدة وللشريعة وللحياة هم ممّن نقضوا عهد الله، لأنَّ الله أراد لنا أن نلتزم بشريعته، فالالتزام بأيّة شريعة أخرى هو مخالِف لالتزامنا ذلك؛ وهكذا فإنَّ الالتزام بقيادة لا تعبّر عن شريعة الله وأمره ومنهجه، هو التزام بغير عهد الله. وعندما نقطع ما أَمَرَ الله به أن يوصل فنسيء إلى الذين أراد الله لنا أن نحسن إليهم وأن نرحمهم وأن نعزِّزهم وأن نحترمهم، عندما نقطع ذلك فنكون ممّن يقطع ما أمَرَ الله به أن يوصل. وهكذا عندما نخذل العادلين ونلتزم الظالمين ونبرّر لهم ظلمهم ونهاجم العادلين في عدلهم، عندما نخذل الصادقين ونتبع الكاذبين، عندما نتحرّك في حياتنا على أساس أن نسكت عن الحقّ ونحن قادرون على أن نتكلَّم به، فنحن نخون عهد الله. لهذا إذا أردتم أن تعرفوا أنفسكم، هل أنتم من الصادقين في ما عاهدتم الله عليه؟ فراقبوا أنفسكم في عواطفكم. لمن تتّجه عواطفكم، هل تتّجه لمن يرضى الله عنهم، أم لمن يغضب الله عليهم؟ إذا أردتم أن تعرفوا أنفسكم هل أنتم من الصادقين بعهد الله أو من الناقضين لعهد الله؟ راقبوا أنفسكم في التزامكم بحلال الله وحرامه، فإنْ كنتم تلتزمون بحلال الله وحرامه فأنتم من الصادقين وإنْ كنتم لا تلتزمون به فأنتم من الناقضين لعهد الله في ذلك.
إنّنا عندما ننطلق في حركة الحياة من حولنا، في ما تنطلق به الحياة من المواقف الاجتماعية أو من المواقف السياسية، فعلينا أن نحدِّد مع مَن نكون؛ لأنَّ الذين يفسدون في الأرض والذين يقطعون ما أَمَرَ الله به أن يوصل والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، هؤلاء عندما نكون معهم أو عندما نبرّر لهم ذلك أو عندما نتعاطف معهم في ذلك، فمعنى سلوكنا أنّنا لسنا في خطّ عهد الله. هذا الوعي لمسألة أنّ بينك وبين الله عهداً، هو من الأمور التي لا بدّ لك من أن تعيشها في كلّ حياتك الخاصّة والعامّة وفي كلّ المجالات التي تتحرّك فيها. وقد قال الله سبحانه وتعالى لليهود، لبني "إسرائيل"، عندما أرادوا منه أن يعطيهم ما وعدهم به، قال لهم: {... وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة : 40] الحفاظ على المعاهدة أمر متبادل إذ ليس معقولاً أن ألتزم بعهدي معك، وأنتَ لا تلتزم، على أيّ أساس تكون هذه العلاقة.
عندما يكون بيننا وبين الله عهد، علينا أن نوفي بعهد الله ليفي الله لنا بعهده. لقد أعطانا الله العهد أن ندخل الجنّة إذا سرنا في الطريق الحقّ، فكيف يمكن أن نطلب الجنّة ونحن نلتزم الباطل؟ {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ*الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 19 ـــ 20] هؤلاء جزاؤهم مغفرة من ربّهم وجنّة عرضها السماوات والأرض.
نحصد الظلم لأنّنا نزرعه
أيُّها الإنسان، إذا كنتَ خائناً بعهد الله معك وكنت تقطع ما أمرَ الله به أن يوصَل وكنت تفسد في الأرض من خلال ما تملك من قوّة مالية أو سياسية أو سلطوية فإنَّ الله جعل لك اللعنة، وسوء الدار. إذاً معناه أنّ المسألة ليست مسألة تمنّيات، ولكنّها مسألة مواقف. والله عندما أرسل رسوله إنّما أرسله من أجل أن يغيِّر العالَم، ومن أجل أن يغيِّر الإنسان؛ وجعل لمن يتحرّك في هذا الخطّ، إذا غيَّر نفسه لمصلحة الحقّ أن يسير به الله في طريق رضوانه، وفي طريق نعمته. أمّا إذا غيَّرت نفسك إلى الباطل، فإنَّ الله سيسلبك نعمته، وهذا ما عبَّر الله عنه في كتابه الكريم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال : 53] فعندما تكون نيّات الناس طيّبة وخيّرة وصالحة، وقلوبهم منفتحة على قلوب بعض ويتحرّكون من خلال الحقّ والخير والعدل، حيث لا يفكّر أحد في الاعتداء على أحد، فإنَّ الله سبحانه وتعالى سوف يفيض عليهم النعمة.
أمّا إذا تبدَّلت أفكارهم وذهنيّاتهم باتجاه الباطل والظلم وغير ذلك، فإنَّ الله سيغيّر نعمته عندما يغيّرون. ولهذا الله يصرِّح {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم : 41] الله سبحانه وتعالى يقول لك: من الطبخة التي تطبخها أطعمك، أنتَ عندما تطبخ الباطل ستأكل نتائج الباطل وعندما تطبخ طبخة الظلم فإنّك ستأكل نتائج تلك الطبخة في نفسك بعد أن تطعمها لغيرك، ولهذا مَن حَفَرَ حفرةً لأخيه أوقعه الله فيها. لهذا جعل الله سبحانه وتعالى قَدَر الناس في حياتهم من خلال ما يركّزونه في دنياهم. يمكن أن يقول بعض الناس: ليس لنا علاقة بهؤلاء المسؤولين الذين يفسدون والحكّام الذين يظلمون، لكنَّ هؤلاء يحملون أوزار هذا الموقف؛ فأنتَ عندما ترى الظلم ولا تتكلَّم بل تجامل الظالم، ترى الباطل وتسكت عنه، ترى الحقّ مهدوراً ولا تتكلَّم في الدفاع عنه؛ بهذا السلوك تصبح شريكاً للظالم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ*كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ...} [المائدة: 78 ـــ 79] لا ينهى أحدهم أحداً عن المنكر، ففي السّاحة هناك أكثرية صامتة، الأكثرية الصامتة قد تؤاخذ بها الأقليّة الظالمة، لأنَّ تلك ظلمت وهذه سكتت، تلك طغت وهذه صفَّقت، تلك تحرّكت وهذه سكتت. وهذا ما يواجهه الناس في كلّ مكان، عندما ينتشر الظلم على جميع المستويات ويؤخذ حقّ الضعيف ولا تتحدّث الأُمّة عن ذلك.
حين تحدث هذه الأمور فإنَّ الله والحديث الشريف يقول: "لن تقدس أُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ"(1). إنّ بمستطاع الأُمّة ممارسة مسؤوليّتها ولكن هذا يسكت ويقول لصاحبه لا علاقة لك بالموضوع، وذاك يقول له لا تتعب رأسك، وهكذا يقف الظالم بدون عقاب، ويجلس المنحرف بدون أن يخشى نقداً، فينتشر الظلم من خلال سكوت الساكتين، كما ينتشر من خلال نطق الناطقين، لأنَّ هذا سكت فخذل، وذاك نطق فعاون، وكلاهما أعان الظلم في النتيجة.
لا بدّ لنا من أن نفهم القضية على هذا الأساس، ولهذا جاء الحديث الذي يقول "كما تكونون يُوَلَّى عليكم" فإذا كان المجتمع مليئاً بالناس الذين يكذب بعضهم على بعض. الزوج يكذب على زوجته، والزوجة تكذب على زوجها، والأب يكذب على أولاده، والأُم تكذب على أولادها، والجيران يكذب بعضهم على بعض، وهكذا يكذب السيّاسيّون على الناس وبعضهم على البعض.. فإذا كان الأمر كذلك فمن أين سيأتي الحاكم؟ الحاكم تربّى في مدرسة المجتمع. الحاكم تربّى في البيت الذي يتحرّك الأب والأم فيه فيكذبان ويعملان على أن يخونا في بعض الحالات وأن يسرقا وأن يعملا حسب الفرص المتاحة. أليس هناك مَن يذهب ليسرق ويأتي إلى البيت حاملاً ما سَرَق، ويعرف أبوه أنّه سرقة وتعرف الأم ذلك ويغضَّان النظر؟ وهكذا يأخذ الولد من أبيه وأُمّه غطاءً شرعياً بالسرقة؛ كذلك يتعاطى قادة الأحزاب والمنظّمات مع عناصرهم، حين يقتلون ويسرقون أو حين يخطفون ويفسدون في الأرض، حيث يؤمِّنون لهم الحماية... وفي نهاية المطاف يسود شعور عام في المجتمع مفاده أنّ المجرم يكافأ وتتوفّر له الحماية والملجأ. وتصبح هذه المفاسد من الظواهر العامّة التي لا تلقى استنكاراً من أحد. ومن هؤلاء سينطلق حكَّام البلد، سينطلق الوزراء والرؤساء والمسؤولون على سائر المستويات منهم. فإذا كان المجتمع كاذباً فلا بدّ من أن يكون الذين يتخرّجون منه كاذبين. الله لا يأتي لنا بجماعة من المرّيخ ليحكمونا، فالله وضع للكون قوانين معيّنة ومن خلال هذه القوانين القائمة على أنّ لكلّ شيءٍ سبباً ولكلّ مقدّمة نتائج، تسير حركة المجتمع طبقاً لهذه القوانين.
إنَّ الله يقول إنّكم تأكلون ممّا تطبخون، إذا طبختم المشكلة فلن تأكلوا الحلّ؛ وإذا طبختم البلاء فلن تأكلوا العافية: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل : 112] لهذا نحتاج إلى أن نكون الصادقين بعهد الله، عندما نكون الصادقين مع أنفسنا والصادقين مع الناس من حولنا والصادقين مع ربّنا.
العالِم ومواجهة الانحرافات
وفي آيةٍ أخرى يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159] ويحمِّل الله المسؤولية لكلّ إنسان يملك علماً، سواء كان عالِماً معمَّماً أو غير معمّم، لأنَّ العلم ليس بالعمامة. قد تكون العمامة على رأس يملك علماً وقد تكون على رأس فارغ من العلم. المهمّ من يعلم، من يكون عنده علم وفكر ومعرفة بالشريعة. وفي الحديث إذا ظهرت البدع، التي تعني كلّ الانحرافات الفكرية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية "إذا ظهرت البِدَع فعلى العالِم أن يُظهِرَ علمه"، لا يستطيع أن يقول أنا لا أملك الوقت للتعليم والتبليغ. إنَّ عليه أن ينطلق، ليبثّ علمه في الناس حتّى لو شُتم، عليه أن يقول كلمة الحقّ للناس حتّى لو رجمه الناس بالحجارة وشوَّهوا صورته وموقفه، لأنّك عندما تحارب البِدَع وتحارِب المبدعين والمنحرفين، فلا بدّ أن يهاجموك.
ولهذا لا بدّ للإنسان الرسالي ـــ في أيّ موقع كان ـــ دائماً أن يكون ذا "جلد سميك" أي لا يتأثّر بالسبّ والشتائم، بل أن يكون صاحب إرادة صلبة لا يؤثّر فيها شيء.. "إذا ظهرت البدع في أُمّتي فليظهر العالِم علمه وإلاّ فعليه لعنةُ الله"(1) والنبيّ استفاد من الآية القرآنية التي تقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159] هناك بعض الناس يحاولون أن يحرِّفوا الكلام عن مواضعه، يتكلَّمون في الدين ولكن بطريقة منحرفة، كما هي حال اليهود الذين قال الله عنهم {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران : 77] يعني يبيعون ما يحملون من كتاب الله ويبيعون ما يحملون من ثقافة، يبيعونها لأُناس معنيين حتّى يوظِّفوها لخدمة أهوائهم وانحرافاتهم. هؤلاء يبيعون أنفسهم للظالم، يبيعون أنفسهم للمنحرف، ويبيعون أنفسهم للسلطة الغاشمة، {أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران : 77].
نطلب العدل لكلّ الناس
لا بدّ لنا إذا أردنا أن نصدق الله عهده، من أن نكون مثل أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الذين صدقوا العهد معه ولم يبدِّلوا تبديلاً وأن نكون مثل أصحاب الحسين (عليه السلام) الذين صدقوا العهد مع الله ولم يبدِّلوا تبديلا. فذلك هو وحده جواز الدخول إلى الجنّة، إذا كنّا نريد أن ندخل الجنّة، فثمن الجنّة أن تبيع نفسك لله {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ...} [التوبة : 111] الله يشتري أموالنا وأنفسنا، وعلى هذا الأساس لا ينفصل الشأن الاجتماعي عن الشأن السياسي، فكما المطلوب منك أن تكون مع الصادقين في الحياة الاجتماعية، فلا تميل إلى عائلتك ولا إلى عشيرتك ولا إلى أيّ محور من المحاور التي تتّصل بحياتك الخاصّة، بل عليك أن تكون مع الله؛ كذلك في الشأن السياسي لا بدّ لك أن تواجه الموقف على أساس أنَّ انتماءك لأي موقع من المواقع لا بدّ من أن ينطلق من دراسة ما هي مصلحة الإسلام في هذا الانتماء، وما هي مصلحة الكفر في ذلك؟ لا بدّ من أن تعرف هل هذا الموقع يتحرّك برضى الله في قياداته وفي مسؤوليّته وفي قاعدته، أم أنّه لا يتحرّك برضى الله؟ لأنَّ المسلم مسؤول عن أن يكون قوّة للإسلام {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة : 33] أي حتّى يكون الإسلام بكلّ مفاهيمه هو الغالب على الواقع كلّه، وعلى الدين كلّه.
فلا بدّ لك ـــ في أيّة حركة تتحرّكها ـــ من أن تعرف إن كان هذا التحرّك يحقّق غلبة للإسلام على غيره أو لا يحقّق ذلك. إنَّ عليك أن تواجه القضايا من خلال ما هي مصلحة الإسلام والمسلمين، وعندما نقول مصلحة الإسلام والمسلمين، لا نريد أن نجمّد المسألة في الدائرة الخاصّة، بل نعتبر أنّ ما يصلح الإسلام والمسلمين في كلّ منطقة هو الذي يصلح الناس جميعاً، لأنَّ ما يصلح الإسلام والمسلمين هو العدل، والعدل لا بدّ أن يكون لكلّ الناس، ولهذا ليس معنى ذلك أنّك تطلب العدل لنفسك ولإخوانك من المسلمين، لتحجبه عن غيرك من الناس، بل إنَّ الله يريد للعدل أن ينتشر في كلّ حياة الناس وللحقّ أن ينتشر في كلّ حياة الناس. لهذا إذا كان موقفك وموقعك يضعفان الإسلام فأنتَ مع المشركين والكافرين الذين يكرهون دين الحقّ وأمّا إذا كنت في موقع قوّة الإسلام فأنتَ مع هؤلاء. عليكم أن تقرؤوا القرآن قراءة واعية عميقة في هذا الموضوع، كما لا بدّ أن يكون لكم الوعي السياسي الذي تفهمون فيه طبيعة الأمور وتواجهونها من خلال المنطق الإسلامي، الذي يتحرّك في خطّ العدل وفي خطّ الحريّة.
المعادلة الدولية والرئيس القادم
إنَّ الناس اليوم يعيشون البلبلة والارتباك والأوضاع القلقة ويعيشون في دوّامة لا يعرفون كيفية الخروج منها. لقد قلنا منذ البداية، إنَّ الذين صنعوا المأساة للإنسان في لبنان والذين صنعوا الفتنة في لبنان، أرادوا لهذا الإنسان، بعد أن خاض بحوراً من الدماء وبعد أنْ عاش الكثير من أوضاع التدمير وبعدما اندفع في كثير من حالات الضياع، أن يخدعوه مجدداً. إذ عندما بدأ يفكّر ماذا بعد الفتنة؟ هل بعد الفتنة نظام يقوم على أساس العدالة والحريّة وعلى أساس لا يمكن أن تحدث فيه فتنة، إلاّ في ظروف غير عادية، لكي نأمن على مستقبل أولادنا أن يعيشوا في واقع، لا مجال فيه للحروب المتحرّكة على مستوى طائفي أو مذهبي أو حزبي؟ وعندما طالب هذا الإنسان كلّ الواقع السياسي بأن يكون هناك وضوح في المسألة، حتّى يعرف الناس إلى أين يتّجهون، ماذا حدث؟ الذي حدث أنَّ الدوّامة السياسية الدولية والإقليمية والمحليّة ضخَّمت لهذا الإنسان مسألة ما يسمّونه الاستحقاق الدستوري وجعلته يتوهَّم أنّه إذا لم يحدث هذا الاستحقاق فسيسقط البلد وسيكون الانهيار، لهذا أيُّها الناس "الحقوا حالكم" تخلُّوا عن كلّ مطالبكم وعن كلّ قضاياكم وطالبوا بأن لا يكون هناك فراغ دستوري، لأنَّ الاستحقاق الدستوري في كلّ شيء في هذا البلد. ولكن أين الاستحقاق المصيري؟ نحن بلد يتحرّك في خطّ مهتزّ من جميع الجهات، حتّى بتنا لا نعرف ما مصير هذا البلد، ما موقعه السياسي من الخطوط السياسية الدولية الموجودة في المنطقة، ما مستقبله في المشكلة مع "إسرائيل"، هل تبقى لــ "إسرائيل" قوّتها في هذا البلد وتزيد أم لا؟ ما الصورة التي يكون فيها هذا البلد بلداً يمكن أن يشعر أبناؤه كلّهم أنّه لهم جميعاً، فلا يحاول فريق أن يبتزّ الفريق الآخر باسم الإخلاص للبنان كما يقولون أو أن يعمل على أساس أن يعطي للآخرين صفة الأجانب وله صفة المواطنية.. ما هي الصورة؟ قالوا لا تتحدّثوا بذلك، لماذا؟ لأنَّ لبنان لا يراد له أن يحصل على وضع سياسيّ مستقرّ يخدم أهله، بل يراد للبنان أن يتحرّك في ساحة سياسية تخدم الذين صنعوا الفتنة اللبنانية ويراد له أن تتحرّك أوضاعه السياسية وقياداته السياسية من خلال ذهنية سياسية، تعتبر أنّ الوحي الدولي(1) هو القضاء والقدر وذلك حتّى يتمّ انتخاب رئيس جمهورية، يجعل لبنان تحت رحمة المعادلات الدولية التي قد تتقاطع مع بعض المعادلات الإقليمية. يريدون رئيساً يوقّع في الغرفة السوداء أو البيضاء وبعد أن يوقِّع ويأخذ الخطوط الكبرى للسياسة الأميركية أو غير الأميركية، عند ذلك يقال للنوّاب صوِّتوا له وعند ذلك يقال إنّه المرشّح الإجماعي.
إنَّ المسألة هي أنّ الذهنية اللبنانية أصبحت ذهنية محكومة للعقلية السياسية الاستعمارية في هذا المجال.
المرشّح التوافقي
إنَّ الطبخة أُريدَ لها من الأساس أن تكون طبخة لا تنضج، لأنَّ الطبخة الحقيقيّة تتوقّف على أن يثور الجدل في الطبخة غير الناضجة، لأنَّ الطبخة كانت تحتاج إلى بهارات أميركية وبهارات أوروبية وما إلى ذلك من البهارات كي تكون مقبولة. لماذا ينطلق الحديث الآن عمّا قاله المندوب الأميركي، وما تعليق أميركا؟ إنَّ أميركا تقول: ليس لنا مرشّح ولكنّنا ضدّ المرشح التصادمي ومع المرشّح التوافقي، لكن ما معنى المرشّح التوافقي؟ هل هو الذي يتّفق عليه الجميع، والجميع على الفرد مختلفون؟ هذا له خطّ سياسي مع "إسرائيل" وذاك له خطّ سياسي ضدّها وذاك له خطّ بين ـــ بين. إذاً معنى ذلك أنّه يكون بلا لون ولا طعم ولا رائحة ومعنى ذلك أنّ الذي لا لون له ولا طعم له ولا رائحة، يمكن أن تأتي إليه ببعض البهارات من هذا الجانب، حتّى يأخذ بعض الرائحة ويمكن أن تأخذ له بعض الألوان من هنا وهناك، حتّى يصير له لون ويمكن أن تعطيه بعض العناصر المعيّنة، حتّى يكون له طعم. معنى ذلك أنّ أميركا تريد ما تريده "إسرائيل"؛ أن يكون رئيساً يمشي على أساس أنّ الجميع يصفّقون له من باب أنّه حلّ للمأزق. وعندما يجلس ويبحث عن القوّة تأتي القوّة الأميركية، لتقول له: أمامك الترتيبات الأمنية مع "إسرائيل" وأمامك الصلح مع "إسرائيل" وأمامك الوقوف سياسياً ضدّ كلّ الذين يعارضون السياسة الأميركية. لا تتعرَّض للمليشيا والجماعة التي تتعاون مع "إسرائيل" ولكن حاول أن تعمل نوعاً من الإخراج لموقعك منها. حاول أن تكون قويّاً مع كلّ هؤلاء الذين يعارضون السياسة الأميركية والسياسة الإسرائيلية، حاربهم باسم التطرّف وحاربهم باسم الإرهاب وأَلِّب الناس عليهم بحجّة أنّهم يريدون أن "يخربطوا" حياة الناس، ولاسيّما المستضعفين الذين لا يملكون عمقاً في الرؤية السياسية، لتكون السياسة الأميركية والإسرائيلية هي سياسة هذا الرئيس، وإذا أعطيت بعض الضمانات أو الامتيازات لبعض المواقع الإقليمية فإنّها تعطى على أساس ما تريده السياسة الأميركية، هذا ما تريده أميركا في المنطقة، والجميع ينتظرون أميركا، فأين الاستقلال وأين الحريّة، أين العزّة والكرامة؟ سؤال يبحث عن جواب، واللبنانيون لا يطيقون الجواب عن الأسئلة المحرجة، فإذا واجههم سؤال محرج وإذا واجهتهم الحقيقة المحرجة ولم يستطيعوا أن يقدِّموا جواباً، فالرصاص أمامك والاتّهامات أمامك والشتائم أمامك هي الجواب حيث لا جواب.
نربك الأعداء ولا نستسلم
إنّنا نواجه الكثير في تصدّينا لمختلف القضايا. لهذا نحن مسؤولون عن أنفسنا وعن مستقبل أولادنا وعن مصيرنا وعن كلّ حريّتنا وعن موقعنا من الله سبحانه وتعالى. لهذا فإنّكم مع الحسين تسمعون كلمته "لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أُقِرّ لكم إقرارَ العبيد"(1) فهل تعطون بيدكم إعطاء الذليل عندما تريد ذلك "إسرائيل" وعملاؤها؟ وهل تقرّون إقرار العبيد عندما تريد منكم أميركا ذلك؟ مَن يعبد الله لا يمكن أن يفعل ذلك ومَن يتبع رسول الله لا يمكن أن يفعل ذلك. إذا لم نستطع أن نغيِّر الواقع فعلينا على الأقلّ أن نعمل من أجل إرباك الخطط التي تريد أن تفرض علينا ما لا نريده؛ علينا أن نتابع السير، حتّى لا يشرّع لنا الآخرون ظلمنا وأن لا يشرّع الآخرون لنا ذلّنا وأن لا يشرّع الآخرون لنا عبوديّتنا، لأنَّ المجتمع الذي يسترخي أمام قوّة الأقوياء هو مجتمع سوف تسحقه أقدام الأقوياء.
لهذا، فكِّروا بوعي ودقِّقوا جيّداً في الساحة. لا تأخذوا العناوين، لكن انظروا ماذا تحت العناوين. لا تنخدعوا بالأشخاص ولكن تعرَّفوا كيف هي مواقع الأشخاص ومواقفهم؟ لا يكفي أن يكون عندنا تاريخ مشرق يرتبط به واقع حاضر، بل انظروا هل يتحرَّك هذا الواقع الحاضر في خطّ ذلك التاريخ أم ينحرف عنه؟ قد يكون للسذاجة والبساطة والطيبة بعض الإيجابيات، ولكنّها في الخطّ السياسي لا تملك أيّة إيجابية، بل تملك كلّ السلبيات. "إنَّ المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرّتين"(1) وقد لدغنا من كثير من المواقع أكثر من مرّة فعلينا أن نعرف طبيعة ما هناك من عقارب، وطبيعة ما هناك من جحور تختبئ فيها العقارب، وطبيعة ما هناك من غطاء يمكن أن يحجب عنّا بعض الحيّات والعقارب؟ حاولوا أن تدقِّقوا في كلّ الواقع فقد يفرض علينا الواقع أُناساً ليسوا في مستوى المسؤولية، لكنّهم يتحرّكون بفعل الظروف القلقة في حياتنا من موقع المسؤولية.
نمنع الفتنة حين نواجهها
لقد جرَّبتم الفتنة وجرّبتم مشاكلها وآلامها وسلبياتها، لا تكونوا وقوداً للفتنة، لكن افهموا أنّ منع الفتنة ليس في أن تسكت عن الجريمة، حتّى لا يثير الآخرون الفتنة ولكن أن تصرخ لتحتجَّ على الجريمة، لأنَّ الجريمة عندما تمتد في أيدي أصحابها فإنَّ معنى ذلك أن تفسح لأكثر من فتنة في المستقبل. لهذا فلنمنع الجريمة بالاحتجاج عليها وبالمطالبة بالكشف عن المجرمين، حتّى نستطيع أن نشعر بوضع مستقرّ وبأمن مستقرّ. ولهذا أُريدكم أن لا تنسوا جريمة اغتيال هذا العالِم الطيّب المجاهد الشيخ علي كريّم(2) الذي قتل من دون أيّ ذنب حتّى الذنب الشكلي، الذي قيل فيه إنّه تجاوز الحاجز. إنّني أحبّ أن أقول لكلّ الناس: لقد دقَّقت في هذه المسألة تدقيقاً شرعياً وقد استمعت إلى الشهود العيان وأثرت أكثر من سؤال وأكثر من علامة استفهام، لكن النتيجة هي أنّ هذا الرجل قُتِلَ عمداً وظلماً وعدواناً من دون أن ينطق بكلمة ومن دون أن يعترض على شيء. هذا أمر يجب أن يُفْهَم جيّداً. وحتّى نكون على وضوح كامل من الأمر نقول: إنّ بيت هذا الرجل يقع في بئر السلاسل وقد ذهب إلى خربة سلم، حتّى يقرأ الفاتحة في اليوم الثالث لأخيه. لو فرضنا أنّه تجاوز الحاجز فإلى أين سيذهب؟ إنّه سيعود إلى بيته في بئر السلاسل ومن السهولة اعتقاله كما جرى لكثير من العلماء. وفي حال لم يرجع فإنَّ بالمستطاع الذهاب إلى خربة سلم، والحواجز على طول الطرقات فإلى أين سيهرب، لماذا يُقتَل وهو شيخ؟ إنّنا لا نستطيع إلاّ أن نطلب من الناس كلّهم أن يرفعوا أصواتهم، نحن لا نريد إلاّ أن يطبَّق الحكم الشرعي بشكلٍ فاعل وسريع، حتّى لا نقع في حكايات الخطأ والتجاوزات فنقتل في كلّ يوم عالِماً بحجّة أنّه تجاوز الحاجز وبحجّة أنّه خطأ فردي، وبحجّة أنّه قضاء وقدر.
ليس من عادتي أنْ أُعَلِّق على هذه الأمور بهذه الصراحة. وكنتُ أعلم أنّ البعض سيتكلَّم بطريقة السباب والشتائم ولكنّي أشعر بخطورة هذه المسألة وأخشى أن تكرّ السبحة ويبقى الناس صامتين ويبقى الإعلام يتحدّث عن العذر هنا والخطأ هناك، ونظلّ نفقد الطيّبين على أساس الأخطاء وعلى أساس القضاء والقدر. نحن لا نريد أن نسجِّل نقطة على جهة باسم تسجيل نقاط، فليس من عادتنا ذلك، لكنّنا نريد للنّاس أن يرفعوا أصواتهم عالياً، حتّى لا تكرّر أمثال هذه القضايا من دون أن تجد حساباً ومن دون أن تجد عقاباً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
الموقف الحسيني في عاشوراء(*)
من الآيات التي كان يردِّدها الإمام الحسين (عليه السلام)(1) في يوم عاشوراء، كلَّما استقبل صحابياً من أصحابه أو فرداً من أهل بيته وهو يستأذنه للقتال، كان يتمثّل بهذه الآية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23] وكأنّه كان يريد أن يوازن بين هؤلاء الذين ثبتوا معه وبين أولئك الذين حاربوه، فأولئك الذين حاربوه كانوا قد عاهدوه من خلال رؤسائهم ومن خلال وجهائهم ومن خلال الأفراد الذين بايعوا مسلماً في الكوفة باسمه، عاهدوه على أن ينصروه وأن يواجهوا الحكم الظالم معه، وأن يكونوا الجنود المجنّدة في موقفه من ذلك الحاكم الظالم، ولكن عندما خوَّفهم الطغاة وأغروهم وعندما استيقظت نقاط ضعفهم في داخلهم، عند ذلك نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وانطلقوا يقطعون ما أمَرَ الله به أن يوصل وانطلقوا في خطّ الفساد في الأرض، فانطبقت عليهم الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد : 25].
أصحاب الحسين والوفاء بالعهد
إنَّ الله سبحانه وتعالى جعل العهد في كلّ موقع يعاهد فيه إنسان إنساناً، سواء كان عهداً بين القيادة والناس أو كان عهداً بين الناس أنفسهم أو بين القادة أنفسهم، فإنَّ هذا العهد يمثّل عهد الله، لأنَّ الله أمَرَ بأن يفي الناس بعهودهم وذلك في قوله تعالى: {... وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 34] وهكذا أعطى هؤلاء العهد من أنفسهم أمام الله، على أساس أنْ ينصروا الإمام الحسين (عليه السلام) وأعطوا من أنفسهم الالتزام بأن يصلوا الذين أمَرَ الله بأن يوصلوا وهم أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهَّرهم تطهيراً.
لقد كان الحسين (عليه السلام) البقيّة الباقية من أهل البيت (عليهم السلام)، لكنّ أولئك قطعوا ما أمَرَ الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض، باعتبار أنّ كلّ فئة تُسانِد ظالِماً وتُقاتِل معه وتنضم إليه؛ فإنَّ من الطبيعي أن تكون من المفسدين في الأرض، لأنَّ حكم الظالم يمثّل حكم الفساد في الأرض، وأوضاع الظالم تمثّل أوضاع الفساد في الأرض، وهكذا لأنَّ الحسين (عليه السلام) أراد أن يقول: أيُّها الناس وازِنوا الموقف بين المعسكرين، بين المعسكر الذي انضمّ إلى الإمام الحسين (عليه السلام) والمعسكر الآخر.
إنَّ أصحاب الحسين (عليه السلام) هم من الذين تحدَّث الله عنهم {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ*الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ*وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد: 19 ـــ 21] وأراد الحسين (عليه السلام) أن يركِّز في هؤلاء أمام الناس هذه القيمة الإسلامية، وهي أنّهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وعندما جاءتهم المشاكل، وأراد منهم الآخرون أن يغيِّروا أو يبدِّلوا، رفضوا أن يبدِّلوا وأصرّوا على أن يبقوا مع الحسين (عليه السلام)، حتّى في الموقف الذي وقَفَ فيه الحسين (عليه السلام) ليحلّهم من بيعته قائلاً: "إنَّ هذا اللّيل قد غَشِيَكُم فاتّخذوه جَمَلا(1) وأنتم في حلٍّ من بيعتي"(2)، ولكنّهم لم يغيِّروا ولم يبدّلوا بل قالوا: لا نتخلَّى عنك يا بنَ رسول الله، حتّى لو قُتِلْنا وقُطِّعْنا وأُحْرِقْنا، لأنّنا ننطلق في الوقت معك والالتزام بخطّك، من خلال أنّك وليّ الله وابن وليّه ومن خلال أنّك إمام هذا الدين وقائد المسلمين.
قالوا له يا بن رسول الله لقد التزمنا بالإسلام، قالوا له ذلك بموقفهم وإنْ لم يقولوا له بكلامهم. قالوا له يا بن رسول الله لقد التزمنا بالإسلام بكلّ أحكامه ومفاهيمه والتزمنا بقيادتك على أساس أنّها القيادة الإسلامية التي ركَّزها رسول الله، عندما قال: "حسين منّي وأنا من حسين"(3) وعندما قال: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة"(4) "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"(5) فالتزمنا قيادتك لأنَّ رسول الله أراد لنا أن نلتزم قيادتك في إمامتك، وعندما صرخت بهذا الصوت: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالِماً ولا مفسداً وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّةِ جدّي"(6) لما صرخت بهذا الصوت وحدَّدت موقفك وطبيعة ثورتك وحركتك، بأنّها تهدف إلى إصلاح ما أفسده الظالمون والمنحرفون من الواقع الإسلامي، سرنا معك، لأنَّ الله أراد منّا أن نصلح. يا حسين، لستَ وحدك المسؤول. إنَّنا مسؤولون في أن ننطلق معك، لنصلح ولنقوّيَ حركة الإصلاح، بما تقوّي به حركتك وموقف الإصلاح، بما تثبّت به موقفك لأنَّ كلّ مؤمن وكلّ مسلم مسؤول عن أن يطلب الإصلاح في أُمّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لأنَّ رسول الله قال للأُمّة كلّها "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته"(7).
الإصلاح مسؤولية الجميع
إنّ كلّ واحدٍ منكم مسؤول بحسب حجمه وبحسب دوره وإمكاناته، عن أن يصلح ما أمكنه من الإصلاح، سواء كنت ممّن يجب عليك أن تصلح بيتك أو تصلح جيرانك أو أقرباءك أو الناس من حولك. إنَّ الإصلاح في أُمّة رسول الله هو مسؤولية لكلّ فرد من أفراد هذه الأُمّة كلٌّ بحسب دوره، وإمكاناته في كلّ المجالات التي يتحرّك فيها. وهكذا قالوا له يا بن رسول الله لقد قلتَ "أُريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"(1)، لأنّك رأيتَ المعروف في ما يتمثّل في طاعة الله في كلّ قضايا الإنسان والحياة، ورأيت أنّ المعروف يُترَك وأنّ الناس يتركون طاعة الله في عبادتهم وفي معاملاتهم وفي حربهم وفي سلمهم وفي كلّ علاقاتهم ورأيتَ المنكر، والمنكر هو كلّ شيء حرَّمه الله وكلّ شيء أنكر الله أن يفعل، ورأيتَ الناس يتحرّكون بالمنكر فيرتكبون المحرَّمات ويلتزمون الظالمين ويقفون من أجل أن يدعموا المنحرفين ولا يرفعون في وجههم صوتاً. وعندما أصبح المعروف متروكاً والمنكر يعمل به الناس، عند ذلك قلت: أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. وكنّا يا بن رسول الله معك، لأنَّ الله حمَّل كلّ مسلم أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، ولأنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حذَّر المسلمين من أنّهم إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسوف يقعون في مصائب كثيرة وفي بلايا عديدة، وقال في ما قال "لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليُسلطن الله شرارَكم على خياركم فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم"(2).
الله أَوْلى بالحقّ
لقد وجَّه رسول الله الأمر إلينا جميعاً، ولهذا فنحن مأمورون بأنْ نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر ـــ كما أنتَ يا بن رسول الله مأمور بذلك ـــ مأمورون بأن ندعم الذين يأمرون بالمعروف، إذا كانوا في موقع القيادة أو المسؤولية. أنْ نثور معهم على الظلم إذا ثاروا عليه، وأن نكون معهم في خطّ العدل إذا كانوا معه، وقد قلت "فَمَنْ قَبِلَني بقبول الحقّ فالله أوْلى بالحقّ"(1)، لقد قلتَ للناس وقليلاً ـــ يا بن رسول الله ـــ أن يقول القادة للنّاس ما قلته لهم، إنَّ كثيراً من القيادات تقول للنّاس اقبلوني لشخصي واقبلوني لعبقريتي واقبلوني لمركزي، ولكنّك وحدك يا بن رسول الله في خطّ الرسول وفي خطّ أبيك وفي خطّ كلّ الصالحين، قلت "فمن قبلني بقبول الحق" لم ترد لهم أن يقبلوك لشخصك. إنّك قلت للنّاس أيُّها الناس اقبلوا الحقّ، فإذا قبلتم الحقّ ورأيتم أنّي على الحقّ فاقبلوني، وإذا قبلتموني باسم الحقّ فلن يكون لكم جميل عليّ، إنّما أنتم تقبلون الحقّ الذي هو أمر الله سبحانه وتعالى وهو صفة الله "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ"، الله هو الذي يجازي مَن يقبل الحقّ. قالها الحسين (عليه السلام)، كقيادة تريد لهم أن لا يلتزموا بشخصها ولكنّها تريد لهم أن يلتزموا من خلال موقع الحقّ في شخصيّتها وفي واقعها. لقد قلت ذلك يا بن رسول الله ونحن معك في ذلك قبلناك... قالها أصحاب أبي عبد الله لأبي عبد الله (عليه السلام)، قالوها بموقفهم وإنْ لم يقولوها بلسانهم، قالوا له يا بن رسول الله لقد قبلنا بالحقّ ولقد رأيناك إمام الحقّ، ولهذا فسنقبلك لأنَّ الحقّ يتجسَّد فيك، وسنقبلك لأنَّ القيادة تتجسَّد فيك، وسنقبلك لأنَّ رضاك رضى الله، ولأنَّ سخطك سخط الله، ولأنّك لا تنحرف عن طريق الله كما لم ينحرف عن ذلك أبوك وأخوك وجدَّك (عليه السلام) عندما انطلق الحقّ، ليكون عنوان شخصيّتكم وعنوان دعوتكم وحركتكم.
هذا ما قالوه له، وبعد أن قالوا ثبتوا على القول، عندما جاءتهم كلّ التهاويل وعندما تجمَّعت العساكر الكثيرة في وضع غير متكافئ، لأنّ أقلّ إحصاء لجماعة الحسين (عليه السلام) كان سبعين رجلاً، وأكثر إحصاء كان ثلاثمئة رجل ونيّف، بينما جماعة ابن زياد يتراوح عددها ما بين أربعة آلاف، حسب ما قدَّره البعض، وثلاثين ألفاً حسب تقديرات أخرى.
لم يكن هناك أيّ نوع من أنواع التوازن بين هذه الفئة القليلة وبين تلك الفئة الكبيرة، ووقف أولئك يستعرضون قوّتهم وينطلقون بمختلف الأساليب، ليهزُّوا القوّة التي يعيشها هؤلاء المؤمنون السائرون مع الحسين (عليه السلام)، ولكنّهم لم يفلحوا في أن يسقطوا أحداً. بقيت هذه القلّة ثابتة في مواقعها وبدأت تتحرّك في الخطّ الإسلامي الذي انفتح على الله، فانفتح على الحسين من خلال الله، والذي انفتح على شريعة الله، فانفتح على الثورة في خطّ شريعة الله. وهكذا وقفوا وكانوا يستأذنون الحسين (عليه السلام) في القتال، وكان الحسين يستقبل كلّ واحدٍ منهم بهذه الآية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} صدقوا بالكلمة، وصدقوا بالموقف {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} ويشير إلى الذين استشهدوا معه {وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} ويشير إلى الذين يتحرّكون في خطّ الشهادة {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23] وتلك هي قصّة الثائرين المجاهدين مع الحسين (عليه السلام).
نتمسَّك بالإسلام ولا يأسرنا الواقع
في هذا الجوّ، علينا أن نفكّر ونحن في موسم عاشوراء، هل هناك عهد بيننا وبين الله أم ليس هناك عهد؟ هل هناك عهد بيننا وبين الحسين (عليه السلام) عبر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أم ليس هناك عهد؟ عندما ندرس المسألة كمسلمين، وإنّي دائماً أذكّركم بهذه الصفة، انتبهوا دائماً إلى صفتكم الإسلامية قبل أن تنتبهوا إلى صفتكم العائلية أو الإقليمية أو القومية أو غير ذلك من الصفات الطارئة، لأنَّ صفتكم الإسلامية هي التي تحدِّد لكم مواقعكم الوطنية والإقليمية والقومية، لتقول لكم أين تقفون في هذه الدائرة أو تلك، وأين تبتعدون عن هذه الدائرة أو تلك. لا تأخذوا صفتكم الأخرى الوطنية والإقليمية والقومية، لا تأخذوا هذه الصفات، لتحدِّدوا من خلالها صفتكم الإسلامية، كما يفعل بعض الناس عندما يريد أن يقول أنا لبناني. فإذا كنت لبنانياً فعليَّ أنْ أُلاحظ مصلحة لبنانيتي في حركة إسلامي، فلا أحاول أن أزعج الواقع اللبناني بالإسلام، فإذا جاء الإسلام ليزعج بعض الواقع اللبناني، قلت للإسلام تأخَّر ولتتقدّم اللبنانية. وهذا هو الذي يمارسه الكثيرون ممّن يملكون صفات دينية رسمية وممّن يملكون صفات سياسية أو اجتماعية. إنّهم يقولون لك: إنّنا في لبنان فكيف تتحدّثون عن الإسلام في لبنان؟ إنَّ الإسلام لا يوافق الصيغة اللبنانية، كأنَّ المسألة هي أنّ على الإسلام أن يتعامل في كلّ بلد من خلال طبيعة الخطوط الحمر، التي يفرض عليه البلد أن يتعامل معها. ولو كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) موجوداً في هذه الأيام، لقال له الكثيرون من الناس: إنَّ عليك أن تلاحظ صفتك المكيّة أو الحجازيّة في حركة الإسلام، حتّى لا تزعج هذه الصفة. كذلك يفكِّر آخرون بأنَّ صفتنا القومية هي التي تحدِّد لنا صفتنا الإسلامية وموقفنا الإسلامي. نحن عرب فإذا كنّا عَرَباً واصطدم العرب مع غير العرب، فعلينا أن نكون مع العرب حتّى لو كانوا ظالمين، وضدّ غير العرب حتّى لو كانوا مسلمين مظلومين، لأنَّ المسألة أنّ القومية تتقدَّم على الإسلام. ولكنَّ هذه رموز قد تتحرّك معكم في الدنيا، أمّا في يوم القيامة {... فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون : 101].
في يوم القيامة تسأل عن موقفك من ربّك ومن رسوله ومن كتابه ومن شريعته. إذاً لا تغفلوا عن صفتكم الإسلامية وحاولوا أن تحدِّدوا حركة صفاتكم الأخرى من خلال الإسلام. على هذا الأساس أنتَ عندما صرت مسلماً وقلت: أشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، فقد التزمت بعهد الله، لأنَّ معنى أشهد أن لا إله إلاّ الله هو الالتزام بوحدانية الله في الألوهية، لا الالتزام بغيره، وعندما تقول أشهدُ أنَّ محمّداً رسول الله فإنّك تقول لرسول الله: يا رسول الله إنّي ألتزمُ بكَ من خلال الرسالة التي حملتها من الله، لأنَّ طاعتك هي طاعة الله ولأنَّ الله قال لنا {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ...} [النساء : 80]، أنتَ وأنا والآخرون نلتزم بعهد مع الله أن نوحّده وأن لا نشرك به شيئاً. أن نوحّده في العقيدة فلا نعتقد بوجود إله غيره وأن نوحّده في العبادة فلا نطيع غيره في أيّ شيء، إلاّ في ما يتّفق مع طاعته.
وهكذا نحن ملتزمون برسول الله، لأنَّ الله أرادنا أن نطيع رسول الله في ما يأمرنا به.. إذاً نحن في عهد مع الله ومع رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي عهد مع الحسين، باعتبار أنّ الحسين (عليه السلام) سارَ في خطّ التزامنا بعهد الله ورسوله ولأنّنا في احتضاننا للحسين (عليه السلام) في كلّ سنة في مجالس عاشوراء، نعبّر عن التزام بخطّه وبثورته. هنا قد نحتاج أن نفكِّر أيّها الإخوة؛ هل صدقنا الله عهده أم نقضنا عهد الله؟ إنَّ الذين لا يلتزمون بالإسلام بل يلتزمون بغيره خطّاً للعقيدة وللشريعة وللحياة هم ممّن نقضوا عهد الله، لأنَّ الله أراد لنا أن نلتزم بشريعته، فالالتزام بأيّة شريعة أخرى هو مخالِف لالتزامنا ذلك؛ وهكذا فإنَّ الالتزام بقيادة لا تعبّر عن شريعة الله وأمره ومنهجه، هو التزام بغير عهد الله. وعندما نقطع ما أَمَرَ الله به أن يوصل فنسيء إلى الذين أراد الله لنا أن نحسن إليهم وأن نرحمهم وأن نعزِّزهم وأن نحترمهم، عندما نقطع ذلك فنكون ممّن يقطع ما أمَرَ الله به أن يوصل. وهكذا عندما نخذل العادلين ونلتزم الظالمين ونبرّر لهم ظلمهم ونهاجم العادلين في عدلهم، عندما نخذل الصادقين ونتبع الكاذبين، عندما نتحرّك في حياتنا على أساس أن نسكت عن الحقّ ونحن قادرون على أن نتكلَّم به، فنحن نخون عهد الله. لهذا إذا أردتم أن تعرفوا أنفسكم، هل أنتم من الصادقين في ما عاهدتم الله عليه؟ فراقبوا أنفسكم في عواطفكم. لمن تتّجه عواطفكم، هل تتّجه لمن يرضى الله عنهم، أم لمن يغضب الله عليهم؟ إذا أردتم أن تعرفوا أنفسكم هل أنتم من الصادقين بعهد الله أو من الناقضين لعهد الله؟ راقبوا أنفسكم في التزامكم بحلال الله وحرامه، فإنْ كنتم تلتزمون بحلال الله وحرامه فأنتم من الصادقين وإنْ كنتم لا تلتزمون به فأنتم من الناقضين لعهد الله في ذلك.
إنّنا عندما ننطلق في حركة الحياة من حولنا، في ما تنطلق به الحياة من المواقف الاجتماعية أو من المواقف السياسية، فعلينا أن نحدِّد مع مَن نكون؛ لأنَّ الذين يفسدون في الأرض والذين يقطعون ما أَمَرَ الله به أن يوصل والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، هؤلاء عندما نكون معهم أو عندما نبرّر لهم ذلك أو عندما نتعاطف معهم في ذلك، فمعنى سلوكنا أنّنا لسنا في خطّ عهد الله. هذا الوعي لمسألة أنّ بينك وبين الله عهداً، هو من الأمور التي لا بدّ لك من أن تعيشها في كلّ حياتك الخاصّة والعامّة وفي كلّ المجالات التي تتحرّك فيها. وقد قال الله سبحانه وتعالى لليهود، لبني "إسرائيل"، عندما أرادوا منه أن يعطيهم ما وعدهم به، قال لهم: {... وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة : 40] الحفاظ على المعاهدة أمر متبادل إذ ليس معقولاً أن ألتزم بعهدي معك، وأنتَ لا تلتزم، على أيّ أساس تكون هذه العلاقة.
عندما يكون بيننا وبين الله عهد، علينا أن نوفي بعهد الله ليفي الله لنا بعهده. لقد أعطانا الله العهد أن ندخل الجنّة إذا سرنا في الطريق الحقّ، فكيف يمكن أن نطلب الجنّة ونحن نلتزم الباطل؟ {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ*الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 19 ـــ 20] هؤلاء جزاؤهم مغفرة من ربّهم وجنّة عرضها السماوات والأرض.
نحصد الظلم لأنّنا نزرعه
أيُّها الإنسان، إذا كنتَ خائناً بعهد الله معك وكنت تقطع ما أمرَ الله به أن يوصَل وكنت تفسد في الأرض من خلال ما تملك من قوّة مالية أو سياسية أو سلطوية فإنَّ الله جعل لك اللعنة، وسوء الدار. إذاً معناه أنّ المسألة ليست مسألة تمنّيات، ولكنّها مسألة مواقف. والله عندما أرسل رسوله إنّما أرسله من أجل أن يغيِّر العالَم، ومن أجل أن يغيِّر الإنسان؛ وجعل لمن يتحرّك في هذا الخطّ، إذا غيَّر نفسه لمصلحة الحقّ أن يسير به الله في طريق رضوانه، وفي طريق نعمته. أمّا إذا غيَّرت نفسك إلى الباطل، فإنَّ الله سيسلبك نعمته، وهذا ما عبَّر الله عنه في كتابه الكريم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال : 53] فعندما تكون نيّات الناس طيّبة وخيّرة وصالحة، وقلوبهم منفتحة على قلوب بعض ويتحرّكون من خلال الحقّ والخير والعدل، حيث لا يفكّر أحد في الاعتداء على أحد، فإنَّ الله سبحانه وتعالى سوف يفيض عليهم النعمة.
أمّا إذا تبدَّلت أفكارهم وذهنيّاتهم باتجاه الباطل والظلم وغير ذلك، فإنَّ الله سيغيّر نعمته عندما يغيّرون. ولهذا الله يصرِّح {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم : 41] الله سبحانه وتعالى يقول لك: من الطبخة التي تطبخها أطعمك، أنتَ عندما تطبخ الباطل ستأكل نتائج الباطل وعندما تطبخ طبخة الظلم فإنّك ستأكل نتائج تلك الطبخة في نفسك بعد أن تطعمها لغيرك، ولهذا مَن حَفَرَ حفرةً لأخيه أوقعه الله فيها. لهذا جعل الله سبحانه وتعالى قَدَر الناس في حياتهم من خلال ما يركّزونه في دنياهم. يمكن أن يقول بعض الناس: ليس لنا علاقة بهؤلاء المسؤولين الذين يفسدون والحكّام الذين يظلمون، لكنَّ هؤلاء يحملون أوزار هذا الموقف؛ فأنتَ عندما ترى الظلم ولا تتكلَّم بل تجامل الظالم، ترى الباطل وتسكت عنه، ترى الحقّ مهدوراً ولا تتكلَّم في الدفاع عنه؛ بهذا السلوك تصبح شريكاً للظالم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ*كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ...} [المائدة: 78 ـــ 79] لا ينهى أحدهم أحداً عن المنكر، ففي السّاحة هناك أكثرية صامتة، الأكثرية الصامتة قد تؤاخذ بها الأقليّة الظالمة، لأنَّ تلك ظلمت وهذه سكتت، تلك طغت وهذه صفَّقت، تلك تحرّكت وهذه سكتت. وهذا ما يواجهه الناس في كلّ مكان، عندما ينتشر الظلم على جميع المستويات ويؤخذ حقّ الضعيف ولا تتحدّث الأُمّة عن ذلك.
حين تحدث هذه الأمور فإنَّ الله والحديث الشريف يقول: "لن تقدس أُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ"(1). إنّ بمستطاع الأُمّة ممارسة مسؤوليّتها ولكن هذا يسكت ويقول لصاحبه لا علاقة لك بالموضوع، وذاك يقول له لا تتعب رأسك، وهكذا يقف الظالم بدون عقاب، ويجلس المنحرف بدون أن يخشى نقداً، فينتشر الظلم من خلال سكوت الساكتين، كما ينتشر من خلال نطق الناطقين، لأنَّ هذا سكت فخذل، وذاك نطق فعاون، وكلاهما أعان الظلم في النتيجة.
لا بدّ لنا من أن نفهم القضية على هذا الأساس، ولهذا جاء الحديث الذي يقول "كما تكونون يُوَلَّى عليكم" فإذا كان المجتمع مليئاً بالناس الذين يكذب بعضهم على بعض. الزوج يكذب على زوجته، والزوجة تكذب على زوجها، والأب يكذب على أولاده، والأُم تكذب على أولادها، والجيران يكذب بعضهم على بعض، وهكذا يكذب السيّاسيّون على الناس وبعضهم على البعض.. فإذا كان الأمر كذلك فمن أين سيأتي الحاكم؟ الحاكم تربّى في مدرسة المجتمع. الحاكم تربّى في البيت الذي يتحرّك الأب والأم فيه فيكذبان ويعملان على أن يخونا في بعض الحالات وأن يسرقا وأن يعملا حسب الفرص المتاحة. أليس هناك مَن يذهب ليسرق ويأتي إلى البيت حاملاً ما سَرَق، ويعرف أبوه أنّه سرقة وتعرف الأم ذلك ويغضَّان النظر؟ وهكذا يأخذ الولد من أبيه وأُمّه غطاءً شرعياً بالسرقة؛ كذلك يتعاطى قادة الأحزاب والمنظّمات مع عناصرهم، حين يقتلون ويسرقون أو حين يخطفون ويفسدون في الأرض، حيث يؤمِّنون لهم الحماية... وفي نهاية المطاف يسود شعور عام في المجتمع مفاده أنّ المجرم يكافأ وتتوفّر له الحماية والملجأ. وتصبح هذه المفاسد من الظواهر العامّة التي لا تلقى استنكاراً من أحد. ومن هؤلاء سينطلق حكَّام البلد، سينطلق الوزراء والرؤساء والمسؤولون على سائر المستويات منهم. فإذا كان المجتمع كاذباً فلا بدّ من أن يكون الذين يتخرّجون منه كاذبين. الله لا يأتي لنا بجماعة من المرّيخ ليحكمونا، فالله وضع للكون قوانين معيّنة ومن خلال هذه القوانين القائمة على أنّ لكلّ شيءٍ سبباً ولكلّ مقدّمة نتائج، تسير حركة المجتمع طبقاً لهذه القوانين.
إنَّ الله يقول إنّكم تأكلون ممّا تطبخون، إذا طبختم المشكلة فلن تأكلوا الحلّ؛ وإذا طبختم البلاء فلن تأكلوا العافية: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل : 112] لهذا نحتاج إلى أن نكون الصادقين بعهد الله، عندما نكون الصادقين مع أنفسنا والصادقين مع الناس من حولنا والصادقين مع ربّنا.
العالِم ومواجهة الانحرافات
وفي آيةٍ أخرى يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159] ويحمِّل الله المسؤولية لكلّ إنسان يملك علماً، سواء كان عالِماً معمَّماً أو غير معمّم، لأنَّ العلم ليس بالعمامة. قد تكون العمامة على رأس يملك علماً وقد تكون على رأس فارغ من العلم. المهمّ من يعلم، من يكون عنده علم وفكر ومعرفة بالشريعة. وفي الحديث إذا ظهرت البدع، التي تعني كلّ الانحرافات الفكرية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية "إذا ظهرت البِدَع فعلى العالِم أن يُظهِرَ علمه"، لا يستطيع أن يقول أنا لا أملك الوقت للتعليم والتبليغ. إنَّ عليه أن ينطلق، ليبثّ علمه في الناس حتّى لو شُتم، عليه أن يقول كلمة الحقّ للناس حتّى لو رجمه الناس بالحجارة وشوَّهوا صورته وموقفه، لأنّك عندما تحارب البِدَع وتحارِب المبدعين والمنحرفين، فلا بدّ أن يهاجموك.
ولهذا لا بدّ للإنسان الرسالي ـــ في أيّ موقع كان ـــ دائماً أن يكون ذا "جلد سميك" أي لا يتأثّر بالسبّ والشتائم، بل أن يكون صاحب إرادة صلبة لا يؤثّر فيها شيء.. "إذا ظهرت البدع في أُمّتي فليظهر العالِم علمه وإلاّ فعليه لعنةُ الله"(1) والنبيّ استفاد من الآية القرآنية التي تقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159] هناك بعض الناس يحاولون أن يحرِّفوا الكلام عن مواضعه، يتكلَّمون في الدين ولكن بطريقة منحرفة، كما هي حال اليهود الذين قال الله عنهم {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران : 77] يعني يبيعون ما يحملون من كتاب الله ويبيعون ما يحملون من ثقافة، يبيعونها لأُناس معنيين حتّى يوظِّفوها لخدمة أهوائهم وانحرافاتهم. هؤلاء يبيعون أنفسهم للظالم، يبيعون أنفسهم للمنحرف، ويبيعون أنفسهم للسلطة الغاشمة، {أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران : 77].
نطلب العدل لكلّ الناس
لا بدّ لنا إذا أردنا أن نصدق الله عهده، من أن نكون مثل أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الذين صدقوا العهد معه ولم يبدِّلوا تبديلاً وأن نكون مثل أصحاب الحسين (عليه السلام) الذين صدقوا العهد مع الله ولم يبدِّلوا تبديلا. فذلك هو وحده جواز الدخول إلى الجنّة، إذا كنّا نريد أن ندخل الجنّة، فثمن الجنّة أن تبيع نفسك لله {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ...} [التوبة : 111] الله يشتري أموالنا وأنفسنا، وعلى هذا الأساس لا ينفصل الشأن الاجتماعي عن الشأن السياسي، فكما المطلوب منك أن تكون مع الصادقين في الحياة الاجتماعية، فلا تميل إلى عائلتك ولا إلى عشيرتك ولا إلى أيّ محور من المحاور التي تتّصل بحياتك الخاصّة، بل عليك أن تكون مع الله؛ كذلك في الشأن السياسي لا بدّ لك أن تواجه الموقف على أساس أنَّ انتماءك لأي موقع من المواقع لا بدّ من أن ينطلق من دراسة ما هي مصلحة الإسلام في هذا الانتماء، وما هي مصلحة الكفر في ذلك؟ لا بدّ من أن تعرف هل هذا الموقع يتحرّك برضى الله في قياداته وفي مسؤوليّته وفي قاعدته، أم أنّه لا يتحرّك برضى الله؟ لأنَّ المسلم مسؤول عن أن يكون قوّة للإسلام {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة : 33] أي حتّى يكون الإسلام بكلّ مفاهيمه هو الغالب على الواقع كلّه، وعلى الدين كلّه.
فلا بدّ لك ـــ في أيّة حركة تتحرّكها ـــ من أن تعرف إن كان هذا التحرّك يحقّق غلبة للإسلام على غيره أو لا يحقّق ذلك. إنَّ عليك أن تواجه القضايا من خلال ما هي مصلحة الإسلام والمسلمين، وعندما نقول مصلحة الإسلام والمسلمين، لا نريد أن نجمّد المسألة في الدائرة الخاصّة، بل نعتبر أنّ ما يصلح الإسلام والمسلمين في كلّ منطقة هو الذي يصلح الناس جميعاً، لأنَّ ما يصلح الإسلام والمسلمين هو العدل، والعدل لا بدّ أن يكون لكلّ الناس، ولهذا ليس معنى ذلك أنّك تطلب العدل لنفسك ولإخوانك من المسلمين، لتحجبه عن غيرك من الناس، بل إنَّ الله يريد للعدل أن ينتشر في كلّ حياة الناس وللحقّ أن ينتشر في كلّ حياة الناس. لهذا إذا كان موقفك وموقعك يضعفان الإسلام فأنتَ مع المشركين والكافرين الذين يكرهون دين الحقّ وأمّا إذا كنت في موقع قوّة الإسلام فأنتَ مع هؤلاء. عليكم أن تقرؤوا القرآن قراءة واعية عميقة في هذا الموضوع، كما لا بدّ أن يكون لكم الوعي السياسي الذي تفهمون فيه طبيعة الأمور وتواجهونها من خلال المنطق الإسلامي، الذي يتحرّك في خطّ العدل وفي خطّ الحريّة.
المعادلة الدولية والرئيس القادم
إنَّ الناس اليوم يعيشون البلبلة والارتباك والأوضاع القلقة ويعيشون في دوّامة لا يعرفون كيفية الخروج منها. لقد قلنا منذ البداية، إنَّ الذين صنعوا المأساة للإنسان في لبنان والذين صنعوا الفتنة في لبنان، أرادوا لهذا الإنسان، بعد أن خاض بحوراً من الدماء وبعد أنْ عاش الكثير من أوضاع التدمير وبعدما اندفع في كثير من حالات الضياع، أن يخدعوه مجدداً. إذ عندما بدأ يفكّر ماذا بعد الفتنة؟ هل بعد الفتنة نظام يقوم على أساس العدالة والحريّة وعلى أساس لا يمكن أن تحدث فيه فتنة، إلاّ في ظروف غير عادية، لكي نأمن على مستقبل أولادنا أن يعيشوا في واقع، لا مجال فيه للحروب المتحرّكة على مستوى طائفي أو مذهبي أو حزبي؟ وعندما طالب هذا الإنسان كلّ الواقع السياسي بأن يكون هناك وضوح في المسألة، حتّى يعرف الناس إلى أين يتّجهون، ماذا حدث؟ الذي حدث أنَّ الدوّامة السياسية الدولية والإقليمية والمحليّة ضخَّمت لهذا الإنسان مسألة ما يسمّونه الاستحقاق الدستوري وجعلته يتوهَّم أنّه إذا لم يحدث هذا الاستحقاق فسيسقط البلد وسيكون الانهيار، لهذا أيُّها الناس "الحقوا حالكم" تخلُّوا عن كلّ مطالبكم وعن كلّ قضاياكم وطالبوا بأن لا يكون هناك فراغ دستوري، لأنَّ الاستحقاق الدستوري في كلّ شيء في هذا البلد. ولكن أين الاستحقاق المصيري؟ نحن بلد يتحرّك في خطّ مهتزّ من جميع الجهات، حتّى بتنا لا نعرف ما مصير هذا البلد، ما موقعه السياسي من الخطوط السياسية الدولية الموجودة في المنطقة، ما مستقبله في المشكلة مع "إسرائيل"، هل تبقى لــ "إسرائيل" قوّتها في هذا البلد وتزيد أم لا؟ ما الصورة التي يكون فيها هذا البلد بلداً يمكن أن يشعر أبناؤه كلّهم أنّه لهم جميعاً، فلا يحاول فريق أن يبتزّ الفريق الآخر باسم الإخلاص للبنان كما يقولون أو أن يعمل على أساس أن يعطي للآخرين صفة الأجانب وله صفة المواطنية.. ما هي الصورة؟ قالوا لا تتحدّثوا بذلك، لماذا؟ لأنَّ لبنان لا يراد له أن يحصل على وضع سياسيّ مستقرّ يخدم أهله، بل يراد للبنان أن يتحرّك في ساحة سياسية تخدم الذين صنعوا الفتنة اللبنانية ويراد له أن تتحرّك أوضاعه السياسية وقياداته السياسية من خلال ذهنية سياسية، تعتبر أنّ الوحي الدولي(1) هو القضاء والقدر وذلك حتّى يتمّ انتخاب رئيس جمهورية، يجعل لبنان تحت رحمة المعادلات الدولية التي قد تتقاطع مع بعض المعادلات الإقليمية. يريدون رئيساً يوقّع في الغرفة السوداء أو البيضاء وبعد أن يوقِّع ويأخذ الخطوط الكبرى للسياسة الأميركية أو غير الأميركية، عند ذلك يقال للنوّاب صوِّتوا له وعند ذلك يقال إنّه المرشّح الإجماعي.
إنَّ المسألة هي أنّ الذهنية اللبنانية أصبحت ذهنية محكومة للعقلية السياسية الاستعمارية في هذا المجال.
المرشّح التوافقي
إنَّ الطبخة أُريدَ لها من الأساس أن تكون طبخة لا تنضج، لأنَّ الطبخة الحقيقيّة تتوقّف على أن يثور الجدل في الطبخة غير الناضجة، لأنَّ الطبخة كانت تحتاج إلى بهارات أميركية وبهارات أوروبية وما إلى ذلك من البهارات كي تكون مقبولة. لماذا ينطلق الحديث الآن عمّا قاله المندوب الأميركي، وما تعليق أميركا؟ إنَّ أميركا تقول: ليس لنا مرشّح ولكنّنا ضدّ المرشح التصادمي ومع المرشّح التوافقي، لكن ما معنى المرشّح التوافقي؟ هل هو الذي يتّفق عليه الجميع، والجميع على الفرد مختلفون؟ هذا له خطّ سياسي مع "إسرائيل" وذاك له خطّ سياسي ضدّها وذاك له خطّ بين ـــ بين. إذاً معنى ذلك أنّه يكون بلا لون ولا طعم ولا رائحة ومعنى ذلك أنّ الذي لا لون له ولا طعم له ولا رائحة، يمكن أن تأتي إليه ببعض البهارات من هذا الجانب، حتّى يأخذ بعض الرائحة ويمكن أن تأخذ له بعض الألوان من هنا وهناك، حتّى يصير له لون ويمكن أن تعطيه بعض العناصر المعيّنة، حتّى يكون له طعم. معنى ذلك أنّ أميركا تريد ما تريده "إسرائيل"؛ أن يكون رئيساً يمشي على أساس أنّ الجميع يصفّقون له من باب أنّه حلّ للمأزق. وعندما يجلس ويبحث عن القوّة تأتي القوّة الأميركية، لتقول له: أمامك الترتيبات الأمنية مع "إسرائيل" وأمامك الصلح مع "إسرائيل" وأمامك الوقوف سياسياً ضدّ كلّ الذين يعارضون السياسة الأميركية. لا تتعرَّض للمليشيا والجماعة التي تتعاون مع "إسرائيل" ولكن حاول أن تعمل نوعاً من الإخراج لموقعك منها. حاول أن تكون قويّاً مع كلّ هؤلاء الذين يعارضون السياسة الأميركية والسياسة الإسرائيلية، حاربهم باسم التطرّف وحاربهم باسم الإرهاب وأَلِّب الناس عليهم بحجّة أنّهم يريدون أن "يخربطوا" حياة الناس، ولاسيّما المستضعفين الذين لا يملكون عمقاً في الرؤية السياسية، لتكون السياسة الأميركية والإسرائيلية هي سياسة هذا الرئيس، وإذا أعطيت بعض الضمانات أو الامتيازات لبعض المواقع الإقليمية فإنّها تعطى على أساس ما تريده السياسة الأميركية، هذا ما تريده أميركا في المنطقة، والجميع ينتظرون أميركا، فأين الاستقلال وأين الحريّة، أين العزّة والكرامة؟ سؤال يبحث عن جواب، واللبنانيون لا يطيقون الجواب عن الأسئلة المحرجة، فإذا واجههم سؤال محرج وإذا واجهتهم الحقيقة المحرجة ولم يستطيعوا أن يقدِّموا جواباً، فالرصاص أمامك والاتّهامات أمامك والشتائم أمامك هي الجواب حيث لا جواب.
نربك الأعداء ولا نستسلم
إنّنا نواجه الكثير في تصدّينا لمختلف القضايا. لهذا نحن مسؤولون عن أنفسنا وعن مستقبل أولادنا وعن مصيرنا وعن كلّ حريّتنا وعن موقعنا من الله سبحانه وتعالى. لهذا فإنّكم مع الحسين تسمعون كلمته "لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أُقِرّ لكم إقرارَ العبيد"(1) فهل تعطون بيدكم إعطاء الذليل عندما تريد ذلك "إسرائيل" وعملاؤها؟ وهل تقرّون إقرار العبيد عندما تريد منكم أميركا ذلك؟ مَن يعبد الله لا يمكن أن يفعل ذلك ومَن يتبع رسول الله لا يمكن أن يفعل ذلك. إذا لم نستطع أن نغيِّر الواقع فعلينا على الأقلّ أن نعمل من أجل إرباك الخطط التي تريد أن تفرض علينا ما لا نريده؛ علينا أن نتابع السير، حتّى لا يشرّع لنا الآخرون ظلمنا وأن لا يشرّع الآخرون لنا ذلّنا وأن لا يشرّع الآخرون لنا عبوديّتنا، لأنَّ المجتمع الذي يسترخي أمام قوّة الأقوياء هو مجتمع سوف تسحقه أقدام الأقوياء.
لهذا، فكِّروا بوعي ودقِّقوا جيّداً في الساحة. لا تأخذوا العناوين، لكن انظروا ماذا تحت العناوين. لا تنخدعوا بالأشخاص ولكن تعرَّفوا كيف هي مواقع الأشخاص ومواقفهم؟ لا يكفي أن يكون عندنا تاريخ مشرق يرتبط به واقع حاضر، بل انظروا هل يتحرَّك هذا الواقع الحاضر في خطّ ذلك التاريخ أم ينحرف عنه؟ قد يكون للسذاجة والبساطة والطيبة بعض الإيجابيات، ولكنّها في الخطّ السياسي لا تملك أيّة إيجابية، بل تملك كلّ السلبيات. "إنَّ المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرّتين"(1) وقد لدغنا من كثير من المواقع أكثر من مرّة فعلينا أن نعرف طبيعة ما هناك من عقارب، وطبيعة ما هناك من جحور تختبئ فيها العقارب، وطبيعة ما هناك من غطاء يمكن أن يحجب عنّا بعض الحيّات والعقارب؟ حاولوا أن تدقِّقوا في كلّ الواقع فقد يفرض علينا الواقع أُناساً ليسوا في مستوى المسؤولية، لكنّهم يتحرّكون بفعل الظروف القلقة في حياتنا من موقع المسؤولية.
نمنع الفتنة حين نواجهها
لقد جرَّبتم الفتنة وجرّبتم مشاكلها وآلامها وسلبياتها، لا تكونوا وقوداً للفتنة، لكن افهموا أنّ منع الفتنة ليس في أن تسكت عن الجريمة، حتّى لا يثير الآخرون الفتنة ولكن أن تصرخ لتحتجَّ على الجريمة، لأنَّ الجريمة عندما تمتد في أيدي أصحابها فإنَّ معنى ذلك أن تفسح لأكثر من فتنة في المستقبل. لهذا فلنمنع الجريمة بالاحتجاج عليها وبالمطالبة بالكشف عن المجرمين، حتّى نستطيع أن نشعر بوضع مستقرّ وبأمن مستقرّ. ولهذا أُريدكم أن لا تنسوا جريمة اغتيال هذا العالِم الطيّب المجاهد الشيخ علي كريّم(2) الذي قتل من دون أيّ ذنب حتّى الذنب الشكلي، الذي قيل فيه إنّه تجاوز الحاجز. إنّني أحبّ أن أقول لكلّ الناس: لقد دقَّقت في هذه المسألة تدقيقاً شرعياً وقد استمعت إلى الشهود العيان وأثرت أكثر من سؤال وأكثر من علامة استفهام، لكن النتيجة هي أنّ هذا الرجل قُتِلَ عمداً وظلماً وعدواناً من دون أن ينطق بكلمة ومن دون أن يعترض على شيء. هذا أمر يجب أن يُفْهَم جيّداً. وحتّى نكون على وضوح كامل من الأمر نقول: إنّ بيت هذا الرجل يقع في بئر السلاسل وقد ذهب إلى خربة سلم، حتّى يقرأ الفاتحة في اليوم الثالث لأخيه. لو فرضنا أنّه تجاوز الحاجز فإلى أين سيذهب؟ إنّه سيعود إلى بيته في بئر السلاسل ومن السهولة اعتقاله كما جرى لكثير من العلماء. وفي حال لم يرجع فإنَّ بالمستطاع الذهاب إلى خربة سلم، والحواجز على طول الطرقات فإلى أين سيهرب، لماذا يُقتَل وهو شيخ؟ إنّنا لا نستطيع إلاّ أن نطلب من الناس كلّهم أن يرفعوا أصواتهم، نحن لا نريد إلاّ أن يطبَّق الحكم الشرعي بشكلٍ فاعل وسريع، حتّى لا نقع في حكايات الخطأ والتجاوزات فنقتل في كلّ يوم عالِماً بحجّة أنّه تجاوز الحاجز وبحجّة أنّه خطأ فردي، وبحجّة أنّه قضاء وقدر.
ليس من عادتي أنْ أُعَلِّق على هذه الأمور بهذه الصراحة. وكنتُ أعلم أنّ البعض سيتكلَّم بطريقة السباب والشتائم ولكنّي أشعر بخطورة هذه المسألة وأخشى أن تكرّ السبحة ويبقى الناس صامتين ويبقى الإعلام يتحدّث عن العذر هنا والخطأ هناك، ونظلّ نفقد الطيّبين على أساس الأخطاء وعلى أساس القضاء والقدر. نحن لا نريد أن نسجِّل نقطة على جهة باسم تسجيل نقاط، فليس من عادتنا ذلك، لكنّنا نريد للنّاس أن يرفعوا أصواتهم عالياً، حتّى لا تكرّر أمثال هذه القضايا من دون أن تجد حساباً ومن دون أن تجد عقاباً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين