جان عبيد يتحدث عن المرجع فضل الله

جان عبيد

أشار الوزير السابق جان عبيد، في مقابلةٍ معه، إلى أنَّ علاقته بسماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(ره)، كانت علاقةً عريقة وعميقة، معتبراً أنّه كان صديقاً صدوقاً، ويسري عليه القول: "رُبّ أخٍ لم تلده أمّك"، لافتاً إلى أنه من الناس الذين اتسعت عقيدتهم لتكون شبه كونية. وتحدث عبيد عن خصائص شخصية سماحة السيد وأبرز الصفات والقيم التي تحلّى بها، والتي جعلت منه رجلاً كريم النفس، رفيع الأدب، لا يقيَّم ولا يقاس بثمن...

وفيما يلي نصّ المقابلة:

 

عقيدة شبه كونية:

ـ نذكر أنّ لديكم باعاً طويلاً مع سماحة السيد، إن كان في القضايا الفكرية والسياسية، والحوار الإسلامي المسيحي، ومجمل العناوين المختلفة التي جمعتكم على طاولة واحدة، انطلاقاً من هذا الباب، ماذا تستذكرون في هذه المقابلة؟

ـ علاقتي بسماحة الإمام السيّد محمد حسين فضل الله عريقة وعميقة، وعمقها في الزّمن والرّوح، فهو رجل يسري عليه القول: "رُبّ أخٍ لم تلده أمّك"، وكنّا طوال السنوات الماضية على تواصل مستمرّ، فلا يكاد يمرّ شهر دون أن نجري حواراً أو أكثر، فالحوار مفتوح والعقل مفتوح والقلب مفتوح، وكان عقله كبيراً وقلبه كبيراً...

كان سماحته كبيراً بنعمة الله عليه، وكان يوزّع هذه النّعمة، لا يبذّرها ولا يدفنها، إنما يوزّعها على النّاس وعلى الخلق، أقربين وأبعدين

هو رجل لا تصفه وصفاً دقيقاً إذا قلت عنه إنّه شيعيّ فقط، ولا إنه مسلم فقط، ولا إنه لبنانيّ أو عربيّ فقط، كان مع ربّه كما مع النّاس، لا فضل عنده لعربيّ على أعجميّ إلا بالتّقوى، ومع أصدقائه كان صادقاً وصديقاً وعميقاً، هذا أبرز ما يبقى في ذهني، وهو الرّجل الّذي لا يغادر ذهني ووجداني، لأنَّ إيمانه فوق دينه وأوسع من دينه، ودينه فوق مذهبه وأوسع من مذهبه، وأكاد أقول إنه من الناس الذين تتسع عقيدتهم لتكون شبه كونية...

إن الناس كما قلنا مراراً في حواراتنا، ترث أديانها وعائلاتها ولكنها تختار إيمانها، وربّ العالمين لا يؤخذ بالكلام على أهمية الكلام، إلا إذا أتى الكلام من قلبٍ صادق سليم أمين، والصدق والأمانة في هذا الأمر تحددهما الأعمال، فليس نبرة القول وتكراره هو الذي يقرب الإنسان من ربه، بل صدقه وأعماله... بهذا المعنى كان السيد مثلاً يُحتذى، كنا نتناقش ونتعمق في الحوار ونختلف ولكن كان هدفنا الحقيقة والحق، والحق ليس حكراً لشخص أو لمذهب أو لدين، وقبلهم ليس حكراً لطائفة أو لأمة من الأمم، الحق من أسماء الله الحسنى، وعندما قال الله في الذكر الحكيم: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29]، أعطى صورتين وتوجيهين أساسيين، أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يقيم للحق الكامل محرابه.. ولا يمكن أن يغلب امرؤ على أمر في الدنيا، بل الغلبة النهائية لقول رب العالمين وحكمه، كما أنَّ في الآية حرية، وهذه الحرية هي النعمة الثانية من الوجود، والنعمة الأولى هي الروح، لأنه لولا هذه الروح لكان الجسد نفايةً، فالروح هي التي أسطعت فيه الضوء، والحرية هي المقياس للحساب وللثواب والعقاب، فلو أكرهت على اقتناع فلست مسؤولاً، وإذا لم تكن حراً لن تحاسب، ورب العزة يعلم أنه منذ مطلع الخليقة {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًاأَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}[يونس: 99]، كان باستطاعة رب العالمين أن يكره آدم على أمره، وهو عالم كعلامٍ مطلق للغيب أن آدم ذاهب إلى المعصية، كان يملك أن يردعه عن غيّه وأن يقوّم له أمره، ولكن لن يكون لآدم في حالة الإكراه قيمة في دينه، ولن تكون عليه مسؤولية في عصيانه وتمرده...

كان السيد بهذا المعنى العميق للفهم الديني والإيماني، وأنا كنت أقول له إنني لا أنزعج إذا قالوا لي إنك لست مارونياً كفايةً، وأنت لا تنزعج إذا قيل لك إنك لست شيعياً كفاية، الانزعاج هو أن يقال لك إنك لست مؤمناً كفاية، لأنك أنت لست شيعياً فقط وأنا لست مارونياً فقط، وعندما ينير رب العالمين الوجدان والضمير والعقل والقلب، يفتح لهذه الحواس كلها ما يسمى "روح الكونية"، لأن روح الله ورحمته وسعت كل شيء...

حضور برغم الغياب:

ما هي طبيعة العلاقة التي كانت تجمعك بسماحته، وما هي أبرز المواقف التي تميَّز بها؟

أقول في باب التعمق في الأمر، لدى السيد ثقافة شاملة وأدب رفيع ووجدان حي وضمير شفاف وعقل شامل واسع، وكان صاحب قيمٍ ونعمٍ وشيمٍ وحكم، وكان، كما تابعته، كلما كبر في العلم والعقل والعمر والقدرة يكبر بالنعمة، وهذه تكاد تكون أميز ما فيه. كان كبيراً بنعمة الله عليه، وإنَّ الله يحب أن يرى أثر نعمته في عبده، كان يوزع هذه النعمة، لا يبذرها ولا يدفنها، إنما يوزعها على الناس وعلى الخلق، أقربين وأبعدين...

في المرجع فضل الله الكثير من نور خالقه، وفيه من الدّرر والجواهر ما لا يقيَّم ولا يقاس بثمن

وأنا عندما أذكره، أذكر دائماً حواراتنا حول نهج البلاغة، وحول الشعر العربي والمتنبي، حول الذكر الحكيم والأحاديث الشريفة، حيث كان لا يبالغ في أمرٍ ويرفض الغلو.

لم يكن سهلاً أن تخاصمه لأنه لا يفتح لك باب الخصومة إلا الشريفة إذا أنت أصررت عليه، وكما قال الإمام علي(ع): "من بالغ في الخصومة أثِم، ومن قصر فيها ظلم"، هو لم يكن مقصراً عندما يخاصم بالرأي، بل كان يسير على هدي هذه القاعدة الذهبية للإمام علي(ع)..

كان بعيداً عن الإفراط والتفريط، لأنه كما قال أيضاً الإمام علي(ع): "لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرِّطاً"، وهو رجل كرمت عليه نفسه فهانت عليه شهواته، وأكاد أذكره باستمرار بمزيج من الحزن والفرح؛ حزن الغياب وفرح الحضور الذهني والأخلاقي والقيمي والمعنوي والروحي والوجداني... ويستحسن دائماً أن تستذكر أحباءك لا لتحزن فقط بل لتفرح أيضاً، وهذا هو الشأن مع الإمام العلامة السيد محمد حسين فضل الله.

لقد أحببته من عقلٍ وقلب، وكنا متقاربين ومتشابهين في الطباع، وتشابه الطباع هو الذي يصنع الصداقات الدائمة، ولا أذكره إلا وأنا على صلةٍ وحزن؛ صلة بروحه الفياضة المنيرة المستنيرة، وفي الآن نفسه على بحزنٍ لانقطاعه عنا، لأن الناس بطبيعتها تحب أن ترى الناس وتشاهدهم وتمتلكهم بأعينها وبحواسها كافة.

الانفتاح على الإنسان:

ـ لسماحة السيِّد عبارة يردّدها دائماً: "لإلغاء الحواجز مع كلّ إنسان، والانفتاح على الإنسان كإنسان". انطلاقاً من هذه المقولة، كان سماحته منفتحاً وكان له حوارات، سواء داخل الأروقة الإسلاميّة ـ الإسلاميّة، أو الأروقة الإسلاميّة ـ المسيحيّة. على ماذا كان يلتقي سماحة السيّد في كلمةٍ سواء ما بين المسلمين والأخوة المسيحيّين؟

ـ كان سماحته مرجعاً كبيراً يتدفّق فكراً وقولاً وسلوكاً واستشعاراً وشعوراً، وكان صاحب رأيٍ ورؤيا، كما كان لا يبالغ في خصومة فيَظلِم، ولا يقصّر فيها فيُظلَم.

إنَّ فيه الكثير من نور خالقه، وفيه من درر وجواهر لا تقيَّم ولا تُقاس بثمن، وبهذا المعنى، كانت الحجب تسقط بينك وبينه، لأنّ سبيل الحقّ والعقل هو سبيل اللّقاء المستمرّ عنده، ولم يكن عنيداً إلا في حقّ، ولم يكن عنيداً على باطل وعلى مكابرة وخطأ، وكان يتعلَّم كلّ يوم حتّى يكون معلّماً...

ـ بالنِّسبة إلى دعوة الانفتاح ما بين الإنسان والإنسان، وما بين الإسلام والمسيحيّة، ما هي قراءتكم لهذه الدّعوة؟

ـ هناك رسالات سماويّة، وربّ العالمين لم يحجب ضوءه أو نوره عن أي أمةٍ في التاريخ أو عرقٍ أو عصبٍ أو عنصرٍ، والله تعالى يقول في الذكر الحكيم {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}[غافر: 78]، وفي مكانٍ آخر {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}[النحل: 36]. من هنا، فلا يمكن لربّ العالمين أن يكون قد حجب قيمه وفضله وخلقه ونوره عن أي أمةٍ في التاريخ...

ولذلك، نتساءل: هذه الأمة التي لم يصلها الكتاب العربي المبين، أو لم تصلها الأناجيل، أو لم تصلها التوراة، هل كانت في ظلام؟ لا يمكن لرب العالمين وهو الأعدل والعادل أن يحجب في لحظةٍ في التاريخ ضوءه ونوره وإرشاده ورسله ورسالاته عن أي أمةٍ في التاريخ، أياً كانت لغتها أو لونها أو عرقها أو زمانها أو مكانها... وعندما تفهم الأمور على هذا النحو، تكرم وتقدس ما ائتمنت عليه أو رثته، ولكنَّك أيضاً تفتح قلبك وعقلك ووجدانك وضميرك على سائر الرسل والرسالات والأمم الأخرى في أزمنتها وأمكنتها كافة...

كان سماحته صديقاً صدوقاً وصادقاً، وإذا قورن الأصدقاء بالخيول الأصيلة، فالسيّد من أفرس الخيل وأحصنها عقلاً وقيمةً

مسؤولية الحياة:

ـ يقول المرجع فضل الله(ره): "كونوا المسؤولين في الحياة، الله جعل الحياة حركة في خط المسؤوليَّة، من أجل أن تكون للإنسان رسالة في الحياة". هل كان سماحة السيد في رأيكم مسؤولاً؟

ـ كان سماحته حراً ومسؤولاً في الوقت نفسه، فلا يمكن أن يكون الإنسان مسؤولاً إن لم يكن حراً، لأنَّ المسؤولية تقع على الإنسان الحر، وهذه مسؤوليَّة الخلق منذ البداية عندما أعطى رب العالمين الحرية لآدم، وإلا لكان أكرهه على الإيمان ومنع عنه المعصية، ولكنَّه أعطى نعمتين لهذا التراب، نفخ فيه من روحه وجعله كائناً حياً، وأعطاه الحرية، والروح والحرية هما أهم نعمتين أعطاهما الله للإنسان، لأنَّ عليهما تترتب الحياة والمسؤولية...

قلت للسيِّد، إنَّ النّفوس والناس والأصدقاء مثل الخيل، لا تعرف الخيول الأصيلة إلا بعد السبق، والأصدقاء كذلك لا تعرفهم إلا بعد التَّجربة، وهذا ما قاله المتنبي:

وما الخيل إلا كالصّديق قليلة        وإن كثرت في عين من لا يجرّب

 ونحن جرّبنا في حياتنا أنواع الحوار والنّقاش والإقناع كافّة، ولقد كان سماحته صديقاً صدوقاً وصادقاً، وإذا قورن الأصدقاء بالخيول الأصيلة، فالسيّد من أفرس الخيل وأحصنها عقلاً وقوّةً وتجربةً وقيمةً ونعمةً...

 

عقيدة شبه كونية:

ـ نذكر أنّ لديكم باعاً طويلاً مع سماحة السيد، إن كان في القضايا الفكرية والسياسية، والحوار الإسلامي المسيحي، ومجمل العناوين المختلفة التي جمعتكم على طاولة واحدة، انطلاقاً من هذا الباب، ماذا تستذكرون في هذه المقابلة؟

ـ علاقتي بسماحة الإمام السيّد محمد حسين فضل الله عريقة وعميقة، وعمقها في الزّمن والرّوح، فهو رجل يسري عليه القول: "رُبّ أخٍ لم تلده أمّك"، وكنّا طوال السنوات الماضية على تواصل مستمرّ، فلا يكاد يمرّ شهر دون أن نجري حواراً أو أكثر، فالحوار مفتوح والعقل مفتوح والقلب مفتوح، وكان عقله كبيراً وقلبه كبيراً...

كان سماحته كبيراً بنعمة الله عليه، وكان يوزّع هذه النّعمة، لا يبذّرها ولا يدفنها، إنما يوزّعها على النّاس وعلى الخلق، أقربين وأبعدين

هو رجل لا تصفه وصفاً دقيقاً إذا قلت عنه إنّه شيعيّ فقط، ولا إنه مسلم فقط، ولا إنه لبنانيّ أو عربيّ فقط، كان مع ربّه كما مع النّاس، لا فضل عنده لعربيّ على أعجميّ إلا بالتّقوى، ومع أصدقائه كان صادقاً وصديقاً وعميقاً، هذا أبرز ما يبقى في ذهني، وهو الرّجل الّذي لا يغادر ذهني ووجداني، لأنَّ إيمانه فوق دينه وأوسع من دينه، ودينه فوق مذهبه وأوسع من مذهبه، وأكاد أقول إنه من الناس الذين تتسع عقيدتهم لتكون شبه كونية...

إن الناس كما قلنا مراراً في حواراتنا، ترث أديانها وعائلاتها ولكنها تختار إيمانها، وربّ العالمين لا يؤخذ بالكلام على أهمية الكلام، إلا إذا أتى الكلام من قلبٍ صادق سليم أمين، والصدق والأمانة في هذا الأمر تحددهما الأعمال، فليس نبرة القول وتكراره هو الذي يقرب الإنسان من ربه، بل صدقه وأعماله... بهذا المعنى كان السيد مثلاً يُحتذى، كنا نتناقش ونتعمق في الحوار ونختلف ولكن كان هدفنا الحقيقة والحق، والحق ليس حكراً لشخص أو لمذهب أو لدين، وقبلهم ليس حكراً لطائفة أو لأمة من الأمم، الحق من أسماء الله الحسنى، وعندما قال الله في الذكر الحكيم: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29]، أعطى صورتين وتوجيهين أساسيين، أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يقيم للحق الكامل محرابه.. ولا يمكن أن يغلب امرؤ على أمر في الدنيا، بل الغلبة النهائية لقول رب العالمين وحكمه، كما أنَّ في الآية حرية، وهذه الحرية هي النعمة الثانية من الوجود، والنعمة الأولى هي الروح، لأنه لولا هذه الروح لكان الجسد نفايةً، فالروح هي التي أسطعت فيه الضوء، والحرية هي المقياس للحساب وللثواب والعقاب، فلو أكرهت على اقتناع فلست مسؤولاً، وإذا لم تكن حراً لن تحاسب، ورب العزة يعلم أنه منذ مطلع الخليقة {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًاأَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}[يونس: 99]، كان باستطاعة رب العالمين أن يكره آدم على أمره، وهو عالم كعلامٍ مطلق للغيب أن آدم ذاهب إلى المعصية، كان يملك أن يردعه عن غيّه وأن يقوّم له أمره، ولكن لن يكون لآدم في حالة الإكراه قيمة في دينه، ولن تكون عليه مسؤولية في عصيانه وتمرده...

كان السيد بهذا المعنى العميق للفهم الديني والإيماني، وأنا كنت أقول له إنني لا أنزعج إذا قالوا لي إنك لست مارونياً كفايةً، وأنت لا تنزعج إذا قيل لك إنك لست شيعياً كفاية، الانزعاج هو أن يقال لك إنك لست مؤمناً كفاية، لأنك أنت لست شيعياً فقط وأنا لست مارونياً فقط، وعندما ينير رب العالمين الوجدان والضمير والعقل والقلب، يفتح لهذه الحواس كلها ما يسمى "روح الكونية"، لأن روح الله ورحمته وسعت كل شيء...

حضور برغم الغياب:

ما هي طبيعة العلاقة التي كانت تجمعك بسماحته، وما هي أبرز المواقف التي تميَّز بها؟

أقول في باب التعمق في الأمر، لدى السيد ثقافة شاملة وأدب رفيع ووجدان حي وضمير شفاف وعقل شامل واسع، وكان صاحب قيمٍ ونعمٍ وشيمٍ وحكم، وكان، كما تابعته، كلما كبر في العلم والعقل والعمر والقدرة يكبر بالنعمة، وهذه تكاد تكون أميز ما فيه. كان كبيراً بنعمة الله عليه، وإنَّ الله يحب أن يرى أثر نعمته في عبده، كان يوزع هذه النعمة، لا يبذرها ولا يدفنها، إنما يوزعها على الناس وعلى الخلق، أقربين وأبعدين...

في المرجع فضل الله الكثير من نور خالقه، وفيه من الدّرر والجواهر ما لا يقيَّم ولا يقاس بثمن

وأنا عندما أذكره، أذكر دائماً حواراتنا حول نهج البلاغة، وحول الشعر العربي والمتنبي، حول الذكر الحكيم والأحاديث الشريفة، حيث كان لا يبالغ في أمرٍ ويرفض الغلو.

لم يكن سهلاً أن تخاصمه لأنه لا يفتح لك باب الخصومة إلا الشريفة إذا أنت أصررت عليه، وكما قال الإمام علي(ع): "من بالغ في الخصومة أثِم، ومن قصر فيها ظلم"، هو لم يكن مقصراً عندما يخاصم بالرأي، بل كان يسير على هدي هذه القاعدة الذهبية للإمام علي(ع)..

كان بعيداً عن الإفراط والتفريط، لأنه كما قال أيضاً الإمام علي(ع): "لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرِّطاً"، وهو رجل كرمت عليه نفسه فهانت عليه شهواته، وأكاد أذكره باستمرار بمزيج من الحزن والفرح؛ حزن الغياب وفرح الحضور الذهني والأخلاقي والقيمي والمعنوي والروحي والوجداني... ويستحسن دائماً أن تستذكر أحباءك لا لتحزن فقط بل لتفرح أيضاً، وهذا هو الشأن مع الإمام العلامة السيد محمد حسين فضل الله.

لقد أحببته من عقلٍ وقلب، وكنا متقاربين ومتشابهين في الطباع، وتشابه الطباع هو الذي يصنع الصداقات الدائمة، ولا أذكره إلا وأنا على صلةٍ وحزن؛ صلة بروحه الفياضة المنيرة المستنيرة، وفي الآن نفسه على بحزنٍ لانقطاعه عنا، لأن الناس بطبيعتها تحب أن ترى الناس وتشاهدهم وتمتلكهم بأعينها وبحواسها كافة.

الانفتاح على الإنسان:

ـ لسماحة السيِّد عبارة يردّدها دائماً: "لإلغاء الحواجز مع كلّ إنسان، والانفتاح على الإنسان كإنسان". انطلاقاً من هذه المقولة، كان سماحته منفتحاً وكان له حوارات، سواء داخل الأروقة الإسلاميّة ـ الإسلاميّة، أو الأروقة الإسلاميّة ـ المسيحيّة. على ماذا كان يلتقي سماحة السيّد في كلمةٍ سواء ما بين المسلمين والأخوة المسيحيّين؟

ـ كان سماحته مرجعاً كبيراً يتدفّق فكراً وقولاً وسلوكاً واستشعاراً وشعوراً، وكان صاحب رأيٍ ورؤيا، كما كان لا يبالغ في خصومة فيَظلِم، ولا يقصّر فيها فيُظلَم.

إنَّ فيه الكثير من نور خالقه، وفيه من درر وجواهر لا تقيَّم ولا تُقاس بثمن، وبهذا المعنى، كانت الحجب تسقط بينك وبينه، لأنّ سبيل الحقّ والعقل هو سبيل اللّقاء المستمرّ عنده، ولم يكن عنيداً إلا في حقّ، ولم يكن عنيداً على باطل وعلى مكابرة وخطأ، وكان يتعلَّم كلّ يوم حتّى يكون معلّماً...

ـ بالنِّسبة إلى دعوة الانفتاح ما بين الإنسان والإنسان، وما بين الإسلام والمسيحيّة، ما هي قراءتكم لهذه الدّعوة؟

ـ هناك رسالات سماويّة، وربّ العالمين لم يحجب ضوءه أو نوره عن أي أمةٍ في التاريخ أو عرقٍ أو عصبٍ أو عنصرٍ، والله تعالى يقول في الذكر الحكيم {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}[غافر: 78]، وفي مكانٍ آخر {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}[النحل: 36]. من هنا، فلا يمكن لربّ العالمين أن يكون قد حجب قيمه وفضله وخلقه ونوره عن أي أمةٍ في التاريخ...

ولذلك، نتساءل: هذه الأمة التي لم يصلها الكتاب العربي المبين، أو لم تصلها الأناجيل، أو لم تصلها التوراة، هل كانت في ظلام؟ لا يمكن لرب العالمين وهو الأعدل والعادل أن يحجب في لحظةٍ في التاريخ ضوءه ونوره وإرشاده ورسله ورسالاته عن أي أمةٍ في التاريخ، أياً كانت لغتها أو لونها أو عرقها أو زمانها أو مكانها... وعندما تفهم الأمور على هذا النحو، تكرم وتقدس ما ائتمنت عليه أو رثته، ولكنَّك أيضاً تفتح قلبك وعقلك ووجدانك وضميرك على سائر الرسل والرسالات والأمم الأخرى في أزمنتها وأمكنتها كافة...

كان سماحته صديقاً صدوقاً وصادقاً، وإذا قورن الأصدقاء بالخيول الأصيلة، فالسيّد من أفرس الخيل وأحصنها عقلاً وقيمةً

مسؤولية الحياة:

ـ يقول المرجع فضل الله(ره): "كونوا المسؤولين في الحياة، الله جعل الحياة حركة في خط المسؤوليَّة، من أجل أن تكون للإنسان رسالة في الحياة". هل كان سماحة السيد في رأيكم مسؤولاً؟

ـ كان سماحته حراً ومسؤولاً في الوقت نفسه، فلا يمكن أن يكون الإنسان مسؤولاً إن لم يكن حراً، لأنَّ المسؤولية تقع على الإنسان الحر، وهذه مسؤوليَّة الخلق منذ البداية عندما أعطى رب العالمين الحرية لآدم، وإلا لكان أكرهه على الإيمان ومنع عنه المعصية، ولكنَّه أعطى نعمتين لهذا التراب، نفخ فيه من روحه وجعله كائناً حياً، وأعطاه الحرية، والروح والحرية هما أهم نعمتين أعطاهما الله للإنسان، لأنَّ عليهما تترتب الحياة والمسؤولية...

قلت للسيِّد، إنَّ النّفوس والناس والأصدقاء مثل الخيل، لا تعرف الخيول الأصيلة إلا بعد السبق، والأصدقاء كذلك لا تعرفهم إلا بعد التَّجربة، وهذا ما قاله المتنبي:

وما الخيل إلا كالصّديق قليلة        وإن كثرت في عين من لا يجرّب

 ونحن جرّبنا في حياتنا أنواع الحوار والنّقاش والإقناع كافّة، ولقد كان سماحته صديقاً صدوقاً وصادقاً، وإذا قورن الأصدقاء بالخيول الأصيلة، فالسيّد من أفرس الخيل وأحصنها عقلاً وقوّةً وتجربةً وقيمةً ونعمةً...

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير