{أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ} الّذي يشاهد عمليّة الخلق في أمثاله من البشر الّذين من حوله أو من صلبه، {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} كانت البداية في رحلة الحياة، فتحوّلت إلى علقة، ثم صارت مضغةً، ثم تحوّلت المضغة حتّى صارت عظاماً، فكسونا العظام لحماً، وكانت النّهاية هي اكتمال الخلق الّذي يمثّله هذا المخلوق السويّ الكامل الّذي يفكّر ويبصر ويسمع ويتحرّك، {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} يثير الجدل المتحرّك في أكثر من موقع حول التّوحيد والبعث، فكيف يجادل في ذلك وهو يرى عظمة القدرة في خلقه الّذي يكشف عن عظمة الخالق الّذي خلقه؟ وكيف يجادل في البعث وهو يرى عظمة البدء الّتي تطلّ على إمكانيّة الإعادة؟
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} في ما طرحه من العظام البالية الّتي تتفتّت، وتساءل متعجّباً من طرح فكرة المعاد من موقع الحقيقة، {وَنَسِيَ خَلْقَهُ}، فلم يلتفت إلى عمق القدرة وروعة الإبداع في مسألة الإيجاد من عدم، أي لم يسبقه نموذج ولا مثال، {قَالَ مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أي بالية... قالها، وهو مستغرق في غفلته، مشدودٌ إلى القدرات المحدودة المحيطة به، العاجزة عن أيّ شيء من هذا القبيل، من خلال الموقع المادّيّ للقدرة.
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، فأنت لا تنكر الخالق الّذي خلق الإنسان وخلق لحمه وعظامه، فإذا كنت تعترف به، فإنّك تستطيع أن تأخذ فكرةً عن إمكان البعث، لأنّ القادر على الإيجاد من العدم، قادرٌ على الإعادة، لأنّ عمليّة الإيجاد الثاني مسبوقةٌ بالنّموذج، ما يجعله أقرب إلى السّهولة من الإيجاد الأوّل الّذي لم يسبق بمثال... {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}، لإحاطته بكلّ عناصره الّتي تحكم عمليّة الوجود، فلا يمتنع عليه شيء من جهة العلم ولا من جهة القدرة.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ}، وهذا تقريبٌ حسّيٌ للفكرة المعنويّة الّتي تسيطر على أذهانهم في استبعاد انطلاق الحياة من قلب الواقع المادّيّ للموت في مسألة البعث، لأنّ الحياة والموت حقيقتان متضادّتان، فهذا المثل يصوّر خروج النّار من قلب الشّجر الأخضر الّذي يقطر ماءً، والمراد منه ـ كما جاء في مجمع البيان ـ «المرخ والعفار، وهما شجرتان يتّخذ الأعراب زنودها منهما». وتقول العرب: في كلّ شجر نار، واسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَار، أي استفضلا واستكثرا من النّار، كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما، فصلحا للاقتداح بهما، فيجعل العفار زنداً أسفل، ويجعل المرخ زنداً أعلى، فيسحق الأعلى على الأسفل، فتنقدح النار بإذن الله. وبذلك تبرز الفكرة في نطاق القدرة، فإذا كان الله قادراً على أن يجعل النّار من قلب الشّجرة الخضراء، فهو قادر على أن يجعل الميّت حيّاً، لأنّ مشاكل التفاعل بينهما تتحدّى قدرة الإنسان ولا تتحدّى قدرة الله سبحانه.
{أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم}، وهذا هو السؤال الكبير الّذي يواجه المنكرين للبعث، فهم يقرّون بأنّ الله هو الّذي خلق السماوات والأرض، في هذا النّظام البديع الرائع الّذي يتحرّك بكلّ دقّةٍ وإتقان وروعةٍ في دائرة القوانين الطبيعيّة المودعة في داخله، بكلّ مفردات الظواهر المتحرّكة فيها، فإذا كانت القدرة الإلهيّة بهذا المستوى العظيم، فهل يعجز عن خلق هذه المخلوقات الإنسانيّة الصّغيرة التي تتجمع من أجزاء ماديّة متناثرة محدودة، ونفس حيّة، وكلّها في علم الله، وذلك بإعادتها من جديد؟! {بَلَى}، فإنّ القادر على الوجودات الضّخمة قادر على الوجودات الصّغيرة {وَهُوَ الْخَلاّقُ} الذي يخلق خلقاً بعد خلق، {الْعَلِيمُ} الّذي يحيط بكلّ عناصر خلقه وبكلّ أوضاعه[1].
{وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[2]، لأنهم لا يعتقدون بوجود حياة أخرى، فقد كانوا يستغربون ويستبعدون إحياء الناس بعد الموت، لكونه أمراً غير مألوف بالقياس إلى تجربتهم الحسيّة الّتي يعتبرونها أساساً لتكوين قناعاتهم الفكريّة... وإذا كانت هذه حال المشركين في ما ينتظرهم من ويلٍ يهدّدهم به الله، فإنّ للمؤمنين العاملين بالصَّالحات شأناً آخر: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}[3].
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ} من الكافرين المكذّبين للرّسل، فيجمعون في المحشر حيث يدفع بهم {إِلَى النَّارِ}، التي استحقّوا عذابها بكفرهم وتمرّدهم على الله، {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يمنعون، {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا}، ووقفوا عندها أو قريباً منها، ليسمعوا الحكم الحاسم الّذي ينطلق من الحجّة القاطعة على جرائمهم ومعاصيهم، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ}[4].
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} خشوع الموت في سكونها وبرودتها وذلّتها، فلا شيء يتحرّك فيها، بل هي التّراب الّذي تتلاعب به الرّياح، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}. فماذا يوحي ذلك كلّه للإنسان الواعي المفكّر؟ هل يكتفي بالمراقبة الجامدة للظاهرة الطبيعيّة، أو يستغرق في الجانب الجماليّ منها، أو ينتقل من هذه الصّورة الماديّة إلى الإيحاء المعنويّ الّذي تحمله عن المعاد، حيث تصبح صورة حياة الأرض بعد الموت، بقدرة الله، دليلاً على الصّورة الأخرى الّتي يريد الله للنّاس أن يتمثّلوها، وهي صورة حياة الإنسان بعد الموت في اليوم الآخر، لينتهي إلى هذه النّتيجة: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[5]؟! فإذا كان الله قادراً على إحياء الأرض بعد الموت، فكيف لا يكون قادراً على إحياء الإنسان بعد موته، وهو الّذي لا يعصى على قدرته المطلقة؟![6].
* تفسير من وحي القرآن
[1] ـ من وحي القرآن، تفسير الآيات (77ـ83) من سورة يس.
[2] [فصّلت: 7].
[3] فصّلت:8 . من وحي القرآن، ج 20، ص: 93.
[4] فصّلت: 19 ـ20. من وحي القرآن، ج 20، ص: 108.
[5] [فصّلت: 39].
[6] [من وحي القرآن، ج 20، ص: 123].
{أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ} الّذي يشاهد عمليّة الخلق في أمثاله من البشر الّذين من حوله أو من صلبه، {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} كانت البداية في رحلة الحياة، فتحوّلت إلى علقة، ثم صارت مضغةً، ثم تحوّلت المضغة حتّى صارت عظاماً، فكسونا العظام لحماً، وكانت النّهاية هي اكتمال الخلق الّذي يمثّله هذا المخلوق السويّ الكامل الّذي يفكّر ويبصر ويسمع ويتحرّك، {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} يثير الجدل المتحرّك في أكثر من موقع حول التّوحيد والبعث، فكيف يجادل في ذلك وهو يرى عظمة القدرة في خلقه الّذي يكشف عن عظمة الخالق الّذي خلقه؟ وكيف يجادل في البعث وهو يرى عظمة البدء الّتي تطلّ على إمكانيّة الإعادة؟
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} في ما طرحه من العظام البالية الّتي تتفتّت، وتساءل متعجّباً من طرح فكرة المعاد من موقع الحقيقة، {وَنَسِيَ خَلْقَهُ}، فلم يلتفت إلى عمق القدرة وروعة الإبداع في مسألة الإيجاد من عدم، أي لم يسبقه نموذج ولا مثال، {قَالَ مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أي بالية... قالها، وهو مستغرق في غفلته، مشدودٌ إلى القدرات المحدودة المحيطة به، العاجزة عن أيّ شيء من هذا القبيل، من خلال الموقع المادّيّ للقدرة.
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، فأنت لا تنكر الخالق الّذي خلق الإنسان وخلق لحمه وعظامه، فإذا كنت تعترف به، فإنّك تستطيع أن تأخذ فكرةً عن إمكان البعث، لأنّ القادر على الإيجاد من العدم، قادرٌ على الإعادة، لأنّ عمليّة الإيجاد الثاني مسبوقةٌ بالنّموذج، ما يجعله أقرب إلى السّهولة من الإيجاد الأوّل الّذي لم يسبق بمثال... {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}، لإحاطته بكلّ عناصره الّتي تحكم عمليّة الوجود، فلا يمتنع عليه شيء من جهة العلم ولا من جهة القدرة.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ}، وهذا تقريبٌ حسّيٌ للفكرة المعنويّة الّتي تسيطر على أذهانهم في استبعاد انطلاق الحياة من قلب الواقع المادّيّ للموت في مسألة البعث، لأنّ الحياة والموت حقيقتان متضادّتان، فهذا المثل يصوّر خروج النّار من قلب الشّجر الأخضر الّذي يقطر ماءً، والمراد منه ـ كما جاء في مجمع البيان ـ «المرخ والعفار، وهما شجرتان يتّخذ الأعراب زنودها منهما». وتقول العرب: في كلّ شجر نار، واسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَار، أي استفضلا واستكثرا من النّار، كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما، فصلحا للاقتداح بهما، فيجعل العفار زنداً أسفل، ويجعل المرخ زنداً أعلى، فيسحق الأعلى على الأسفل، فتنقدح النار بإذن الله. وبذلك تبرز الفكرة في نطاق القدرة، فإذا كان الله قادراً على أن يجعل النّار من قلب الشّجرة الخضراء، فهو قادر على أن يجعل الميّت حيّاً، لأنّ مشاكل التفاعل بينهما تتحدّى قدرة الإنسان ولا تتحدّى قدرة الله سبحانه.
{أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم}، وهذا هو السؤال الكبير الّذي يواجه المنكرين للبعث، فهم يقرّون بأنّ الله هو الّذي خلق السماوات والأرض، في هذا النّظام البديع الرائع الّذي يتحرّك بكلّ دقّةٍ وإتقان وروعةٍ في دائرة القوانين الطبيعيّة المودعة في داخله، بكلّ مفردات الظواهر المتحرّكة فيها، فإذا كانت القدرة الإلهيّة بهذا المستوى العظيم، فهل يعجز عن خلق هذه المخلوقات الإنسانيّة الصّغيرة التي تتجمع من أجزاء ماديّة متناثرة محدودة، ونفس حيّة، وكلّها في علم الله، وذلك بإعادتها من جديد؟! {بَلَى}، فإنّ القادر على الوجودات الضّخمة قادر على الوجودات الصّغيرة {وَهُوَ الْخَلاّقُ} الذي يخلق خلقاً بعد خلق، {الْعَلِيمُ} الّذي يحيط بكلّ عناصر خلقه وبكلّ أوضاعه[1].
{وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[2]، لأنهم لا يعتقدون بوجود حياة أخرى، فقد كانوا يستغربون ويستبعدون إحياء الناس بعد الموت، لكونه أمراً غير مألوف بالقياس إلى تجربتهم الحسيّة الّتي يعتبرونها أساساً لتكوين قناعاتهم الفكريّة... وإذا كانت هذه حال المشركين في ما ينتظرهم من ويلٍ يهدّدهم به الله، فإنّ للمؤمنين العاملين بالصَّالحات شأناً آخر: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}[3].
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ} من الكافرين المكذّبين للرّسل، فيجمعون في المحشر حيث يدفع بهم {إِلَى النَّارِ}، التي استحقّوا عذابها بكفرهم وتمرّدهم على الله، {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يمنعون، {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا}، ووقفوا عندها أو قريباً منها، ليسمعوا الحكم الحاسم الّذي ينطلق من الحجّة القاطعة على جرائمهم ومعاصيهم، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ}[4].
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} خشوع الموت في سكونها وبرودتها وذلّتها، فلا شيء يتحرّك فيها، بل هي التّراب الّذي تتلاعب به الرّياح، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}. فماذا يوحي ذلك كلّه للإنسان الواعي المفكّر؟ هل يكتفي بالمراقبة الجامدة للظاهرة الطبيعيّة، أو يستغرق في الجانب الجماليّ منها، أو ينتقل من هذه الصّورة الماديّة إلى الإيحاء المعنويّ الّذي تحمله عن المعاد، حيث تصبح صورة حياة الأرض بعد الموت، بقدرة الله، دليلاً على الصّورة الأخرى الّتي يريد الله للنّاس أن يتمثّلوها، وهي صورة حياة الإنسان بعد الموت في اليوم الآخر، لينتهي إلى هذه النّتيجة: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[5]؟! فإذا كان الله قادراً على إحياء الأرض بعد الموت، فكيف لا يكون قادراً على إحياء الإنسان بعد موته، وهو الّذي لا يعصى على قدرته المطلقة؟![6].
* تفسير من وحي القرآن
[1] ـ من وحي القرآن، تفسير الآيات (77ـ83) من سورة يس.
[2] [فصّلت: 7].
[3] فصّلت:8 . من وحي القرآن، ج 20، ص: 93.
[4] فصّلت: 19 ـ20. من وحي القرآن، ج 20، ص: 108.
[5] [فصّلت: 39].
[6] [من وحي القرآن، ج 20، ص: 123].