لا يزال الحديث دائراً لدى الكثيرين من النّاس، من علماء المسلمين وغيرهم، حول مسألة السّياسة والعمل السياسي في الإسلام، بطريقة سلبيّة، وذلك في ضمن خطّين:
خطّان متناقضان
الخطّ الأوّل الذي ينطلق من قاعدة فكريَّة تنكر على الإسلام أن يكون دين سياسة، فهو دين الله الذي أنزله على رسوله، كما أنزل الأديان على الرّسل الآخرين، ليقود الناس إلى العبادة فيما فرضه عليهم من شؤون العبادة، وليتمثّلوا بقيمه الروحيّة والأخلاقيّة، وليدلّ الناس على النّهج الصّحيح في العناوين الكبيرة لقضايا الحياة، ليترك لهم الوسائل الّتي يكتشفونها ويحدّدونها في تجسيد هذه العناوين في موقع الحريّة العمليّة، فليس هناك نظام حكم يتّخذ السياسة سبيلاً للوصول إليه، بل هناك تشريعات فرديّة متناثرة هنا وهناك، تحدّد للفرد بعض مساره فيما يأخذه وفيما يتركه من أقوال وأفعال وعلاقات إنسانيّة مع الناس.
الخطّ الثّاني الذي ينطلق من قاعدة فكريّة تؤمن بالشموليّة الإسلاميّة لقضايا الحياة كلّها، حتى قضيّة الحكم الذي يشرف على تنفيذ الشرعيّة، أو تحقيق العدل للنّاس، وتحريك الحياة في اتجاه القضايا الكبيرة، فهو يؤمن بأنّ الإسلام عقيدة وشريعة ونظام ومنهج للحكم وللحياة، ولكنه يرى ضرورة التوفر على الدعوة إلى الله، حتى يمكن إيجاد القاعدة الواسعة في الأمّة في الإيمان بالإسلام، ثم العمل على التربية الروحية التي تؤكّد البناء الروحي والأخلاقي، الذي يصنع الشخصيّة الإسلاميّة القويّة الواعية، المنفتحة على الله في روحانيتها وأخلاقيتها وعبادتها الخاشعة، فإذا استكملنا ذلك، أمكننا أن نضع في الواقع الإسلامي، المنهج السياسيّ للإسلام، في صفائه ونقائه وحركيّته وفعاليّته، وفي حركة الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، لأننا بذلك نضمن للإسلام البقاء على حيويته وطهارته، ونضمن للحركة الإسلاميّة استقامتها على الخطّ فيما تملكه من عناصر الاستقامة الفكريّة والعمليّة.
وقد يتمثّل هذا الخطّ في دائرة أخرى تتحرّك في التّفكير المرحليّ الّذي يحدّد للعمل الإسلاميّ المراحل المتدرّجة، المتمثّلة ببناء الأمّة على أساس المفاهيم الإسلاميّة في العقيدة والحركة والحياة، ثم تليها المرحلة السياسيّة المتمثّلة بحركة الأمّة الواعية في طليعتها الواسعة الممتدّة في السّاحة، من أجل العمل نحو الوصول إلى الحكم، ثم تأتي المرحلة الجهاديّة المتمثّلة في حمل الحركة الإسلاميّة السّلاح في وجه العدوّ، لتحاربه من أجل تثبيت قواعد الإسلام الحركي في مواجهة التحدّيات، وقد تتداخل الحركة الجهاديّة بالحركة السياسيّة في بعض الظّروف الطّارئة.
وربما نجد هذا الخطّ في صورة أخرى مغرقة في السلبيّة المطلقة، وذلك في تفكير النّاس الذين يرون الحكم الإسلاميّ في شرعيّته، مقصوراً على عصر النبيّ(ص) والأئمة(ع)، فلا مجال لأيّ عمل إسلامي سياسي في غيبة الإمام، ولا شرعيّة لأيّ حركة إسلاميّة سياسيّة في سبيل الوصول إلى الحكم، فإنَّ ذلك لا يزيد الواقع إلا تعقيداً، ولا يزيد المسلمين إلا تمزّقاً وتفرّقاً، ولا يحقّق لهم أيّة نتائج إيجابيّة، فلا بدّ من التوفّر على رعاية شؤون المسلمين الحياتيّة، والاتجاه إلى التّربية الرّوحيّة والفكريّة والفقهيّة في المجالات الفرديّة والاجتماعيّة، والبعد عن ساحات الصّراع الحادّ الّذي قد يؤدّي إلى القتال والتّخاصم، لتترك أمر الحكم إلى عصر الظّهور، لأنّه لا حكم إلا للمعصوم، لأنّ غير المعصوم يجرّ الأمّة إلى الانحراف.
مناقشة الخطّين
هذه هي الأجواء المتحرّكة في الواقع الإسلاميّ، الّتي تتّخذ موقفاً سلبيّاً من العمل السياسي الإسلامي، من ناحية المبدأ أو المرحلة أو الحركة في عصر الغيبة. فكيف نواجه الموقف الإسلامي في هذه الأجواء؟
لا نريد مناقشة هذا الخطّ أو ذاك من الناحية الفكريّة التفصيليّة، لأنّ المجال لا يتّسع لذلك، ولكنّنا نريد أن نؤكّد للخطّ الأوّل، أنّ عنوان العدل الّذي جعله الله عنواناً للهدف الّذي تحرّكت فيه الرّسالة، لا يمكن أن يتحقّق بدون عمل سياسيّ شامل على جميع المستويات، وذلك قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[1]. كما أنّ الشريعة الإسلاميّة الشّاملة، في الدائرة الفقهيّة الّتي تتّسع للجانب الفردي والاجتماعي، وتتحرّك في دائرة الحرب والسّلم، لا يمكن أن تنال التّطبيق الحيّ إلا من خلال العمل السياسي الذي يضع الحكم في واجهته.
أمّا الخط الثاني، الذي يؤمن بالإسلام كقاعدة للفكر والعاطفة والحياة في النطاق الفكري، فنلاحظ على النّهج الأوّل لهذا الخطّ، الذي يركّز على جانب التربية الفكريّة والرّوحيّة، قبل الدخول في العمل السياسيّ، أوّلاً، أنّ الآخرين الّذين يسيطرون على الساحة السياسيّة، قد يكونون ممن يحملون أفكاراً غير إسلاميّة، ما يجعلهم يخطّطون لإبعاد الناس عن الإسلام فكريّاً، حتى على صعيد التربية الروحيّة والأخلاقيّة، وذلك بإفساح المجال للنهج المضادّ للإسلام، لإيجاد قاعدة شعبيّة مضادّة للإسلام، ولتأكيد الجانب العباديّ الذاتي، كخيار وحيد للعمل الإسلامي، الأمر الّذي يجمّد كلّ عمل إسلامي تربوي وفكري، أو يلغيه تماماً بالوسائل المتنوّعة التي يملكها، فيما يملكه من القوّة الطاغية، ما يفسح المجال لحركة التخلّف الفكريّ والسياسيّ، لأن تفرض نفسها على الذهنيّة الإسلاميّة.
وثانياً، أن العمل السياسي يمثل جزءاً من عمل الدعوة ومن حركة التربية، لأنّ الواقع السياسي الذي يفرض نفسه على الناس جميعاً في ساحة التحدّيات المصيرية، فيما هي قضايا الحرية والعدالة، قد يدفع الناس إلى الاندفاع نحو الحركات السياسية غير الإسلامية، من أجل التعاون معها لحلّ المشكلة العامة، للوصول إلى النتائج الكبيرة في حياتهم، ما يؤدّي إلى تربية مضادة بطبيعة الارتباط بين العمل التربية الفكري والروحي والعمل السياسي، فيما تتحرّك به الحركات السياسية الأخرى، المرتكزة على قواعد فكرية مضادة.
السياسة والقضايا المصيريّة
إن الناس الذين يعيشون مشاكلهم الصّعبة، ولا سيما في القضايا المصيرية، قد يشعرون بالحاجة إلى حركة تستوعب حاجاتهم السياسية، فإذا كان هناك فراغ سياسي في العمل الإسلامي، فلا بدّ من أن يأتي عمل فكري سياسي آخر، يملأ فراغ الواقع في الساحة السياسيّة، ليحتوي الذهنيّة كلّها، أو ليخلق ازدواجية في الشخصية السياسية المنفتحة على الكفر والضّلال في التصور السياسي، وعلى الإيمان في التصوّر العقيدي والعبادي، ما يعقّد الإنسان المسلم، ويتركه تحت رحمة التيارات الفكرية الأخرى.
وفي ضوء ذلك، فإن العمل السياسي يعتبر جزءاً من العمل في الدّعوة إلى الإسلام، أو في التربية الإسلاميّة، لأنّه هو الّذي يعمّق للإنسان المسلم تجربته الإسلاميّة الحيّة في المسألة الفكرية والروحية، عندما يعيش فكره السياسي في حركته، كما يعيش فكره العقيدي في عبادته، وهو الذي يجتذب الكثيرين من المسلمين غير الملتزمين، الّذين قد يجدون في العمل السياسي دافعاً قوياً نحو الرجوع إلى خطّ الالتزام الإسلامي، باعتباره القاعدة الفكرية أو الشرعية للحركة الإسلامية.
وهذا ما لاحظناه في الامتداد الإسلامي في حياة الأمّة، في خط العقيدة والالتزام، من خلال الصحوة الإسلاميّة، سواء في خط الثورة الإسلامية في إيران، أو في الحركات الإسلامية المنطلقة في خطّ المعارضة السياسيّة في العالم الإسلامي، وبذلك تكون السياسة لوناً من ألوان العمل في الدّعوة الإسلاميّة، والتربية الإسلاميّة، لا مجرّد عمل مستقلّ عن ذلك.
* الحركة الاسلاميّة هموم وقضايا
[1] [الحديد: 25].