لا بدّ لكلّ دعوة من الدّعوات من خطٍّ تسير عليه، وهدف تستهدفه، وطبيعة تتميّز بها. فمن الدّعوات ما لا يهدف إلى أن تكون الدّعوة ديناً يُدان به، وفكراً يتّجه إليه العقل، وإيماناً تحتضنه الرّوح ويسكن إليه الضّمير، بل كلّ هدف صاحب الدّعوة، أن تكون دعوته عملاً يمارسه الآخرون، ونظاماً يخضعون لقوانينه وشرائعه، فالمشكلة عند صاحب هذه الدّعوة هي في الطّريقة الّتي توصله إلى مرحلة التنفيذ. وإذاً، فلا مانع لديه من أن تعيش في حياة النّاس، دون أن يكون لهم في ذلك إرادة أو اختيار، ولا بدّ لمثل هذا من أن يسلك أيّ طريق يتيح له فرصة التنفيذ، ويهيّئ له سبل العمل.
ومن الدّعوات ما يهدف إلى أن يجعل من دعوته قاعدةً روحيّة وفكريّة، قبل أن تكون قاعدة قانونيّة، فهي عنده رسالة قبل أن تكون قانوناً، ودين قبل أن تكون مجرّد فكرة، وهي ـ إلى جانب ذلك ـ منهج فكر يُتّبع ويُحتذى، وينبوع روح يسكن إليه العقل وترتاح لديه الرّوح.
أمّا مرحلة التّنفيذ، وهي المرحلة الّتي تجعل للدّعوة إطار الدّولة، فتنطلق من وعي الدّعوة لواقعها ومرحلتها، في خطّة عمليّة مدروسة تعالج المشاكل برفق، وتدفع العدوان بقوّة.
والمشكلة الّتي تعيش في ذهن صاحب هذه الدّعوة، هي في الطّريقة الّتي يستطيع بها أن يجذب أكبر عدد ممكن، في كميّته وكيفيّته، إلى فكر الدّعوة وإيمانها ومبادئها. إذاً، لا بدّ من أن يفتّش عن الطّريق الّذي يتيح له هذا الكسب، ولن يقدّر للقوّة أو العنف أن تكون أحد هذه الطّرق التي يفتّش عنها، لأنها لا تستطيع أن تتّجه بوسائلها إلى الفكر أو الرّوح ـ وهما المجالان اللّذان تريد الدّعوة أن تحتلّهما في حياة الإنسان ـ وإنما تتّجه تلك الوسائل إلى الجسد، وهو أحد المجالات التّطبيقيّة لمبادئ الدّعوة، وهو ليس مجالاً للدّعوة على أيّ حال، فلم يبقَ إلا الوسائل الّتي يرتاح إليها الفكر وتسكن لديها الرّوح، فتهيّئ للفكر مجالاً للبحث والنّظر والتأمّل، وللرّوح سبيل الإيمان والعقيدة.
هذان نموذجان من النماذج التي تتمثّل فيها الدعوات. فما هي طبيعة دعوتنا الإسلامية منهما؟ وأين تقف بين هذين النموذجين؟
يبدو لنا أنها لا بدّ من أن تقف مع الصنف الثاني للدعوات، فقد ألمحنا ـ في حديث سابق ـ إلى أن الإسلام لم يأتِ ليبني دولة لتكون غاية بذاتها، وإنما جاء لينشر الدعوة إلى الله ويبني على أساسها الدولة، فليست الدولة لديه هدفاً يراد بلوغه على أيّ حال، بل هي وسيلة لتركيز مفاهيم الدعوة وتجسيدها في حياة الناس. إذاً، لا بدّ من أن تكون الدعوة سابقة لهذه المرحلة، لتكون مفاهيمها أساساً للدّولة الّتي يُراد بناؤها في الحياة.
أما كيف نستطيع إدراك هذه النتيجة حول طبيعة الدعوة الإسلامية، فيظهر لنا بوضوح إذا درسنا واقع الإسلام وطبيعته، فليس الإسلام مجرّد قانون جافّ كبقيّة القوانين التي روعيت فيها فكرة معيّنة في بداية تشريعها، ولكنها سرعان ما انفصلت عن الفكرة، ولم يعد يربطها بها إلا ما يربط الشيء بمصدره ولا شيء غير ذلك، ولهذا، فإن مهمة الناس تنتهي عند القيام بتنفيذها حرفياً دون تغيير وتبديل.
ليس الإسلام كذلك، بل هو دين روعي فيه ما يراعى في الدين من روحية تربط النظام بالعقيدة والدعوة بالتشريع، فهو ليس نظاماً مجرّداً، وليس عقيدةً مجرّدة، وإنما هو عقيدة ونظام يلتقيان في بداية الطريق، ولا ينفصلان بعد ذلك أبداً.
والمسلم ـ في ضوء هذا ـ لا يستطيع أن ينفّذ قانون الإسلام في حياته، إلا إذا التقى في مرحلة التنفيذ بأساس العقيدة ومصدر التشريع، فيتّجه إلى الله بقلبه وهو يعمل، وبفكره وهو يفكّر، وبروحه وكلّ كيانه وهو يعبده، فلا بدّ له ـ كمسلم واعٍ ـ من الالتقاء بالله أوّلاً وأخيراً.
أمّا إذا انفصل عن الله في عمله، فلم يربط أعماله به، ولم يصلها به، فإنّه لن يكون مسلماً واعياً، ولن يعود ـ في نهاية المطاف ـ ممتثلاً لأوامر الله ونواهيه الّتي هي أوامر الإسلام ونواهيه.
وإذا كان الإسلام دعوة قبل أن يكون دولة، فلا بدّ لنا من أن نتلمّس في أسلوبه أسلوب الدّعوة، فنلاحظ خطوطه العريضة ونماذجه التطبيقيّة، لنخلص بعد ذلك إلى نتيجة البحث.
ما الّذي نريده من الأسلوب؟
للحديث عن الأسلوب جوانب عديدة، تختلف طبقاً لتنوّع جوانبه وجهاته، فيلتقي بالجانب الفني والجانب الجمالي اللّذين يخضعان لتقييم دقيق للمقاييس الفنية والجمالية في طريقة عرض الفكرة، وفي أدوات التّعبير، ويلتقي معه بالجانب المنهجيّ الّذي يرسم الطرق المنهجيّة التي تتبع في طرائق البحث والدراسة. وهناك الجوانب العامّة للأسلوب، التي تلتقي به تبعاً لالتقائها بالمضمون من حيث هو علمي أو أدبي. حتى الأخلاق، هذه القيمة الّتي تجعل لحياتنا معنى ولوجودنا قيمة، تلتقي بالأسلوب، وتقسمه إلى أسلوب أخلاقي وأسلوب لا أخلاقي، فالأسلوب كائن حياتي، يخضع لكلّ ما يخضع له الكائن من قيم وموازين، ويتّصف بكلّ ما يتّصل به الكائن من صفات وألوان.
أمّا أين يجد الباحث ما يعينه على استخراج هذا المثال من القرآن، فنحسب أنّه لن يبتعد عن الأبحاث الّتي عرضت لإعجاز القرآن، وحاولت تقييم المدى الّذي وصل إليه القرآن الكريم في ملاحظة كلّ جانب من الجوانب المتّصلة بالقضيّة، مع إيجاز في العرض، وإشراق في التّعبير.
ولسنا في صدد البحث عن الجوانب المنهجيّة والعلميّة والأدبيّة للأسلوب، لأنّنا لا نفقه للمنهجيّة معنى فيما يتّصل بأسلوب الدّعوة، لأنها تتّصل بموضوع الدراسات والأبحاث.
أمّا الجانب العلمي أو الأدبي، فقد يمكن لأسلوب الدّعوة أن يتّصف بهما إذا لاحظنا نوعية الطريق الذي تسلكه الدّعوة في النفاذ إلى عقليّات الآخرين، ومدى التقائه بالطريقة العلمية في مقام البحث والتعرّف إلى الرأي الصحيح، وإذا التفتنا بعد ذلك إلى أنّ الدّعوة قد تكون بحاجة إلى مراعاة الأساليب الأدبيّة المتعارفة في أسلوبها، لتكون منسجمة مع واقعها الّذي تعيش فيه، ولكنّنا لا نريد التحدث عن هذا الجانب أو ذاك كأساس للبحث، ولكن قد نعرض له فيما نعرض من بحث وفيما نريد من حديث.
أمّا الجانب الأخلاقيّ، فهو أحد الجوانب الّتي نريد التحدّث عنها، لأنّنا بحاجة إليه بسبب ما نعانيه من أزمة الأخلاق في أساليبنا، ولا نزال نعيش آثار هذه الأزمة ونتائجها في حياتنا بوعي وقلق، فإنّ كثيراً من الانتكاسات والانحرافات والأخطاء الّتي رافقت سير الدّعوة إلى الله، كانت نتيجة طبيعة لفقدان الأخلاق في أسلوب العمل وفي أسلوب الدّعوة الّذي يمارسه بعض الدّعاة، ولهذا، كنّا نحسّ بالحاجة الملحّة إلى الحديث عن هذا الجانب للأسلوب، من أجل التعرّف إلى خطوطه وملامحه العامّة...
[كتاب: أسلوب الدّعوة في القرآن]