كتابات
16/04/2014

هل الحديث عن شموليّة الإسلام للحياة تطرّف؟

هل الحديث عن شموليّة الإسلام للحياة تطرّف؟

هل الحديث عن شموليّة الإسلام للحياة في جميع مجالاتها العامّة حديث تطرّف؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه بسؤال آخر، وهو: من أين هذا التصوّر للإسلام، الّذي يحدّد له الدّائرة الأخلاقيّة العباديّة، ويفصله عن الدّوائر الأخرى في الحياة، ليكون التزام الشموليَّة في مضمونه، تجاوزاً عن الحدّ المعقول الذي يضعه في دائرة التطرّف؟

1 ـ شموليّة الإسلام.. والتطرّف

لو درسنا الإسلام في امتداده الفقهي، لرأينا أنّه يختزن في داخله العبادات، والمعاملات، والقوانين الجنائية والجزائية، والعلاقات العامة مع غير المسلمين، إلى غير ذلك، مما لا يترك في الواقع الإنساني الفردي والاجتماعي دائرة إلا واحتواها بحكم شرعي يحدّد لها حركتها وحركة الإنسان فيها، ما جعل المسلم يعيش تحت تأثير الإحساس الشامل بأنّ للإسلام حكماً في كلّ واقعة من وقائع حياته الخاصة والعامة، بحيث يبادر تلقائياً إلى السؤال عن تكليفه الشرعي في كل قضية من القضايا التي تعرض له في يومياته المتكررة على جميع المستويات، سواء في ذلك الإنسان الذي يحمل الإسلام في وعيه، من خلال النظرة التقليدية التي لا تحمل الشمول في فهم الواقع الحركي في قضية الإسلام في مواقع حركة الحكم في ساحة الصراع، أو الإنسان الذي يستوعب الإسلام في ذهنه في نظرة شاملة للحياة كلها.

لهذا، نرى الإنسان التقليدي يسأل دائماً عن شرعية علاقاته بالحكم القائم في بلده، وكيف يمكن له أن يوفّق بين التزامه الإسلامي والتزامه القانوني، وكيف يكون موقفه من الحاكم غير المسلم، أو الحاكم المسلم الذي لا يلتزم بالإسلام في حركة حكمه، كما يسأل عن شرعية الانتخابات النيابية، وعن طبيعة الموقف السياسي هنا، تماماً كما يسأل عن أحكام الصلاة والصوم، بعيداً عن كلّ الصراع القائم في وجود نظرية إسلامية خاصة للحكم في الإسلام، أو عدم وجود مثل هذه النظرية، لأن المسألة عنده هي أن الإسلام يفرض عليه تحديد موقفه من الحكم والحاكم، أيّاً كان، ليحصل على براءة الذمّة أمام الله في عمله.

وإذا كان للإسلام هذا الشّمول في أحكامه في الفقه الإسلامي، فما الّذي يجعل من التزام شخص ما، أو جهة ما، بحاجة التّشريع الشّامل إلى حكم ينظّم له مواقعه، وينفّذ له خططه، ويحدّد له اتجاهات الحركة في الواقع كحاجة طبيعيّة لأية شريعة، أو أيّ قانون، تطرّفاً، وذلك من خلال الفكرة القائلة إنّ وجود القانون الشامل يختزن في داخله فكرة الدولة التي تحمل في عنوانها نظرية الحكم، التي لا بدّ من استنباطها من طبيعة القانون إذا لم يكن فيها نصّ معيّن؟

الاجتهاد وخطّ الاعتدال

وقد نجد بعض النّاس يناقش في دينيّة الفقه الإسلامي وإسلاميّته، على أساس أنه فكر الفقهاء ورأي الرجال، وليس وحي الله وكلام الرسول، فلا يمكن أن نحمّله للإسلام كدين فيما يلتزم به الناس من الدين، لأن المجتهدين يخطئون، والوحي لا يخطئ، وكلام الرّسول في التبليغ لا يقترب من الخطأ.

ولذلك، فقد يكون من المعقول أن نتقبّل الدّين ونرفض الشّريعة، ليتحقّق لنا من ذلك خطّ الاعتدال، الذي يلتزم فيه الإنسان بالحقيقة الإلهيّة المعصومة، ويتحفّظ في الالتزام بالشريعة الاجتهاديّة المتحرّكة بين الخطأ والصّواب.

وقد يضيف هؤلاء، أنّ الاجتهاد الفقهي لم يكن دائماً وليّ نصوص يجتهد فيها المجتهدون، بل ربما كان الأساس في ذلك، بعض الأفكار والآراء الذاتيّة، والاستحسانات والقياسات العقليّة، التي تخضع لقاعدة إسلاميّة قطعيّة، ما يجعل من الاجتهاد قناعة شخصيّة لا رأياً إسلاميّاً.

ولكنّنا نلاحظ على هذا الرّأي، أنّ إسلاميّة الفقه ودينيّته، لا تعني قطعيّة النسبة إلى الإسلام بالطريقة التي تمثّل حركة الحقيقة في الوجدان الإسلامي، بل إنّ معنى ذلك، أن يكون المصدر في النتائج الفقهية الاجتهادية إسلامياً، من خلال النصّ الثابت، السالم من الوضع والكذب، أو من خلال القاعدة الإسلاميّة المستمدّة من النصّ، على ضوء القواعد العلميّة في فهم النصوص في اللّغة العربيّة، أو القواعد العقليّة في استنتاج الحكم الشّرعي في الموارد الّتي يكون فيها للعقل طريق إلى المعرفة.

الحوار مع القائلين بالتطرّف

ولم ينطلق المجتهدون في اجتهاداتهم، حتى في موارد الاستحسان والقياس، من منطلقات ذاتية مجرّدة، بل انطلقوا من مواقع النصوص الشرعيّة. وليست القضية في عمل الناس في الخطّ الذي يرتبطون به أو ينتمون إليه، هي قضيّة النتائج القطعيّة، بل القضيّة هي قضيّة النتائج الاجتهادية المقنعة في إثبات الحقائق، بحيث تكون حجّة في دائرة الصّواب، وعذراً في دائرة الخطأ، ولو كانت المسألة تقتصر على القطع في وسائل الإثبات وفي النّتائج، لتجمّدت حركة العلم فيما لم يكن للقطع إليه سبيل بما كان للاجتهاد فيه مجال.

وفي ضوء ذلك كلّه، فإن الحديث عن التطرّف في الحديث عن شمول الإسلام للحياة، لا يستند إلى أساس معقول، وليس لنا مع هؤلاء إلا أن ندعوهم إلى الدّخول في حوار علمي إسلامي في القضايا المثارة في هذا المجال.

2 ـ الواقعيّة وتطرّف الفكر التغييري وانطلاقة المستقبل

وإذا كان التطرّف لا يلتقي مع الحديث عن شموليّة الإسلام لقضايا الحياة، فلا بدّ لنا من أن نواجه المسألة التي تتحدّث عن لا واقعيّة تحريك الإسلام في الساحة المعاصرة، الّتي ازدحمت فيها المفاهيم الحديثة البعيدة عن الإسلام على مستوى العقيدة والشريعة والمنهج والحياة... هذا إضافةً إلى الذهنية الرافضة لدخول الدين إلى واقع الحياة، من خلال فكرة الفصل بين الدين والدولة، أو بين الدين والقانون، فيما هو الفكر العلماني، أو المادي، ما يجعل من الطرح الإسلامي حالة غريبة عن حركة الإنسان في الحياة، ويحمل الكثير من التعقيدات للعاملين في هذا الاتجاه، ويعطّل الحركة في الوصول إلى الهدف، وينعكس سلباً على الالتزام الثقافي والروحي للإسلام، هذا هو التطرّف الذي تبتعد فيه الحركة عن الواقع.

ولكن هل هذا كلّه يعني ابتعاد الطّرح عن الواقعية من حيث المبدأ في المطلق، أو يعني الحاجة إلى وسائل جديدة متحرّكة في أكثر من اتجاه، وإلى فترة زمنيّة طويلة، وإلى ظروف ثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة محدّدة، ليمكن للفكرة أن تجتاز العقبات الّتي تقف في وجهها، وتحلّ المشاكل المعقّدة التي تحيط بها، وتغيّر الذهنيّات المادّية إلى ذهنيّات روحيّة، ولتحتوي الفكر العلماني بالفكر الإسلامي، ولتحرّك الأمّة في وجدانها السياسي نحو الإسلام في مشروعه السياسي الممتدّ في حياة الإنسان العامّة؟

إنّ مثل هذا التفكير يحمل في داخله معنى السّقوط لأيّ فكرة تغييريّة، والإحباط لنشاط أيّ مصلح في سبيل التغيير، لأنّ الواقع لن يكون في مصلحة الفكرة، ولن يكون في اختيار المصلح، فلا بدّ من التخطيط والتحرّك والصّبر والمعاناة وتحديد المراحل وانتظار الزّمن الذي يصنعه العاملون في دوائرهم الحركيّة، وتنسجم معه الظروف والأوضاع في خصوصياتها الواقعية، فإذا كانت العقبات تحيط بالهدف في حدود الحاضر، فإنّ كثيراً من الحواجز والحدود قد تسقط أمام انطلاقات المستقبل. وهكذا، تحتاج الأهداف إلى خطوات المستقبليّين الذين يرصدون آفاق المستقبل في مطالع الشّروق، لا إلى خطوات العاجزين الّذين يراوحون أقدامهم في زوايا الحاضر.

الواقعيّة في الوسائل لا الطّروحات

وإذا كان الإسلام قد انتصر على كلّ الذهنيّات المتخلّفة والمعقّدة، وعلى كلّ الأفكار المضادّة في الماضي حتّى ساد، وتحدّى كلّ قوى الكفر والشّرك والاستكبار حتّى أصبح قوّة عالميّة من مواقع المعاناة والآلام والتّضحيات في حركة التحدّي من جهة، ومواجهة التحدّي من جهة أخرى، من دون أن تكون حركته بعيدة عن الواقع، فلأنّ واقعيّة الحركة ليست في انسجامها مع الطّروحات المتحرّكة في السّاحة، بل في الوسائل العمليّة، والمراحل المتعدّدة، والظّروف الموضوعيّة، التي تتكامل بأجمعها من أجل الوصول إلى الهدف الّذي يحمل في داخله عوامل التّغيير.

إنّ القوّة تصادم القوّة، وقد تصرعها إذا استكملت عناصر المواجهة، والفكر يصارع الفكر، وقد يتغلّب عليه عندما يملك الوسائل الفكريّة الّتي تسقط كلّ أطروحاته وتهزم قواعده، والذهنيّات المضادّة قد تغيّرها ذهنيّات أخرى على مستوى العوامل الّتي تملك مواقع التغيير في دائرة العقل والشعور. إنّ السّاحة للأقوى وللأشدّ صبراً وثباتاً وتحمّلاً للآلام، فأين التطرّف من هذا كلّه؟

وإذا كنا نتحدّث عن التجربة في ميزان الواقعيّة والتطرّف، فإن نجاح الثورة الإسلاميّة في إيران، يعطي الأمثولة الحيّة على ما يحمله الإسلام من إمكانات التّغيير في حركة الواقع، على صعيد حركة الجهاد الإسلامي، ثم هناك ناحية أخرى مهمّة على هذا الصّعيد، وهي أنّ الواقع الإسلامي يحمل في داخله العناصر الحيّة لانطلاقة الحركة الإسلاميّة في حياة المسلمين، لأنهم يعيشون أفكار هذا الدّين ومفاهيمه، ويتحرّكون في عباداته وتقاليده، ويلتزمون بأحكامه وشرائعه، ويتنفّسون الهواء الطلق في ماضيه وحاضره، ما يجعل من دعوتهم إلى العودة إلى مواقع الحكم في ساحته، وإلى إحياء معالمه وفتوحاته، دعوة لا تبتعد عما يعيشونه من أجواء، ويفكّرون فيه من مفاهيم، وما يتطلّعون إليه من أهداف.

إنّ الإسلام هو الحالة الشعورية التي يتحسّس الناس نبضاتها في قلوبهم وعواطفهم، وهو الحالة الفكريّة الضبابيّة التي يتحرّك فيها فكر الناس من ناحية إجماليّة عامّة، وهو العمق الداخلي للشخصيّة الإسلاميّة الإنسانيّة الرّاقدة في رواسبهم وخلفياتهم التاريخيّة. ولذلك، فإنّ إمكانات الإثارة السياسية والفكرية في دائرته، تختلف عن أيّة دائرة أخرى فيما يختلف النّاس فيه من مواقع الفكر والسياسة، فأين الحديث عن التطرّف في ذلك كلّه؟

3 ـ تنوّع الأديان والتطرف: الإسلام يدعو إلى الحوار بعقل بارد وقلب مفتوح

وإذا كان لنا أن نناقش التطرّف في طرح الإسلام، كحلّ شامل في البلاد التي يغلب على طابعها البشري اللّون الإسلامي الواحد، فكيف نواجه المسألة في البلاد الّتي تتنوّع فيها الأديان في طوائفها المختلفة ومواهبها المتعدّدة، مما لا يفسح المجال لأيّ طرح إسلامي شامل في البلد كلّه، لأنهم لا يمكن أن يتّفقوا معه أو يلتقوا عليه؟

ولكن، هل تطرح المشكلة بهذه الطريقة؟ وهل يكون التنوّع مانعاً من طرح الفكرة المخالفة؟ وهل مهمّة الفكرة أن تتناسب مع الميول العامّة للناس، فلا تصدم أيّ جانب من جوانب قناعاتهم؟ وهل نستطيع أن نقدّم فكرةً في العمق من قضايا الحياة، من دون أن تصطدم ببعض التناقضات؟

والجواب، أنّ الإسلام عندما يطرح نفسه في السّاحة المتعدّدة الآراء، فإنّه يريد أن ينقل الانتماء من موقع العصبيّة إلى موقع الفكر، ويحرّك الدّين من زاوية العشائرية الطائفية التي لا تختزن إلا الحقد والتخلف، إلى أفق الحالة الفكرية التي تثير التفكير، وتطرح المشروع، وتدعو إلى الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ويحرّك المشروع السياسي من خلال النظرة الإسلامية، لتحلّ مشكلة المسلمين وغيرهم في نطاق حركة الحياة من حولهم، ولتحلّ مشكلة التعدّدية الغارقة في ضباب الجهل بالفكر الواحد، الّذي يدعو الجميع إلى الاقتناع به من خلال العلم الباحث عن الحقيقة.

وإذا كان الطّرح الإسلاميّ في تقديمه للمشروع الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي المتكامل، يثير الحساسيات الطائفية لدى غير المسلمين، فإنّ الخطة الموضوعة لدى الإسلاميّين، أن يتعاملوا مع هذه الحساسيات بأسلوب هادئ يتعامل معها على أساس العقل البارد، والقلب المفتوح، والصّبر على السلبيّات، ليحلّ العقل محلّ العاطفة، ولتنطلق من مواقع اللّقاء، ولتصل إلى مواقع الافتراق، من خلال الرّوح المنفتحة على الحقّ وعلى عقل الآخرين.

النصرانية لا تحمل منهجاً سياسياً

وإذا كانت المشكلة هي مشكلة الدين الآخر، كالنصرانية مثلاً، فإن القضية هي أنها لا تمثل مشروعاً مضاداً للمشروع الإسلامي التشريعي والسياسي، لأنّ النصرانية، أو المسيحية في وعي أتباعها ومفكريها، لا تحمل في داخلها خطّ الشريعة ولا نهج السياسة، بل هي فعل إيمان، فليست هناك ساحة صراع بينها وبين الإسلام في هذا المجال، بل كلّ ما هناك تفاصيل فكريّة في مسائل اللاهوت، وفي مسائل الأخلاق وطريقة العبادة، ما يكفل الإسلام الحريّة فيه في ساحته السياسية، فيما وضعه من تنظيم الحياة على أساس التعايش مع أهل الكتاب، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّ النصارى يجدون في حكم الإسلام بعض القيود الّتي قد يرون فيها امتهاناً لإنسانيّتهم، وحدّاً لطموحاتهم في الوصول إلى مواقع الحكم الأولى في أيّ حكم آخر غير الإسلام، لأنّ الإسلام لا يسمح للذين لا يؤمنون به أن يكونوا في مواقع القيادة التي تصنع القرار.

بين العصبيّة والعقلانيّة

ولكنَّ هذه النقطة قد تحتاج إلى التعمّق في المناقشة، وذلك بالدخول في المقارنة بين الإسلام عندما يحكم، والفكر المادّيّ العلماني الملتزم بخطّ معيّن عندما يتسلّم الحكم، فإنّ هذا الفكر لا يمنح الناس الذين لا يلتزمونه من موقع الانتماء، أن ينطلقوا إلى مراكز القيادة وما دونها، بينما يمكن للإسلام أن يمنحهم بعض المواقع المتقدمة في الدرجة الثانية، مع الاحتفاظ بإنسانيّتهم، لأن ذلك لا يعني امتهاناً لإنسانيتهم، بل يمثل الاحتفاظ بسلامة حركة الفكرة في خطّ القيادة، وهذا أمر يلتقي به الإسلام مع كلّ الأفكار الأخرى، كالماركسية ونحوها من الأفكار الّتي لا تلتقي بالدين من قريب أو من بعيد.

وإذا كان النصراني مستعدّاً للخروج من نصرانيته إلى الماركسية، من خلال قناعته بأفكارها فيما يفرض عليه ذلك حتى الخروج من النصرانيّة أساساً، فإن خروجه إلى الإسلام قد يكون أكثر سهولة من ذلك، لأنّ الإسلام لا يخرج النصراني من كثير من تعاليمه وأجوائه...

إن المسألة هي مسألة النظرة إلى الإسلام من موقع العصبيّة، أو من موقع العقلانيّة، واعتبار ساحته ساحة صراع للفكر القائم على العقل، ليقتنع به الآخرون، فينتمون إليه، أو لا يقتنعوا به، ليفهموه ويتعرّفوا مواقع اللّقاء ومواقع الخلاف، وليكون الحكم للأقوى على السّاحة، فيمن يملك الانتماء الأكثر، والحصول على تأييد في حياة الأمّة أكثر.

إنّ من حقّ الإسلام أن يطرح نفسه كبديل لكلّ الطّروحات الأخرى بالوسائل الحضاريّة، من فكريّة وسياسيّة، تماماً كما يجد الآخرون من حقّهم أن يطرحوا فكرهم بطريقتهم الخاصّة. وإذا كان البعض يجد فرقاً بين ما هو الدّين الّذي يوحي بالفروق مع الآخرين، وما هو الفكر العلماني الّذي يمثّل قاسماً مشتركاً بين كلّ الفئات الوطنيّة في البلاد، فإنّنا نجد مثل هذا الحديث ينطلق من اعتبار العلمانيّة فكراً يلتقي الانتماء عليه من خلال أنّه الحلّ الشّامل للسّاحة. ولكنّنا لا نوافق على ذلك، بل نرى العلمانيّة ضدّاً للإسلام فيما هو الفكر وفيما هو المنهج، أو فيما هي الشّريعة، وفيما هي النظرة العامّة للإنسان والحياة، ما يجعل منه فكراً مضادّاً لا فكراً موحّداً.

ولذا، فإنّ الإسلام يطرح مشروعه الفكري والسياسي بالوسائل الحضاريّة، من فكريّة وسياسيّة، في مواجهة أيّ فكر آخر، واحداً أو متعدّداً، من دون أن يجد في ذلك أيّة بادرة تطرّف في الشّكل والمضمون، ويرى أنّ حرّيته في السّاحة هي جزء من حريّة الآخرين.

4 ـ التطرّف الإسلامي يدعو إلى الرّفق لا العنف

أمّا الحديث عن العنف، كوجه من وجوه الحركة الإسلاميّة، فيما تعتمده من أسلوب الصّدمات القويّة في تعاملها مع الأشخاص والأحداث، ومن العمليّات الإرهابيّة في مواجهة الصّراع الأمني والسياسي، فهو حديث غير دقيق، لأنّ الإسلاميّين لا يرون أنّ العنف هو الأسلوب الوحيد للصّراع، بل يرون ـ بدلاً من ذلك ـ أن الرفق هو الأصل في مواجهة المشاكل في اتجاه الحلّ، ويروون الحديث الشّريف: "إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق، ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف"[1].

ويعتبرون الأسلوب العمليّ النّاجح في العمل السياسي، هو الأسلوب الّذي يحوّل الأعداء إلى أصدقاء، وذلك من خلال الآية الشّريفة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[2]. ولكنّهم يرون أن العنف أسلوب طبيعي تفرضه طبيعة الحياة في صراعاتها وتحدّياتها، التي تلقي عليك بثقلها بالمستوى الّذي قد يلغي وجودك، أو يسقط قضيّتك، أو يصادر حريتك، من دون أن يفسح لك المجال في التماسك لتفكّر، أو التوازن لتناقش أو لتحاور، فلا يبقى أمامك إلا أن تقوم بعمليّة وقائيّة لتربك وضعه، ولتهزَّ مواقعه، وتسقط خططه، أو عمليّة دفاعيّة تحفظ بها موقعك وموقفك، وتملك بها قرارك وتسقط خططه، وهذا أمر لا يختصّ بالإسلاميّين، بل يؤمن به كلّ الناس الذين يملكون بعض مواقع القوّة في الحياة.

أمّا العمليات الإرهابيّة، كالتّفجير، وخطف الأشخاص والطائرات، فليست من الوسائل المتبنّاة للحركة الإسلاميّة في طريقة عملها السياسي، ولكنّها من الوسائل التي قد تعتمدها بعض المنظّمات الإسلاميّة الأمنيّة، وتشجّعها بعض المحاور السياسيّة، وتتعاطف معها أو مع بعضها، بعض التنظيمات أو الشخصيّات الإسلاميّة، مع التحفّظ عن بعض التفاصيل هنا أو هناك، وذلك في نطاق ظروف سياسيّة ضاغطة قد تبرّر للقائمين على هذه الأمور، أو للأجهزة التي تحرّكها، مثل هذه الأمور، انطلاقاً من القضايا العامّة التي قد تسقط تحت ضغط الدّول المستكبرة أو القوى الغاشمة المسيطرة، إذا لم تشعر هذه الدّول أو القوى بالضّغط المضادّ على أمنها ومصالحها السياسية والاقتصادية، وبذلك، كانت هذه الأمور خاضعة للظروف القاسية الصعبة التي تعيشها بعض المواقع أو الدول أو المحاور السياسية الإسلامية في مواجهة الدول الكبرى أو القوى العظمى.

الإرهاب دعاية عالميّة ضدّ الإسلام

ولعلّنا لا نتجاوز الحقيقة إذا أكّدنا ـ في حديثنا هذا ـ أن أكثر الدّول في العالم، ولا سيّما الدول الكبرى، تعتمد مثل هذه الوسائل بطريقة رسميّة في بعض الحالات، تحت شعارات أمنيّة معيّنة، أو بطريقة غير رسمية، من خلال النشاطات الخفية التي تقوم بها أجهزة المخابرات التابعة لتلك الدول. ولذلك، فإنّ الجميع يعتبرون هذه المسائل من قبيل الاستثناء للقاعدة العامّة في العمل السياسي والأمني، نظراً إلى الحاجة الملحّة التي تفرضها المصلحة العليا لحماية الأمور والمشاريع التي يُراد حمايتها، لأنها ترقى إلى المستوى الكبير من الأهميّة التي يتضاءل أمامها أيّ شيء آخر.

ويضيف هؤلاء، أنّ الحروب تختزن الكثير من النتائج السلبيّة التي تترتّب على هذه "الأعمال الإرهابيّة"، ما يوحي بأنّ المبدأ معترف به مع الاختلاف في التفاصيل.

ولسنا هنا لندخل في تقييم شرعي حول هذه المسائل والأعمال، فيما يمكن أن يكون عنصراً مبرّراً أو مخفّفاً، أو يكون عنصراً متحفّظاً، انطلاقاً من دراسة طبيعتها في خصائصها الذاتيّة المأساويّة، على مستوى الحالات الفرديّة الإنسانيّة، أو من دراسة عناصرها على مستوى الحالات العامّة الّتي تحيط بها الظروف الحيويّة، فيما تمنحها من عناوين في دائرة "العناوين الأوليّة" التي تختزن الأحكام الأصليّة، أو دائرة "العناوين الثانويّة" الّتي تختزن الأحكام الطّارئة.

إننا لا نريد الدّخول في التقييم الشرعي للمسألة، ولكنّنا هنا لنؤكّد العنصر الاستثنائي لها، مما لا يختلف فيه الإسلاميّون عن غيرهم في ساحة الصّراع المتحرّك تحت تأثير الضّغوط الخفيفة والثقيلة، ومما تختلف فيه الأنظار في إباحته وحرمته.

وبذلك، نستطيع أن نتساءل عن موقع التطرّف المميّز، الّذي يميّز الحركة الإسلاميّة عن غيرها من الحركات في العالم، ليكون الجواب أنّ ذلك مجرّد وسيلة من وسائل الدّعاية المضادّة الّتي لا تعتمد على أساس.

5 ـ المعادلات الدوليّة والتطرّف

ونقف في نهاية المطاف أمام الموقف الحاسم الّذي تقفه الحركة الإسلاميّة من المعادلات الإقليميّة والدوليّة، ليكون موقعها في الموقع المضادّ والمواجه لكلّ الدّول والمعسكرات والمحاور السياسيّة في العالم، ما يجعل التطرّف صفة متواضعة في هذا الاتجاه، حتى لا نمنحها صفة الجنون واللاعقليّة. ولكنّنا نلاحظ على الأمور الّتي أثيرت في هذه النقطة الخامسة الأخيرة، بعض الملاحظات:

الملاحظة الأولى: الطّرح الحاسم، إنّ الحركة الإسلاميّة تعمل على تأصيل الفرد المستقلّ في نطاق الشخصيّة الإسلاميّة في حياة الأمّة، وتربية المسلمين على أساس الإسلام بكلّ عمق الصّفاء في فكره وروحه، من فكريّة وسياسيّة، بحيث تبرز الفواصل الفكريّة والعمليّة بين الإسلام والتيارات الأخرى، فلا تسمح بأيّ انحراف أو تداخل أو ضلال.

ولا بدّ في مثل هذا الخطّ من الدقّة في تخطيط الخطوط، وتعميق الأفكار، حتّى لا تختلط الأمور، وتضيع الملامح العامّة للإسلام أمام الشبهات والإشكالات والاحتمالات المضادّة، ما يفرض ملاحقة الكلمات لتكون دقيقة، والأساليب لتكون واضحة، والمفاهيم لتكون محدّدة، لأنّ هناك فرقاً بين ضياع المفاهيم وانحرافها وارتباك الخطى في الطّريق، باعتبار أنّ انحراف الخطوة أقلّ خطورةً من انحراف الفكرة، لأنّ الثاني يخضع للوضوح في الرّؤية وعدمه، بينما يخضع الأوّل للخطأ في التّطبيق.

وفي ضوء هذا، لا بدّ من أن يكون الطّرح حاسماً دقيقاً أمام كلّ هذه الضّوضاء الفكريّة، التي تضيع معها كلّ الملامح الدقيقة للفكر الإسلامي في صفائه ونقائه.

الملاحظة الثانية: حالة طوارئ، إنّ الواقع السياسي يخضع في حركته لأساليب التمييع للقضايا والتسوية للمشاكل، على أساس أنصاف الحلول واللّفّ والدوران في مواجهة الأوضاع الصّعبة، ما يجعل من النهج الأخلاقي نهجاً خاضعاً للانحراف، تحت عنوان الواقعيّة في السلوك، والمداراة في حركة العلاقات، والتقية في معالجة التحديات، وما إلى ذلك من المفاهيم القلقة التي قد تملك بعض الشرعيّة في المبدأ، ولكنّها لا تملك الكثير منها في التفاصيل، من حيث الظّروف والمواقع والوسائل الخاصّة.

وفي ضوء ذلك، فإنّ المرونة العملية في البداية قد تصل بالموقف إلى مستوى الميوعة، فيما يمكن أن يضغط عليه الواقع، بينما نجد في التطرّف أو في الموقف الحادّ، حركة في اتجاه المرونة عندما تصل القضيّة إلى مستوى التطبيق، وذلك في الجوّ الّذي يضع المبدأ في مكانه الطبيعيّ ويحميه من الانحراف.

ولهذا، كانت المراقبة والمحاسبة وملاحقة الساحة بأساليب الإيحاء بالاتهام، من الوسائل العمليّة للانضباط الحاسم في منهج التوازن السياسي والفكري، بحيث يلاحق القائمون على الأمر، والسائرون في الخطّ الإسلامي، كلّ حالة توحي بالانحراف أو بالخيانة، ملاحقة دقيقة، تحيط بالدوائر الشعبيّة العامّة بطريقة توحي بالرّقابة، ولكنها لا تعقّد الموقف.

إنّ عوامل الإغراء وعناصر التّخويف التي تحيط بالأوضاع الإسلاميّة العامة، وتخاطب الشخصيّات المتنوّعة في مركز القيادة، أو في موقع القاعدة من الناحية الماديّة والمعنويّة، تفرض علينا الاحتياط الدّائم الدقيق، لمواجهة كلّ إمكانات الانحراف واحتمالاته تحت تأثير ذلك كلّه، ما يجعلنا نعيش فيما يشبه حالة الطوارئ، للحفاظ على سلامة خطّ السير للحركة الإسلاميّة.

الملاحظة الثالثة: التخطيط المرحلي والمصلحة، إنَّ الواقعيّة في التحرّك في القضايا الإسلاميّة السياسيّة ليست بعيدة عن الإسلام، وذلك من خلال الطبيعة المرحليّة المتمثّلة في التّخطيط المرحلي للوصول إلى الأهداف، ومن خلال الظروف الموضوعيّة الّتي قد تجمّد بعض المخطّطات لمخطّطات أكبر، وتحرّك بعض العلاقات التي كانت تحمل معنى سلبيّاً لمصلحة علاقات إيجابيّة أقوى، ما يحقّق نوعاً من المرونة التي لا تبتعد فيها الوسائل عن الشرعيّة عندما تقترب من الواقعيّة، لأن القاعدة الشرعيّة العقليّة في مسألة التّزاحم بين المصالح والمفاسد، تفرض تقديم المصلحة الأكثر أهميّة على المصلحة التي هي الأقلّ من حيث الأهميّة، وهكذا، تسقط المفسدة التي توحي بحرمة متعلّقها، أمام المصلحة الكبرى التي تجمّد الحرام لتحوّله إلى حلال في النّطاق العمليّ الّذي تنظّف فيه الغاية قذارة الوسيلة.

وفي ضوء ذلك، فإنّنا نستطيع تأكيد الحقيقة الواقعيّة في حركة الإنسان السياسي، في ساحة الصّراع التي تتجاذبها التيارات المختلفة، وتحيط بها الأجواء العاصفة، ما يمنحه حرية الحركة في المواقع المتنوّعة، فيما يلتقيه من مشاكل ومحاور وحواجز، فلا يشعر بأن الزوايا الضيقة تحاصره، بل يجد أمامه الساحة الواسعة التي يملك فيها السير في أكثر من طريق، وفي مواجهة الزّمن المستقبلي، إذا كان الحاضر يحاصر الحركة الآن.

الملاحظة الرّابعة: اختراق الجدار الدّوليّ، إنّ هناك أولويات في طبيعة علاقات الحركة الإسلامية على مستوى الدولة أو على مستوى الحركة بالآخرين، في مجالات التقارب أو التباعد، أو في أجواء التجميد أو التحريك، كما أن هناك ثغرات متعددة في هذا الجدار الدولي الذي يمكن اختراقه في صراع المصالح، أو في تجاذب السياسات، مما يمكن للإسلام أن ينفذ منه إلى حيث يستطيع معه التأمين على مصالحه ومواقعه.

وقد نجد هناك أكثر من تقاطع بين الدول في عملية اللقاء في المصالح الاقتصادية والسياسية، مما قد نستطيع النفاذ منه إلى كثير من مصالحنا ومواقعنا، فيمكننا الحصول على بعض التنازلات هنا، وعلى بعض الأرباح هناك.

وهكذا يبقى للإسلام أن يحافظ على خطه المستقيم، في الوقت الذي يملك الواقعيّة في أكثر من موقع، ليكون دوره منفتحاً على الواقع، ومنسجماً مع خطّ الرّسالة.

منطق الرسالة بين اللّين والعنف

وهكذا، نجد السلوك الإسلامي للحركة الإسلامية السياسية، يتّصف بهذه الخصائص في أساليبه وأهدافه ومناهجه وعلاقاته، فيحدّد تصوّره للحلول على أساس من النظرة الواقعية للمشكلة، ويؤكّد شموليّة هذه النّظرة حتى تتّسع لجميع جوانب الحياة، ويركّز وسائله على منطق الرسالة والواقعيّة، فيلين حيث تلمس الحاجة إلى اللّين، ويعنف حيث تقتضي الحالة العنف، ويقيم علاقاته سلباً أو إيجاباً على أساس المصلحة الإسلاميّة العليا في حركة الإنسان في الواقع، من خلال الدراسة الدقيقة التي تفرض عليه أن يقطع أو يصل، على ضوء الحدود الّتي ينبغي الوقوف عندها أو يتجاوزها، ويثير المسألة ما بين الحسم والمراوحة والمرونة والحدّة، تبعاً للظروف الموضوعيّة التي تحيط به فيما هي طبيعة الأشخاص والأزمنة والأمكنة.

الحملات الإعلاميّة وحرب الأعصاب

ولم تكن الحركة الإسلامية بدعاً من الحركات الفكرية والسياسية في العالم، بل هي في طبيعتها لا تختلف عن أية حركة سياسية أخرى، مع بعض الخصوصيات التي تختلف فيها الحركات في عناصرها الذاتية، فيما هي الجوانب الروحية والمادية، وفيما هي الوسائل والأهداف والمناهج، ما يوجب تنوعاً في المواقع، ولكنّه لا يمنع التشابه في الأجواء العامّة.

ولكنّ الإعلام الكافر المستكبر، يعمل على أن يشوّه صورة هذه الحركة في وجدان الرأي العام الإسلامي من جهة، وفي ذهنية الرأي العام الدولي من جهة أخرى، وذلك بالتقاط المفردات التي تحمل بعض السلبيّات، أو توحي ببعض الانحرافات، أو تثير بعض المشاعر العاطفيّة الإنسانيّة المضادّة، وذلك في ضمن خطّة مدروسة، كجزء من أجزاء الحرب المفروضة على الإسلام وأهله، حتى لا ينطلق التيار الإسلامي في اندفاعه نحو الحياة، ليصنع الواقع الجديد للعالم، وليجعل الإسلام في حركته معادلة جديدة في حركة السياسة الدوليّة، كبديل من السياستين العالميّتين الماركسيّة والرأسمالية.

التّمييز بين المعتدلين والمتطرّفين لتحييد الشخصيّات الإسلاميّة

ولذلك، فإنّ علينا أن لا نسقط أو نضعف أمام هذه الحملات الإعلاميّة، التي هي جزء من حرب الأعصاب، بل لا بدّ لنا من أن نثبت في مواجهتها بقوّة وصمود، ثم نعمل على ملاحقتها بما نملك من أساليب الملاحقة والمواجهة والتّطويق، لنتفادى الأوضاع السلبيّة القلقة التي تعمل على إثارتها في مواقعنا، ولا سيّما فيما تحاول أن تميّز فيه بين المعتدلين والمتطرّفين، لتوحي للمعتدلين بأنهم الذين يحملون مسؤولية الساحة، ويمثلون عقلانيتها، ثم تتابعهم بالتخويف من هذا الموقف الحادّ في هذه القضيّة المعيّنة، لأن فيها نوعاً من التطرّف، أو من هذه النظرة المعيّنة في المسألة الثقافية، لأنها تمثل لوناً من إثارة الحساسيات.

وهكذا، حتّى يضمنوا التزامه بحدودهم وقواعدهم وثوابتهم وأساليبهم، فيحبسوه في دائرة ضيّقة، لا يخرج منها إلى أيّة ساحة للانطلاق بعيداً عنهم، فإذا خرج عنها في وقتٍ ما تحت تأثير بعض الظروف الحادّة، أعادوه إلى قواعدهم خاضعاً، لأنّ القصّة عندهم أن يبقى معتدلاً ولا يوضع في دائرة التطرّف.

وفي هذا الجوّ، استطاعوا تحييد عدد كبير من الشخصيّات الإسلاميّة الفاعلة، التي كانت قادرة على القيام بدور كبير في العمل الإسلاميّ في خطّ الدّعوة والجهاد، انطلاقاً من الإيحاءات التي كانوا يثيرونها بين وقت وآخر في وعي هؤلاء وحياتهم.

وقد نحتاج إلى التخطيط، للقيام بدور كبير في مواجهة هذه الهجمة الإعلاميّة، بالقيام بهجمة مضادّة في داخل الوسط الإسلاميّ وخارجه، للبحث عن كلمات مثيرة للوقوف في وجه الحرب النفسيّة من جهة، وللدّخول في حرب نفسيّة ضدّ القوى المستكبرة من جهة أخرى، لإبطال مفعولها في الفكر والحياة وفي الناس.

* الحركة الإسلاميّة.. هموم وقضايا


[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 72، ص 56.

[2] [فصّلت: 34-35].


هل الحديث عن شموليّة الإسلام للحياة في جميع مجالاتها العامّة حديث تطرّف؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه بسؤال آخر، وهو: من أين هذا التصوّر للإسلام، الّذي يحدّد له الدّائرة الأخلاقيّة العباديّة، ويفصله عن الدّوائر الأخرى في الحياة، ليكون التزام الشموليَّة في مضمونه، تجاوزاً عن الحدّ المعقول الذي يضعه في دائرة التطرّف؟

1 ـ شموليّة الإسلام.. والتطرّف

لو درسنا الإسلام في امتداده الفقهي، لرأينا أنّه يختزن في داخله العبادات، والمعاملات، والقوانين الجنائية والجزائية، والعلاقات العامة مع غير المسلمين، إلى غير ذلك، مما لا يترك في الواقع الإنساني الفردي والاجتماعي دائرة إلا واحتواها بحكم شرعي يحدّد لها حركتها وحركة الإنسان فيها، ما جعل المسلم يعيش تحت تأثير الإحساس الشامل بأنّ للإسلام حكماً في كلّ واقعة من وقائع حياته الخاصة والعامة، بحيث يبادر تلقائياً إلى السؤال عن تكليفه الشرعي في كل قضية من القضايا التي تعرض له في يومياته المتكررة على جميع المستويات، سواء في ذلك الإنسان الذي يحمل الإسلام في وعيه، من خلال النظرة التقليدية التي لا تحمل الشمول في فهم الواقع الحركي في قضية الإسلام في مواقع حركة الحكم في ساحة الصراع، أو الإنسان الذي يستوعب الإسلام في ذهنه في نظرة شاملة للحياة كلها.

لهذا، نرى الإنسان التقليدي يسأل دائماً عن شرعية علاقاته بالحكم القائم في بلده، وكيف يمكن له أن يوفّق بين التزامه الإسلامي والتزامه القانوني، وكيف يكون موقفه من الحاكم غير المسلم، أو الحاكم المسلم الذي لا يلتزم بالإسلام في حركة حكمه، كما يسأل عن شرعية الانتخابات النيابية، وعن طبيعة الموقف السياسي هنا، تماماً كما يسأل عن أحكام الصلاة والصوم، بعيداً عن كلّ الصراع القائم في وجود نظرية إسلامية خاصة للحكم في الإسلام، أو عدم وجود مثل هذه النظرية، لأن المسألة عنده هي أن الإسلام يفرض عليه تحديد موقفه من الحكم والحاكم، أيّاً كان، ليحصل على براءة الذمّة أمام الله في عمله.

وإذا كان للإسلام هذا الشّمول في أحكامه في الفقه الإسلامي، فما الّذي يجعل من التزام شخص ما، أو جهة ما، بحاجة التّشريع الشّامل إلى حكم ينظّم له مواقعه، وينفّذ له خططه، ويحدّد له اتجاهات الحركة في الواقع كحاجة طبيعيّة لأية شريعة، أو أيّ قانون، تطرّفاً، وذلك من خلال الفكرة القائلة إنّ وجود القانون الشامل يختزن في داخله فكرة الدولة التي تحمل في عنوانها نظرية الحكم، التي لا بدّ من استنباطها من طبيعة القانون إذا لم يكن فيها نصّ معيّن؟

الاجتهاد وخطّ الاعتدال

وقد نجد بعض النّاس يناقش في دينيّة الفقه الإسلامي وإسلاميّته، على أساس أنه فكر الفقهاء ورأي الرجال، وليس وحي الله وكلام الرسول، فلا يمكن أن نحمّله للإسلام كدين فيما يلتزم به الناس من الدين، لأن المجتهدين يخطئون، والوحي لا يخطئ، وكلام الرّسول في التبليغ لا يقترب من الخطأ.

ولذلك، فقد يكون من المعقول أن نتقبّل الدّين ونرفض الشّريعة، ليتحقّق لنا من ذلك خطّ الاعتدال، الذي يلتزم فيه الإنسان بالحقيقة الإلهيّة المعصومة، ويتحفّظ في الالتزام بالشريعة الاجتهاديّة المتحرّكة بين الخطأ والصّواب.

وقد يضيف هؤلاء، أنّ الاجتهاد الفقهي لم يكن دائماً وليّ نصوص يجتهد فيها المجتهدون، بل ربما كان الأساس في ذلك، بعض الأفكار والآراء الذاتيّة، والاستحسانات والقياسات العقليّة، التي تخضع لقاعدة إسلاميّة قطعيّة، ما يجعل من الاجتهاد قناعة شخصيّة لا رأياً إسلاميّاً.

ولكنّنا نلاحظ على هذا الرّأي، أنّ إسلاميّة الفقه ودينيّته، لا تعني قطعيّة النسبة إلى الإسلام بالطريقة التي تمثّل حركة الحقيقة في الوجدان الإسلامي، بل إنّ معنى ذلك، أن يكون المصدر في النتائج الفقهية الاجتهادية إسلامياً، من خلال النصّ الثابت، السالم من الوضع والكذب، أو من خلال القاعدة الإسلاميّة المستمدّة من النصّ، على ضوء القواعد العلميّة في فهم النصوص في اللّغة العربيّة، أو القواعد العقليّة في استنتاج الحكم الشّرعي في الموارد الّتي يكون فيها للعقل طريق إلى المعرفة.

الحوار مع القائلين بالتطرّف

ولم ينطلق المجتهدون في اجتهاداتهم، حتى في موارد الاستحسان والقياس، من منطلقات ذاتية مجرّدة، بل انطلقوا من مواقع النصوص الشرعيّة. وليست القضية في عمل الناس في الخطّ الذي يرتبطون به أو ينتمون إليه، هي قضيّة النتائج القطعيّة، بل القضيّة هي قضيّة النتائج الاجتهادية المقنعة في إثبات الحقائق، بحيث تكون حجّة في دائرة الصّواب، وعذراً في دائرة الخطأ، ولو كانت المسألة تقتصر على القطع في وسائل الإثبات وفي النّتائج، لتجمّدت حركة العلم فيما لم يكن للقطع إليه سبيل بما كان للاجتهاد فيه مجال.

وفي ضوء ذلك كلّه، فإن الحديث عن التطرّف في الحديث عن شمول الإسلام للحياة، لا يستند إلى أساس معقول، وليس لنا مع هؤلاء إلا أن ندعوهم إلى الدّخول في حوار علمي إسلامي في القضايا المثارة في هذا المجال.

2 ـ الواقعيّة وتطرّف الفكر التغييري وانطلاقة المستقبل

وإذا كان التطرّف لا يلتقي مع الحديث عن شموليّة الإسلام لقضايا الحياة، فلا بدّ لنا من أن نواجه المسألة التي تتحدّث عن لا واقعيّة تحريك الإسلام في الساحة المعاصرة، الّتي ازدحمت فيها المفاهيم الحديثة البعيدة عن الإسلام على مستوى العقيدة والشريعة والمنهج والحياة... هذا إضافةً إلى الذهنية الرافضة لدخول الدين إلى واقع الحياة، من خلال فكرة الفصل بين الدين والدولة، أو بين الدين والقانون، فيما هو الفكر العلماني، أو المادي، ما يجعل من الطرح الإسلامي حالة غريبة عن حركة الإنسان في الحياة، ويحمل الكثير من التعقيدات للعاملين في هذا الاتجاه، ويعطّل الحركة في الوصول إلى الهدف، وينعكس سلباً على الالتزام الثقافي والروحي للإسلام، هذا هو التطرّف الذي تبتعد فيه الحركة عن الواقع.

ولكن هل هذا كلّه يعني ابتعاد الطّرح عن الواقعية من حيث المبدأ في المطلق، أو يعني الحاجة إلى وسائل جديدة متحرّكة في أكثر من اتجاه، وإلى فترة زمنيّة طويلة، وإلى ظروف ثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة محدّدة، ليمكن للفكرة أن تجتاز العقبات الّتي تقف في وجهها، وتحلّ المشاكل المعقّدة التي تحيط بها، وتغيّر الذهنيّات المادّية إلى ذهنيّات روحيّة، ولتحتوي الفكر العلماني بالفكر الإسلامي، ولتحرّك الأمّة في وجدانها السياسي نحو الإسلام في مشروعه السياسي الممتدّ في حياة الإنسان العامّة؟

إنّ مثل هذا التفكير يحمل في داخله معنى السّقوط لأيّ فكرة تغييريّة، والإحباط لنشاط أيّ مصلح في سبيل التغيير، لأنّ الواقع لن يكون في مصلحة الفكرة، ولن يكون في اختيار المصلح، فلا بدّ من التخطيط والتحرّك والصّبر والمعاناة وتحديد المراحل وانتظار الزّمن الذي يصنعه العاملون في دوائرهم الحركيّة، وتنسجم معه الظروف والأوضاع في خصوصياتها الواقعية، فإذا كانت العقبات تحيط بالهدف في حدود الحاضر، فإنّ كثيراً من الحواجز والحدود قد تسقط أمام انطلاقات المستقبل. وهكذا، تحتاج الأهداف إلى خطوات المستقبليّين الذين يرصدون آفاق المستقبل في مطالع الشّروق، لا إلى خطوات العاجزين الّذين يراوحون أقدامهم في زوايا الحاضر.

الواقعيّة في الوسائل لا الطّروحات

وإذا كان الإسلام قد انتصر على كلّ الذهنيّات المتخلّفة والمعقّدة، وعلى كلّ الأفكار المضادّة في الماضي حتّى ساد، وتحدّى كلّ قوى الكفر والشّرك والاستكبار حتّى أصبح قوّة عالميّة من مواقع المعاناة والآلام والتّضحيات في حركة التحدّي من جهة، ومواجهة التحدّي من جهة أخرى، من دون أن تكون حركته بعيدة عن الواقع، فلأنّ واقعيّة الحركة ليست في انسجامها مع الطّروحات المتحرّكة في السّاحة، بل في الوسائل العمليّة، والمراحل المتعدّدة، والظّروف الموضوعيّة، التي تتكامل بأجمعها من أجل الوصول إلى الهدف الّذي يحمل في داخله عوامل التّغيير.

إنّ القوّة تصادم القوّة، وقد تصرعها إذا استكملت عناصر المواجهة، والفكر يصارع الفكر، وقد يتغلّب عليه عندما يملك الوسائل الفكريّة الّتي تسقط كلّ أطروحاته وتهزم قواعده، والذهنيّات المضادّة قد تغيّرها ذهنيّات أخرى على مستوى العوامل الّتي تملك مواقع التغيير في دائرة العقل والشعور. إنّ السّاحة للأقوى وللأشدّ صبراً وثباتاً وتحمّلاً للآلام، فأين التطرّف من هذا كلّه؟

وإذا كنا نتحدّث عن التجربة في ميزان الواقعيّة والتطرّف، فإن نجاح الثورة الإسلاميّة في إيران، يعطي الأمثولة الحيّة على ما يحمله الإسلام من إمكانات التّغيير في حركة الواقع، على صعيد حركة الجهاد الإسلامي، ثم هناك ناحية أخرى مهمّة على هذا الصّعيد، وهي أنّ الواقع الإسلامي يحمل في داخله العناصر الحيّة لانطلاقة الحركة الإسلاميّة في حياة المسلمين، لأنهم يعيشون أفكار هذا الدّين ومفاهيمه، ويتحرّكون في عباداته وتقاليده، ويلتزمون بأحكامه وشرائعه، ويتنفّسون الهواء الطلق في ماضيه وحاضره، ما يجعل من دعوتهم إلى العودة إلى مواقع الحكم في ساحته، وإلى إحياء معالمه وفتوحاته، دعوة لا تبتعد عما يعيشونه من أجواء، ويفكّرون فيه من مفاهيم، وما يتطلّعون إليه من أهداف.

إنّ الإسلام هو الحالة الشعورية التي يتحسّس الناس نبضاتها في قلوبهم وعواطفهم، وهو الحالة الفكريّة الضبابيّة التي يتحرّك فيها فكر الناس من ناحية إجماليّة عامّة، وهو العمق الداخلي للشخصيّة الإسلاميّة الإنسانيّة الرّاقدة في رواسبهم وخلفياتهم التاريخيّة. ولذلك، فإنّ إمكانات الإثارة السياسية والفكرية في دائرته، تختلف عن أيّة دائرة أخرى فيما يختلف النّاس فيه من مواقع الفكر والسياسة، فأين الحديث عن التطرّف في ذلك كلّه؟

3 ـ تنوّع الأديان والتطرف: الإسلام يدعو إلى الحوار بعقل بارد وقلب مفتوح

وإذا كان لنا أن نناقش التطرّف في طرح الإسلام، كحلّ شامل في البلاد التي يغلب على طابعها البشري اللّون الإسلامي الواحد، فكيف نواجه المسألة في البلاد الّتي تتنوّع فيها الأديان في طوائفها المختلفة ومواهبها المتعدّدة، مما لا يفسح المجال لأيّ طرح إسلامي شامل في البلد كلّه، لأنهم لا يمكن أن يتّفقوا معه أو يلتقوا عليه؟

ولكن، هل تطرح المشكلة بهذه الطريقة؟ وهل يكون التنوّع مانعاً من طرح الفكرة المخالفة؟ وهل مهمّة الفكرة أن تتناسب مع الميول العامّة للناس، فلا تصدم أيّ جانب من جوانب قناعاتهم؟ وهل نستطيع أن نقدّم فكرةً في العمق من قضايا الحياة، من دون أن تصطدم ببعض التناقضات؟

والجواب، أنّ الإسلام عندما يطرح نفسه في السّاحة المتعدّدة الآراء، فإنّه يريد أن ينقل الانتماء من موقع العصبيّة إلى موقع الفكر، ويحرّك الدّين من زاوية العشائرية الطائفية التي لا تختزن إلا الحقد والتخلف، إلى أفق الحالة الفكرية التي تثير التفكير، وتطرح المشروع، وتدعو إلى الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ويحرّك المشروع السياسي من خلال النظرة الإسلامية، لتحلّ مشكلة المسلمين وغيرهم في نطاق حركة الحياة من حولهم، ولتحلّ مشكلة التعدّدية الغارقة في ضباب الجهل بالفكر الواحد، الّذي يدعو الجميع إلى الاقتناع به من خلال العلم الباحث عن الحقيقة.

وإذا كان الطّرح الإسلاميّ في تقديمه للمشروع الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي المتكامل، يثير الحساسيات الطائفية لدى غير المسلمين، فإنّ الخطة الموضوعة لدى الإسلاميّين، أن يتعاملوا مع هذه الحساسيات بأسلوب هادئ يتعامل معها على أساس العقل البارد، والقلب المفتوح، والصّبر على السلبيّات، ليحلّ العقل محلّ العاطفة، ولتنطلق من مواقع اللّقاء، ولتصل إلى مواقع الافتراق، من خلال الرّوح المنفتحة على الحقّ وعلى عقل الآخرين.

النصرانية لا تحمل منهجاً سياسياً

وإذا كانت المشكلة هي مشكلة الدين الآخر، كالنصرانية مثلاً، فإن القضية هي أنها لا تمثل مشروعاً مضاداً للمشروع الإسلامي التشريعي والسياسي، لأنّ النصرانية، أو المسيحية في وعي أتباعها ومفكريها، لا تحمل في داخلها خطّ الشريعة ولا نهج السياسة، بل هي فعل إيمان، فليست هناك ساحة صراع بينها وبين الإسلام في هذا المجال، بل كلّ ما هناك تفاصيل فكريّة في مسائل اللاهوت، وفي مسائل الأخلاق وطريقة العبادة، ما يكفل الإسلام الحريّة فيه في ساحته السياسية، فيما وضعه من تنظيم الحياة على أساس التعايش مع أهل الكتاب، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّ النصارى يجدون في حكم الإسلام بعض القيود الّتي قد يرون فيها امتهاناً لإنسانيّتهم، وحدّاً لطموحاتهم في الوصول إلى مواقع الحكم الأولى في أيّ حكم آخر غير الإسلام، لأنّ الإسلام لا يسمح للذين لا يؤمنون به أن يكونوا في مواقع القيادة التي تصنع القرار.

بين العصبيّة والعقلانيّة

ولكنَّ هذه النقطة قد تحتاج إلى التعمّق في المناقشة، وذلك بالدخول في المقارنة بين الإسلام عندما يحكم، والفكر المادّيّ العلماني الملتزم بخطّ معيّن عندما يتسلّم الحكم، فإنّ هذا الفكر لا يمنح الناس الذين لا يلتزمونه من موقع الانتماء، أن ينطلقوا إلى مراكز القيادة وما دونها، بينما يمكن للإسلام أن يمنحهم بعض المواقع المتقدمة في الدرجة الثانية، مع الاحتفاظ بإنسانيّتهم، لأن ذلك لا يعني امتهاناً لإنسانيتهم، بل يمثل الاحتفاظ بسلامة حركة الفكرة في خطّ القيادة، وهذا أمر يلتقي به الإسلام مع كلّ الأفكار الأخرى، كالماركسية ونحوها من الأفكار الّتي لا تلتقي بالدين من قريب أو من بعيد.

وإذا كان النصراني مستعدّاً للخروج من نصرانيته إلى الماركسية، من خلال قناعته بأفكارها فيما يفرض عليه ذلك حتى الخروج من النصرانيّة أساساً، فإن خروجه إلى الإسلام قد يكون أكثر سهولة من ذلك، لأنّ الإسلام لا يخرج النصراني من كثير من تعاليمه وأجوائه...

إن المسألة هي مسألة النظرة إلى الإسلام من موقع العصبيّة، أو من موقع العقلانيّة، واعتبار ساحته ساحة صراع للفكر القائم على العقل، ليقتنع به الآخرون، فينتمون إليه، أو لا يقتنعوا به، ليفهموه ويتعرّفوا مواقع اللّقاء ومواقع الخلاف، وليكون الحكم للأقوى على السّاحة، فيمن يملك الانتماء الأكثر، والحصول على تأييد في حياة الأمّة أكثر.

إنّ من حقّ الإسلام أن يطرح نفسه كبديل لكلّ الطّروحات الأخرى بالوسائل الحضاريّة، من فكريّة وسياسيّة، تماماً كما يجد الآخرون من حقّهم أن يطرحوا فكرهم بطريقتهم الخاصّة. وإذا كان البعض يجد فرقاً بين ما هو الدّين الّذي يوحي بالفروق مع الآخرين، وما هو الفكر العلماني الّذي يمثّل قاسماً مشتركاً بين كلّ الفئات الوطنيّة في البلاد، فإنّنا نجد مثل هذا الحديث ينطلق من اعتبار العلمانيّة فكراً يلتقي الانتماء عليه من خلال أنّه الحلّ الشّامل للسّاحة. ولكنّنا لا نوافق على ذلك، بل نرى العلمانيّة ضدّاً للإسلام فيما هو الفكر وفيما هو المنهج، أو فيما هي الشّريعة، وفيما هي النظرة العامّة للإنسان والحياة، ما يجعل منه فكراً مضادّاً لا فكراً موحّداً.

ولذا، فإنّ الإسلام يطرح مشروعه الفكري والسياسي بالوسائل الحضاريّة، من فكريّة وسياسيّة، في مواجهة أيّ فكر آخر، واحداً أو متعدّداً، من دون أن يجد في ذلك أيّة بادرة تطرّف في الشّكل والمضمون، ويرى أنّ حرّيته في السّاحة هي جزء من حريّة الآخرين.

4 ـ التطرّف الإسلامي يدعو إلى الرّفق لا العنف

أمّا الحديث عن العنف، كوجه من وجوه الحركة الإسلاميّة، فيما تعتمده من أسلوب الصّدمات القويّة في تعاملها مع الأشخاص والأحداث، ومن العمليّات الإرهابيّة في مواجهة الصّراع الأمني والسياسي، فهو حديث غير دقيق، لأنّ الإسلاميّين لا يرون أنّ العنف هو الأسلوب الوحيد للصّراع، بل يرون ـ بدلاً من ذلك ـ أن الرفق هو الأصل في مواجهة المشاكل في اتجاه الحلّ، ويروون الحديث الشّريف: "إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق، ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف"[1].

ويعتبرون الأسلوب العمليّ النّاجح في العمل السياسي، هو الأسلوب الّذي يحوّل الأعداء إلى أصدقاء، وذلك من خلال الآية الشّريفة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[2]. ولكنّهم يرون أن العنف أسلوب طبيعي تفرضه طبيعة الحياة في صراعاتها وتحدّياتها، التي تلقي عليك بثقلها بالمستوى الّذي قد يلغي وجودك، أو يسقط قضيّتك، أو يصادر حريتك، من دون أن يفسح لك المجال في التماسك لتفكّر، أو التوازن لتناقش أو لتحاور، فلا يبقى أمامك إلا أن تقوم بعمليّة وقائيّة لتربك وضعه، ولتهزَّ مواقعه، وتسقط خططه، أو عمليّة دفاعيّة تحفظ بها موقعك وموقفك، وتملك بها قرارك وتسقط خططه، وهذا أمر لا يختصّ بالإسلاميّين، بل يؤمن به كلّ الناس الذين يملكون بعض مواقع القوّة في الحياة.

أمّا العمليات الإرهابيّة، كالتّفجير، وخطف الأشخاص والطائرات، فليست من الوسائل المتبنّاة للحركة الإسلاميّة في طريقة عملها السياسي، ولكنّها من الوسائل التي قد تعتمدها بعض المنظّمات الإسلاميّة الأمنيّة، وتشجّعها بعض المحاور السياسيّة، وتتعاطف معها أو مع بعضها، بعض التنظيمات أو الشخصيّات الإسلاميّة، مع التحفّظ عن بعض التفاصيل هنا أو هناك، وذلك في نطاق ظروف سياسيّة ضاغطة قد تبرّر للقائمين على هذه الأمور، أو للأجهزة التي تحرّكها، مثل هذه الأمور، انطلاقاً من القضايا العامّة التي قد تسقط تحت ضغط الدّول المستكبرة أو القوى الغاشمة المسيطرة، إذا لم تشعر هذه الدّول أو القوى بالضّغط المضادّ على أمنها ومصالحها السياسية والاقتصادية، وبذلك، كانت هذه الأمور خاضعة للظروف القاسية الصعبة التي تعيشها بعض المواقع أو الدول أو المحاور السياسية الإسلامية في مواجهة الدول الكبرى أو القوى العظمى.

الإرهاب دعاية عالميّة ضدّ الإسلام

ولعلّنا لا نتجاوز الحقيقة إذا أكّدنا ـ في حديثنا هذا ـ أن أكثر الدّول في العالم، ولا سيّما الدول الكبرى، تعتمد مثل هذه الوسائل بطريقة رسميّة في بعض الحالات، تحت شعارات أمنيّة معيّنة، أو بطريقة غير رسمية، من خلال النشاطات الخفية التي تقوم بها أجهزة المخابرات التابعة لتلك الدول. ولذلك، فإنّ الجميع يعتبرون هذه المسائل من قبيل الاستثناء للقاعدة العامّة في العمل السياسي والأمني، نظراً إلى الحاجة الملحّة التي تفرضها المصلحة العليا لحماية الأمور والمشاريع التي يُراد حمايتها، لأنها ترقى إلى المستوى الكبير من الأهميّة التي يتضاءل أمامها أيّ شيء آخر.

ويضيف هؤلاء، أنّ الحروب تختزن الكثير من النتائج السلبيّة التي تترتّب على هذه "الأعمال الإرهابيّة"، ما يوحي بأنّ المبدأ معترف به مع الاختلاف في التفاصيل.

ولسنا هنا لندخل في تقييم شرعي حول هذه المسائل والأعمال، فيما يمكن أن يكون عنصراً مبرّراً أو مخفّفاً، أو يكون عنصراً متحفّظاً، انطلاقاً من دراسة طبيعتها في خصائصها الذاتيّة المأساويّة، على مستوى الحالات الفرديّة الإنسانيّة، أو من دراسة عناصرها على مستوى الحالات العامّة الّتي تحيط بها الظروف الحيويّة، فيما تمنحها من عناوين في دائرة "العناوين الأوليّة" التي تختزن الأحكام الأصليّة، أو دائرة "العناوين الثانويّة" الّتي تختزن الأحكام الطّارئة.

إننا لا نريد الدّخول في التقييم الشرعي للمسألة، ولكنّنا هنا لنؤكّد العنصر الاستثنائي لها، مما لا يختلف فيه الإسلاميّون عن غيرهم في ساحة الصّراع المتحرّك تحت تأثير الضّغوط الخفيفة والثقيلة، ومما تختلف فيه الأنظار في إباحته وحرمته.

وبذلك، نستطيع أن نتساءل عن موقع التطرّف المميّز، الّذي يميّز الحركة الإسلاميّة عن غيرها من الحركات في العالم، ليكون الجواب أنّ ذلك مجرّد وسيلة من وسائل الدّعاية المضادّة الّتي لا تعتمد على أساس.

5 ـ المعادلات الدوليّة والتطرّف

ونقف في نهاية المطاف أمام الموقف الحاسم الّذي تقفه الحركة الإسلاميّة من المعادلات الإقليميّة والدوليّة، ليكون موقعها في الموقع المضادّ والمواجه لكلّ الدّول والمعسكرات والمحاور السياسيّة في العالم، ما يجعل التطرّف صفة متواضعة في هذا الاتجاه، حتى لا نمنحها صفة الجنون واللاعقليّة. ولكنّنا نلاحظ على الأمور الّتي أثيرت في هذه النقطة الخامسة الأخيرة، بعض الملاحظات:

الملاحظة الأولى: الطّرح الحاسم، إنّ الحركة الإسلاميّة تعمل على تأصيل الفرد المستقلّ في نطاق الشخصيّة الإسلاميّة في حياة الأمّة، وتربية المسلمين على أساس الإسلام بكلّ عمق الصّفاء في فكره وروحه، من فكريّة وسياسيّة، بحيث تبرز الفواصل الفكريّة والعمليّة بين الإسلام والتيارات الأخرى، فلا تسمح بأيّ انحراف أو تداخل أو ضلال.

ولا بدّ في مثل هذا الخطّ من الدقّة في تخطيط الخطوط، وتعميق الأفكار، حتّى لا تختلط الأمور، وتضيع الملامح العامّة للإسلام أمام الشبهات والإشكالات والاحتمالات المضادّة، ما يفرض ملاحقة الكلمات لتكون دقيقة، والأساليب لتكون واضحة، والمفاهيم لتكون محدّدة، لأنّ هناك فرقاً بين ضياع المفاهيم وانحرافها وارتباك الخطى في الطّريق، باعتبار أنّ انحراف الخطوة أقلّ خطورةً من انحراف الفكرة، لأنّ الثاني يخضع للوضوح في الرّؤية وعدمه، بينما يخضع الأوّل للخطأ في التّطبيق.

وفي ضوء هذا، لا بدّ من أن يكون الطّرح حاسماً دقيقاً أمام كلّ هذه الضّوضاء الفكريّة، التي تضيع معها كلّ الملامح الدقيقة للفكر الإسلامي في صفائه ونقائه.

الملاحظة الثانية: حالة طوارئ، إنّ الواقع السياسي يخضع في حركته لأساليب التمييع للقضايا والتسوية للمشاكل، على أساس أنصاف الحلول واللّفّ والدوران في مواجهة الأوضاع الصّعبة، ما يجعل من النهج الأخلاقي نهجاً خاضعاً للانحراف، تحت عنوان الواقعيّة في السلوك، والمداراة في حركة العلاقات، والتقية في معالجة التحديات، وما إلى ذلك من المفاهيم القلقة التي قد تملك بعض الشرعيّة في المبدأ، ولكنّها لا تملك الكثير منها في التفاصيل، من حيث الظّروف والمواقع والوسائل الخاصّة.

وفي ضوء ذلك، فإنّ المرونة العملية في البداية قد تصل بالموقف إلى مستوى الميوعة، فيما يمكن أن يضغط عليه الواقع، بينما نجد في التطرّف أو في الموقف الحادّ، حركة في اتجاه المرونة عندما تصل القضيّة إلى مستوى التطبيق، وذلك في الجوّ الّذي يضع المبدأ في مكانه الطبيعيّ ويحميه من الانحراف.

ولهذا، كانت المراقبة والمحاسبة وملاحقة الساحة بأساليب الإيحاء بالاتهام، من الوسائل العمليّة للانضباط الحاسم في منهج التوازن السياسي والفكري، بحيث يلاحق القائمون على الأمر، والسائرون في الخطّ الإسلامي، كلّ حالة توحي بالانحراف أو بالخيانة، ملاحقة دقيقة، تحيط بالدوائر الشعبيّة العامّة بطريقة توحي بالرّقابة، ولكنها لا تعقّد الموقف.

إنّ عوامل الإغراء وعناصر التّخويف التي تحيط بالأوضاع الإسلاميّة العامة، وتخاطب الشخصيّات المتنوّعة في مركز القيادة، أو في موقع القاعدة من الناحية الماديّة والمعنويّة، تفرض علينا الاحتياط الدّائم الدقيق، لمواجهة كلّ إمكانات الانحراف واحتمالاته تحت تأثير ذلك كلّه، ما يجعلنا نعيش فيما يشبه حالة الطوارئ، للحفاظ على سلامة خطّ السير للحركة الإسلاميّة.

الملاحظة الثالثة: التخطيط المرحلي والمصلحة، إنَّ الواقعيّة في التحرّك في القضايا الإسلاميّة السياسيّة ليست بعيدة عن الإسلام، وذلك من خلال الطبيعة المرحليّة المتمثّلة في التّخطيط المرحلي للوصول إلى الأهداف، ومن خلال الظروف الموضوعيّة الّتي قد تجمّد بعض المخطّطات لمخطّطات أكبر، وتحرّك بعض العلاقات التي كانت تحمل معنى سلبيّاً لمصلحة علاقات إيجابيّة أقوى، ما يحقّق نوعاً من المرونة التي لا تبتعد فيها الوسائل عن الشرعيّة عندما تقترب من الواقعيّة، لأن القاعدة الشرعيّة العقليّة في مسألة التّزاحم بين المصالح والمفاسد، تفرض تقديم المصلحة الأكثر أهميّة على المصلحة التي هي الأقلّ من حيث الأهميّة، وهكذا، تسقط المفسدة التي توحي بحرمة متعلّقها، أمام المصلحة الكبرى التي تجمّد الحرام لتحوّله إلى حلال في النّطاق العمليّ الّذي تنظّف فيه الغاية قذارة الوسيلة.

وفي ضوء ذلك، فإنّنا نستطيع تأكيد الحقيقة الواقعيّة في حركة الإنسان السياسي، في ساحة الصّراع التي تتجاذبها التيارات المختلفة، وتحيط بها الأجواء العاصفة، ما يمنحه حرية الحركة في المواقع المتنوّعة، فيما يلتقيه من مشاكل ومحاور وحواجز، فلا يشعر بأن الزوايا الضيقة تحاصره، بل يجد أمامه الساحة الواسعة التي يملك فيها السير في أكثر من طريق، وفي مواجهة الزّمن المستقبلي، إذا كان الحاضر يحاصر الحركة الآن.

الملاحظة الرّابعة: اختراق الجدار الدّوليّ، إنّ هناك أولويات في طبيعة علاقات الحركة الإسلامية على مستوى الدولة أو على مستوى الحركة بالآخرين، في مجالات التقارب أو التباعد، أو في أجواء التجميد أو التحريك، كما أن هناك ثغرات متعددة في هذا الجدار الدولي الذي يمكن اختراقه في صراع المصالح، أو في تجاذب السياسات، مما يمكن للإسلام أن ينفذ منه إلى حيث يستطيع معه التأمين على مصالحه ومواقعه.

وقد نجد هناك أكثر من تقاطع بين الدول في عملية اللقاء في المصالح الاقتصادية والسياسية، مما قد نستطيع النفاذ منه إلى كثير من مصالحنا ومواقعنا، فيمكننا الحصول على بعض التنازلات هنا، وعلى بعض الأرباح هناك.

وهكذا يبقى للإسلام أن يحافظ على خطه المستقيم، في الوقت الذي يملك الواقعيّة في أكثر من موقع، ليكون دوره منفتحاً على الواقع، ومنسجماً مع خطّ الرّسالة.

منطق الرسالة بين اللّين والعنف

وهكذا، نجد السلوك الإسلامي للحركة الإسلامية السياسية، يتّصف بهذه الخصائص في أساليبه وأهدافه ومناهجه وعلاقاته، فيحدّد تصوّره للحلول على أساس من النظرة الواقعية للمشكلة، ويؤكّد شموليّة هذه النّظرة حتى تتّسع لجميع جوانب الحياة، ويركّز وسائله على منطق الرسالة والواقعيّة، فيلين حيث تلمس الحاجة إلى اللّين، ويعنف حيث تقتضي الحالة العنف، ويقيم علاقاته سلباً أو إيجاباً على أساس المصلحة الإسلاميّة العليا في حركة الإنسان في الواقع، من خلال الدراسة الدقيقة التي تفرض عليه أن يقطع أو يصل، على ضوء الحدود الّتي ينبغي الوقوف عندها أو يتجاوزها، ويثير المسألة ما بين الحسم والمراوحة والمرونة والحدّة، تبعاً للظروف الموضوعيّة التي تحيط به فيما هي طبيعة الأشخاص والأزمنة والأمكنة.

الحملات الإعلاميّة وحرب الأعصاب

ولم تكن الحركة الإسلامية بدعاً من الحركات الفكرية والسياسية في العالم، بل هي في طبيعتها لا تختلف عن أية حركة سياسية أخرى، مع بعض الخصوصيات التي تختلف فيها الحركات في عناصرها الذاتية، فيما هي الجوانب الروحية والمادية، وفيما هي الوسائل والأهداف والمناهج، ما يوجب تنوعاً في المواقع، ولكنّه لا يمنع التشابه في الأجواء العامّة.

ولكنّ الإعلام الكافر المستكبر، يعمل على أن يشوّه صورة هذه الحركة في وجدان الرأي العام الإسلامي من جهة، وفي ذهنية الرأي العام الدولي من جهة أخرى، وذلك بالتقاط المفردات التي تحمل بعض السلبيّات، أو توحي ببعض الانحرافات، أو تثير بعض المشاعر العاطفيّة الإنسانيّة المضادّة، وذلك في ضمن خطّة مدروسة، كجزء من أجزاء الحرب المفروضة على الإسلام وأهله، حتى لا ينطلق التيار الإسلامي في اندفاعه نحو الحياة، ليصنع الواقع الجديد للعالم، وليجعل الإسلام في حركته معادلة جديدة في حركة السياسة الدوليّة، كبديل من السياستين العالميّتين الماركسيّة والرأسمالية.

التّمييز بين المعتدلين والمتطرّفين لتحييد الشخصيّات الإسلاميّة

ولذلك، فإنّ علينا أن لا نسقط أو نضعف أمام هذه الحملات الإعلاميّة، التي هي جزء من حرب الأعصاب، بل لا بدّ لنا من أن نثبت في مواجهتها بقوّة وصمود، ثم نعمل على ملاحقتها بما نملك من أساليب الملاحقة والمواجهة والتّطويق، لنتفادى الأوضاع السلبيّة القلقة التي تعمل على إثارتها في مواقعنا، ولا سيّما فيما تحاول أن تميّز فيه بين المعتدلين والمتطرّفين، لتوحي للمعتدلين بأنهم الذين يحملون مسؤولية الساحة، ويمثلون عقلانيتها، ثم تتابعهم بالتخويف من هذا الموقف الحادّ في هذه القضيّة المعيّنة، لأن فيها نوعاً من التطرّف، أو من هذه النظرة المعيّنة في المسألة الثقافية، لأنها تمثل لوناً من إثارة الحساسيات.

وهكذا، حتّى يضمنوا التزامه بحدودهم وقواعدهم وثوابتهم وأساليبهم، فيحبسوه في دائرة ضيّقة، لا يخرج منها إلى أيّة ساحة للانطلاق بعيداً عنهم، فإذا خرج عنها في وقتٍ ما تحت تأثير بعض الظروف الحادّة، أعادوه إلى قواعدهم خاضعاً، لأنّ القصّة عندهم أن يبقى معتدلاً ولا يوضع في دائرة التطرّف.

وفي هذا الجوّ، استطاعوا تحييد عدد كبير من الشخصيّات الإسلاميّة الفاعلة، التي كانت قادرة على القيام بدور كبير في العمل الإسلاميّ في خطّ الدّعوة والجهاد، انطلاقاً من الإيحاءات التي كانوا يثيرونها بين وقت وآخر في وعي هؤلاء وحياتهم.

وقد نحتاج إلى التخطيط، للقيام بدور كبير في مواجهة هذه الهجمة الإعلاميّة، بالقيام بهجمة مضادّة في داخل الوسط الإسلاميّ وخارجه، للبحث عن كلمات مثيرة للوقوف في وجه الحرب النفسيّة من جهة، وللدّخول في حرب نفسيّة ضدّ القوى المستكبرة من جهة أخرى، لإبطال مفعولها في الفكر والحياة وفي الناس.

* الحركة الإسلاميّة.. هموم وقضايا


[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 72، ص 56.

[2] [فصّلت: 34-35].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية