في الوسط الثّقافي والاجتماعيّ والسياسيّ، ضجّة قويّة حول الحركة الإسلاميّة في مضمونها الفكري وأسلوبها العملي وطروحاتها السياسيّة، فيما يثيره البعض من حديث عن التطرّف الذي يطبع كلّ محتواها في مجرى الحياة العامّة، مما قد لا يتوافق مع خطّ الاعتدال المعروف عن الإسلام في انفتاحه وتسامحه ومرونته وواقعيّته، وقد يؤدّي إلى ابتعاد الناس عنه، وخسارته لجماهيره في نهاية المطاف.
فهل هو كذلك؟ وكيف نفهم الحدود الفاصلة بين التطرّف والاعتدال؟ هذا ما نحاول أن نثيره في هذا الحديث.
1 ـ التطرّف مرونة وواقعيّة أو غلوّ وانحراف؟!
هل هو الخطّ الذي لا يتناسب مع الأوضاع المألوفة للناس فيما اعتادوه من قضايا حياتهم وأوضاعهم وأساليبهم العملية، بما يفرضه عليهم من التزامات قاسية ومواقف حادّة، وقيود شديدة وشعارات متوتّرة، وعلاقات محدّدة تتحرك في دائرة ضيّقة لا مجال فيها للمرونة والواقعيّة، اللّتين ترتكزان على تقديم التنازلات العملية لمصلحة اللّقاء على قاعدة مشتركة، توفّر للجميع التواصل والتفاهم، أو أنّه الخطّ الّذي يلتقي بالتجاوز عن الحدود المرسومة للعقيدة والتشريع، في دائرة الغلوّ والانحراف، بحيث يبتعد عن التوازن الطبيعي في النظر إلى الأشخاص أو الأحكام في عالمي النظرية والتطبيق؟
ربما نجد بعض الكلمات التي تتحدّث عن المفهوم في الخطّ الأوّل، كما نجد البعض الذي يتحدّث عن الخطّ الثاني. وما دامت المسألة نسبيّة في حركتها في الواقع، فقد نجد من يختارهما معاً، على أساس أنّ كلاً منهما يقف في الطرف الأقصى للأشياء، ما يجعل الجوّ متوتّراً أمام حافة السقوط في الوادي السّحيق من أخطار النتائج القاسية المترتبة عليه، ويؤدّي إلى أن يبقى الناس في حالةٍ صعبة من القلق والحيرة والتوتّر الّذي يثير الأعصاب، ويبعد السّاحة عن التّوازن والهدوء. فكيف نواجه الموقف على الصّعيد الواقعيّ للمسألة؟
شموليّة الإسلام والآراء المختلفة حول التطرّف!
قد يطرح البعض المشكلة في دائرة الطّرح الشّامل للإسلام، كخطّ فكريّ وتشريعيّ يحمل في خطوطه ملامح الشّمول للسياسة والاقتصاد والاجتماع والحرب والسّلم، إلى جانب العبادة والأخلاق والجوانب الذاتيّة للفرد، وذلك في مواجهة التيارات الفكرية السياسية العامّة، التي تحاول احتواء الحياة كلّها بمفاهيمها العامّة والخاصّة في دائرة اللّون الواحد من النّاس، حيث يتحرك الطرح الإسلامي ليمتدّ في كلّ مواقع التحرك الإنساني، فلا يسمح لأيّ تيار بأن يدخل إلى الساحة الإسلامية من موقع التسويات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تعطي بعض المجالات للإسلام في دائرة معينة، ليتنازل للتيارات الأخرى في مجالات أخرى، في دائرة أخرى، من خلال حركة التطور التي قد لا تلتقي مع بعض المفاهيم الإسلامية في قضايا الحياة في تفصيلاتها المعقّدة المتنوّعة.. ما يفسح المجال للتعايش بينها وبين الإسلام، ليبقى للإسلام دوره العبادي والأخلاقي، وتأخذ التيارات الأخرى الدور السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
المغالاة في تفسير النّصوص
وقد نجد البعض الذي يرى هذا الطّرح للإسلام متطرّفاً في المجال الفكري، ينطلق من الذهنيّة التي تحصر الإسلام في المجال الديني العبادي والتشريعي الفردي، الذي يخاطب الإنسان في مفردات حياته الخاصّة، بعيداً عن المفردات المتحرّكة في الحياة العامّة، فيُنكر على الفكر الإسلامي أن يكون لديه مشروع كامل في الواجهة العمليّة، أو مشروع اقتصاديّ متكامل في إطار مذهب اقتصادي مميّز.. ولذلك، فإنّه يرى في الطّرح الشّامل للإسلام نوعاً من المغالاة في تفسير النّصوص وفهم القواعد التشريعيّة، وتطرّفاً حادّاً في حركة الإسلام على صعيد الواقع.
2 ـ ابتعاد الواقع عن الطّرح الإسلامي
وقد يطرح البعض المسألة في هذا الاتجاه على صعيد آخر، فهو لا ينكر على الإسلام شموليّته لجميع جوانب الحياة في خطّه الفكري والتشريعي، ولكنّه يجد ابتعاد الواقع عن هذا الطّرح، لأنّ انحسار الإسلام عن حركة الحياة السياسية والقانونية، وتطور الواقع في اتجاه الأفكار الأخرى، وسيطرة القوى المضادة للإسلام على المجرى الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي بطريقة شاملة ساحقة، إن هذه الأمور قد تجعل من طرح الإسلام بهذا الشمول قضيةً خاسرةً على مستوى الواقع، كما تؤدّي إلى خلق أكثر من مشكلة في حياة الناس، وتجلب الكثير من الأخطار إلى مصالحهم، وتمنع الاستقرار والهدوء عندهم، وتعقّد أوضاع السّاحة بشكل غير معقول، وتفرض عليها الاهتزاز الدائم، الذي قد يفسح المجال للأعداء الذين يتربصون الدوائر بالمسلمين للسيطرة على مقدّراتهم، والاستيلاء على مواقعهم، ثم لن تصل بالحركة الإسلامية إلى ما تريده من الهدف الأصيل في إقامة حكم الإسلام على الأرض، وتحويله إلى نظام شامل للحياة، لأنّ للقوى والمعادلات الدوليّة مرتكزات وأسساً فكريّة معيّنة قد توحي بالقوة.
حواجز ومواجهة
وقد يضيف هذا البعض إلى ذلك ملاحظة أخرى، وهي أنَّ التعقيدات الثقافية الغربية التي فرضت نفسها على الذهنية العامة لدى المسلمين، أعطت مفهوماً سلبياً عن الدولة الدينية والاتجاه الديني في المسألة السياسية، وأفسحت المجال للمفهوم الحديث القائل بالفصل بين الدين والدولة، وابتعاده عن السياسة، وبالتضاد بين نتائج العلم ونتائج الدين في حسابات الفكر والبحث، الأمر الذي خلق عقدة متأصّلة ضدّ حركة الدّين في اتجاه تفاصيل الحياة والواقع، ورفضاً ذاتياً للمسألة الدينيّة على الصعيد السياسي، ما يؤدّي إلى وجود حواجز كبيرة ضدّ الطّرح الشّامل للإسلام، لأنّه يحتاج إلى نزع الجيل المعاصر أوّلاً، ثم المواجهة بين القوّة الدينيّة الوليدة من جهة، والقوى العلمانيّة المسيطرة على الواقع من جهة أخرى... ولن يكون الرّبح للإسلام في نهاية المطاف، لأنه سيبقى في دائرة محاصرة ضاغطة، بين حصار الذهنيّة المعقّدة ضدّ الدين، وحصار القوّة المهيمنة ضدّه.
3 ـ الإسلام في الدائرة الثقافيّة
وفي ضوء هذا، يمكن وضع هذا الطرح في دائرة التطرف، لأنه بعيد عن الواقع وقريب إلى المثالية والخيالية، ما يفرض على الإسلاميّين إبقاء الإسلام في الدائرة الثقافية، ليبقى حيّاً في هذا الجانب من الشخصية الإنسانية، وتحريكه في الدائرة العبادية الأخلاقية، ليعطي للواقع شيئاً من روحية الإسلام وأخلاقيته، وتبقى الحياة في أجواء الروح وفي آفاق الله، تماماً كما هي المسيحية، التي استطاعت أن تعقد صلحاً بينها وبين الواقع العلماني، فتركت ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وأبقت النشاط الديني في مواقع الإيمان وفي مراكز الثقافة، وأعطت الحق للآخرين لكي يدبروا الحياة بطريقتهم الخاصة بعيداً عن الدين، ولم تتدخل في شؤونهم إلا من بعيد.
دائرة تنوّع الأديان
وقد يطرح البعض المسألة في اتجاه آخر، ولكن في مواقع معيّنة في البلدان التي يتنوّع فيها الناس في أديانهم، أو تتنوّع فيها الطوائف في نطاق الدّين الواحد، فيبحث الناس فيها عن مواقع اللّقاء التي يلتقي فيها الجميع على قاعدةٍ واحدةٍ للتعايش، كما هو الحال في المجتمعات الإسلاميّة التي تحتوي مذاهب متعدّدة في الدائرة الإسلاميّة، وطوائف متنوّعة في الدائرة النصرانيّة... ما يجعل هناك عقدة لأيّ فريق تجاه طروحات الفريق الآخر في خصوصيّاته الفكريّة والتشريعيّة والسياسيّة، ولا سيما إذا لاحظنا حساسية المشاعر الدينية في ساحة الصّراع، وتعقيد المواقع السياسية في هذه الدائرة.
4 ـ المشروع الإسلامي وإلغاء الآخرين
فقد ينطلق الإسلاميّون ليطرحوا الإسلام كمشروع سياسيّ شامل، يتطلّع إلى الحكم الإسلامي الملتزم على مستوى فكرة الخلافة، أو فكرة الإمامة الممتدّة في خطّ ولاية الفقيه، أو فكرة الشّورى الّتي قد تتقاطع مع الفكرتين في بعض المراحل، ويعملون على الدّعوة إلى أن يكون التشريع الإسلامي هو القانون الّذي يتحرّك في داخل النظام، كصيغة إلهية مقدّسة لا مجال للنقاش فيها، وإلى أن تكون المواقع القيادية الكبرى للمسلمين ـ وحدهم ـ دون غيرهم، ما يجعل وجود غير المسلمين وجوداً هامشياً، ويؤدّي بالتالي إلى التمايز في المواطنية وإلى تعدد المواطنين ـ على أساس الفواصل الدينية التي يؤكدها النظام ـ في داخل الوطن الواحد، ويقود إلى نوع من أنواع التعددية التي تمنع من الاندماج، وتفتح أكثر من ثغرة للخلافات التي تهدّد الكيان كله، وتسيء إلى الاستقرار العام.
إنّ هذا الطرح يمثّل التطرّف في أقصى حدوده، لأنه لا ينطلق من مواقع التوازن في مسألة الحكم، الذي لا يمكن أن يعيش إلا في نطاق توافق الإرادات الشعبية على صيغة معينة؛ ففي المجتمع الموحّد الانتماء، يمكن الحديث عن فكر واحد في خصوصيّاته ودوائره المحدّدة ذات اللّون الواحد، وفي المجتمع المتعدّد الانتماء، لا بدّ من التحدث عن فكر توافقي تتوازن فيه الطروحات في القواسم المشتركة التي يلتقي عليها الجميع، ويتوازن فيها الاعتراف بالخصوصيات، ضمن حصص متساوية أو متقاربة في عملية التوزيع، ليخلص الجميع له عندما يرى كلّ واحد فيها الملامح العامّة من صورته، ويرى صورة الآخر في مرآة واحدة إلى جانب صورته.
خلافات دمويّة أو تقسيم للحصص
وقد يستدعي هذا الطرح المتطرف طرحاً آخر من الجانب الآخر، الذي يجد في تأكيد المسلمين لخصوصيتهم التي لا يتنازلون عن شيء منها من القمّة إلى القاعدة، فرصةً في الدعوة إلى ذاتيته وخصوصيته، في صيغة تختزن كل مفاهيم الحكم المميز والتشريع الخاص لديه، وتبدأ مسألة التجاذب فيما هو الطرح من هنا والطرح المضادّ من هناك، وتكون النتيجة أن يعيش البلد في خلافات دمويّة خطيرة لا تقف عند حدّ، لأنها لا تملك قاعدة مشتركة يلتقي عليها الجميع.
وفي ضوء هذا، تبتعد المسألة ـ في هذا الطّرح ـ عن الواقعية على صعيد حركة التطبيق، وبذلك، تفرض على الإسلاميّين أن يقارنوا بين الواقع الذي لا يحصلون منه على شيء، أو يخسرون فيه أكثر مما يربحون، والواقع الّذي يحصلون منه على بعض التوازن في حقوقهم، أو في مصالحهم البشريّة، أو في بعض مواقعهم الشرعيّة، مما تكفله سياسة التوزيع الطائفي في عمليّة تقسيم الحصص، أو تفرضه الصيغة الموحّدة التي تتجاوز كلّ خصوصيّات الساحة، لتجعل القضية في دائرة الجميع.
الأصوليّة والإرهاب وحشر الآخرين
وقد يكون من العقل أو من الحكمة أن يختاروا الحلّ الثاني، الذي يفسح لهم المجال للاستقرار والطّمأنينة والهدوء، والحصول على حصّة الشّريك، بدلاً من واقع اللاحظة واللااستقرار.
وقد يطرح البعض المسألة في الوسائل الّتي يحركها الإسلاميون نحو الأهداف، فقد تميّزت الحركة الإسلامية المعاصرة، فيما يطلق عليها الغربيّون اسم "الحركة الأصوليّة"، باللّجوء إلى العنف في وسائلها السياسية، فهي تعتمد الطريقة العسكرية في مواجهة خصومها، وفي الوصول إلى المواقع المتقدّمة في الطريق إلى أهدافها، بحيث تتحوّل في بعض الحالات إلى حركة إرهابيّة تتميّز بالقسوة والوحشيّة والشراسة، وتعمل على القيام بالعمليات التي يسقط فيها الأبرياء، كالخطف والتفجير والاغتيال، وتحوّل أتباعها إلى قنابل بشرية متفجّرة في مواقع أهدافها البشريّة وغير البشريّة، في أسلوب "العمليات الانتحارية"، كما يعبّر عنها البعض، أو "العمليات الاستشهادية"، كما يعبر عنها أصحابها.
وبذلك، تتحول الحركة الإسلامية في هذا الجو العنيف الإرهابي، إلى عنصر ضاغط على الواقع، بالطريقة التي لا تسمح بالتقاط الأنفاس، أو بإدارة اللعبة السياسية بشكل متوازن، وتحوّل الموقف إلى إرهاب فكري يخنق حرية الناس في اختيار قرارهم، ويحاصر المسألة الثقافية في دائرة الحرية، ويبقى لها ـ وحدها ـ الهيمنة على الساحة من موقع الاقتناع. إنّ الحركة الإسلامية تدخل الواقع بأسلوب الصدمات الكهربائية التي لا تترك مجالاً للتوازن في الموقف، والهدوء في الملاحظة، بل تظلّ في مواقع الاهتزاز العنيف، ما يجعلها تفقد عنصر العقلانية والموضوعية والواقعية في موقع الإنسان في حركة الحياة، وتبقى مجرّد حالة طارئة سريعة في قبضة الظروف الطارئة التي لن تتعمّق التجربة في داخلها، بل تمرّ بها مروراً سريعاً قد يضيع في غمرة التطوّرات والمتغيرات، لأنها تضغط على الجسد فتقهر مقاومته في لحظات ضعفه، ولا تملك احتواء الفكر في مواقع قوته، لأنه يرفض الضغط بقدر إيمانه بالحرية، وانفتاحه على احترام إنسانية الإنسان في عقلنة القرار.
إنّ هذا الاتجاه يمثّل التطرف بأعلى مراحله، لأنه لن يترك للآخرين ليختاروا اللّقاء به أو الافتراق عنه، لأنه يحشرهم في الزاوية عندما يحاصرهم فيها، فلا يملكون إلا أن يخضعوا له، لا أن يختاروه.. ولذلك، فإنه لا يستطيع الانفتاح على الواقع، بل سيواصل ـ بطريقته المعقدة ـ جمع الخصوم ضده، وتعقيد الموقف حوله، وقد يؤدي به هذا الأسلوب القائم على العنف والتدمير والإرهاب، إلى الانحراف عن مبادئه، والوقوع في مخالفة القواعد الشرعية الإنسانية، التي لا تلتقي ببعض أساليبه العملية، ولن تكون الساحة له في نهاية المطاف، لأن إنسانية الإنسان قد تخضع للعنف بعض الشيء، لكنها لا ترتاح له، ولا تتعاطف معه... ولذلك، فإنها سوف تثور عليه لتدفعه بعيداً عن المواقع المتقدمة للحياة.
وفي ضوء ذلك، قد يكون من المصلحة للحركة الإسلامية، أن تنبذ العنف كأسلوب وحيد في العمل، وتتحرّك في أسلوب الرفق على الطريقة الواقعية التي يعتمدها الناس في الوصول إلى الأهداف، فإن ذلك قد يؤخر لحظة الوصول، ولكنه يضمن سلامتها في نهاية المطاف.
5 ـ واقعية الطرح وحدّته في المعادلات السياسية
وقد يطرح البعض مسألة التطرّف في نطاق الطروحات السياسيّة المتحرّكة، في شعارات الحركة الإسلاميّة، بعيداً عن الحديث عن الحلّ الشّامل في نطاق النظام الإسلامي، أو الدّولة الإسلاميّة، أو ما إلى ذلك، بل في طبيعة المواقف الحاسمة ضدّ الواقع السياسي في المواقع الإقليميّة أو في المواقع الدّوليّة.
فقد أصبح من المعروف أنّ هناك شيئاً مطروحاً في الساحة السياسيّة، يطلق عليه اسم المعادلات الثابتة في اللّعبة الإقليمية أو الدولية، التي يلتقي الجميع على حمايتها ورعايتها والحفاظ عليها، لأنها تمثّل قاعدة التوازن في المصالح الدوليّة، بحيث يجدون في اهتزازها نوعاً من اهتزاز الاستقرار الدّولي الشامل الذي يجعلهم يواجهون خطر الهلاك المحقق.
وقد نجد في حركة القوّة المتنوّعة المتنامية، نوعاً من الثبات والتوازن فيما هي مراكز القوى في العالم، وفيما هي طبيعة القوة الكبرى الضاغطة على موازين القوى في أكثر من موقع، ما يفرض الخضوع لها، والعمل على إدارة الحسابات المتحرّكة من خلالها، لأنّ مجابهتها ومواجهتها بالقوى المتواضعة التي يملكها المعارضون لها، يشبه مجابهة الصّخرة الكبيرة الصلبة التي تكسر كلّ الرؤوس التي تناطحها، دون أن تتفتت منها ذرّة واحدة، لأنّ مسألة القوّة والضّعف في طبيعة الأشياء، لا تخضع للطموحات الذاتيّة، بقدر ما تخضع للموازين الطبيعيّة في تقدير الأمور، في مصادرها ومواردها وعلاقاتها الطبيعيّة في صعيد الواقع.
وفي ضوء هذا، فإنّ الملحوظ أنّ الحركة الإسلاميّة لا تنطلق من النظرة الواقعيّة إلى الأمور، فيما هي المسألة السياسيّة أمام المعادلات الإقليميّة والدوليّة، وفيما هي القوّة الأمنيّة والعسكريّة أمام القوى الكبيرة الضّاغطة على الواقع، بل تنطلق من طموحات خاصّة تتحرك في المطلق، من دون خطّة مدروسة كاملة، وفيما هو الموقف المتوازن من المعسكرات الدوليّة.
فهناك الموقف الإقليمي الذي تتّخذه الحركة الإسلاميّة من الوجود الإسرائيلي، فيما تلتزمه من رفض المسألة الإسرائيليّة بالمطلق، ودعوتها إلى عودة الفلسطينيّين إلى فلسطين، وعودة اليهود الّذين جاؤوا من أقاصي الأرض إلى بلدانهم الأصليّة، لتبقى فلسطين بلداً إسلاميّاً يحكمه المسلمون من خلال الإسلام.
فكيف يمكن أن يكون هذا الموقف واقعياً، في الوقت الذي نجد أن إسرائيل تملك القوّة العسكرية التي تستطيع من خلالها السيطرة على أيّ بلد في المنطقة، والقوة الأمنية التي تتحرك مخابراتها لتتدخل في أكثر من موقع سياسي وأمني، لتحرّكه كما تشاء في خدمة مصالحها الأمنيّة والسياسية، والقوّة السياسية التي تمتدّ جذورها إلى كل المحاور الدولية والإقليمية، وتستطيع من خلالها أن تدير لعبة الصّراع في كثير من مفاصل الواقع الدولي، ولا سيّما فيما يتصل بالتحالف الاستراتيجي بينها وبين أمريكا، والتواصل السياسي مع أوروبا.. هذا مضافاً إلى القوّة البشريّة المتنامية في داخل إسرائيل، والمتحرّكة المنظمة في خارجها، إضافةً إلى المواقع المتقدمة للإمكانات الاقتصادية والعلمية في دول العالم، الأمر الّذي يجعلها محاطةً بألف سورٍ وسور من الحماية السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والعلمية، مما لا يملك الإسلاميّون أية قدرةٍ كبيرةٍ وصغيرة في ذلك كلّه، بل يمكن أن نقول إنّ نقاط الضّعف تحاصرهم في وجودهم الحركيّ من كلّ جهة، فيما يحيط بهم من تحدّيات، وفيما يواجههم من عقبات، وفيما يعترض وجودهم الداخلي من مشاكل.
وكيف يستطيعون تحقيق هذا الهدف الكبير الممكن، وهو إزالة إسرائيل من الوجود، وتحرير القدس؟
وقد نجد في المحور الدولي، أنّ الإسلاميّين يقفون موقفاً عدوانياً من الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفياتي، ودول أوروبا الغربية والشرقية، وكلّ مواقع الاستكبار العالمي، تحت شعار: الموت للظالمين والمستكبرين، ولأمريكا ولروسيا وما إلى ذلك، ما يوحي بأنّ القوّة الإسلاميّة الوليدة تقف موقفاً حادّاً ضدّ قوى العالم كلّه، بطريقة عنيفة متوتّرة، وبعقلية سياسية ترفض أنصاف الحلول، وتتعقّد من كلّ طروحات التسويات، ويرى بعض ممثّليها أنّ إقامة العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية معها، يمثّل الانحراف والخيانة والسقوط في فخ الاستكبار والمستكبرين. ويبقى شعار "لا شرقية ولا غربية" الّذي يرفض الشرق والغرب معاً، ويقاومهما معاً، يمثل الذهنية السياسية الحادّة التي يتمثل فيها السلوك السياسي الإسلامي في صيغته الأصولية الحاضرة.
فكيف نواجه الضّغوط الكبيرة التي يمكن أن تحاصر وجودنا كلّه من أكثر من جهة، في مواقعها الاستراتيجية، وفي إمكاناتها العسكرية والأمنية والاقتصادية والعلمية؟ وماذا نملك من ذلك كله؟ وهل نستطيع إدارة ثرواتنا الطبيعية وتسويقها في العالم بعيداً عنها؟ وهل نملك القدرة على الوصول إلى سياسة الاكتفاء الذاتي من دون مساعدتها؟ وكيف نستطيع محاربة واحدة منها من دون التحالف مع الأخرى؟
هل يمكن أن يكون الموقف واقعياً؟ وما هي الإمكانات الحقيقية التي تتيح لنا تحقيق بعض أهدافنا المطروحة من خلال هذا التصور؟ وهل نستطيع إبعاد صفة التطرف واللاواقعية عن مثل هذا التفكير؟ وهل يمكن أن تكون بعض الانتصارات ضد هذا المعسكر في بعض المواقع، أو ضد ذاك المعسكر في بعض آخر، أساساً للحديث عن العمق الواقعي لهذا التصور، في الوقت الذي نجد مثل هذه الانتصارات جزءاً من اللّعبة الدوليّة التي تفسح المجال لذلك التحرك، فيما تحرّكه من مفردات الصّراع في ساحة التجاذب الدولي؟
وهكذا، يمتدّ الموقف اللاواقعي في السلوك السياسي الحادّ في داخل الأنظمة اللاإسلاميّة في بلاد المسلمين، في الوقت الّذي تعمل الأنظمة على محاصرة النشاط الإسلامي بكلّ وسائلها القمعيّة، الّتي لا يملك الإسلاميون إمكانات المواجهة الحقيقية لها حتى في المواقع الصغيرة.
التحرّك في دائرة المعادلات الدوليّة
ربما يجد "الواقعيّون" و"المعتدلون" ضرورة إعادة النظر في مثل هذه النظرة، وفي مثل هذا السلوك، بالتركيز على دراسة المسألة في نطاق التعامل مع الأمر الواقع، في سياسة توافقيّة على أساس ترتيب الأوضاع، بما قد يتلاءم مع بعض المصالح الإسلاميّة في ظلّ هذا الواقع، أو بالتحرّك في دائرة المعادلات الدولية أو الإقليمية التي تتّسع لبعض إمكانات التغيير في حركة السّاحة، للنفاذ إلى بعض المواقع الصّعبة، في عملية مواجهة وتغيير، وللحصول على إمكانات الدخول في مفردات الصّراع في داخل المعادلة، بالاستفادة من بعض الفرص المتاحة للآخرين في إدارة اللّعبة في مواجهة هذا الفريق أو ذاك في دائرة الخطوط المرسومة.
إنّ مثل هذا التصوّر المعتدل الواقعي لا يعطّل الحركة، ولا يُسقط المبادئ، ولكنه يمنحها بُعداً واقعياً في المجالات العملية المتناسبة مع سنن الله في الكون، وفي الأوضاع الاجتماعيّة الخاضعة للقوانين الإنسانيّة في حركة الإنسان.
إنّ ذلك أفضل بكثير من السّقوط تحت تأثير الأفكار الخياليّة الّتي تصدم الإنسان عندما يواجه الواقع من دون نتائج إيجابيّة لمصلحة المستقبل.
هل هذه التصوّرات صحيحة؟ وهل يمثّل الطّرح الإسلامي في مثل هذه المفردات حالة تطرّف؟ وهل يُعتبر التطرّف حالةً في الخيال، أو حالة في الواقع؟ وهل المقياس في التطرّف والاعتدال، الظّروف الحاضرة الّتي تحاصرها اللّحظة في حسابات الزّمن، أو الظّروف المتغيّرة في آفاق المستقبل؟ وكيف نتصوّر الغيب في حركة الإسلام في الحياة وفي الإنسان؟ وهل يمكن أن نحسب حسابه في بعض مواقع التحرّك الإسلامي؟ هذه علامات الاستفهام الّتي نجيب عنها فيما نستقبل من حديث.
* الحركة الإسلاميّة هموم وقضايا