كتابات
02/02/2018

من ميزات الشخصيّة الإسلاميّة: الحقّ والصَّبر والرّحمة

من ميزات الشخصيّة الإسلاميّة: الحقّ والصَّبر والرّحمة

أكّد القرآن الكريم مفردات إيمانية كثيرة تتصل ببناء شخصية الإنسان المؤمن، وأكثر من ركّز على مفاهيم الحقّ والصّبر والرحمة، باعتبارها عناصر جوهريّة تؤمّن التوازن في العلاقة بين مختلف جوانب هذه الشخصيّة.

نهج الحقّ في القرآن

ومن أهمّ هذه المفاهيم، الحقّ الذي يرسم معالم النهج العملي في مسيرة الإنسان، فالحق هو الخط الذي لا بدّ للإنسان من أن يخضع فكره في كل مواقعه له، فلا يكون في داخل فكره شيءٌ من الباطل، وهذا ما يحتاج إلى مزيد من المراقبة لأيّ فكرة وافدة إلى عقله، لأن الإنسان ربما يواجه بفعل الضغوط الاجتماعية أو السياسية أو النفسية، الباطل الذي قد يقدّم إليه بصورة الحقّ، وهذا مما نلاحظه في الأجواء الشعبيّة والعاطفيّة، أو الأوضاع الغوغائية التي يمرّر بعض الناس تحت مؤثراتها بعض الأفكار على أنها الحقيقة.

في ظلّ هذه الأجواء، قد يخضع الإنسان لما يحيط به، وما يمنعه من أن يناقش أو يمنعه من أن يفكّر، فيستسلم للفكرة الشّائعة بين الناس، بفعل الضّغط النفسي والاجتماعي وربما السياسي، لذلك يحتاج الإنسان دائماً إلى مراقبة ما يدخل في فكره، لأنّ الإنسان ربما لا يختار الأشياء التي تدخل في فكره، فإذا راجعنا الأشياء التي تمثّل قناعتنا، أو حتى تمثّل عقائدنا ومفاهيمنا، فنجد أننا خضعنا في تلقّيها للبيئة في البيت، أو في المدرسة، أو لقراءة في صحيفة، أو في كتاب، أو لخطيبٍ استمعنا إليه، أو لأجواءٍ نفسيةٍ ضاغطة في المجتمع، ما يعني أن الأفكار قد فرضت من خلال الأجواء المحيطة، ولم تنتج اختيارياً، ولعل خطورة هذه المسألة، هي أن الإنسان حينما يدمن فكرة تربى عليها، فمن الصّعب جداً أن يتنازل عنها، ومن الصعب جداً أن يسمح لأحد بأن يناقشه فيها.

وبذلك، تتحجر الأفكار الموروثة في داخل عقله، فيصبح عقلاً متحجراً لا يدخل في مناقشة الفكر، وهذا ما يفرض على الإنسان المراقبة والمتابعة الدائمة للفكر، وأن يدرس دائماً خلفيات هذا الفكر في نفسه، وفي عقله وفي قلبه، في ما ينطلق فيه من مسؤوليّة في المجتمع، ومسؤوليّة أمام الله.

مسؤوليّة الإنسان الاجتماعيّة

أما المسؤولية أمام الناس، فإنه قد يبلغ موقعاً اجتماعياً أو دينياً أو سياسياً في المجتمع، بحيث يستمع إليه الجميع، ويقبلون فكره وكلامه بفعل الحالة العاطفيّة، فإذا كانت الفكرة لا تملك النّضوج في العقل، ولا ترتكز على قاعدة متينة، فإنها تؤدّي إلى احتراز ثقة الناس به، أو إلى إرباك الواقع. كما أن الطعام غير الناضج يربك الجانب الجسدي من الإنسان، فإن الفكر غير الناضج أخطر، لأنه يربك العقل والقلب، وربما يربك المصير، وكم من الناس هلكوا وسقطوا وأساؤوا بفعل أنهم خضعوا لمثل هذا الفكر، وجاؤوا بالباطل تحت عنوان أنّه الحق! لهذا نجد أن الحق هو من العناوين الكبرى التي تشمل الإسلام كله والحياة كلها، فالحق هو العنصر الذي يملك الثبات، لأنه يرتكز على قاعدة عميقة في الواقع وفي النفس، كما ضرب الله لنا مثلاً للحقّ والباطل في سورتين، وعبّر عن الحقّ بالكلمة الطيبة، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}، وعبّر عن الباطل بالشّجرة الخبيثة {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}.

الصّبر والإرادة

وأمّا العنوان الثاني الذي أكّده القرآن في أكثر من آية، فهو عنوان الصّبر، والصبر يعبر عن الإرادة الإنسانية القوية التي تتمرد على الآلام من خلال ما قد يواجهه الإنسان من الحرمان، سواء كان حرمان الشهوة أو حرمان الموقع، أو حرمان المال، لأن الحرمان، أي حرمان كان مما يمثّل تطلّعات الإنسان ومشتهياته وطموحاته، يحدث ألماً في النّفس، ويشعر الإنسان بالفراغ والفقدان لما يملأ نفسه به، ومن أخطر الأشياء للإنسان، الشّعور بالفراغ أمام طموحاته وتطلّعاته ومشتهياته في الحياة.

وقد عبّر الله عن الصّبر بأنّه منطلق القوّة، وليس عنصر الضّعف، بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، لأن الصبر يمثل قوة الإرادة أمام نقاط الضعف، لأن الإنسان عندما يعيش نقاط الضعف في نفسه، فإنها قد تسقطه وقد تهزمه، وقد تجعله يتنازل عن مواقفه الحيوية أو المصيرية. ولذلك نجد أن الطغاة والظالمين في كلّ أساليبهم التي يعملون فيها للسيطرة على الناس، يتحدّون نقاط ضعف الإنسان التي يثيرونها، ليسقط الإنسان أمامها، لذلك كان دور الصّبر فاعلاً في عملية تماسك الإنسان في المواقف الصّعبة، لأنه عندما يتماسك، يتوازن في تحديد ما يريد وما يرفض. أمّا إذا فقد الصّبر وسيطر الجزع، فإن الإنسان سينهار أمام المشكلة وأمام التحدّي، نتيجة الضّغط القائم عليه، فيفقد القدرة على التفكير، وعندها يبدأ بالتساقط تباعاً، فيسقط ثباته العقلي والقلبي والعملي، ويدخل في متاهات متعدّدة، لكن الإنسان الذي يصبر، يتماسك ويرجع إليه عقله وتوازنه، ويملك السّيطرة على حركته في الحياة، وهذا ما جعل الإسلام يؤكّد الصبر كأعلى قيمة في الجانب العملي للإنسان، وفي مواجهة التحديات بعزم وقوّة، سواء على مستوى الأوضاع التي تتحدى الإنسان في أموره الأساسيّة كالرزق والأمن والأنفس، وفي الجانب العاطفي {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون}.

لماذا هذه المنـزلة؟ لأن الصابرين الذي ينفتحون على الله، على أساس أنه وحده يملك الأمر كله، وهو ينظّم الحياة على أساس وجود جانبين، جانب سلبيّ وجانب إيجابيّ، وكلاهما خير للحياة، فعلى الإنسان أن يصبر على الجانب السلبي فلا يسقط، وعلى الجانب الإيجابي فلا يطغى..

إن الإيمان يمثل المسؤولية التي قد تكون جسدية، أو مالية، أو روحية، وكما كان الكثير من هذه المسؤوليات لا ينسجم مع حبّ الراحة للإنسان وحالة الاسترخاء، لذلك احتاج الإنسان أن يصبر على ما تكلفه المسؤولية من تضحيات أو من جهد أو ما أشبه ذلك...

الرّحمة في العلاقات الإنسانيّة

العنوان الثالث الذي يتصل بالحياة الاجتماعية العامة، هو الرحمة، والرحمة هي هذا النبت الإنساني الذي ينبت في وجدان الإنسان، وفي وعيه للإنسان الآخر، الذي قد يخضع لحالة ضعف أو لحالة ألم أو لحالة فقر... أو لأيّ حالة قد لا يملك الإنسان التماسك أمامها، بحيث يكون بحاجة إلى من يمنحه العاطفة ويمنحه المساعدة والرعاية والاحتضان، وهذا ما نعيشه في حياتنا، فالإنسان عندما يصاب بمصيبة كبيرة، أو مشكلة صعبة، يحتاج إلى الالتفاتة الرحيمة من الناس إن كان ذلك بالكلمة أو التقديم المادي، ولا سيّما الفئات التي تعيش الضعف، بحسب السنّ، أو اليتم... أو المساكين والفقراء، والرّحمة من المفاهيم الإسلامية التي انطلقت من الله، فالله يصف نفسه بأنه الرّحمن الرحيم، {وَرَحْمَتي وَسعَتْ كُلَّ شيء}، وهو الذي سبقت رحمته غضبه. وهكذا امتدّت الرّحمة إلى الرسول، فرسالته كلّها رحمة، كما هي عناصر شخصيّته التي اندمجت برسالته، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.

وهكذا، يحدِّثنا الله عن الرّسول(ص): {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} عزيز عليه، يؤلمه، يعزّ عليه، يثقله، {مَا عَنِتُّمْ}، ما يشقّ عليكم، وما تتكلّفونه من جهد، {حَرِيصٌ عَلَيْكُم}، كما تحرص الأمّ على أولادها، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.

لذا، فمسألة الرحمة، هي التي يمكن أن توازن المجتمع الإنساني، لأنّ المجتمع الإنساني عندما يكون قاسياً، متحجّراً في تفاعله مع الآخر، أو في نظرته للآخر، فإنّ العلاقات الإنسانية تتحجّر فيه، ما يؤدّي إلى انفصال الإنسان عن الإنسان، في حين تأتي الرّحمة لتربط الإنسان بالإنسان، من خلال الجانب الروحي والنفسي والعاطفي، الذي يعيشه تجاه الإنسان الآخر.

نحن نعرف أنَّ العالم الإنساني كلّه انطلق في نموّه الطبيعي من رحمة الأبوين، فلولا هذه الرحمة التي غرسها الله سبحانه وتعالى في نفس الأمّ والأب، والتي يتحملان فيها كل المتاعب والتضحيات من أجل الأبناء، لما تحمّل أحد أثقال المتاعب التي تفرضها تربية الولد على الأهل، لذا نجد أنهما يقدّمان كلّ شيء له وهما في أشدّ حالات الألم، ويبتسمان، ويشعران بالسعادة، ونستشهد على ذلك بحادثة حصلت مع الرسول(ص)، وهي أنّ شخصاً جاءه(ص) وقال له: "أنا قمت بكلّ ما يمكنني من خدمة أبوي، وهما شيخان كبيران، فهل أدّيت حقهما؟"، فقال له(ص): لا. قال: كيف، لقد أعطيتهم أكثر مما أعطوني؟ (مثل بعض الظرفاء، يمازح أمّه، تقول له: أنا أرضعتك، فيقول لها، كم كيلو من الحليب أرضعتني، لأرجعهم لك)، فقال له(ص): "لا، لأنَّك خدمتهما وأنت تنتظر موتهما، وهما خدماك وهما ينتظران حياتك"، ويحافظان على حياتك، فالرَّحمة ليست مجرَّد نبضة عاطفيّة.

ومن جهة ثانية، فإنَّ من مظاهر الرّحمة التي تتجلّى في عمق العلاقات التي يرتبط بها الناس فيما بينهم، هي أن يقدّر كلّ طرف من طرفي العلاقة ظروف الآخر، في أن لا يكون قاسياً تجاه المواقف التي يواجهها من الآخر، بل يكون رحيماً كريماً، ويدرس أبعاد الفعل بكلّ إنسانية، فعندما يكون الشخص أباً، عليه أن يدرس ذهنيَّة ولده، وعندما يكون زوجاً أو زوجةً، أن يدرس ظروف الآخر التي دفعته إلى هذا التصرّف.

نحن غالباً نتعامل مع أولادنا من الخارج، لا نتعامل مع الدّاخل، أي أننا لم نفهمهم على حقيقتهم، ولذلك عجزنا عن التعامل الإيجابي والنّاجح معهم، ولو فرضنا أننا قمنا باستفتاء عند النّاس؛ هل درستم أبناءكم، ماذا يكون الجواب؟ بالطبع كلّا، فالولد من سنّ السنتين، يبدأ عملية فهم ما يدور حوله، ولكن لا يستطيع التّعبير، الولد يختزن المشاعر، العواطف، الآلام، يمكن له أن يعيش ردود الفعل تجاه ما يحصل بين أبيه وأمّه، ومما يراه من مظاهر مؤلمة ومحزنة. وبذلك تتركّز شخصيّته على نقاط قوّة وضعف، ما يتطلب أن نفهمها ونتعامل معهم على أساس تفهّم ظروفهم، حتى نقودهم إلى طريق السّعادة والنجاح.. كذلك عندما يعيش الزوجان، فإننا نلاحظ أنَّ الله ركّز في الحياة الزوجية على أمرين {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}. والرّحمة هي أن يدرس الزوج الظروف النفسية والعائلية والعقلية لزوجته، وكذلك الزوجة. فمثلاً، ربما تتصوّر الزّوجة أنَّ زوجها يسيء إليها، ولكن عندما تدرس الظرف العقلي أو النفسي أو العائلي الذي يخضع له الزوج، تشعر بأنه معذور، لأنه خاضع للضغط الذي لا يستطيع الخلاص منه، وهكذا الزّوج بالنسبة إلى زوجته، أن يرحم طبيعة كيانها العاطفي فيما يحبّ وفيما يبغض، ويرحم ظروفها الصّعبة. فالرحمة ليست حالة تتصل بالعاطفة السّاذجة، لكنّ الرحمة تمثل الخطّ الذي يجعلك تعيش إنسانيتّك في إنسانية الآخر، ويمكن أن نستوحي هذا المعنى من الكلمة المعروفة المرويّة عن النبيّ(ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه".

التّواصي بالصّبر والحقّ

إنّ هذا الحبّ المطلوب من الإنسان، بحيث يقدّر ظروف أخيه فيما يخطئ به، وفيما يصيبه... في سلبياته وإيجابياته، كما يطلب من الآخرين أن يقدروا له ظروفه، وهكذا بالنسبة للمجتمع على صعيدي الرحمة العقلانية، والرحمة العملية.

إن هذه العناوين الثلاثة: الحق، والصبر، والرحمة، هي العناوين التي تمثل العناصر الحيوية التي يقوم عليها توازن الحياة في الإنسان، لذلك، لم يرد الله للإنسان فقط أن يعيش هذه المفاهيم، بل حمّله مسؤوليّة أن يعيشها، في أن يوصي الآخرين بالتزام هذه الموازين، {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} يوصي بعضهم البعض بالحق، حتى لا ينحرف الإنسان نتيجة غفلة أو ضغط، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}.

إنَّ الإنسان عندما يواجه المسؤوليّة في الحياة، في خطّ التزامه بالحقّ، قد يواجه الضغوط الكثيرة. ولذلك، يوصي المؤمنون بعضهم بعضاً بالصّبر، أن لا يسقطوا، أن لا يضعفوا، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}. إنّه التأكيد على الصَّبر، لأنه بمنـزلة الرأس من الجسد، وعلى التّواصي بالمرحمة، فيصبح لدينا تواص اجتماعي بالرحمة التي تحتاجها الكثير من الفئات في المجتمع...

*العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)/ النّدوة القرآنيّة، بتاريخ 8/4/2003.

أكّد القرآن الكريم مفردات إيمانية كثيرة تتصل ببناء شخصية الإنسان المؤمن، وأكثر من ركّز على مفاهيم الحقّ والصّبر والرحمة، باعتبارها عناصر جوهريّة تؤمّن التوازن في العلاقة بين مختلف جوانب هذه الشخصيّة.

نهج الحقّ في القرآن

ومن أهمّ هذه المفاهيم، الحقّ الذي يرسم معالم النهج العملي في مسيرة الإنسان، فالحق هو الخط الذي لا بدّ للإنسان من أن يخضع فكره في كل مواقعه له، فلا يكون في داخل فكره شيءٌ من الباطل، وهذا ما يحتاج إلى مزيد من المراقبة لأيّ فكرة وافدة إلى عقله، لأن الإنسان ربما يواجه بفعل الضغوط الاجتماعية أو السياسية أو النفسية، الباطل الذي قد يقدّم إليه بصورة الحقّ، وهذا مما نلاحظه في الأجواء الشعبيّة والعاطفيّة، أو الأوضاع الغوغائية التي يمرّر بعض الناس تحت مؤثراتها بعض الأفكار على أنها الحقيقة.

في ظلّ هذه الأجواء، قد يخضع الإنسان لما يحيط به، وما يمنعه من أن يناقش أو يمنعه من أن يفكّر، فيستسلم للفكرة الشّائعة بين الناس، بفعل الضّغط النفسي والاجتماعي وربما السياسي، لذلك يحتاج الإنسان دائماً إلى مراقبة ما يدخل في فكره، لأنّ الإنسان ربما لا يختار الأشياء التي تدخل في فكره، فإذا راجعنا الأشياء التي تمثّل قناعتنا، أو حتى تمثّل عقائدنا ومفاهيمنا، فنجد أننا خضعنا في تلقّيها للبيئة في البيت، أو في المدرسة، أو لقراءة في صحيفة، أو في كتاب، أو لخطيبٍ استمعنا إليه، أو لأجواءٍ نفسيةٍ ضاغطة في المجتمع، ما يعني أن الأفكار قد فرضت من خلال الأجواء المحيطة، ولم تنتج اختيارياً، ولعل خطورة هذه المسألة، هي أن الإنسان حينما يدمن فكرة تربى عليها، فمن الصّعب جداً أن يتنازل عنها، ومن الصعب جداً أن يسمح لأحد بأن يناقشه فيها.

وبذلك، تتحجر الأفكار الموروثة في داخل عقله، فيصبح عقلاً متحجراً لا يدخل في مناقشة الفكر، وهذا ما يفرض على الإنسان المراقبة والمتابعة الدائمة للفكر، وأن يدرس دائماً خلفيات هذا الفكر في نفسه، وفي عقله وفي قلبه، في ما ينطلق فيه من مسؤوليّة في المجتمع، ومسؤوليّة أمام الله.

مسؤوليّة الإنسان الاجتماعيّة

أما المسؤولية أمام الناس، فإنه قد يبلغ موقعاً اجتماعياً أو دينياً أو سياسياً في المجتمع، بحيث يستمع إليه الجميع، ويقبلون فكره وكلامه بفعل الحالة العاطفيّة، فإذا كانت الفكرة لا تملك النّضوج في العقل، ولا ترتكز على قاعدة متينة، فإنها تؤدّي إلى احتراز ثقة الناس به، أو إلى إرباك الواقع. كما أن الطعام غير الناضج يربك الجانب الجسدي من الإنسان، فإن الفكر غير الناضج أخطر، لأنه يربك العقل والقلب، وربما يربك المصير، وكم من الناس هلكوا وسقطوا وأساؤوا بفعل أنهم خضعوا لمثل هذا الفكر، وجاؤوا بالباطل تحت عنوان أنّه الحق! لهذا نجد أن الحق هو من العناوين الكبرى التي تشمل الإسلام كله والحياة كلها، فالحق هو العنصر الذي يملك الثبات، لأنه يرتكز على قاعدة عميقة في الواقع وفي النفس، كما ضرب الله لنا مثلاً للحقّ والباطل في سورتين، وعبّر عن الحقّ بالكلمة الطيبة، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}، وعبّر عن الباطل بالشّجرة الخبيثة {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}.

الصّبر والإرادة

وأمّا العنوان الثاني الذي أكّده القرآن في أكثر من آية، فهو عنوان الصّبر، والصبر يعبر عن الإرادة الإنسانية القوية التي تتمرد على الآلام من خلال ما قد يواجهه الإنسان من الحرمان، سواء كان حرمان الشهوة أو حرمان الموقع، أو حرمان المال، لأن الحرمان، أي حرمان كان مما يمثّل تطلّعات الإنسان ومشتهياته وطموحاته، يحدث ألماً في النّفس، ويشعر الإنسان بالفراغ والفقدان لما يملأ نفسه به، ومن أخطر الأشياء للإنسان، الشّعور بالفراغ أمام طموحاته وتطلّعاته ومشتهياته في الحياة.

وقد عبّر الله عن الصّبر بأنّه منطلق القوّة، وليس عنصر الضّعف، بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، لأن الصبر يمثل قوة الإرادة أمام نقاط الضعف، لأن الإنسان عندما يعيش نقاط الضعف في نفسه، فإنها قد تسقطه وقد تهزمه، وقد تجعله يتنازل عن مواقفه الحيوية أو المصيرية. ولذلك نجد أن الطغاة والظالمين في كلّ أساليبهم التي يعملون فيها للسيطرة على الناس، يتحدّون نقاط ضعف الإنسان التي يثيرونها، ليسقط الإنسان أمامها، لذلك كان دور الصّبر فاعلاً في عملية تماسك الإنسان في المواقف الصّعبة، لأنه عندما يتماسك، يتوازن في تحديد ما يريد وما يرفض. أمّا إذا فقد الصّبر وسيطر الجزع، فإن الإنسان سينهار أمام المشكلة وأمام التحدّي، نتيجة الضّغط القائم عليه، فيفقد القدرة على التفكير، وعندها يبدأ بالتساقط تباعاً، فيسقط ثباته العقلي والقلبي والعملي، ويدخل في متاهات متعدّدة، لكن الإنسان الذي يصبر، يتماسك ويرجع إليه عقله وتوازنه، ويملك السّيطرة على حركته في الحياة، وهذا ما جعل الإسلام يؤكّد الصبر كأعلى قيمة في الجانب العملي للإنسان، وفي مواجهة التحديات بعزم وقوّة، سواء على مستوى الأوضاع التي تتحدى الإنسان في أموره الأساسيّة كالرزق والأمن والأنفس، وفي الجانب العاطفي {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون}.

لماذا هذه المنـزلة؟ لأن الصابرين الذي ينفتحون على الله، على أساس أنه وحده يملك الأمر كله، وهو ينظّم الحياة على أساس وجود جانبين، جانب سلبيّ وجانب إيجابيّ، وكلاهما خير للحياة، فعلى الإنسان أن يصبر على الجانب السلبي فلا يسقط، وعلى الجانب الإيجابي فلا يطغى..

إن الإيمان يمثل المسؤولية التي قد تكون جسدية، أو مالية، أو روحية، وكما كان الكثير من هذه المسؤوليات لا ينسجم مع حبّ الراحة للإنسان وحالة الاسترخاء، لذلك احتاج الإنسان أن يصبر على ما تكلفه المسؤولية من تضحيات أو من جهد أو ما أشبه ذلك...

الرّحمة في العلاقات الإنسانيّة

العنوان الثالث الذي يتصل بالحياة الاجتماعية العامة، هو الرحمة، والرحمة هي هذا النبت الإنساني الذي ينبت في وجدان الإنسان، وفي وعيه للإنسان الآخر، الذي قد يخضع لحالة ضعف أو لحالة ألم أو لحالة فقر... أو لأيّ حالة قد لا يملك الإنسان التماسك أمامها، بحيث يكون بحاجة إلى من يمنحه العاطفة ويمنحه المساعدة والرعاية والاحتضان، وهذا ما نعيشه في حياتنا، فالإنسان عندما يصاب بمصيبة كبيرة، أو مشكلة صعبة، يحتاج إلى الالتفاتة الرحيمة من الناس إن كان ذلك بالكلمة أو التقديم المادي، ولا سيّما الفئات التي تعيش الضعف، بحسب السنّ، أو اليتم... أو المساكين والفقراء، والرّحمة من المفاهيم الإسلامية التي انطلقت من الله، فالله يصف نفسه بأنه الرّحمن الرحيم، {وَرَحْمَتي وَسعَتْ كُلَّ شيء}، وهو الذي سبقت رحمته غضبه. وهكذا امتدّت الرّحمة إلى الرسول، فرسالته كلّها رحمة، كما هي عناصر شخصيّته التي اندمجت برسالته، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.

وهكذا، يحدِّثنا الله عن الرّسول(ص): {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} عزيز عليه، يؤلمه، يعزّ عليه، يثقله، {مَا عَنِتُّمْ}، ما يشقّ عليكم، وما تتكلّفونه من جهد، {حَرِيصٌ عَلَيْكُم}، كما تحرص الأمّ على أولادها، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.

لذا، فمسألة الرحمة، هي التي يمكن أن توازن المجتمع الإنساني، لأنّ المجتمع الإنساني عندما يكون قاسياً، متحجّراً في تفاعله مع الآخر، أو في نظرته للآخر، فإنّ العلاقات الإنسانية تتحجّر فيه، ما يؤدّي إلى انفصال الإنسان عن الإنسان، في حين تأتي الرّحمة لتربط الإنسان بالإنسان، من خلال الجانب الروحي والنفسي والعاطفي، الذي يعيشه تجاه الإنسان الآخر.

نحن نعرف أنَّ العالم الإنساني كلّه انطلق في نموّه الطبيعي من رحمة الأبوين، فلولا هذه الرحمة التي غرسها الله سبحانه وتعالى في نفس الأمّ والأب، والتي يتحملان فيها كل المتاعب والتضحيات من أجل الأبناء، لما تحمّل أحد أثقال المتاعب التي تفرضها تربية الولد على الأهل، لذا نجد أنهما يقدّمان كلّ شيء له وهما في أشدّ حالات الألم، ويبتسمان، ويشعران بالسعادة، ونستشهد على ذلك بحادثة حصلت مع الرسول(ص)، وهي أنّ شخصاً جاءه(ص) وقال له: "أنا قمت بكلّ ما يمكنني من خدمة أبوي، وهما شيخان كبيران، فهل أدّيت حقهما؟"، فقال له(ص): لا. قال: كيف، لقد أعطيتهم أكثر مما أعطوني؟ (مثل بعض الظرفاء، يمازح أمّه، تقول له: أنا أرضعتك، فيقول لها، كم كيلو من الحليب أرضعتني، لأرجعهم لك)، فقال له(ص): "لا، لأنَّك خدمتهما وأنت تنتظر موتهما، وهما خدماك وهما ينتظران حياتك"، ويحافظان على حياتك، فالرَّحمة ليست مجرَّد نبضة عاطفيّة.

ومن جهة ثانية، فإنَّ من مظاهر الرّحمة التي تتجلّى في عمق العلاقات التي يرتبط بها الناس فيما بينهم، هي أن يقدّر كلّ طرف من طرفي العلاقة ظروف الآخر، في أن لا يكون قاسياً تجاه المواقف التي يواجهها من الآخر، بل يكون رحيماً كريماً، ويدرس أبعاد الفعل بكلّ إنسانية، فعندما يكون الشخص أباً، عليه أن يدرس ذهنيَّة ولده، وعندما يكون زوجاً أو زوجةً، أن يدرس ظروف الآخر التي دفعته إلى هذا التصرّف.

نحن غالباً نتعامل مع أولادنا من الخارج، لا نتعامل مع الدّاخل، أي أننا لم نفهمهم على حقيقتهم، ولذلك عجزنا عن التعامل الإيجابي والنّاجح معهم، ولو فرضنا أننا قمنا باستفتاء عند النّاس؛ هل درستم أبناءكم، ماذا يكون الجواب؟ بالطبع كلّا، فالولد من سنّ السنتين، يبدأ عملية فهم ما يدور حوله، ولكن لا يستطيع التّعبير، الولد يختزن المشاعر، العواطف، الآلام، يمكن له أن يعيش ردود الفعل تجاه ما يحصل بين أبيه وأمّه، ومما يراه من مظاهر مؤلمة ومحزنة. وبذلك تتركّز شخصيّته على نقاط قوّة وضعف، ما يتطلب أن نفهمها ونتعامل معهم على أساس تفهّم ظروفهم، حتى نقودهم إلى طريق السّعادة والنجاح.. كذلك عندما يعيش الزوجان، فإننا نلاحظ أنَّ الله ركّز في الحياة الزوجية على أمرين {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}. والرّحمة هي أن يدرس الزوج الظروف النفسية والعائلية والعقلية لزوجته، وكذلك الزوجة. فمثلاً، ربما تتصوّر الزّوجة أنَّ زوجها يسيء إليها، ولكن عندما تدرس الظرف العقلي أو النفسي أو العائلي الذي يخضع له الزوج، تشعر بأنه معذور، لأنه خاضع للضغط الذي لا يستطيع الخلاص منه، وهكذا الزّوج بالنسبة إلى زوجته، أن يرحم طبيعة كيانها العاطفي فيما يحبّ وفيما يبغض، ويرحم ظروفها الصّعبة. فالرحمة ليست حالة تتصل بالعاطفة السّاذجة، لكنّ الرحمة تمثل الخطّ الذي يجعلك تعيش إنسانيتّك في إنسانية الآخر، ويمكن أن نستوحي هذا المعنى من الكلمة المعروفة المرويّة عن النبيّ(ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه".

التّواصي بالصّبر والحقّ

إنّ هذا الحبّ المطلوب من الإنسان، بحيث يقدّر ظروف أخيه فيما يخطئ به، وفيما يصيبه... في سلبياته وإيجابياته، كما يطلب من الآخرين أن يقدروا له ظروفه، وهكذا بالنسبة للمجتمع على صعيدي الرحمة العقلانية، والرحمة العملية.

إن هذه العناوين الثلاثة: الحق، والصبر، والرحمة، هي العناوين التي تمثل العناصر الحيوية التي يقوم عليها توازن الحياة في الإنسان، لذلك، لم يرد الله للإنسان فقط أن يعيش هذه المفاهيم، بل حمّله مسؤوليّة أن يعيشها، في أن يوصي الآخرين بالتزام هذه الموازين، {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} يوصي بعضهم البعض بالحق، حتى لا ينحرف الإنسان نتيجة غفلة أو ضغط، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}.

إنَّ الإنسان عندما يواجه المسؤوليّة في الحياة، في خطّ التزامه بالحقّ، قد يواجه الضغوط الكثيرة. ولذلك، يوصي المؤمنون بعضهم بعضاً بالصّبر، أن لا يسقطوا، أن لا يضعفوا، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}. إنّه التأكيد على الصَّبر، لأنه بمنـزلة الرأس من الجسد، وعلى التّواصي بالمرحمة، فيصبح لدينا تواص اجتماعي بالرحمة التي تحتاجها الكثير من الفئات في المجتمع...

*العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)/ النّدوة القرآنيّة، بتاريخ 8/4/2003.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية