كتابات
27/03/2019

حاجتنا إلى تربية روحيّة

حاجتنا إلى تربية روحيّة

لا أظن أنّ الإنسانية بليت في تاريخها الطويل ببلبلة واضطراب شبيهين بما عانت وتعاني في نصف القرن الحاضر، فهي في تنافس دائم، وتطاحن مستمرّ.

ولا أدلّ على ذلك من أنها روّعت بحربين عالميتين فيما لا يتجاوز خمساً وعشرين سنة، وتخشى من يوم لآخر أن تساق إلى الثالثة.

ولهذا؛ ولا شكّ؛ ظروف وملابسات شتّى، سياسية واقتصادية واجتماعية، ولا نودّ أن ندخل في تفاصيلها؛ إلا أني أعتقد أن من بينها أمراً نكاد نغفله ولا نقدره قدره، وأعني به نقص المثل العليا والقيم الروحيّة، أو حيدتها، وعدم الاعتداد بها.

فليس لها في صلات الأفراد والجماعات ما ينبغي من وزن وتقدير، ونستطيع أن نقرر أن هناك أزمة روحية وخلقية عامّة قد انتابت الأفراد والشعوب.

أمّا دعوات الإخاء والمساواة، والاتحاد والتّضامن، والسلام والأمن الجماعيّ، برغم قوتها وتعدّدها، فإنه لا يبدو عليها أنها صادقة كلّ الصدق، ولا منبعثة تماماً من القلب؛ ولذا لا نرى لها صدى واضحاً، ولا تلبث أن تذهب مع الريح.

وبالأمس البعيد، بنينا على عصبة الأمم آمالاً كباراً، وبعد قليل انهارت.

ولا أظنّ أن ثقتنا وآمالنا اليوم في هيئة الأمم الحاضرة، تعادل ما كنّا نحلم به ونطمح إليه. وفي الواقع، إنّ العالم تجتاحه موجة ماديّة جامحة، وتكاد تطغى فيه فكرة الكمّ على فكرة الكيف، وكأنما يراد بالحياة كلّها أن تصبح ضرباً من الآلية التي لا تدع مجالاً يذكر للتدبر والاعتبار.

والطابع الحضاري الذي نجدّ في محاكاته، ونتسابق عليه؛ معنيّ كل العناية بمظاهر الحسّ واللّمس، إن في المأكل والمشرب، أو الملبس والمسكن؛ فالأطعمة في تهيئتها وعرضها تغذّي شهوات لا حدّ لها، والأشربة في ألوانها وأصنافها باب فسيح من أبواب التّرفيه، والموديلات الموسميّة لملابس الرجال والنساء تنحطّ فيها إلى مدى بعيد متعة العين والجسم، والعمارات المكتظّة بالسكان لا تتيح كثيراً من فرص الهدوء والسكينة.

والمرء في أطوار حياته، وبيئاته المختلفة، منغمس، قصد أو لم يقصد، في هذه المادية والجسمية، فالطّفل في أسرته لا ينعم بذلك الجوّ الرّوحي الذي كان ينعم به الأطفال قديماً، وأمره في الغالب موكول إلى مربّيات قلّ أن يكون للاعتبارات الروحية وزن كبير في نظرهنّ، وإن شغل به أبواه أحياناً، فما ذاك إلا لتنميق زيّه أو التفكّه معه، وهو في مدرسته قطعة من جهاز كبير يراد به أن يتحرّك حركة إجماعية متناسقة، دون أن يكون لكلّ جزء من أجزاء هذا الجهاز حساب خاصّ.

والشابّ في معهده أو كلّيته حبله على غاربه، لا يحتمل أيّة رقابة، ولا يستطيب أيّ إشراف، وإن حظي بشيء من ذلك، فإنما ينصبّ على تربية جسمه وعقله، فله في الرّياضات البدنية نشاط ملحوظ، وهو مضطرّ لأن يحصل من الحقائق والمعلومات ما يكفل له النّجاح، ويمكنه من نيل الألقاب العلميّة، أمّا روحه في إحساساتها ووجدانها، وعقده النفسيّة والكشف عنها، وثوراته الباطنيّة وما يترتّب عليها، فكلّ تلك أمور متروكة بدون تربية أو تعهد.

ولا يختلف الرّجل في حياته العادية عن ذلك كثيراً، فهو في غمرتها لا يجد متسعاً لمحاسبة نفس أو تأنيب ضمير، وهو في انصرافه عن العبادات والطقوس الدينيّة، لا ينعم بسماع موعظة، ولا يتذوّق نصيحة، وقد كانت الجمعيات الصوفية والأخلاقية تتدارك بعض هذا النقص، ولكنها بدورها في تلاش وانقراض، ولم تدع لها الأندية الرياضية والجماعات السياسية مجالا فسيحاً.

هذا هو الموقف في خطوطه الرئيسية، ويبدو منها في وضوح، أنّ الجانب الروحي من الإنسان أضحى في حاجة ماسّة إلى تعهّد وغذاء، وأخشى ما أخشاه، أنّه لا يحظى من القادة والمصلحين بما هو أهل له من عناية، وإذا تتبّعنا المذاهب والدعوات الجديدة الّتي قامت في نصف القرن الماضي، وجدناها، إلا قليلاً، تنزع منزعاً مادّياً؛ فمن كارل ماركس إلى لينين، ومن موسليني إلى هتلر، إنما تردّد نغمة الكفاح والنّضال والفوز والغلبة. أمّا المثل العليا والقيم الروحيّة، فلا يكاد يقام لها وزن ولا يحسب لها حساب.

*من مجلة "رسالة الإسلام" – العدد 10.

إنّ الآراء الواردة في هذا التّقرير، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.

لا أظن أنّ الإنسانية بليت في تاريخها الطويل ببلبلة واضطراب شبيهين بما عانت وتعاني في نصف القرن الحاضر، فهي في تنافس دائم، وتطاحن مستمرّ.

ولا أدلّ على ذلك من أنها روّعت بحربين عالميتين فيما لا يتجاوز خمساً وعشرين سنة، وتخشى من يوم لآخر أن تساق إلى الثالثة.

ولهذا؛ ولا شكّ؛ ظروف وملابسات شتّى، سياسية واقتصادية واجتماعية، ولا نودّ أن ندخل في تفاصيلها؛ إلا أني أعتقد أن من بينها أمراً نكاد نغفله ولا نقدره قدره، وأعني به نقص المثل العليا والقيم الروحيّة، أو حيدتها، وعدم الاعتداد بها.

فليس لها في صلات الأفراد والجماعات ما ينبغي من وزن وتقدير، ونستطيع أن نقرر أن هناك أزمة روحية وخلقية عامّة قد انتابت الأفراد والشعوب.

أمّا دعوات الإخاء والمساواة، والاتحاد والتّضامن، والسلام والأمن الجماعيّ، برغم قوتها وتعدّدها، فإنه لا يبدو عليها أنها صادقة كلّ الصدق، ولا منبعثة تماماً من القلب؛ ولذا لا نرى لها صدى واضحاً، ولا تلبث أن تذهب مع الريح.

وبالأمس البعيد، بنينا على عصبة الأمم آمالاً كباراً، وبعد قليل انهارت.

ولا أظنّ أن ثقتنا وآمالنا اليوم في هيئة الأمم الحاضرة، تعادل ما كنّا نحلم به ونطمح إليه. وفي الواقع، إنّ العالم تجتاحه موجة ماديّة جامحة، وتكاد تطغى فيه فكرة الكمّ على فكرة الكيف، وكأنما يراد بالحياة كلّها أن تصبح ضرباً من الآلية التي لا تدع مجالاً يذكر للتدبر والاعتبار.

والطابع الحضاري الذي نجدّ في محاكاته، ونتسابق عليه؛ معنيّ كل العناية بمظاهر الحسّ واللّمس، إن في المأكل والمشرب، أو الملبس والمسكن؛ فالأطعمة في تهيئتها وعرضها تغذّي شهوات لا حدّ لها، والأشربة في ألوانها وأصنافها باب فسيح من أبواب التّرفيه، والموديلات الموسميّة لملابس الرجال والنساء تنحطّ فيها إلى مدى بعيد متعة العين والجسم، والعمارات المكتظّة بالسكان لا تتيح كثيراً من فرص الهدوء والسكينة.

والمرء في أطوار حياته، وبيئاته المختلفة، منغمس، قصد أو لم يقصد، في هذه المادية والجسمية، فالطّفل في أسرته لا ينعم بذلك الجوّ الرّوحي الذي كان ينعم به الأطفال قديماً، وأمره في الغالب موكول إلى مربّيات قلّ أن يكون للاعتبارات الروحية وزن كبير في نظرهنّ، وإن شغل به أبواه أحياناً، فما ذاك إلا لتنميق زيّه أو التفكّه معه، وهو في مدرسته قطعة من جهاز كبير يراد به أن يتحرّك حركة إجماعية متناسقة، دون أن يكون لكلّ جزء من أجزاء هذا الجهاز حساب خاصّ.

والشابّ في معهده أو كلّيته حبله على غاربه، لا يحتمل أيّة رقابة، ولا يستطيب أيّ إشراف، وإن حظي بشيء من ذلك، فإنما ينصبّ على تربية جسمه وعقله، فله في الرّياضات البدنية نشاط ملحوظ، وهو مضطرّ لأن يحصل من الحقائق والمعلومات ما يكفل له النّجاح، ويمكنه من نيل الألقاب العلميّة، أمّا روحه في إحساساتها ووجدانها، وعقده النفسيّة والكشف عنها، وثوراته الباطنيّة وما يترتّب عليها، فكلّ تلك أمور متروكة بدون تربية أو تعهد.

ولا يختلف الرّجل في حياته العادية عن ذلك كثيراً، فهو في غمرتها لا يجد متسعاً لمحاسبة نفس أو تأنيب ضمير، وهو في انصرافه عن العبادات والطقوس الدينيّة، لا ينعم بسماع موعظة، ولا يتذوّق نصيحة، وقد كانت الجمعيات الصوفية والأخلاقية تتدارك بعض هذا النقص، ولكنها بدورها في تلاش وانقراض، ولم تدع لها الأندية الرياضية والجماعات السياسية مجالا فسيحاً.

هذا هو الموقف في خطوطه الرئيسية، ويبدو منها في وضوح، أنّ الجانب الروحي من الإنسان أضحى في حاجة ماسّة إلى تعهّد وغذاء، وأخشى ما أخشاه، أنّه لا يحظى من القادة والمصلحين بما هو أهل له من عناية، وإذا تتبّعنا المذاهب والدعوات الجديدة الّتي قامت في نصف القرن الماضي، وجدناها، إلا قليلاً، تنزع منزعاً مادّياً؛ فمن كارل ماركس إلى لينين، ومن موسليني إلى هتلر، إنما تردّد نغمة الكفاح والنّضال والفوز والغلبة. أمّا المثل العليا والقيم الروحيّة، فلا يكاد يقام لها وزن ولا يحسب لها حساب.

*من مجلة "رسالة الإسلام" – العدد 10.

إنّ الآراء الواردة في هذا التّقرير، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية