"عندما نفكّر في الدِّين؛ في مفهومه الأصيل الّذي ينطلق من خلال القاعدة التي تحكم
مفاهيمَه وشرائعَه وحركيّتَه وأسلوبَه وأهدافَه، فإنَّ علينا أن نقفَ عند مسألة
الأصالة الدينيَّة؛ فالدّين الإسلاميّ انطلق من القرآن الّذي يراه المسلمون كتاباً
معصوماً {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}[فصِّلت: 42]، لأنّه كلامُ
الله، وهو الّذي يمنحه القداسة التي تضفي عليه الحقيقةَ المطْلقة.
لكنّ القرآن كلمات، وللكلمات حركيّةٌ في المعنى؛ فالكلمة حروفٌ تختزن المعاني.
وعندما يتحرَّك القرآنُ في علاقة اللّفظ بالمعنى، فلأنَّ اللّغة العربيَّة التي نزل
بها، تمثِّل حركةً فنيّةً لا تتجمَّد عند المعنى اللّغويّ، بل هناك الإيحاءاتُ
القرآنيّة؛ إيحاءاتُ الكلمة الّتي يمكنها أن تطلق العقل في آفاقٍ واسعةٍ تتحرَّك في
كلّ الأجواء التي يمكن أن يُطلَّ عليها المعنى اللّغويّ، وهذا ما يصطلح عليه في
الأبحاث العلميّة الفقهيّة اللّغويّة بـ"الذّوق العرْفيّ".
إذاً، الكلمة لا تأخذ معناها من المصطلح اللّغويّ الجامد، وإنّما من خلال حركة
الكلمة في ممارسة المجتمع؛ فالمجتمع يوسِّع الكلمةَ إلى أبعد من معناها اللّغويّ.
ولهذا، عندما نريد أن ندرس النّصّ، فلا بدّ من أن ندرسَه في معناه اللّغويّ، وفي
مسيرته التاريخيَّة أيضاً، أيْ في ما يستوحيه الناسُ منه، وفي ما يستعملونه.
ولذلك، فإنَّ المسألة، بالنسبة إلى التّأصيل الدينيّ، هي أن ننطلق إلى المصادر
الأساسيّة. والكتاب هو الكلماتُ المقدَّسةُ التي أوحى بها اللهُ سبحانه وتعالى،
والتي لا يمْكن حتى للرّسول نفسه أن يتصرَّفَ بها زيادةً أو نقصاناً.
لكنَّ معنى الكلمات التي وردت في الكتاب هو من الأمور البشريّة التي تتّصل بوعي
الإنسان لامتدادات الكلمة في استعمالاتها وفي حركيّتها. ومن هنا، رأينا أنَّ
المفسِّرين اختلفوا في تفسير هذه الآية أو تلك، وربّما دَخَلَ بعضُهم في أجواء
التخلّف، لأنّه حاول أن يفسّر الكلمةَ من منطلق خلفيّاته الثقافيَّة التي قد تكون
متخلّفةً في هذا المجال.
لذا، عندما نَدْرس السُنّةَ، وهي نتاجُ أحاديث النبيّ محمّد (ص)، والتي أكّدها
القرآنُ بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُوا}[الحشر: 7]، فلا بدَّ من أن نصحِّحَ نسبةَ الحديث إلى النبيّ؛ ذلك لأنَّ
الكثيرَ من الوضّاعين وضعوا الأحاديثَ ونسبوها إلى النبيّ (ص)، إمّا لأسبابٍ ذاتيّة،
أو بسبب خضوعهم لبعض السلطات التي تريد أن تعطي لنفسها قداسةً معيّنةً، من خلال ربط
هذه السلطة بالحديث النبويّ ـ وهذا كثيرٌ في التاريخ الإسلاميّ. لذلك، لا بدَّ من
أن نؤصِّل (نوثّق) الحديثَ النّبويّ من خلال السَّنَد، ومن خلال المعنى أيضاً.
ولذلك، فإنَّه من الطبيعيّ جدّاً أنَّ الذهنيّةَ التي تؤصّل النصّ، عندما تكون
محدودةً متخلّفةً، فإنّها تَمْنحنا نصّاً متخلّفاً محدوداً لا علاقة له بالتأصيل
الدينيّ الحقيقيّ. وهذا جَعَلَ التفكيرَ الدّينيّ تفكيراً مثيراً للتّساؤلات والجدل،
بل مؤكِّداً للتخلّف في بعض الحالات، بسبب الفهم الضيّق الذي ينطلق منه بعضُ الناس
الذين يعيشون في زنزاناتهم الثقافيَّة التي وَرِثوها عن مصادرَ جاهلةٍ أو لا تمْلك
الوعيَ الأدبيّ.
ولهذا، فإنّ عمليّة إنقاذ الدين من الإفساد الثقافيّ والحركيّ، تحتاج إلى جهد كبير
جدّاً في مجال تأصيل الفكر الدينيّ، بحيث يكون وعيُنا للدِّين منفتحاً على أفضل
القواعد الفنّيَّة في اللّغة العربيّة، ومنفتحاً على الجانب التاريخيّ الذي نزلتْ
فيه الآيةُ أو انطلق منه الحديثُ الشّريف.
ومن هنا، فإنَّ مسألة "الإصلاح الدينيّ" قد توحي بمفهومٍ غير دقيق؛ ذلك لأنَّ الدين
لا يَختزن الفسادَ في ذاته، لكونه شريعةَ الله باعتقاد المسلمين. إنّ الإصلاح
الدّينيّ هو ما أفتى به الكثيرُ من المسلمين، واجتَهد به الكثيرُ من المجتهدين،
ممّن كانت اجتهاداتُهم تابعةً لحجم ثقافتهم، أو كانت التزاماتُهم تابعةً لظروفهم.
لذلك، لا بدَّ من أن نَدْخل إلى واقع الثّقافة الدينيّة التي تَجْمع كلَّ هذا
الرّكام من الفتاوى الفكريّة، سواء على مستوى الفقه، أو على مستوى علم الكلام، أو
على مستوى حركة المفاهيم التي تتَّصل بالإنسان والحياة.
ولذلك، كنتُ أحاول دائماً أن أدرسَ الدّينَ على أساس ربط معنى الكلمة بالإيحاء،
فعندما تنفتح على المعنى اللّغوي للكلمة، فإنَّ عليكَ أن تدرس إيحاءات هذه الكلمة،
كي لا يكون القرآنُ مجرَّدَ كتابٍ يتحدَّث عن التّاريخ، بينما هو في الحقيقة كتابٌ
يمتدّ إلى الحاضر، ويَدْخل في التّكوين الحركيّ للإنسان، وهذا ما نصطفيه من قوله
تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[يوسف: 111].
إنّنا حين نَدْرس القضايا التاريخيَّة للأنبياء ولأممهم، لا نريد أن نستغرقَ في
التّاريخ، بل نريد أن ننقل التّجربة التي عاشها الأنبياءُ، ونأخذ خصوصيّاتِها التي
لا تموت بموت الزّمن، وإنّما تمتدّ إلى الحياة، لأنّها خصوصيّاتُ الإنسانيّة. ولهذا
كان تفسيري "من وحي القرآن"، يحاول أن يستوحي الآية من خلال ما نعيشه الآن في
الواقع، بحيث نَشْعر بأنّها تتحرَّك في واقعنا، في الحركة الميدانيّة، وفي الصراعات
الإنسانيّة.
لذا، أتصوَّر أنَّ القضيّة هي إصلاحُ الفكر الدينيّ وإصلاح الاجتهاد الدينيّ. وهذه
من العمليَّات المعقَّدة الصّعبة التي قد تثير الفتنةَ عندما تنْقض خطّاً متخلّفاً
في الفهم الدينيّ هنا، أو خطّاً منحرفاً في الفتوى هناك، وهو ما لاحظناه في استغلال
الآخرين للهوامش المذهبيّة الخلافيّة التي تدور بين المسلمين أنفسِهم.
الإصلاحُ الدِّينيّ في فهمنا، هو أن نؤصِّلَ الفهمَ الدّينيّ من خلال التعمّق في
النصّ الدينيّ، وفي امتداداته، حتى يكون نصّاً للحياة كلّها، لا أن نحبسَه في
زنزانةٍ ضيِّقةٍ من خلفيّاتنا الضيِّقة، التي قد تكون ممّا نعيش معه في الماضي، أو
نسقط بسببه في وحول الواقع!"...
من حوارٍ أجرتْه معه مجلَّة "الآداب"، بتاريخ 9 جمادى الأولى 1430 هـ /الموافق ٤/٥/٢٠٠٩م