كتابات
29/09/2019

مشكلة البهتان في واقعنا الاجتماعي

مشكلة البهتان في واقعنا الاجتماعي

إنّ مشكلة المجتمع الإسلامي، ولا أريد أن أقف موقف المتَّهِم، ولكن أريد أن أتحدّث عن ظاهرة، وهي أن الكثير من أبنائه يتربّى بأن يصلّي ويأتي بالفروض والنوافل بشرط أن لا يكون واعياً لإيحاءات العبادة الأخلاقية، أي أن لا تقترب العبادة من تقاليده وأوضاعه الاجتماعية السلبية وعصبياته، وتلك عبادة بدون روح.

أما أخلاقية العلاقات الاجتماعية والحقيقة والسلامة الاجتماعية، فأظنّ أننا لا نتربّى عليها، فنحن نتعلّم الكذب من آبائنا وأمّهاتنا؛ عندما يكذب الزوج على زوجته، والزوجة على زوجها، وعندما يكذب الأب على أولاده، ليكذب الأولاد على أبيهم... وهلمّ جراً، حتى إن الكثيرين قد يبرّرون الكذب بالتّورية، وهي حتى لو أنقذت الشخص، فإنها تعطي انطباعاً سلبياً.

لذلك ـ أيها الأحبة ـ نحن نحتاج إلى عبادة أخلاقية واجتماعية وسياسية وأمنية، وفكر يعبد الله بالحقيقة، وقلب يعبد الله بالمحبة، وحركة تعبد الله بالسّير في الخطّ المستقيم، لأن العبادة في الإسلام ليست الصلاة أوالصّوم فقط، ولكن هي أن تخضع لله في كلّ ما أحبّه بأن تفعله، وأن تخضع له في كلّ ما أبغضه بأن تتركه، سواء كانت صلاةً أو صوماً أو حجّاً أو علاقةً أو موقفاً، أو طعاماً أو شراباً أو ما إلى ذلك.

وعلى هذا، فنحن مولعون بالبهتان، ولهذا ضاعت الحقيقة فيما بيننا، مولعون بأن نقلب الحقائق، ونحكم بدون علم، ونعطي الانطباع بدون علم، وهذه هي الصّورة السّائدة الآن.

ومن خلال كلّ ما عرضناه، نعرف كيف ساهمت هذه الصورة السلبيّة في تهديم المجتمع والأخلاقيات الفردية والاجتماعية والعلاقات السياسية والمذهبية والدينية، بحيث أصبح الإنسان عندما يقف إزاء تصوّراته التي يأخذها من خلال ما يسمع وما يقرأ دون تدقيق، يعيش الإرباك والحيرة بين ما هو حقيقة وما هو غيرها.

المسألة في مرآة القرآن:

وتعالوا إلى كلام الله سبحانه وتعالى، لنعرف ما هو موقع البهتان فيما رسمه القرآن لندرك خطورة ذلك، علّنا نتحفّظ بعض الشيء فنعطي لمجتمعنا نوعاً من الأمان من أنفسنا، لأن مشكلتنا ـ أحياناً ـ ليست في أن نحمي المجتمع من أعداء الإسلام، ولكن أن نحمي المجتمع من أصدقاء الإسلام وأتباعه الذين يعيشون الكفر في أخلاقهم وإن عاشوا الإيمان في عباداتهم.

يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، باعتبار ما نسبوه إلى المؤمنين والمؤمنات مما لم يفعلوه ولم يقولوه ولم يقفوه ولم ينشئوه من علاقات.

وقد حدّثنا الله تعالى في عدة آيات عن (حديث الإفك) الذي اتصل بالنبي (ص) بشكل مباشر، حيث إن بعض الصحابة نسبوا إلى بعض زوجات النبي (ص) الفاحشة، في الوقت الذي لم يملك أيّ أحد من هؤلاء أيّ حجة وأيّ دليل على ذلك، ولكنّهم خاضوا كما يخوض الناس على أساس الظنّ والتهمة والشبهة، {إن يتَّبعونَ إلى الظنَّ}.

يقول الله تعالى واصفاً القصّة: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ}، ومن خلال ذلك، نعرف أنّ واقع الصحابة هو واقع كلّ المجتمعات، وعظمة القرآن الكريم هي أنّه يتحدّث عن سلبيات المجتمع الإسلامي في زمن النبي (ص)، كما يحدثنا عن إيجابيّاته، فأيّ مجتمع أعظم من مجتمع بدر في بداية حركة الإسلام العسكريّة، ومع ذلك، يقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ* يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ* وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}.

أمّا نحن، فلا نتحدّث إلا عن الإيجابيّات، فكأنما نحن ملائكة، في حين أنّه كما علينا أن نتحدث عن الإيجابيات لنستزيد منها، فعلينا في المقابل أن نتحدّث عن السلبيات لنتخفّف منها، لأنّك عندما تقدّس سلبيّاتك، بحيث تتحوّل أخطاء مجتمعك وقياداتك وتجمّعاتك إلى مقدَّسات، فإن معنى ذلك أنك سرت في خطّ الانهيار، فعندما يكون الخطأ مقدَّساً، فكيف يمكن أن تسير إلى الصّواب، وعندما يكون الانحراف مقدَّساً، فكيف يمكن أن تسير في خطّ الاستقامة.

ونعود إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} من الذين يخوضون في الحديث بالدرجة الثانية {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} الذي قاد التهمة والشّائعة وحاول أن يثبتها {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ* لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ}، أي عندما تسمعون شائعة عن مؤمن أو حديث غلّبوا ظنّ الخير على ظنّ الشر {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}، إلى أن يقول: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}، كما لو كان مؤكّداً {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا}، كما يقول البعض من النّاس أنه (كلام... وحكي... وأنّه لا جمرك على الكلام)، ناسياً أنّ على الكلام ضريبة دقيقة جداً {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وفي القيامة {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}.

ويمضي تعالى ليقول في آية الإفك أيضاً: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ* وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ}، أي عندما تسمع شائعة وخبراً عن مؤمن أو مؤمنة، بحيث تحاول أن تسقط موقعه أو موقعها، أو تسيء إلى أمانته وأمانتها، أو إلى عقيدته أو عقيدتها {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} أي لا حقّ لنا في ذلك، مادامت القضيّة تتعلّق بمؤمن أو مؤمنة، إذ يمكن أن يترك ذلك أثراً سلبيّاً، بحيث يهدم هذا المؤمن أو ذاك {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.

وهنا محلّ الشّاهد، فهذا يهتان لأنهم لم يعرفوا الحقيقة، بل صوّروها بشكل مضادّ، أو أنهم عرفوا حقيقة البراءة، ولكنّهم أطلقوا التهمة بفعل عصبية أو حقد شخصي أو غير ذلك.

{يَعِظُكُمَ الله أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فإذا صدر عنكم شيء مما يتّصل بمؤمن أو مؤمنة، وقلتم ما لم يكن فيه {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا}، فإذا عدتم لمثله، فليس هناك علاقة بينكم وبين الإيمان.

من موارد البهتان الأخرى:

وثمة شيء آخر أسماه الله بهتاناً، فعندما تتزوّج وتفكر في الزواج بأخرى، فإنك تضغط على زوجتك الأولى إلى درجة التعسّف، حتى تطلب الطلاق لتبذل لك مهرها، يقول تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}، أي أعطها حقّها كاملاً غير منقوص {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا}، فاعتبر هنا الإنكار على الزوجة حقّها، وهي صاحبة الحقّ، أو تمتّعها فيه، بهتاناً عملياً. ثم يركّز الله المسألة في جانبها الإنساني {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} من خلال العلاقة الزوجيّة {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}، فتكون قد خرقت الميثاق الذي وثّقه الله وغلّظه من خلال ما يترتب عليه من النتائج السلبيّة على تقدير الانحراف عنه.

كما تحدّث الله عن البهتان فيما كان ينسبه اليهود إلى مريم (ع) {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}. وهذه هي موارد البهتان في القرآن الكريم، وقد ورد في الحديث عن الرّسول (ص): "من بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتى يخرج مما قاله فيه"، ويقول الإمام عليّ (ع): "البهتان على البريء أثقل من السّماء أو من السماوات".

أيّها الأحبّة، إن الحقيقة هي التي تعمر الديار، والتي تنشر السلام وتفتح القلوب وتوحّد المواقف وتنشر المحبة وتصلب الأرض وتقوّي المواقع والمواقف، أما الكذب، فإنه يهدم الديار، ويمزّق المجتمع، وينشر الحقد والبغضاء، ويوجّه الناس إلى تغييم صورة الواقع، فيرون الباطل حقاً والحقّ باطلاً، وإذا تبدّلت الصّورة، تبدّل الواقع وسقط.

إنّ الدنيا لا تغني عن الآخرة.. فماذا تربحون عندما تنسبون إلى من تختلفون معه شيئاً ليس واقعياً؟! هل تربحون شيئاً من شفاء الحقد الذي في قلوبكم؟! هل تربحون شيئاً من الوصول إلى بعض ما أنتم فيه؟! إذاً تذكّروا أنّ من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيها..

إنّ مشكلتنا أننا لا نتعامل مع بعضنا البعض من خلال قوَّتنا، إنما نتعامل مع الله القاهر فوق عباده، المهيمن على الأمر كلّه، الذي يحول بين المرء وقلبه، فعندما نتمرّد على الله ونحاربه، فعلينا أن نستعدّ لبلاء الله في الدنيا قبل الآخرة، وإذا أراد بنا ضراً، فمن يكشف عنّا ضرّه! وإذا أراد أن يبتلينا، فمن ينقذنا من بلائه!!؟

*من كتاب "الندوة"، ج 5.

إنّ مشكلة المجتمع الإسلامي، ولا أريد أن أقف موقف المتَّهِم، ولكن أريد أن أتحدّث عن ظاهرة، وهي أن الكثير من أبنائه يتربّى بأن يصلّي ويأتي بالفروض والنوافل بشرط أن لا يكون واعياً لإيحاءات العبادة الأخلاقية، أي أن لا تقترب العبادة من تقاليده وأوضاعه الاجتماعية السلبية وعصبياته، وتلك عبادة بدون روح.

أما أخلاقية العلاقات الاجتماعية والحقيقة والسلامة الاجتماعية، فأظنّ أننا لا نتربّى عليها، فنحن نتعلّم الكذب من آبائنا وأمّهاتنا؛ عندما يكذب الزوج على زوجته، والزوجة على زوجها، وعندما يكذب الأب على أولاده، ليكذب الأولاد على أبيهم... وهلمّ جراً، حتى إن الكثيرين قد يبرّرون الكذب بالتّورية، وهي حتى لو أنقذت الشخص، فإنها تعطي انطباعاً سلبياً.

لذلك ـ أيها الأحبة ـ نحن نحتاج إلى عبادة أخلاقية واجتماعية وسياسية وأمنية، وفكر يعبد الله بالحقيقة، وقلب يعبد الله بالمحبة، وحركة تعبد الله بالسّير في الخطّ المستقيم، لأن العبادة في الإسلام ليست الصلاة أوالصّوم فقط، ولكن هي أن تخضع لله في كلّ ما أحبّه بأن تفعله، وأن تخضع له في كلّ ما أبغضه بأن تتركه، سواء كانت صلاةً أو صوماً أو حجّاً أو علاقةً أو موقفاً، أو طعاماً أو شراباً أو ما إلى ذلك.

وعلى هذا، فنحن مولعون بالبهتان، ولهذا ضاعت الحقيقة فيما بيننا، مولعون بأن نقلب الحقائق، ونحكم بدون علم، ونعطي الانطباع بدون علم، وهذه هي الصّورة السّائدة الآن.

ومن خلال كلّ ما عرضناه، نعرف كيف ساهمت هذه الصورة السلبيّة في تهديم المجتمع والأخلاقيات الفردية والاجتماعية والعلاقات السياسية والمذهبية والدينية، بحيث أصبح الإنسان عندما يقف إزاء تصوّراته التي يأخذها من خلال ما يسمع وما يقرأ دون تدقيق، يعيش الإرباك والحيرة بين ما هو حقيقة وما هو غيرها.

المسألة في مرآة القرآن:

وتعالوا إلى كلام الله سبحانه وتعالى، لنعرف ما هو موقع البهتان فيما رسمه القرآن لندرك خطورة ذلك، علّنا نتحفّظ بعض الشيء فنعطي لمجتمعنا نوعاً من الأمان من أنفسنا، لأن مشكلتنا ـ أحياناً ـ ليست في أن نحمي المجتمع من أعداء الإسلام، ولكن أن نحمي المجتمع من أصدقاء الإسلام وأتباعه الذين يعيشون الكفر في أخلاقهم وإن عاشوا الإيمان في عباداتهم.

يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، باعتبار ما نسبوه إلى المؤمنين والمؤمنات مما لم يفعلوه ولم يقولوه ولم يقفوه ولم ينشئوه من علاقات.

وقد حدّثنا الله تعالى في عدة آيات عن (حديث الإفك) الذي اتصل بالنبي (ص) بشكل مباشر، حيث إن بعض الصحابة نسبوا إلى بعض زوجات النبي (ص) الفاحشة، في الوقت الذي لم يملك أيّ أحد من هؤلاء أيّ حجة وأيّ دليل على ذلك، ولكنّهم خاضوا كما يخوض الناس على أساس الظنّ والتهمة والشبهة، {إن يتَّبعونَ إلى الظنَّ}.

يقول الله تعالى واصفاً القصّة: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ}، ومن خلال ذلك، نعرف أنّ واقع الصحابة هو واقع كلّ المجتمعات، وعظمة القرآن الكريم هي أنّه يتحدّث عن سلبيات المجتمع الإسلامي في زمن النبي (ص)، كما يحدثنا عن إيجابيّاته، فأيّ مجتمع أعظم من مجتمع بدر في بداية حركة الإسلام العسكريّة، ومع ذلك، يقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ* يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ* وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}.

أمّا نحن، فلا نتحدّث إلا عن الإيجابيّات، فكأنما نحن ملائكة، في حين أنّه كما علينا أن نتحدث عن الإيجابيات لنستزيد منها، فعلينا في المقابل أن نتحدّث عن السلبيات لنتخفّف منها، لأنّك عندما تقدّس سلبيّاتك، بحيث تتحوّل أخطاء مجتمعك وقياداتك وتجمّعاتك إلى مقدَّسات، فإن معنى ذلك أنك سرت في خطّ الانهيار، فعندما يكون الخطأ مقدَّساً، فكيف يمكن أن تسير إلى الصّواب، وعندما يكون الانحراف مقدَّساً، فكيف يمكن أن تسير في خطّ الاستقامة.

ونعود إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} من الذين يخوضون في الحديث بالدرجة الثانية {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} الذي قاد التهمة والشّائعة وحاول أن يثبتها {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ* لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ}، أي عندما تسمعون شائعة عن مؤمن أو حديث غلّبوا ظنّ الخير على ظنّ الشر {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}، إلى أن يقول: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}، كما لو كان مؤكّداً {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا}، كما يقول البعض من النّاس أنه (كلام... وحكي... وأنّه لا جمرك على الكلام)، ناسياً أنّ على الكلام ضريبة دقيقة جداً {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وفي القيامة {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}.

ويمضي تعالى ليقول في آية الإفك أيضاً: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ* وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ}، أي عندما تسمع شائعة وخبراً عن مؤمن أو مؤمنة، بحيث تحاول أن تسقط موقعه أو موقعها، أو تسيء إلى أمانته وأمانتها، أو إلى عقيدته أو عقيدتها {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} أي لا حقّ لنا في ذلك، مادامت القضيّة تتعلّق بمؤمن أو مؤمنة، إذ يمكن أن يترك ذلك أثراً سلبيّاً، بحيث يهدم هذا المؤمن أو ذاك {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.

وهنا محلّ الشّاهد، فهذا يهتان لأنهم لم يعرفوا الحقيقة، بل صوّروها بشكل مضادّ، أو أنهم عرفوا حقيقة البراءة، ولكنّهم أطلقوا التهمة بفعل عصبية أو حقد شخصي أو غير ذلك.

{يَعِظُكُمَ الله أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فإذا صدر عنكم شيء مما يتّصل بمؤمن أو مؤمنة، وقلتم ما لم يكن فيه {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا}، فإذا عدتم لمثله، فليس هناك علاقة بينكم وبين الإيمان.

من موارد البهتان الأخرى:

وثمة شيء آخر أسماه الله بهتاناً، فعندما تتزوّج وتفكر في الزواج بأخرى، فإنك تضغط على زوجتك الأولى إلى درجة التعسّف، حتى تطلب الطلاق لتبذل لك مهرها، يقول تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}، أي أعطها حقّها كاملاً غير منقوص {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا}، فاعتبر هنا الإنكار على الزوجة حقّها، وهي صاحبة الحقّ، أو تمتّعها فيه، بهتاناً عملياً. ثم يركّز الله المسألة في جانبها الإنساني {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} من خلال العلاقة الزوجيّة {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}، فتكون قد خرقت الميثاق الذي وثّقه الله وغلّظه من خلال ما يترتب عليه من النتائج السلبيّة على تقدير الانحراف عنه.

كما تحدّث الله عن البهتان فيما كان ينسبه اليهود إلى مريم (ع) {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}. وهذه هي موارد البهتان في القرآن الكريم، وقد ورد في الحديث عن الرّسول (ص): "من بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتى يخرج مما قاله فيه"، ويقول الإمام عليّ (ع): "البهتان على البريء أثقل من السّماء أو من السماوات".

أيّها الأحبّة، إن الحقيقة هي التي تعمر الديار، والتي تنشر السلام وتفتح القلوب وتوحّد المواقف وتنشر المحبة وتصلب الأرض وتقوّي المواقع والمواقف، أما الكذب، فإنه يهدم الديار، ويمزّق المجتمع، وينشر الحقد والبغضاء، ويوجّه الناس إلى تغييم صورة الواقع، فيرون الباطل حقاً والحقّ باطلاً، وإذا تبدّلت الصّورة، تبدّل الواقع وسقط.

إنّ الدنيا لا تغني عن الآخرة.. فماذا تربحون عندما تنسبون إلى من تختلفون معه شيئاً ليس واقعياً؟! هل تربحون شيئاً من شفاء الحقد الذي في قلوبكم؟! هل تربحون شيئاً من الوصول إلى بعض ما أنتم فيه؟! إذاً تذكّروا أنّ من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيها..

إنّ مشكلتنا أننا لا نتعامل مع بعضنا البعض من خلال قوَّتنا، إنما نتعامل مع الله القاهر فوق عباده، المهيمن على الأمر كلّه، الذي يحول بين المرء وقلبه، فعندما نتمرّد على الله ونحاربه، فعلينا أن نستعدّ لبلاء الله في الدنيا قبل الآخرة، وإذا أراد بنا ضراً، فمن يكشف عنّا ضرّه! وإذا أراد أن يبتلينا، فمن ينقذنا من بلائه!!؟

*من كتاب "الندوة"، ج 5.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية