كتابات
29/06/2021

عندما يكونُ أسلوبُ الرّفقِ هو الحلَّ

عندما يكونُ أسلوبُ الرّفقِ هو الحلَّ

كان فيما رُوِي في سيرة الرّسول (ص)، أنّ يهودياً مرَّ به فقال: السَامُ عليك (السام: الموت)، وكأنّه يريد أن يخدع النبيّ (ص)، حتى يظنّ أنّه يقول السلام عليكم، فقال (ص): "وعليكم"، وكان بجانب النبيّ (ص) زوجته عائشة، فقالت: السّامُ عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فالتفت إليها النبيّ (ص) بكلّ رقّة ووداعة: "مهلاً يا عائشة، عليكِ بالرّفق، وإيّاكِ والعنف والفحش". قالت: أولم تسمع ما قالوا؟. قال (ص): "أَوَ لم تسمعي ما قلتُ؟ رددتُ عليهم، فيُستجاب لي فيهم، ولا يُستجاب لهم فيَّ"1.

أن تردّ على الشتيمة بشتيمة، فما الفائدة؟ فإذا أمكننا أن نواجه المشكلة بأسلوب هادئ لا يُثير المشاكل، فلنتبّع أسلوب الرفق، لأنّ الله تعالى "يعطي على الرِّفق ما لا يعطي على العنف"2.

وينقل لنا التاريخ الإسلامي حادثةً في هذا المجال عن أمير المؤمنين عليٍّ (ع).. فقد مرّت امرأة جميلة، فرمقها القوم الذين كانوا بجانب الإمام (ع)، فقال أمير المؤمنين (ع): "إنَّ أبصار هذه الفحول طوامح، وإنَّ ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه، فليلمس أهله، فإنّما هي امرأةٌ كامرأته".. فقام رجل من الخوارج وقال: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال (ع): "مهلاً، إنّما هو سبٌّ بسبٍّ، أو عفوٌ عن ذنب"3.

وهذا هو الخطُّ الإسلامي {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]، {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[البقرة: 237]، ويقول سبحانه أيضاً: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}[النّحل: 126].

ويُروى أنّ رجلاً من أهل الشّام، رأى الإمام الحسن بن عليّ (ع)، فجعل يلعنه والإمام الحسن لا يردّ، فلمّا فرغ الرجل من سبِّه، أقبل الإمام الحسن (ع) نحوه وسلّم عليه وابتسم في وجهه، وقال: "أيّها الشّيخ، أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنتَ محتاجاً أغنيناك، وإن كنتَ طريداً آويناك، وإن كانت لك حاجةٌ قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أَعْوَدَ عليك، لأنَّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً"4. فلما سمع الرجل كلامه (ع) بكى، ثم قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنتَ أنتَ وأبوك - يقصد الإمام عليّاً (ع) - أبغضَ خلق الله إليَّ، والآن أنتَ وأبوك أَحَبُّ خَلْق الله إليّ.

وهناك نموذجٌ آخر أيضاً، ففيما يُروى، أنّ الإمام زين العابدين (ع) كان جالساً بين أصحابه، فجاءه رجلٌ من أبناء عمومته وشتمه، وأسمعه كلاماً مُرّاً، ثم ذهب، فقال الإمام (ص) أصحابه: "قد سمعتم ما قال هذا الرّجل، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي حتى تسمعوا ردّي عليه"، فقاموا معه يظنّون أنّ الإمام سوف يردُّ عليه بالمثل.. طرق الإمام (ع) الباب، فخرج الرجل مستعدّاً للشرّ، فخاطبه الإمام بأدب جمّ : "يا أخي، إنّك كنت قد وقفت عليَّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيَّ فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيّ، فغفر الله لك"5. فتأثّر الرجل وندم وأقبل على الإمام معتذراً.

هذه نتائج أسلوب الرِّفق، عندما يكون الرّفق أساساً في حلِّ المشاكل، ولا بدَّ للإنسان الذي يريد ممارسة أسلوب الرِّفق في الحياة، أن يدرس طبيعة الظروف التي تجعل الأسلوب منطلقاً في اتّجاه الرفق، أمّا في الحالات التي يمثّل فيها الرفق ضرراً على الإنسان نفسه، فإنَّ استعمال هذا الأسلوب يكون في غير محلّه، لأنّ بعض من تمارس معه أسلوب الرفق في حال اعتدائه عليك، قد يجرّئه أكثر في الاعتداء، وربّما يتحوّل إلى إنسان مجرم، وهذا ما عبّر عنه الإمام زين العابدين (ع) في رسالة الحقوق، حيث قال: "وأمّا حقُّ مَن ساءك فأن تعفو عنه، فإن رأيت أنَّ العفو يضرُّ بك انتصرت لنفسك". إن رأيت أنّ العفو عنه يزيد في غيِّه وظُلمِه وتعدّيه، ووجدت أنّ المشكلة سوف تتحوّل إلى مشكلة أخرى بالنسبة إليه، مشكلة تدمِّره وتدمِّر حياته، عند ذلك، فإنّ من الرِّفق به أن تضع له حدّاً، فتثأر لنفسك، لتعلِّمه درساً مستقبليّاً، ليعرف كيف يتعامل مع الناس فلا يعتدي عليهم.

وفي هذا الجوّ من الضغوطات النفسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة، لا بدَّ أن نعيش هذا الخُلق الإسلاميَّ الكبير، أن نعيش الرِّفق فيما بيننا، أن يكون الرّفق حاضراً في مشاكلنا.. وإذا كانت بعض المشاكل تحتاج إلى وقت طويل، ووقت أكثر، فلا بدَّ أن نتعامل معها بالعقل البارد والفكر الهادئ والأسلوب العمليّ الهادئ..

إنَّ علينا أن نكون واعين لموقفنا ورسالتنا وواعين لأهدافنا، ولكلّ العالَم الذي يعيش من حولنا، ثم نتصرّف بوحي العقل ووحي الفكر ووحي الإيمان، وبوحي النّاس الذين ينطلقون في آمالهم نحو أهدافهم بالأمل بالله وبالثّقة بأنفسهم وبالوعي لواقعهم.

*من كتاب "خطاب العقل والرّوح".

[1]صحيح البخاري.

[2]بحار الأنوار، ج 72، ص 60.

[3]نهج الباغة: ج4، ص 98.

[4]بحار الأنوار، ج40، ص 344.

[5]بحار الأنوار، ج46، ص 55.

كان فيما رُوِي في سيرة الرّسول (ص)، أنّ يهودياً مرَّ به فقال: السَامُ عليك (السام: الموت)، وكأنّه يريد أن يخدع النبيّ (ص)، حتى يظنّ أنّه يقول السلام عليكم، فقال (ص): "وعليكم"، وكان بجانب النبيّ (ص) زوجته عائشة، فقالت: السّامُ عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فالتفت إليها النبيّ (ص) بكلّ رقّة ووداعة: "مهلاً يا عائشة، عليكِ بالرّفق، وإيّاكِ والعنف والفحش". قالت: أولم تسمع ما قالوا؟. قال (ص): "أَوَ لم تسمعي ما قلتُ؟ رددتُ عليهم، فيُستجاب لي فيهم، ولا يُستجاب لهم فيَّ"1.

أن تردّ على الشتيمة بشتيمة، فما الفائدة؟ فإذا أمكننا أن نواجه المشكلة بأسلوب هادئ لا يُثير المشاكل، فلنتبّع أسلوب الرفق، لأنّ الله تعالى "يعطي على الرِّفق ما لا يعطي على العنف"2.

وينقل لنا التاريخ الإسلامي حادثةً في هذا المجال عن أمير المؤمنين عليٍّ (ع).. فقد مرّت امرأة جميلة، فرمقها القوم الذين كانوا بجانب الإمام (ع)، فقال أمير المؤمنين (ع): "إنَّ أبصار هذه الفحول طوامح، وإنَّ ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه، فليلمس أهله، فإنّما هي امرأةٌ كامرأته".. فقام رجل من الخوارج وقال: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال (ع): "مهلاً، إنّما هو سبٌّ بسبٍّ، أو عفوٌ عن ذنب"3.

وهذا هو الخطُّ الإسلامي {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]، {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[البقرة: 237]، ويقول سبحانه أيضاً: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}[النّحل: 126].

ويُروى أنّ رجلاً من أهل الشّام، رأى الإمام الحسن بن عليّ (ع)، فجعل يلعنه والإمام الحسن لا يردّ، فلمّا فرغ الرجل من سبِّه، أقبل الإمام الحسن (ع) نحوه وسلّم عليه وابتسم في وجهه، وقال: "أيّها الشّيخ، أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنتَ محتاجاً أغنيناك، وإن كنتَ طريداً آويناك، وإن كانت لك حاجةٌ قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أَعْوَدَ عليك، لأنَّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً"4. فلما سمع الرجل كلامه (ع) بكى، ثم قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنتَ أنتَ وأبوك - يقصد الإمام عليّاً (ع) - أبغضَ خلق الله إليَّ، والآن أنتَ وأبوك أَحَبُّ خَلْق الله إليّ.

وهناك نموذجٌ آخر أيضاً، ففيما يُروى، أنّ الإمام زين العابدين (ع) كان جالساً بين أصحابه، فجاءه رجلٌ من أبناء عمومته وشتمه، وأسمعه كلاماً مُرّاً، ثم ذهب، فقال الإمام (ص) أصحابه: "قد سمعتم ما قال هذا الرّجل، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي حتى تسمعوا ردّي عليه"، فقاموا معه يظنّون أنّ الإمام سوف يردُّ عليه بالمثل.. طرق الإمام (ع) الباب، فخرج الرجل مستعدّاً للشرّ، فخاطبه الإمام بأدب جمّ : "يا أخي، إنّك كنت قد وقفت عليَّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيَّ فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيّ، فغفر الله لك"5. فتأثّر الرجل وندم وأقبل على الإمام معتذراً.

هذه نتائج أسلوب الرِّفق، عندما يكون الرّفق أساساً في حلِّ المشاكل، ولا بدَّ للإنسان الذي يريد ممارسة أسلوب الرِّفق في الحياة، أن يدرس طبيعة الظروف التي تجعل الأسلوب منطلقاً في اتّجاه الرفق، أمّا في الحالات التي يمثّل فيها الرفق ضرراً على الإنسان نفسه، فإنَّ استعمال هذا الأسلوب يكون في غير محلّه، لأنّ بعض من تمارس معه أسلوب الرفق في حال اعتدائه عليك، قد يجرّئه أكثر في الاعتداء، وربّما يتحوّل إلى إنسان مجرم، وهذا ما عبّر عنه الإمام زين العابدين (ع) في رسالة الحقوق، حيث قال: "وأمّا حقُّ مَن ساءك فأن تعفو عنه، فإن رأيت أنَّ العفو يضرُّ بك انتصرت لنفسك". إن رأيت أنّ العفو عنه يزيد في غيِّه وظُلمِه وتعدّيه، ووجدت أنّ المشكلة سوف تتحوّل إلى مشكلة أخرى بالنسبة إليه، مشكلة تدمِّره وتدمِّر حياته، عند ذلك، فإنّ من الرِّفق به أن تضع له حدّاً، فتثأر لنفسك، لتعلِّمه درساً مستقبليّاً، ليعرف كيف يتعامل مع الناس فلا يعتدي عليهم.

وفي هذا الجوّ من الضغوطات النفسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة، لا بدَّ أن نعيش هذا الخُلق الإسلاميَّ الكبير، أن نعيش الرِّفق فيما بيننا، أن يكون الرّفق حاضراً في مشاكلنا.. وإذا كانت بعض المشاكل تحتاج إلى وقت طويل، ووقت أكثر، فلا بدَّ أن نتعامل معها بالعقل البارد والفكر الهادئ والأسلوب العمليّ الهادئ..

إنَّ علينا أن نكون واعين لموقفنا ورسالتنا وواعين لأهدافنا، ولكلّ العالَم الذي يعيش من حولنا، ثم نتصرّف بوحي العقل ووحي الفكر ووحي الإيمان، وبوحي النّاس الذين ينطلقون في آمالهم نحو أهدافهم بالأمل بالله وبالثّقة بأنفسهم وبالوعي لواقعهم.

*من كتاب "خطاب العقل والرّوح".

[1]صحيح البخاري.

[2]بحار الأنوار، ج 72، ص 60.

[3]نهج الباغة: ج4، ص 98.

[4]بحار الأنوار، ج40، ص 344.

[5]بحار الأنوار، ج46، ص 55.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية