من المعلوم أنَّ المفسِّر للقرآن الكريم، لا بدَّ من أن يتمتَّع بثقافة عامَّة، وأفقٍ رحب، ومعالجات حقيقيَّة وعميقة ومبدعة في مقاربته لكثيرٍ من الأفكار والقضايا، وخصوصاً ما يتعلَّق منها بعالم تفسير القرآن الكريم، والّذي يتطلَّب أدواتٍ وعناصر معرفيَّة يتقنها صاحبها، ويتفاعل معها وتتفاعل معه في دائرة واحدة، لتنتج أسلوباً ومنهجاً مرناً مطواعاً أصيلاً وحيّاً، يحافظ على روح القيمة وجماليّة التّعبير والأسلوب.
ولقد تنوَّعت اجتهادات المفسِّرين وإبداعاتهم، بأخذهم بمناهج متنوّعة، والتنوّع سمة طبيعيّة وتكامليّة بين الإنسان والفكرة في دفع الواقع المعرفيّ والعلميّ.
وإذا ما أتينا إلى ذكر بعض النّماذج المعاصرة، والّتي كان لها مناهجها التفسيريّة، فهناك على سبيل المثال لا الحصر، تجربة سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله في تفسيره القيِّم "من وحي القرآن"، حيث يجيب عن سؤال حول منهج التّفسير لديه، فيقول:
"المنهج التّفسيريّ عندي هو أنّني أحاول أن أدرس القرآن من خلال إيحاءاته، أي أنّني أعتبر أنّ الآية تنطلق في أكثر من أفق، وهذا هو الّذي استوحيته من كلام الإمام الباقر(ع): "إنّ القرآن يجري مجرى اللّيل والنّهار والشّمس والقمر"، أو من قوله تعالى: {من أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً} [المائدة:32]، وقال(ع): "تأويلها الأعظم من نقلها من ضلال إلى هدى".. فالإمام استوحى من الحياة المادّيّة الحياة المعنويّة، وهكذا هو أسلوب التّفسير المنهجيّ الّذي انطلقت فيه".
"فأنا ـ يتابع سماحته ـ أحاول أن أفهم الحياة من خلال الأجواء التي يعيشها القرآن، ومن خلال أنّ القرآن هو كتاب الحركة الإسلاميّة والدّعوة الإسلاميّة.. فالله تعالى لم ينزل القرآن جملةً واحدة، بل أنزل القرآن على دفعات {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}[الفرقان:32].. فالله سبحانه كان يركّز الحركة الإسلاميّة من خلال القرآن، وعندما كان المسلمون يعيشون أيَّ مشكلة في حرب أو سلم، كان القرآن ينزل حتَّى ينقد التَّجربة، كما في "معركة أحد"، فأغلب سورة "آل عمران" مخصّص لنقد تجربة المسلمين في واقعة "أُحد"، وترشيدهم وبيان الخطوط الّتي انطلقوا فيها على مستوى الأخطاء ـ بعيداً عن النّبيّ(ص) ـ والخطوط الّتي عصوا أوامره فيها".
يضيف سماحته: "كذلك أفهم أنّ القرآن لا يمكن أن نقرأه ككتاب له معنى لغويّ، بل علينا أن نقرأه قراءة الحركة الإسلاميّة الّتي كانت تنطلق على مستوى الدّعوة وعلى مستوى الحرب وعلى مستوى السّلم، ونحاول أن نفهم القرآن بطريقة حركيّة.
ولذا أقول إنّه لا يمكن أن يفهمه إلا الحركيّون الّذين عاشوا معنى الحركيَّة الإسلاميّة في حيويّة الإسلام، في انطباقه مع الإنسان ومع العالم، ذلك أنَّ الإنسان الحركيّ يفهم القرآن بغير ما يفهمه اللّغويّ، وغير ما يفهمه عالم النّفس أو عالم الاجتماع، لذلك كان كتابنا (من وحي القرآن) محاولةً في اتجاه استيحاء القرآن حركيّاً في الحاضر والمستقبل.." [كتاب النَّدوة، الجزء الأوَّل، ص:235].
يشير سماحته، كما تقدَّم، إلى مسألة في غاية الأهميَّة، وهي استنطاقه لحركة الرّسالة في حيويّة مفاهيمها ودقّة قيمها، وخصوصاً من خلال القرآن الكريم، مصدر التّشريع، وميدان جولات وصولات التأمّل، والنظر والعبرة والفكر، فكيف إذا كان صاحب هذه الجولات والصّولات مجتهداً مبدعاً؟! كان القرآن الكريم كتاب حياته ومواقفه وحركته وإبداعه في تقديم أصالة الفكرة، ودقّة المعنى، بالشَّكل الّذي يخاطب فيه العقل، ويدخل إلى القلب بلا استئذان.
هذا عند سماحة المرجع السيِّد فضل الله، أمَّا عند العلامة الشَّيخ محمد جواد مغنيَّة، فإنَّه في عمله التّفسيريّ الرّائع "الكاشف"، توجّه بوجه عام إلى الشّباب والأجيال الطّالعة، بهدف توعيتهم حول مفاهيم القرآن وقيمه بروح علميَّة سهلة بسيطة بعيدة عن التَّعقيد ومخاطبة طبقة النّخبة من العلماء والمفكّرين.
وقد لعب الشّيخ مغنيّة(رض) دوره الرّياديّ التّنويريّ بكلّ وضوح وإتقان وتبسيط، وما يلفت، حضور الواقع بكلّ مشاكله وتفاصيله وعناوينه في تفسيره، فلم يكن تفسيراً منغلقاً على حدود اللّغة والمفردات، ولا سارحاً في التّجريد والتّنظير، فقد زاوج الشّيخ بين النصّ القرآنيّ وحركيّة الحياة في عمله، وهو ما يتطلّب جهداً جبّاراً من المفسّر قام به على أكمل وجه.
هذا وقد امتاز تفسيره بالصّراحة والنّقد للأفكار الدينيّة السّائدة في زمانه، فلم يكن عالماً تقليديّاً، بل مجدّداً وصاحب إسهامات معرفيّة وفكريّة ضمن مشروع نهضويّ وحضاريّ شامل.
ولا ننسى تجربة السيّد الشّهيد محمد باقر الصّدر(رض) في "التفسير الموضوعي للقرآن"، وما تميّزت به من نزعة واقعيّة تجديديّة معاصرة، حاكت الواقع، واستنطقت على أساسه النّصّ.
يبقى ما امتاز به هؤلاء الأعلام من قدرات وطاقات إبداعيّة اجتهاديّة في فهم النصّ، وتقريبه ومعالجاته لقضايا الإنسان والواقع، لا بل لقد تدخّل هؤلاء بمساهماتهم في صنعه والإمساك بزمامه، والتّأثير إيجابيّاً في حركته، فلم يكونوا المتلقّين الانفعاليّين في جهدهم ونتاجهم، بل أوجدوا الفعل المعرفيّ والفكريّ المنتج، وشكّلوا بأعمالهم قوّة دافعة لاتجاهات الفكر الإسلاميّ المعاصر.
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .