لعلَّ من أبرز الظَّواهر الَّتي تطبع شخصيَّة الكثيرين من العاملين للإسلام في هذه الظروف، ظاهرة الانفعالية في الأسلوب العملي، وفي خطوات العمل، وفي العلاقات العامة، ما أدى إلى أن يأخذ العمل نفسه هذا الطابع... ومن الطبيعي، أن تؤثر هذه الظاهرة في نوعية الرؤية للواقع وللأشياء وللأشخاص، فيفقد العاملون وضوح الرؤية، فتختلط الصّورة الحقيقيَّة في العيون، وترتبك الخطوات في الطريق، لأنَّ الانفعال يُغرق الشخصيَّة في أجواء ضبابية غارقة بالسحر والإغراء في جانب آخر، لأنه يتعامل مع الإحساس والشعور والعاطفة، ولا يتعامل ـ غالباً ـ مع الفكر والعقل، ما يجعل للسرعة دورها الكبير فيما يصدره من حكم، وفيما يخلقه من انطباع، وفيما يتَّجه إليه من غايات... وبذلك، يفقد الحكم حيثياته الهادئة المتزنة، ويغيب التركيز عن الانطباع في غمار الضَّباب، وتلك هي بعض ملامح الانفعال العامة في صورته العملية، فماذا عنه في خطوات الواقع العملي في التصور الميداني للأشياء؟
الانفعال تجاوز للمرحلة
ربما استطعنا أن نحدّد بعض ملامحه في السّلبيات المتحركة في الطريق، فيما يتعلق بعلاقات العمل، وبالارتباط بالأشخاص، وبالتعامل مع الأشياء، وذلك في النقطة التالية.
في علاقات العمل:
إننا نعرف من خلال الفكر والتَّجربة، حاجة العمل التّغييري إلى المراحل الطويلة، التي يتعامل فيها العاملون مع الواقع، على أساس العناصر المتوافرة لديه، في نطاق الظروف الموضوعية التي تحكم الأشياء والأشخاص، فلكلّ مرحلة دورها الكبير المميَّز الذي يتطلَّب الكثير من الإعداد والمعاناة والتركيز، من أجل أن تولد المرحلة الجديدة في ظروف طبيعية ملائمة على أرض صلبة ثابتة، لأن المرحلة الثانية تعتبر جنيناً في المرحلة الأولى.
وفي ضوء ذلك، يتحدَّث المتحدّثون عن حاجة العمل السياسي إلى مرحلة ثقافية تركّز فيها الشخصيَّة السياسية على أساس الفكر العملي والنظري، والَّذي يطرح المفاهيم ويعمّقها وينمّيها في داخل الإنسان، من خلال التجربة الواعية والتفكير العميق، ليكون التحرك منطلقاً من الخط المستقيم، لا متخبطاً في الخطوط الضائعة في الرمال المتحركة في أكثر من اتجاه. ويرون أنَّ المرحلة السياسيَّة التي لا تسبقها المرحلة الثقافية، سوف تخضع للسَّطحية والارتجال والضّياع، مع الخطوط القائمة القادمة من هنا وهناك، التي يختلط فيه الحق بالباطل والهدى بالضلال.
وربما يختلفون في تحديد محتوى المرحلة الثقافيَّة، هل يقتصر على الفكر العقيدي المتحرك مع المفاهيم والمصطلحات، أو يتسع للفكر السياسي الذي يحتاج إلى بعض التجربة والمعاناة، بالمستوى الذي يعطي الخطوات بعض الحرية، ولكنَّه لا يطلقها بعيداً نحو نهايات الطريق؟ ولكننا لسنا بصدد ذلك فيما نخوض من حديث، بل نحن هنا من أجل الإشارة إلى دور الانفعال في إرباك سياسة المراحل وتداخلها، فقد يدفع الانفعال العاملين إلى تجاوز المرحلة أو اختصارها، أو القفز عنها، كنتيجة لمتابعة خطوات الآخرين أو ملاحقتها، والذين قد يكونون متجاوزين للمرحلة التي بدأناها الآن، فيخيّل إلينا أنَّ الوقوف عند حدود المرحلة يعتبر انهزاماً أو تراجعاً أو تخاذلاً، وما أشبه ذلك من المفاهيم التي تسحق فينا إرادة التماسك والانضباط، ولا سيما في الحالات التي قد نحصل فيها على مقدار من النجاح، في عملية الصراع التي نخوضها ضد الآخرين، فيوحي لنا ذلك أننا في موقع القوة وهم في موقع الضعف، وأن ذلك يوجب علينا أن نقفز إلى مواقع جديدة من قضايا الصراع، ما يبعد عنا كثيراً من العناصر المفقودة، الَّتي لا بدَّ من أن توجد كثيراً من الحواجز الموجودة التي لا بد من أن تزول.
الانفعال وهم كبير وحماس
وقد يدفعنا إلى ذلك بعض حالات النجاح التي تصيبها الأفكار التي نحملها، أو المبادئ التي نؤمن بها في مواقع من حياة الأمة، في زمان معين أو مكان معين، فينطلق الحماس لدى جماهير الأمة في الأمكنة الأخرى، تأييداً وتعاطفاً ودعماً، لهذا النجاح، فيخيّل إلينا أنّ الساحة التي نتحرك عليها تملك ما يملكونه من قوى وظروف وأوضاع، وتستعد للخطوات التي ساروا فيها، لأن الصرخات التي تنطلق في الهواء، تتحول إلى ما يشبه الهدير الذي يهز الجبال، ولأنّ الصدمة التي يقابل بها الأعداء هذه الثورة، تتركهم يواجهون الموقف بما يشبه الخوف والقلق والهلع، ولأن المسافة التي قطعناها وتجاوزناها من خلال موقفنا، قد بلغت مجالاً بعيداً يقرب من مواقع الهدف الكبير. ويتعاظم الانفعال، ويكبر الحماس، ونكتشف بعد ذلك، أنَّ الوهم الكبير هو الذي قادنا إلى هذه الرؤية الضبابية للواقع، لأنَّ طبيعة العوامل المحيطة بالساحة، والعناصر الكامنة فيها، لا تتعامل مع الهزات السريعة التي تمر في الجو بسرعة، ليعود كل شيء إلى مكانه الطبيعي.
الثورة الإسلامية وانفعال الجماهير: مشكلة تخلّف فكري وسياسي
ولعلَّ هذا هو ما عشناه أمام الثورة الإسلامية المباركة في إيران، فقد استطاعت أن تهزّ العالم من حولها، فتهز أعماق الإنسان المسلم، وتقتحم عليه مشاعره فيما يشبه الطوفان، وتفتح عينيه على الحلم الكبير في عودة الإسلام للحياة من جديد. وبشكل أقوى، تحول الأمر إلى ما يشبه التيار، وخيّل إلى كثير من البلدان الإسلامية، أن اليقظة الإسلامية حوّلت الجماهير إلى قوة هائلة تكتسح أمامها كل ما يصادفها من عقبات، وما يعترضها من قوى، كما تحوَّلت القوى المضادة إلى أقزام، لا تكاد تتبيّن على الساحة لفرط ضعفها وانسحاقها.
وفي هذا الجو، كانت كلمات الثورة الإسلامية في هذا البلد أو في ذاك، هي الغالبة على التصور العام للتحرك، وكان الشّعور بالنّصر القريب هو ما يداعب مشاعر الكثيرين، بفعل الروحية العالية الدالة على ذلك. ولكن الحسابات لم تتفق مع المشاعر لسبب بسيط جداً، وهو أنَّ بعض المواقع الثائرة كانت تفتقر إلى بدايات الأجواء الدافعة إلى الحركة نحو الهدف الكبير البعيد، فضلاً عن الثورة، لأنها كانت تعيش في ضباب التخلف الفكري والسياسي، بالمستوى الذي لا تستطيع فيه أن تفهم المعنى الذي يعنيه الإسلام، من حيث هو برنامج حياة ودستور أمة، ما يجعل من قضية العمل الإسلامي من أجل التغيير، أمراً يرتبط بالقضايا الجزئية، لا بالقضايا الكلية.
ولذا، من السَّهل جداً على القوى المضادة أن تستعين بعناصر التخلّف الغالبة، لسحق التحرّك الوليد الغريب، وذلك من خلال الإيحاء لها، بأن مثل هذا التحرك يهدم القواعد التي قام عليها كيان الأمة، ويدفع بالمستقبل إلى أحضان الضّياع. وربما كان البعض من هذه المواقع متقدّماً في خطوات العمل ومراحله، بالمستوى الذي تحوّل فيه الوعي الإسلامي إلى تيار فكري عظيم يفرض نفسه على مجرى الأحداث في الساحة. ولكنه في الوقت نفسه، لا يملك الإمكانات الفعالة التي تتيح له تحويل الوعي من تيار فكري إلى تيار سياسي ضاغط، يواجه التيارات السياسية المهيمنة على الأوضاع العامة، من موقع القوة والتنظيم والصمود.
فقد نلاحظ في بعض المناطق الإسلامية الثائرة، أن الوعي السياسي في المدارس والجامعات، أما الطبقات الشعبية الأخرى، كالعمال والفلاحين والفئات الأخرى من الأمة، فلم تكن في هذا المستوى من الوعي، بل ربما كانت تعمل ضد هذا الوعي، أو تكتفي منه بالعاطفة الخجولة، التي لا تكلفها شيئاً من التضحيات والخسائر، الأمر الذي تفقد معه الحركة الإسلامية قوتها في الشارع وفي السوق وفي الحقل والمعمل، وبالتالي، تفقد قوة الضغط على الحكم الطاغي الموجود في البلد، فتتحول التضحيات إلى تضحيات سلبية، يمارس فيها الطغيان دور الاستفراد بالمجاهدين، من دون أي رد فعل ضاغط.
وقد نلاحظ ـ ولو من بعيد ـ أن التحرك الجدي السريع، كان بحاجة إلى ظروف أوسع وأكبر وأشمل، من أجل توسيع القاعدة الشعبية الممتدة، التي تمثل التيار القوي المندفع، الَّذي يخلق ثقلاً نوعياً وكمياً في الساحة الإسلامية في البلد. وربما كان التحرك يوحي بارتباك في مواجهة المرحلة، أو في تحديد مسارها في نطاق العوامل الزمنية والمكانية، وقد يكون الانفعال المشدود إلى الثورة الإسلامية في أجواء الدهشة والمفاجأة، مسؤولاً عن اختلاط الحسابات لدى العاملين، ولا سيما الذين كانوا لا يرون في الحركة الإسلامية في إيران عنصراً قوياً يمكن له أن يحقّق الثورة في الظروف الموضوعية التي تحقّقت فيها، أو الذين لم يشعروا بأنها تمثل المستوى العالي من الوعي الإسلامي، في نطاق المفاهيم السياسية المطروحة في الساحة، بل كانوا يرون أنها تنطلق في خطوات غير محددة وغير مركزة، فيما كان يبدو من انطلاقها من شعارات إصلاحية لا شعارات ثورية، فكانت الفكرة أن النجاح هنا في إيران، يفرض النجاح هناك بشكل أقوى وأسرع، من دون الالتفات إلى العناصر المتوفرة في الثورة الإسلامية في إيران، من قيادة المرجعية، ومن طبيعة القاعدة الشعبية، ومن الظروف السياسية العالمية، ومن الموقع الاستراتيجي المميز، مما لم يكن متوافراً في الساحة الأخرى.
وهكذا، كان الانفعال مسؤولاً عن تجاوز المرحلة، وعن اختصار النظرة إلى الواقع، ما أبعدنا عن رؤية كثير من الحواجز الماثلة أمام خطوات التقدّم والاندفاع. وقد لا نستطيع إعطاء الحكم بالمسؤوليَّة المطلقة للانفعال عن كثير من الخسائر والنكسات التي أصابت العمل الإسلامي والعاملين في بعض البلدان الإسلامية، فقد تكون هناك عوامل ضاغطة لم تسمح للعاملين بالتقاط أنفاسهم، وقد تكون هناك عوامل خاصة، جعلتهم يشعرون بأنَّ المعركة مفروضة عليهم في كل حال، سوءا قعدوا أو قاموا.. ولكنَّ ذلك لا يمنعنا من التقدير بأنَّ الحجم الكبير للخسائر، كان من الممكن أن يكون أقل لو كانت الأمور تحظى بمزيد من عمليات الحساب للأخطاء الكثيرة على مستوى القمة والقاعدة.
* الحركة الإسلامية هموم وقضايا