"الوحي هو الكلام الخاص الذي ينزل من الله سبحانه على قلب النبي(ص)، بواسطة الملك جبرائيل، والذي هو موجود بين الدفتين من القرآن الموجود في أيدي الناس"[1]، والكلام عنه وعن ماهيته، والإجابة عن تساؤلات حوله، تحدث عنه العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) في التفسير القيم "من وحي القرآن":
وحي الله للأنبياء
"{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(الشورى: 3)، فالله هو المصدر الذي ينتهي الوحي إليه، سواء تعلّق الأمر بك، أو بالنبيين من قبلك، فمن آمن بنزول الوحي بهذه الطريقة الغيبية على الرسل السابقين، لا بد من أن يؤمن بنزول الوحي عليك، لأن العمق الغيبي في الوحي واحد في الجميع"[2].
كيفية تلقي الوحي
"{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[3]، والمراد به جبرئيل الذي كان ينزل بالقرآن على النبي محمد(ص)، بكل أمانةٍ ودقة وإتقان، فلا مجال للشك في زيادته أو نقصانه. {عَلَى قَلْبِكَ}، توحي كلمة القلب بمعنى الوعي والإدراك في شخصية الإنسان، من خلال ما تمثله النفس في احتضانها لكل المدركات والمعقولات، بكل مفاهيمها وإحساساتها. ولعلَّ السر في عدوله عن كلمة (عليك)، إلى كلمة قلبك، للإيحاء بالجانب العقلي من شخصية النبي(ص)، الذي هو الأساس في اختزان الإنسان للوحي في ما يريده الله منه من إدراك وتعقّل وإيمان"[4].
"{وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ}[5]، أي في الجانب الظاهر منه، والضمير يرجع إلى جبريل، لتأكيد تجربة النبي الحسية في مسألة الوحي، فليس الأمر أمر سماع قد يختلف الناس في تقدير طبيعته، بل هو أمر عيان لا يشك الرائي في حقيقته..."[6].
وحي الله هو الحقيقة
"{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا}[7]، وهذا خطاب للنبي(ص) بصفته الرسالية التي تتحرك في خط الدعوة إلى الله تعالى، والعمل في سبيله، والإشراف على حركة الواقع في هذا الخط، وبلّغ الناس الحقيقة الحاسمة الكاملة من دون زيادة ولا نقصان، لأنَّ الله هو الذي يوحي بالكلمة من موقع علمه الكامل بالأشياء في ما يصلح الحياة وما يفسدها... وهكذا، يؤكّد الله هذه الحقيقة، ليعرف النبي والدعاة من بعده أن وحي الله هو الحقيقة النهائية التي لا مجال فيها لأي تغيير، فينطلقوا في الدعوة من موقع الثقة والثبات، لا من موقع الحيرة والاهتزاز..."[8].
"{وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا}[9]، فليس الوحي رسالةً موجهةً إلى النبي ليهتدي بها، بل هي نور يضيء طريق الناس الذين يفتحون عقولهم وقلوبهم للهداية، فيمن أراد الله له أن يهتدي بالوسائل الطبيعية للهداية، تماماً كما هو النور الذي لا يختص بحامله، بل يضيء الطريق لكل من يسير مع صاحبه ذاك على الطريق، وبذلك، كان النبي هادياً بواسطة هذا الوحي الذي أنزله الله في قرآنه، في ما يشرق من نوره الفكري والروحي في حياة الناس..."[10].
القرآن وحي من عند الله
"{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}[11]، لأن دراسة تاريخه وسمات شخصيته المبنية على العقل والاتزان، تدل على أنه كان يزن كل كلمةٍ يريد أن يتكلم بها، لتكون كلمة عقل وحق، ما جعله موضع احترام كل أفراد مجتمعه قبل النبوة، لأنه كان الصادق في قوله، الأمين على مجتمعه، كما أن دراسة مفاهيم رسالته التي تتحرك في مواقع الغيب من جهة، وفي مواقع الحسّ من جهةٍ أخرى، توحي بالحقيقة التي لا يقترب إليها الباطل من قريب أو بعيد، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[12]، أوحى به الله إليه في آياته ليبلّغها لعباده، لتدلهم على الصراط المستقيم...
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ـ أي عبد الله، وهو محمد(ص) ـ مَا أَوْحَى ـ من القرآن، بالمستوى الذي لا مجال فيه لأي شك أو شبهة، لأن هذا المستوى من القرب لا يمكن أن يخدع العين، أو يثير الريب في النّفس، ـ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[13]، لأنّ الرؤيا القلبية تتعمّق كلمّا دنت الرؤية البصرية من الشيء، فلا وجه لمجادلته في هذه التجربة الحسية وإيحاءاتها الروحية، فإذا كان صادقاً في ما يخبركم عن الحس، فلا بد من أن يكون صادقاً في ما يستوحيه من ذلك..."[14].
"ويأتي الخطاب من الله، ليعدّ النبي للمهمة، {سَنُقْرِؤُكَ كل الوحي الذي تتحمل مسؤولية وعيه في نفسك، وإبلاغه إلى الناس، وسنملأ قلبك به، وسيتعمق في كيانك، ـ فَلا تَنسَى}[15] شيئاً منه.. لأن المسألة في القرآن ليست مسألتك الشخصية في ما يتصل بحياتك الخاصة، وليست مسألة المرحلة الزمنية المحدودة في ما يحكم حاجة تلك المرحلة، بل هي مسألة الإنسانية كلها في ما تحتاجه من رسالة الله، ومسألة الزمن كله في ما يخضع له من إشراف الوحي على حركة الأوضاع العامة والخاصة المتحركة فيه...". [16]
التعجب من الوحي
"{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ}[17]، وما هو وجه العجب في ذلك؟ فإذا كان الله قادراً على كل شيء، فأي مشكلةٍ في أن يوحي إلى رجلٍ منهم إذا لم يكن هناك عجبٌ ومشكلة في أصل خلقه للإنسان؟ فإذا كان الوحي غيباً من الغيب، فإنّ سرّ الخلق في الإنسان يبقى كذلك حالةً غيبيةً في علم الله، ولا يبقى هناك فرق إلا في أنّ الوحي شيء لم يألفه الإنسان، بينما كان الإنسان وجوداً مادياً مألوفاً في حركة الحياة، وهذا الفرق لا يخضع لأي أساس فكري، في ما يمكن أن تلتقي فيه قاعدة القدرة الإلهية في إخضاع الأشياء كلها لإرادته في تكوين أوضاعها وحركة خلقها، فلا مانع من أن يرسل الله إلى الناس رسولاً منهم، ليحمل رسالته إليهم، نذيراً أو بشيراً...".[18]
كتمان الوحي والاتّجار بالدين
"قد أفاض القرآن الكريم الحديث عن كتمان الوحي، وإخفاء الحقائق الإلهية، والاتّجار بالدين، واستغلال جهل الجاهلين، وشدَّد على استحقاق هؤلاء الَّذين يمارسون هذه الأمور، عقاباً أليماً، لأنهم لا يسيئون بذلك إلى أنفسهم فقط، بل يسيئون إلى الحياة وإلى الناس كافة، لأن الحقيقة إذا انطلقت في الحياة فكراً وممارسةً، فسوف تفتح للناس أبواب الخير والتقدّم، وتدفع الحياة إلى النمو والازدهار، وتخرجها من الظلمات إلى النور، وهذا ما نلمحه في هذه الآيات {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ}[19]، التي تتحدث عن الذين يكتمون وحي الله ويتاجرون به بطريقة تحريفية، فتتوعدهم بأن هذا الذي يأكلونه ثمناً للتحريف، سوف يتحول إلى نارٍ تحرق أجسامهم وبطونهم، وسوف يقفون يوم القيامة موقف الخزي عندما يواجهون إعراض الله عنهم، المتمثل في عدم التفاته إليهم بالكلام، وعدم تزكيته لهم بالرحمة والرضوان واللطف العميم، وفي إردائهم في العذاب الأليم..."[20]
[1] جواب عن سؤال أرسل لسماحة السيد فضل الله(رض).
[2] من وحي القرآن، ج20، ص:140
[3] الشعراء: 193
[4] من وحي القرآن، ج17، ص:158
[5] التكوير : 23
[6] من وحي القرآن، ج24، ص:98
[7] الكهف: 27
[8] من وحي القرآن، ج14، ص:310
[9] الشورى: 52
[10] من وحي القرآن، ج20، ص:204
[11] النجم: 3
[12] النجم: 4
[13] النجم: 10-11
[14] من وحي القرآن، ج21، ص:253
[15] الأعلى : 6
[16] من وحي القرآن، ج24، ص:208
[17] يونس: 2
[18] من وحي القرآن، ج11، ص:262
[19] البقرة: 174
[20] من وحي القرآن، ج3، ص:195