تشاء المقادير أن يخرج عدد من الخزرج إلى موسم الحجّ، وكان رسول الله من عادته
أن يذهب لزيارة الحجّاج والقادمين كلّما طرق مكّة حاجّ أو قادم، يعرض عليه الإسلام،
ويقرأ له آيات من القرآن، وهكذا كان يبلّغ رسالته المقدَّسة.
وعرف النبيّ أنَّ عدداً من الخزرج وصلوا مكَّة، فاستقبلهم وأحسن بهم التّرحاب،
وتحدَّث لهم ما جلب نفوسهم إليه، ثم أخبرهم عن رسالته ودعوته، فقال بعضهم لبعض: يا
قوم، تعلموا والله إنّه النبيّ الذي توعدكم به اليهود، فلا تسبقنّكم إليه، فأجابوه
إلى ما دعاهم، وأخبروه بأنّ لهم قوماً كثيراً سوف يخبرونهم بذلك، وعسى أن يستجيبوا
له.
وعاد الركب إلى المدينة، واجتمعوا بقبائلهم، وتحدثوا لهم عن دعوة محمّد وأهدافها
القويمة، ولم يمرّ وقت طويل، حتى كانت غالبية الخزرج قد دخلت الإسلام، كما استجابت
لها وجوه من الأوس.
وحلَّ الموسم الجديد للحج، وقصد مكّة اثنا عشر رجلاً من الخزرج والأوس، والتقوا
بالنبيّ بالعقبة، فبايعوه على كلّ شيء عدا القتال، وسميت العقبة الأولى .
قال الراوي: وكنّا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) على
بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا
نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه
في معروف.
وعادت القافلة إلى المدينة، ومعها رسول محمّد مصعب بن عمير، أمره أن يُقرئهم القرآن،
ويعلّمهم الإسلام، ويفقّههم في الدّين.
عادت القافلة، وهي تحمل من مسؤوليّة العقيدة ما يخفّف عنها وحشة الطريق، ويحدوها
شوق متناه للحفاظ والوفاء لهذه الدعوة الجديدة.
وطوى العام أوراقه الخضراء والصفراء، وأجدبت أرض وأمرعت أرض، وقرب الموسم الذي يقصد
الناس فيه مكّة، وعاد مصعب إلى مسقط رأسه ليجدّد عهداً برسول الله، وكان معه عدد
كبير من المسلمين، وتمّ الاتفاق على أن يكون الموعد هو: العقبة .
وفي ليلة مشرقة، وبعد أن مضى منها جذوتها الأولى، وهدأت الأنفاس، وهوّمت العيون،
تسلّل عدد من الأوس والخزرج ممن صحبوا مصعباً إلى مكان التلاقي، واجتمعوا في الشعب
عند العقبة، وكان عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً، وامرأتان، هما: نسيبة بنت كعب، أمّ
عمارة، وأسماء بنت عمرو، أمّ منيع، ولم ينتصف اللّيل، حتى أقبل محمد، ومعه العباس
بن عبد المطلب - وهو يومئذٍ لم يدخل الإسلام -، لكنَّه أراد أن يستوثق من أمر ابن
أخيه، فلمّا تكامل المجلس، قام العبّاس خطيباً: يا معشر الخزرج، إنّ محمداً منا حيث
قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، فهو في عزٍّ من قومه، ومنعةٍ في بلده، وإنّه أبى
إلا الانحياز إليكم، واللّحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه،
ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمّلتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنّكم مسلّموه وخاذلوه
بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنّه في عزّ ومنعة من قومه ومن بلده.
فقام أحد الزعماء، وقال للعباس: قد سمعنا ما قلت، فتكلّم يا رسول الله، فخذ لنفسك
ولربّك ما أحببت. واستعدّ رسول الله للحديث، وسكت الكلّ، فكأن على رؤوسهم الطير،
وعيونهم تعبُّ من نور النبوّة ما يقوّي عزيمتهم ويشدّ إيمانهم.
وتكلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغّب في
الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه عوائلكم وأبناءكم.
فأخذ البراء بن معرور - وهو من كبار الشخصيات - بيده وقال: نعم، والذي بعثك بالحق
نبياً، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب،
وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر. وتكلّم أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول
الله، إنّ بيننا وبين الرّجال حبالاً، وإنّا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن
نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسّم رسول الله، وقال: بل الدّم بالدّم، والهدم بالهدم، أنا منكم وأنتم مني،
أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم. وانتهت بيعة العقبة الثانية .
ثم قال الرسول: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً، فأخرجوا تسعة من الخزرج، وثلاثة
من الأوس، ثم إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال للنّقباء: أنتم على قومكم بما
فيهم كفلاء، ككفالة الحواريّين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي - يقصد المسلمين
- قالوا: نعم. وقبل أن تمدّ الأيدي للبيعة، وقف أحد الأصحاب، وهو يخاطب إخوانه
قائلاً: يا معشر الخزرج، هل تدرون علامَ تبايعون محمداً؟ قالوا: نعم، قال: إنّكم
تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهكت أموالكم
مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن اتركوه، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا
والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه، على نهكة الأموال وقتل
الأشراف، فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة.
قالوا: فإنّا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا يا رسول الله إن نحن
وفينا بذلك؟ قال: الجنّة.
قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، وتسرَّب النّبأ لقريش، وحاولت أن تستقصي
الحقيقة لكنّها فشلت، ولم تتحقّق منه إلا بعد فوات الأوان، وعاد الرّكب إلى المدينة.
ثم سكت أبو معاذ قليلاً ريثما يستريح، وبعدها عاد للحديث قائلاً: وكان سعد بن
الربيع أحد النقباء الاثني عشر، الذين اختارهم الأنصار ليكونوا فيهم كفلاء ككفالة
الحواريّين لعيسى بن مريم، ولا أنساه وقد خرج مع من خرج لاستقبال رسول الله، وقد
أطلَّ ركبه الكريم على المدينة، كلّ يود أن يحلّ محمّد ضيفاً عليه يُشرّف بيوتهم.
ويقول سعد له: يا رسول الله، هلمّ إلينا، إلى العدد والمنعة، ولكنّ النبيّ الكريم
يقول له ولأصحابه: خلّوا سبيل ناقتي، فإنها مأمورة، وبعد لحظات، تقف على باب دار
أبي أيوب الأنصاري، وكان سعد أحد أولئك الأشخاص الذين لازموا الرّسول، واعتنوا
بأمره، واهتموا بدعوته.
وقويت شوكة المسلمين، وأعلن الرّسول عن عزمه على غزو قافلة المشركين العائدة من
الشّام بقيادة أبي سفيان، وعلمت قريش بهذا النبأ، فزحفت بقوّتها وعدّتها متجهة نحو
المدينة، ولم يقف الجيش الزّاحف إلا ببدر، وبين عشيّة وضحاها، دارت الحرب قويّة
عنيفة بين الحقّ والباطل، وكان نصيب سعد بن الرّبيع نصيب الأبطال في هذه المعركة،
وعاد إلى المدينة يرفل بالنصر والمجد.
ثم كانت أُحد، وهرعت قريش بكلّ إمكاناتها لعلها تنال ثأرها، وبلغت الأخبار رسول
الله، وعرضها على أصحابه ليقطعوا برأي فيها، واحتدم الجدال، وطال النقاش، بين مصرّ
على مجابهة الأعداء بالعنف، ومقارعتهم بالسيف، وبين من يختار العافية، ويفضل
السِّلم، إلا إذا غزوا في عقر بيوتهم، وكان سعد بن الرّبيع حريصاً على مواجهة
الموقف بالحزم والشّجاعة، طالما أنهم على الحقّ، ولا يهمّ البطل القتال، خاصّة
وأنهم عاهدوا رسول الله في العقبة أن يكونوا سيوفاً مسلولة على أعدائه، لم تغمد إلا
في صدورهم، ولم تردّ عن نحورهم، ولاحظ الرّسول أن الوقت امتدّ في الجدل والنقاش،
ولا بدّ أن يضع حداً لذلك، فقام ودخل داره ولبس لامته، وتعمّم بعمامته، وخرج على
قومه معلناً ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل .
وكان هذا التصميم من النبي إنذاراً لأن يضع حداً للقيل والقال، وما إن يشاهد
الأصحاب نبيّهم على هذا اللون من العزم والتصميم، حتى تراكضوا لبيوتهم استعداداً
للرّحيل، وزحف محمد (صلى الله عليه وآله) بجيشه الذي ناهز الألف بين راجل وفارس،
وقد علمتهم بدر أن النّصر لم يكن مقروناً بالكثرة والعدد الوافر، وإنما هو من الله
يمنحه من يشاء، ولمصلحة ما.
وتقابل الطرفان، وقد حمي الوطيس بينهما، ودارت المعركة ضاريةً، وقد اتسمت بالبطولة
والوفاء من جهة، والحقد والعصبيّة من جهة أخرى، وتساقط الأبطال من كلّ فريق، وألحت
سيوف المسلمين المغاوير تحصد من حشود الكفّار ما شاءت، يلفها ابن أبي طالب، ويفريها
أسد الله حمزة بن عبد المطلب، ويشتّت شملها مصعب بن عمير، ويصول عليها سعد بن
الرّبيع، وكاد النصر يرفّ على المسلمين، لولا طمع الطّامعين وأصحاب النفوس الضّعيفة
يتركون مؤخّرة الجيش، فيوقع فيهم خالد بن الوليد - قائد الجيش المعادي حينذاك.
يقول الراوي: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب،
ما دون أخذهنّ قليل أو كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه، وخلوا
ظهورنا للجبل، فأتونا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا إنّ محمداً قد قتل، فانكفأنا وانكفأ
علينا القوم، بعد أن أصبنا أصحاب اللّواء، كان يوم أُحد يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله
فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة، وكان أصل البلاء على المسلمين خالد بن الوليد،
فقد تربّص الفرصة لينقضّ على المسلمين، وفعلاً كان ما أراد، وخلص هو وكتيبته إلى
النبيّ، ورمي بالحجارة، فأصيبت رباعيّته، وشجّ عتبة بن وقاص وجهه، وأخذ الدّم يسيل
عليه، وصار يمسح الدّم، وهو يقول: كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم وهو يدعوهم إلى
ربّه؟
والتفّ عدد من خلّص الصحابة بالنبيّ، فطوّقوه من كل جانب، ومنهم سعد بن الربيع، ولم
يكن علي بن أبي طالب إلا ذلك الفارس الذي ينقضّ على الأعداء بجراءة وبطولة لم يشاهد
مثلهما في تلك الحرب، يكشف الحشد عن ابن عمّه، ويخفف الضغط عنه. وخطّ الظلام، ويئس
أبو سفيان من النصر، وأنه لا سبيل له على قتل محمّد، مادام عليّ وأمثاله يدافعون
عنه ببسالة وموت، وإن الحرب أكلت السواعد القوية من أبطاله، وإن أصحابه يفضلون
إنهاءها، فلا أمل عندهم للغلبة، وكفاهم ما أنزلوه بمحمد من خسائر، وقتل حمزة خسارة
لا تعوَّض.
ووضعت الحرب أوزارها، وأغمدت السيوف، وغادر أبو سفيان وصحبه أرض المعركة، بعد أن
جمعوا فلولهم، وتركوا قتلاهم، عند ذاك، أمر النبي أصحابه أن يفرغوا لقتلاهم ومداواة
المجروحين.
ثم التفت عليه الصّلاة والسّلام إلى أصحابه قائلاً: من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن
الرّبيع، أفي الأحياء هو، أم في الأموات؟
وقام أصحاب الرسول بالبحث بين القتلى والجرحى عن سعد، فوُجد جريحاً، وهو بين الموت
والحياة، فوقف عليه أحد المسلمين وقال له: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟.
وتعثرت الكلمات على شفتي الجريح، وهو يصارع الموت، وبكلّ جهد ردّ على صاحبه قائلاً:
أنا في الأموات، وأبلغ رسول الله عني السلام، وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك
الله عنا خير ما جزى نبيّاً عن أُمّته. وسكت الجريح لحظة ريثما يستردّ أنفاسه
المتقطعة، وهو يشير إلى الرجل أن ينتظر قليلاً، ثم تكلّم، وخرجت الكلمات هادئة من
فم أثلجه الموت، وأبلغ قومك عني السّلام، وقل لهم: إنّ سعداً يقول لكم: إنه لا عُذر
لكم عند الله إن خُلص إلى نبيكم، ومنكم عين تطرف، وتثاقلت حالة سعد، وجحظت عيناه،
وشهق، ومات.
وأخبر الأنصاري النبيّ ما قاله سعد، كما بلَّغ الأنصار مقالته، ورفع النبيّ (صلى
الله عليه وآله) يديه إلى السّماء، وهو يقول: اللّهمّ إن سعد بن الربيع في ضيافتك،
وقد جاهد من أجل دينك، فنوّر قبره، واقبل منه فداءه .
رحمك الله يا سعد، وجزاك عن نبيّه خير جزاء، فقد ختمت حياتك الشّامخة بالتّضحية
والفداء.
*المصدر: كتاب "بين يَدي الرّسُول الأعظم (صلى الله عليه وآله)".