بدأ الأئمة يعانون أشدَّ المشاقّ والعقبات، في سبيل إنقاذ الإسلام من هذه التركة
الثقيلة التي خلَّفتها الأوضاع الشاذّة، فقد كانت مهمتهم هي المحافظة على نصاعة
الإسلام وإشراقه وجلاء مفاهيمه بوضوح مهما كلّفهم الأمر، وكانت الظروف تشتدّ حيناً
وتنفرج حيناً، وكانت لحظات الانفراج، أو فتراته، هي المجال الوحيد لنشر توجيهاتهم
وبثّ تعاليمهم المقدَّسة.
وجاء عصر الصادق (ع) في فترة انفراجٍ واسعةٍ نسبياً، بسبب الظّرف الذي كان فترة
انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين، واشتغال كلا الطرفين بشؤونه وملكه عن
الإساءة للإمام (ع) أو منعه عن ممارسة نشاطه في الدعوة إلى الحقّ وتعريف النّاس،
وبدأ الإمام (ع) ثورته التثقيفية بين المسلمين بأساليب متعددة، تختلف حسب اختلاف
عقلية السائلين والمجادلين.
وانتشرت أحاديثه انتشاراً هائلاً، وكثر الرواة لها في جميع الطبقات من شيعته وغيرهم،
لا سيما وقد أصبح الحديث والرواية علماً مستقلاً بذاته في ذلك الوقت.
وقد أفرد الحافظ أبو العباس أحمد بن عقدة الكوفي الزّيدي كتاباً فيمن روى عنه (ع)،
جمع فيه أربعة آلاف رجل وذكر مصنّفاتهم، ولم يذكر جميع من روى عنه. ويقول الحسن بن
علي الوشّاء في ما روي عنه: "أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ،
كلٌّ يقول حدّثني جعفر بن محمد".
وأعطت هذه الثورة ثمارها، فقد بدأت المفاهيم الإسلامية تأخذ طريقها إلى الوضوح بسبب
ما أثير حولها من جدلٍ وسؤال، وبدأت الحركة العلميّة تزدهر وتنمو، وبدأ الجمود الذي
سيطر على أذهان المسلمين وتفكيرهم يتلاشى تدريجيّاً.
كلّ ذلك بفضل الحركة التي أثارها الإمام الصادق (ع) في مجتمعه في تلك الفترة
الانتقالية في شتّى الجوانب والقضايا في إطار إسلامي رائع.
ولم يعجب ذوي النفوس المريضة هذا الإشراق الذي بدأت تتجلّى فيه المبادئ الإسلامية،
وهذا التفكير الجدي المرن الذي بدأ يغزو حياة المسلمين في طريق مستقيم لاحبٍ، ولم
يرضَ الحاكمون أن يكون للإمام الصادق (ع)، أو الأئمة بوجه عام، هذه المكانة وهذه
المنـزلة في نفوس المسلمين، أو أن يكون لحديثهم هذه المرتبة من القدسيّة والتقدير،
ولم يكن في حياة الأئمة (ع) أيّ مغمز أو ملمز أو مجال ينفذون منه إلى أغراضهم
وأهدافهم العدوانيّة تجاههم، إذ ليس في حياتهم ما يؤاخذون به أو يُنقدون عليه،
لأنها كانت المثال الحيّ للحياة الإسلاميّة الناصعة في مثاليّتها وروحيّتها.
فلم يبق إلّا الكذب... وبدأ الوُضَّاع يختلقون الأحاديث عنه وينسبونها إليه، ما
يتنافى وأصول العقيدة الإسلاميّة، الأمر الذي سبّب ارتباكاً واضطراباً للمخلصين
الذين يحاولون المحافظة على قدسيّة هذا التراث ونصاعته، ما اضطرّ الإمام الصادق (ع)
لأن ينبّه المسلمين إلى خطر هذه الأكاذيب، وإلى أن يجعل لهم قياساً يقيسون به ما
يأخذون عنه وما يدعون.
فقد جاءنا الحديث الصحيح عن هشام بن الحكم، أن أبا عبد الله الصادق (ع) قال: "لا
تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا
المتقدّمة، فإن المغيرة بن سعيد - لعنه الله - دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم
يحدِّث بها أبي. فاتقوا الل، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنّة نبينا".
وقوله (ع) لمحمد بن مسلم: "ما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به،
وما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به".
وفي كثير من الروايات عنه: "وما خالف قول ربنا لم نقله... أو زخرف... أو باطل".
وهكذا التقى الأئمة (ع) بجدّهم (ص) في مشكلة الكذب والكذّابين والوضع والوضّاعين،
فلم يكن منهم إلا تحذيرُ المسلمين منهم ومن حبائلهم وكيدهم الّذي يكيدون به للدّين
الإسلامي، وإرجاعهم إلى كتاب الله وسنَّة نبيّه، فإنهما المقياس الذي تقاس به صحّة
ما ينسب إليهم وكذبه، لأنهم حفظة الكتاب والسنّة والقائمون عليهما، فلا يمكن بأيِّ
حال من الأحوال أن يكون حديثهم مخالفاً لهما، بل هو مستمدُّ منهما، راجع إليهما في
كلِّ أمر من أمور الكون والحياة.