مختارات
14/07/2015

محمّد حسين فضل الله.. الفقيه الَّذي "لا يعلّب" قصائده

محمّد حسين فضل الله.. الفقيه الَّذي "لا يعلّب" قصائده

عادةً ما يكون شعر الفقهاء مقيَّد العبارة، خشية أن يقع أصحابها في المحظور، وقد يفقد الشّعر عندهم الكثير من خيالاته، إذ يتأطّر المضمون بضوابط يضعونها، حتى قيل من النّاحية الفنية، إنَّ هذا الشّعر أقرب إلى النَّظم.

لكنّ الشّاعر الفقيه السيّد محمد حسين فضل الله، ينأى عن هذه القاعدة، وينغمس في الشّعر حدَّ العاطفة، ويترك عنان القصيدة بلا مقبض، لتحلّق خيالاته بما يليق برهافة إحساسه، فهو لا يتعامل مع الشّعر بصفته الفقهيَّة، وإن كانت لديه الكثير من القصائد الّتي تنحو هذا الاتجاه، ولكنَّه حين يكتب أمراً آخر، فإنّه يتعامل مع القصيدة بروحه الشّاعريَّة البحتة.

ويفسِّر هو شخصيّاً هذا الأمر بمقولةٍ له: "أنا لا أؤمن بمسألة أن تفرض على الشَّاعر التزاماً، فالشِّعر مثل الماء والهواء لا تستطيع أن تعلّبه". ويؤكِّد ذلك في مقولةٍ أخرى: "إنَّ الشِّعر يعني لي الإحساس بالحياة بطريقةٍ موسيقيَّةٍ في الكلمة والوزن، وفي الاستغراق بجمالات الحياة"، وهذا يعني أنّه يقف في محراب الشّعر، موقناً أنَّ للحالة الشّعريّة حقّها الّذي يجب أن تحصل عليه، دون حدودٍ للرّهبة من محاذير صارمة جاءت نتيجة التّشدّد والمغالاة، لأنَّ النَّبيّ محمّداً عليه الصّلاة والسّلام كان يستمع إلى الشّعر، واستخدمه كوسيلةٍ إعلاميّةٍ أيضاً، وأشاد بالشّعراء، واستمع إلى قصيدة كعب بن زهير: "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول".

والتفت النقّاد إلى شاعريّة السيِّد محمد حسين فضل الله بشكلها العلميّ لا النّظميّ، فبعضهم اعتبر أنّه يكتب الرمزية، وإن صحَّ هذا التّصنيف، فإنّني أرى أنّ رمزيّته ـ إن وجدت ـ فهي ليست من باب المواراة للهروب من المحاذير، بل هي أسلوب يقصد منه الجزالة والالتصاق بفنيّات القصيدة، كي تأخذ الصبغة العلميَّة.

يقول عن ذلك الكاتب علي رفعت مهدي: "لقد عدّ الشَّاعر (محمد حسين فضل الله) الشّعر إحساساً بالحياة؛ الإحساس المقترن بالموسيقى، ويفترق عنها في وعي النَّفس والحياة، والشّعر هو الإنسان عندما يفتح على وعي نفسه وعلى وعي الكون والحياة. فهل ينتمي السيّد إلى المذهب الرمزيّ؟". ويعود الكاتب علي رفعت مهدي للتّأكيد أنَّها ليست رمزيّة، بقوله: "يبدّد السيّد هذه المقولة، بأنّه ينفتح على وعي نفسه، لا بالانحناء إلى بواطن النّفس وإثارتها".

وربما هذه الأبيات من قصيدةٍ له بعنوان "عيناي ظامئتان"، توضح وجهة نظري وتدعمها:

عينايَ ظامئتانِ للأطيافِ في خَدَرِ الذّهولِ

في غفوةِ الذّكرى اللّعوبِ وسكرةِ اللّيلِ الطّويلِ

فأضمُّ في قلبي الشّذى منها... وأقنعُ بالقليلِ

وأنامُ حولَ غدائرِ الأحلامِ في حُضْنِ السُّهولِ

حيثُ الرَّبيعُ... يرشُّ أحلامي على الزَّهرِ الطّليلِ

* * *

أنا شاعرٌ يهوى الحياةَ... حرارةً في كلِّ جيلِ

يترشّفُ الآلامَ أصفى من مذابِ السَّلسبيلِ

ويحبُّ أطيافَ العذابِ وقسوةَ الزَّمنِ البخيلِ

ليعودَ يحرقُ روحهُ البيضاء في وَهْجِ السَّبيلِ

فتُذيبُ في أضوائِهَا النَّشوى ضبابَ المستحيلِ

وتشقُّ دربَ الضَّوءِ عبرَ الفجرِ في زهوِ الحقولِ

وظلَّ الشّاعر السيِّد محمّد حسين فضل الله يكتب بروح الشّباب حتى أواخر عمره، وما قد يظنّه بعضهم أنّها رمزيَّة، أراها فلسفةً خاصَّةً تضفي على قصائده أسلوبيَّته الروحانيَّة الخالصة، لتتيح له الخروج عن الضَّوابط من دون الجنوح في المحظور... وتلك هي براعة لا يتحلَّى بها إلا شاعر متمكّن، رحمه الله.

المصدر: مجلّة الراي الكويتيّة

* كاتب وأكاديمي في كليّة الآداب/ جامعة الكويت

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.

عادةً ما يكون شعر الفقهاء مقيَّد العبارة، خشية أن يقع أصحابها في المحظور، وقد يفقد الشّعر عندهم الكثير من خيالاته، إذ يتأطّر المضمون بضوابط يضعونها، حتى قيل من النّاحية الفنية، إنَّ هذا الشّعر أقرب إلى النَّظم.

لكنّ الشّاعر الفقيه السيّد محمد حسين فضل الله، ينأى عن هذه القاعدة، وينغمس في الشّعر حدَّ العاطفة، ويترك عنان القصيدة بلا مقبض، لتحلّق خيالاته بما يليق برهافة إحساسه، فهو لا يتعامل مع الشّعر بصفته الفقهيَّة، وإن كانت لديه الكثير من القصائد الّتي تنحو هذا الاتجاه، ولكنَّه حين يكتب أمراً آخر، فإنّه يتعامل مع القصيدة بروحه الشّاعريَّة البحتة.

ويفسِّر هو شخصيّاً هذا الأمر بمقولةٍ له: "أنا لا أؤمن بمسألة أن تفرض على الشَّاعر التزاماً، فالشِّعر مثل الماء والهواء لا تستطيع أن تعلّبه". ويؤكِّد ذلك في مقولةٍ أخرى: "إنَّ الشِّعر يعني لي الإحساس بالحياة بطريقةٍ موسيقيَّةٍ في الكلمة والوزن، وفي الاستغراق بجمالات الحياة"، وهذا يعني أنّه يقف في محراب الشّعر، موقناً أنَّ للحالة الشّعريّة حقّها الّذي يجب أن تحصل عليه، دون حدودٍ للرّهبة من محاذير صارمة جاءت نتيجة التّشدّد والمغالاة، لأنَّ النَّبيّ محمّداً عليه الصّلاة والسّلام كان يستمع إلى الشّعر، واستخدمه كوسيلةٍ إعلاميّةٍ أيضاً، وأشاد بالشّعراء، واستمع إلى قصيدة كعب بن زهير: "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول".

والتفت النقّاد إلى شاعريّة السيِّد محمد حسين فضل الله بشكلها العلميّ لا النّظميّ، فبعضهم اعتبر أنّه يكتب الرمزية، وإن صحَّ هذا التّصنيف، فإنّني أرى أنّ رمزيّته ـ إن وجدت ـ فهي ليست من باب المواراة للهروب من المحاذير، بل هي أسلوب يقصد منه الجزالة والالتصاق بفنيّات القصيدة، كي تأخذ الصبغة العلميَّة.

يقول عن ذلك الكاتب علي رفعت مهدي: "لقد عدّ الشَّاعر (محمد حسين فضل الله) الشّعر إحساساً بالحياة؛ الإحساس المقترن بالموسيقى، ويفترق عنها في وعي النَّفس والحياة، والشّعر هو الإنسان عندما يفتح على وعي نفسه وعلى وعي الكون والحياة. فهل ينتمي السيّد إلى المذهب الرمزيّ؟". ويعود الكاتب علي رفعت مهدي للتّأكيد أنَّها ليست رمزيّة، بقوله: "يبدّد السيّد هذه المقولة، بأنّه ينفتح على وعي نفسه، لا بالانحناء إلى بواطن النّفس وإثارتها".

وربما هذه الأبيات من قصيدةٍ له بعنوان "عيناي ظامئتان"، توضح وجهة نظري وتدعمها:

عينايَ ظامئتانِ للأطيافِ في خَدَرِ الذّهولِ

في غفوةِ الذّكرى اللّعوبِ وسكرةِ اللّيلِ الطّويلِ

فأضمُّ في قلبي الشّذى منها... وأقنعُ بالقليلِ

وأنامُ حولَ غدائرِ الأحلامِ في حُضْنِ السُّهولِ

حيثُ الرَّبيعُ... يرشُّ أحلامي على الزَّهرِ الطّليلِ

* * *

أنا شاعرٌ يهوى الحياةَ... حرارةً في كلِّ جيلِ

يترشّفُ الآلامَ أصفى من مذابِ السَّلسبيلِ

ويحبُّ أطيافَ العذابِ وقسوةَ الزَّمنِ البخيلِ

ليعودَ يحرقُ روحهُ البيضاء في وَهْجِ السَّبيلِ

فتُذيبُ في أضوائِهَا النَّشوى ضبابَ المستحيلِ

وتشقُّ دربَ الضَّوءِ عبرَ الفجرِ في زهوِ الحقولِ

وظلَّ الشّاعر السيِّد محمّد حسين فضل الله يكتب بروح الشّباب حتى أواخر عمره، وما قد يظنّه بعضهم أنّها رمزيَّة، أراها فلسفةً خاصَّةً تضفي على قصائده أسلوبيَّته الروحانيَّة الخالصة، لتتيح له الخروج عن الضَّوابط من دون الجنوح في المحظور... وتلك هي براعة لا يتحلَّى بها إلا شاعر متمكّن، رحمه الله.

المصدر: مجلّة الراي الكويتيّة

* كاتب وأكاديمي في كليّة الآداب/ جامعة الكويت

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية