في الذكرى الخامسة عشرة لرحيل المرجع الإسلامي الكبير السيّد محمَّد حسين فضل الله، نستذكر قامة فكرية ومعرفية تركت إرثاً عظيماً وفراغاً هائلاً في الأوساط العلميَّة والفكريَّة. لقد كان فضل الله مفكّراً متفرّداً، لم يخشَ الخوض في القضايا الجدلية والفلسفية والعقائدية التي أحجم عنها الكثيرون، بل عمل على تفنيد النظريات الخاطئة التي كانت تعتبر من المسلّمات، مسقطاً إيَّاها بحجّته ودليله في مياه الفكر الراكدة. كما كان السيّد فضل الله قامة وحدويَّة معتدلة ومنفتحة، لم يكن لديه سؤال ممنوع أو استفهام محرَّم. كلّ شيء كان عنده قابلاً للنقد والنقاش والخضوع، شرط الانتقاد العلمي والأدبي البنّاء. هذه الجرأة في الطَّرح والنقد جلبت له الكثير من السّهام، ولكن حين عجز البعض عن مناقشة فكره بالحجَّة والدَّليل، حاولوا النيل من شخصه وتاريخه ونضاله.
لقد كان - رحمه الله - منارة لإحقاق الحقّ ونصرة كلّ فكر محاصر تحت حجّة القداسة. لذلك، تأتي الذكرى الخامسة عشرة لرحيل العلّامة فضل الله، والوطن والأمَّة في أمسّ الحاجة إلى حكمته ومواقفه ورؤاه، حيث كان يرى أنَّ السنّة هم أهل الشيعة لأنهم يحبّون أهل البيت، والشيعة هم أهل السنّة لأنهم يعملون بسنّة رسول الله، رافضاً التمايز بين مسلم سنّي ومسلم شيعي. كما كان يؤكّد أنَّ المرء يشهر إسلامه بمجرد النطق بالشهادة والالتزام بالفرائض الخمس، وأن الفتوى يجب أن تعالج مشكلات الناس دون خوف أو تردد. ولقد كان يدعو إلى الوحدة الوطنيَّة بين المسلم والمسيحي في لبنان، مؤكّداً أن الوحدة هي سياج الوطن في مواجهة التحديات، واستطاع بفكره المنفتح أن يخترق الجدران بين الطوائف والمذاهب والمواقع السياسية، وأن يحظى باحترام الجميع.
لم تقتصر جهود السيد فضل الله على الجانب الفكري والديني، بل امتدَّت لتشمل العمل الإنساني والاجتماعي بامتياز. وتشهد على ذلك جمعية المبرات الخيرية التي تعنى بالأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة وبالتنمية الاجتماعية والتربية الوطنية. أضف إلى ذلك، لقد كان يؤمن بأن التغيير يبدأ من الذات، وأن علينا أن نخرج أفكارنا وعواطفنا من زنزانة العصبيَّات والذاتيَّات الضيّقة، كما كان يردّد دوماً أنَّ الأديان توحّد بينما العصبيات تفرّق، وأنَّ جهل المسلمين بجوهر الإسلام وقِيَمه ورسالته هو أبرز العوائق التي تقف في وجه نشر الإسلام الجامع. وعلى الرغم من الخصومات الظالمة التي واجهها السيد فضل الله قبل رحيله وأثنائه وبعده، إلّا أنَّ فكره ظلّ مهيمناً على مفاصل الحركة الثقافية الإسلامية المنفتحة على الإنسان والحياة. ولقد بقي شامخاً في زمن عزّ فيه العظماء والمفكرون، وظل في سجلّ الخالدين، بينما قبع من عاداه في القاع مع المنسيّين.
كما أنَّ المسلمين اليوم في أمسّ الحاجة إلى شخصية متوازنة وعاقلة وناضجة ومنفتحة على الآخر كالعلّامة الراحل السيّد محمد حسين فضل الله، الذي لم يتقوقع داخل كهف المذاهب والطوائف، بل حلّق عالياً بعيداً من صراعات الأفراد والجماعات والتيارات والأحزاب، إلى حيث الفضاءات التي احتضنت الإنسان بعيداً من هويته ومذهبه وحتى دينه. فقد كان الإنسان الذي نذر حياته في سبيل تطوير الفكر الإسلامي وانتشاله من مخالب الخرافات والتخلّف وأسوار الانحطاط، ومات جسداً، وظلّ فكراً خالداً يرفل مع العظماء، وأصبح يطلق عليه بالظاهرة، لأنه الرجل الذي أشغل العالم بوعيه وتفرّده في الوقوف بكلّ جرأة ضد كل قوى الظلام.
لذا، سنبقى نستلهم من سماحته أن نقدّم الإسلام الأصيل، والصّورة المشرقة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولصحابته، مؤكدين قدرة الدين من خلال فكره ورموزه على بناء حياة بعيدة عن كلّ أجواء الكراهية والحقد والانغلاق.
وبوركت يا سماحة الإمام بهذا العمل الجبَّار، الذي توليته بطاقاتك الجبارة، على الصعد الفكرية والإنسانية والأخلاقية، في خدمة أهدافك الدينية والاجتماعية والوطنية، مؤكدين أنك ستبقى ذكراك نبراساً مشعّاً للعمل الديني الخالص لوجه الله، وعلماً من أعلام تاريخ لبنان والعالم الإسلامي، أحاطك الله برحمته الواسعة.
ونختم بالقول، نمْ قرير العين يا سماحة السيد، فقد كنت علماً من أعلام الوعي والتجديد، وستظل ذكراك منارة للأجيال، وإرثك الفكري حجر أساس في مشروع الإسلام الإنساني المتسامح.
* منشور في جريدة اللواء، بتاريخ: 5 تموز 2025 م.
في الذكرى الخامسة عشرة لرحيل المرجع الإسلامي الكبير السيّد محمَّد حسين فضل الله، نستذكر قامة فكرية ومعرفية تركت إرثاً عظيماً وفراغاً هائلاً في الأوساط العلميَّة والفكريَّة. لقد كان فضل الله مفكّراً متفرّداً، لم يخشَ الخوض في القضايا الجدلية والفلسفية والعقائدية التي أحجم عنها الكثيرون، بل عمل على تفنيد النظريات الخاطئة التي كانت تعتبر من المسلّمات، مسقطاً إيَّاها بحجّته ودليله في مياه الفكر الراكدة. كما كان السيّد فضل الله قامة وحدويَّة معتدلة ومنفتحة، لم يكن لديه سؤال ممنوع أو استفهام محرَّم. كلّ شيء كان عنده قابلاً للنقد والنقاش والخضوع، شرط الانتقاد العلمي والأدبي البنّاء. هذه الجرأة في الطَّرح والنقد جلبت له الكثير من السّهام، ولكن حين عجز البعض عن مناقشة فكره بالحجَّة والدَّليل، حاولوا النيل من شخصه وتاريخه ونضاله.
لقد كان - رحمه الله - منارة لإحقاق الحقّ ونصرة كلّ فكر محاصر تحت حجّة القداسة. لذلك، تأتي الذكرى الخامسة عشرة لرحيل العلّامة فضل الله، والوطن والأمَّة في أمسّ الحاجة إلى حكمته ومواقفه ورؤاه، حيث كان يرى أنَّ السنّة هم أهل الشيعة لأنهم يحبّون أهل البيت، والشيعة هم أهل السنّة لأنهم يعملون بسنّة رسول الله، رافضاً التمايز بين مسلم سنّي ومسلم شيعي. كما كان يؤكّد أنَّ المرء يشهر إسلامه بمجرد النطق بالشهادة والالتزام بالفرائض الخمس، وأن الفتوى يجب أن تعالج مشكلات الناس دون خوف أو تردد. ولقد كان يدعو إلى الوحدة الوطنيَّة بين المسلم والمسيحي في لبنان، مؤكّداً أن الوحدة هي سياج الوطن في مواجهة التحديات، واستطاع بفكره المنفتح أن يخترق الجدران بين الطوائف والمذاهب والمواقع السياسية، وأن يحظى باحترام الجميع.
لم تقتصر جهود السيد فضل الله على الجانب الفكري والديني، بل امتدَّت لتشمل العمل الإنساني والاجتماعي بامتياز. وتشهد على ذلك جمعية المبرات الخيرية التي تعنى بالأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة وبالتنمية الاجتماعية والتربية الوطنية. أضف إلى ذلك، لقد كان يؤمن بأن التغيير يبدأ من الذات، وأن علينا أن نخرج أفكارنا وعواطفنا من زنزانة العصبيَّات والذاتيَّات الضيّقة، كما كان يردّد دوماً أنَّ الأديان توحّد بينما العصبيات تفرّق، وأنَّ جهل المسلمين بجوهر الإسلام وقِيَمه ورسالته هو أبرز العوائق التي تقف في وجه نشر الإسلام الجامع. وعلى الرغم من الخصومات الظالمة التي واجهها السيد فضل الله قبل رحيله وأثنائه وبعده، إلّا أنَّ فكره ظلّ مهيمناً على مفاصل الحركة الثقافية الإسلامية المنفتحة على الإنسان والحياة. ولقد بقي شامخاً في زمن عزّ فيه العظماء والمفكرون، وظل في سجلّ الخالدين، بينما قبع من عاداه في القاع مع المنسيّين.
كما أنَّ المسلمين اليوم في أمسّ الحاجة إلى شخصية متوازنة وعاقلة وناضجة ومنفتحة على الآخر كالعلّامة الراحل السيّد محمد حسين فضل الله، الذي لم يتقوقع داخل كهف المذاهب والطوائف، بل حلّق عالياً بعيداً من صراعات الأفراد والجماعات والتيارات والأحزاب، إلى حيث الفضاءات التي احتضنت الإنسان بعيداً من هويته ومذهبه وحتى دينه. فقد كان الإنسان الذي نذر حياته في سبيل تطوير الفكر الإسلامي وانتشاله من مخالب الخرافات والتخلّف وأسوار الانحطاط، ومات جسداً، وظلّ فكراً خالداً يرفل مع العظماء، وأصبح يطلق عليه بالظاهرة، لأنه الرجل الذي أشغل العالم بوعيه وتفرّده في الوقوف بكلّ جرأة ضد كل قوى الظلام.
لذا، سنبقى نستلهم من سماحته أن نقدّم الإسلام الأصيل، والصّورة المشرقة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولصحابته، مؤكدين قدرة الدين من خلال فكره ورموزه على بناء حياة بعيدة عن كلّ أجواء الكراهية والحقد والانغلاق.
وبوركت يا سماحة الإمام بهذا العمل الجبَّار، الذي توليته بطاقاتك الجبارة، على الصعد الفكرية والإنسانية والأخلاقية، في خدمة أهدافك الدينية والاجتماعية والوطنية، مؤكدين أنك ستبقى ذكراك نبراساً مشعّاً للعمل الديني الخالص لوجه الله، وعلماً من أعلام تاريخ لبنان والعالم الإسلامي، أحاطك الله برحمته الواسعة.
ونختم بالقول، نمْ قرير العين يا سماحة السيد، فقد كنت علماً من أعلام الوعي والتجديد، وستظل ذكراك منارة للأجيال، وإرثك الفكري حجر أساس في مشروع الإسلام الإنساني المتسامح.
* منشور في جريدة اللواء، بتاريخ: 5 تموز 2025 م.