الشغف بصاحب "الخطيئة والتكفير"، الدكتور عبدالله الغذامي، كان يقودني إلى كلية الآداب في جامعة الملك سعود، في العاصمة السعودية الرياض، لحضور دروس الماجستير، رغم أنني وقتها كنت طالباً في كلية العلوم.
الغذامي الذي كان يأخذه الجدل مع تلامذته، وتحديداً مع الصديق حسين بافقيه، طلب مني في إحدى الجلسات أن أحضر نسخاً من كتاب "مختصر المنطق"، للعلامة الراحل الدكتور عبدالهادي الفضلي، سائلاً تلامذته أن يعتبروا الكتاب ضمن مقرراتهم الدراسيَّة.
ما إن أحضرت "مختصر المنطق"، حتى أُخذ به الطلبة، وتلقفه بافقيه بشغف، وخصوصاً أنه تربطه سابقة معرفة بالفقيد الفضلي.
كان هدف الغذامي من فرض المقرر على الطلبة، أن يجعلهم يفكرون بطريقة منطقية سليمة، سائرين على "خطة طريق" منهجية، وضعها رجل زامله إبّان تدريسه في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، في زمن كان الهجوم فيه حاداً على الحداثة ورموزها في السعودية.
كان الكثيرون يحذرون من تيار "الحداثة" ويتهمونه بـ"تغريب البلاد"، هذا التيار الذي كان يقوده عدد من رجال الدين ورموز الصحوة، كما كان كثيرون لا يتجرأون على الدفاع عن أصدقاء لهم أو زملاء فيه، خوفاً من أن يطالهم من "الشرر" نصيب. إلا أن الراحل الفضلي، الذي كان رجل دين بمرتبة فقيه "مجتهد"، وقف جنباً إلى جنب مع الغذامي، ولم يتركه وحيداً نهبة للنبال، وتلك كانت إحدى السمات الأساسية في شخص من أتى من النجف الأشرف، والأزهر الشريف، ليؤسس في جدة قسم اللغة العربية في جامعة الملك عبدالعزيز.
الفضلي الَّذي ولد لأسرة علمية أحسائية في مدينة البصرة العراقية، كان أحد رموز تيار "التجديد" في الحوزة العلميَّة، وتجمعه علاقة "رفقة" مع المرجع السيد محمد باقر الصدر، كما كان واحداً ممن شغلهم سؤال التغيير في الخطاب الإسلامي العام، والخطاب الشيعي الخاص، فخرج بهما من أطرهما الضيقة إلى آفاق أكثر رحابة.
قبل سنوات، كنت مع عدد من الأصدقاء، نواجه النقد "الشديد" بسبب ما نطرحه من أفكار وندعو إليه من مراجعات للخطاب الديني التقليدي، وكانت هذه الكتابات تُواجه بصرامة من "غلاة" المحافظين، الذين كانوا يعترضون على أطروحات نتبناها لمفكرين أمثال: محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، مصطفى ملكيان، عبدالكريم سروش، وسواهم، إلا أن الفضلي كان يستقبل هذه النقاشات بعقل منفتح، وكنت آخذ له معي كتب هؤلاء المفكرين وسواهم، ليقرأها ويضع عليها الملاحظات ويرجعها لي، من دون أن يحذرني منها، أو يدعوني إلى التريث في مطالعتها، بل كنت أراه يلتقط ما فيها من أفكار يراها جديرة بالاهتمام، ويتبناها، ويؤسس عليها رؤية جديدة.
لم يكن الفضلي يؤمن بالانفتاح على الأفكار الجديدة فحسب، بل كان من دعاة مراجعة التراث والفقه الإسلامي وغربلته، وكان شجاعاً في مواجهة ما في الخطاب الديني من "أصولية"، معتبراً إياها أمراً طارئاً وليس أصلاً ثابتاً، مفرقاً بين ما هو ثابت في الفقه وما هو متحرك، ومشدداً على ضرورة أن يكون الفقيه "مثقفاً" ملماً بالمعارف الحديثة، غير متقوقع على نفسه، أو منغلق على مذهبه.
ثمة عبارات كنت أسمعها بين فينة وأخرى من الفضلي، عندما يسأله شخص عن شيء، فيرد عليه "ما أعرف"، أو "أحتاج أراجع". كنت مستغرباً عندما سمعتها لأول مرة، فليس من عادة رجال الدين لدينا ألا يجيبوا، حيث كان ديدن الكثيرين منهم أن يفتوا في كل شاردة وواردة، إلا أن الفضلي رغم "فقاهته" المشهودة له، وجمعه بين الدراستين الحوزوية والأكاديمية، فإنه كان متواضعاً في علمه، وكان مؤمناً أن على الفقيه ألا يفتي في الاقتصاد أو الطب أو أي شأن حياتي آخر، دون الرجوع إلى ذوي الاختصاص من اقتصاديين أو أطباء وما شابه، وكل في مجاله.
في سنواته الأخيرة، عندما علت الأصوات المذهبية والاستقطابات الطائفية، كان الفضلي شجاعاً في مواجهتها، ولم يخف من أن يرميه غلاة المتطرفين بعباراتهم "النابية".
وقف الفضلي مدافعاً عن رفيق دربه المرجع الديني اللبناني السيد محمد حسين فضل الله، مؤيداً الأخير فيما ذهب له في كثير من آرائه الناقدة لخطاب "السلفية الشيعية"، معتبراً أنَّ الفكر الشيعي يجب ألا يخاف من النقد والمراجعات الذاتية، وألا يجامل في ذات الوقت المتعصبين من أبناء المذهب.
كان الفضلي رمز انفتاح وتسامح، ومثالاً للمرجعية الشيعية العربية المؤمنة بضرورة اندماج الشيعة في أوطانهم، وحل جميع المشكلات عبر الحوار والتواصل، بدلاً من القطيعة والتنافر.
رحيل الفضلي، ومن قبله فضل الله، هو خسارة حقيقية لتيار الاعتدال الإسلامي، وتفويت لفرص ذهبية لبناء مرجعيات شيعية عربية، تؤسس لخطاب مختلف عن السائد، يقوم على الإيمان بالتعدد وحرية التفكير واحترام حقوق الإنسان، خطاب سعى كلٌ منهما إلى صوغ معالمه، ورحلا وفي داخلهما الكثير من القلق، قلق أن يختطف "المتعصبون" مجتمعاً بأكمله نحو التقوقع والجمود.
المصدر: العربية نت
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .