مقابلات
15/09/2025

هكذا عرفْتُ السيّد فضل الله.. مشروع فكر ووحدة

 هكذا عرفْتُ السيّد فضل الله.. مشروع فكر ووحدة

أجرى برنامج "وجهة نظر" على منصّة "spot shot" الإلكترونيّة، مقابلة مع الحاج هاني عبد الله، المستشار السياسي والإعلامي للمرجع الرَّاحل السيّد محمَّد حسين فضل الله (رض)، وذلك بتاريخ 10 أيلول / سبتمبر 2025م. وفيما يلي مقتطفات من المقابلة:
مقدّم البرنامج أحمد شنطف: مشاهدينا، أهلاً وسهلاً بكم في حلقة جديدة من برنامج "وجهة نظر". ضيفي اليوم هو المستشار السياسي والإعلامي للمرجع الرَّاحل السيّد محمَّد حسين فضل الله. أهلاً وسهلاً بك.
ج: أهلاً وسهلاً بك.
فقيهٌ خارجَ القوالب
س: لقد عشتَ مع المرجع السيّد محمَّد حسين فضل الله لما يقارب الرّبع قرن، وما زلت اليوم مع نجله سماحة السيّد علي فضل الله. في بداية الحلقة، نودّ أن تحدّثنا عن جوانب من شخصيَّة المرجع الرَّاحل قد لا يعرفها النَّاس، وربما لا يكون هذا الجيل مطَّلعًا عليها.
ج: صحيح. إنَّ جيلنا نشأ في ظلّ الاحتلال، ووجدنا أنفسنا نعشو إلى هذا الضَّوء، ضوء المرجع السيّد فضل الله، من خلال خطاباته ومواقفه في مسجد الإمام الرّضا (ع) في بئر العبد.
الحقيقة أنَّ شخصيَّة السيّد فضل الله كانت متعدّدة الجوانب، إلى درجة أنَّني كنت أتساءل دائماً: من أيّ باب ندخل إليه؟! إنَّ النَّاس تعرفه كمرجع دينيّ، وكمتحدّث سياسيّ، وكان يُسمَّى "أهمّ رادار في المنطقة"، لقدرته على رصد ما يجري. لكنَّ هناك جوانب أخرى قد لا يلتفت إليها البعض، منها شخصيّته كمصلح اجتماعيّ، حيث كان مصلحاً اجتماعيّاً من طراز فريد، وشخصيّة الشَّاعر والأديب، وشخصيّة الفقيه المجدّد الَّذي خرج من "الإطار الفقهيّ الهندسيّ"(1)  كما كان يعبّر.
كانت شخصيَّته ساحرة، وأسلوبه في الحديث شيّقاً جدّاً. كان متديّناً للغاية، ومحبّاً لكلّ النَّاس. خلال خمسة وعشرين عاماً عشتها معه، لم أشعر يوماً بأنَّني أتقوقع داخل علبة طائفيَّة مغلقة، بل كنت أشعر بأنّي أحبّ كلّ النَّاس من خلال هذا الفكر الَّذي كان يمثّله السيّد فضل الله.
منذ بداية عملي مع السيّد في بدايات العام 1986، وكنت آنذاك شابّاً في الواحد والعشرين من عمري، كان يقول لي: أنا منذ بدأت العمل الإسلاميّ، نسيت شيئاً اسمه محمَّد حسين فضل الله المزاج، وكان يقدّم نفسه بالجانب الرّساليّ؛ فقد كان شخصيَّةً لا فرق بين ما تقوله وما تراه فيها، فمن الصَّعب بمكان أن تدخل إلى هذه الشّخصيَّة وترى فيها تناقضاً، فكانت شخصيَّته واحدة في كلّ شيء، وهذا ما لاحظه أحد النوّاب في منطقتنا حينها، وهو الأستاذ هنري شديد، وكنّا نوصل إليه ما يصدر عن سماحة السيّد، وقال لي كلمة رائعة: إنّني أرى السيّد في السياسة والأدب والشّعر شخصيَّة واحدة. والحقيقة أنَّ السيّد كان يجسّد الدّعاء المرويّ عن الإمام عليّ (ع)، والَّذي كان يكرّره أسبوعيّاً في دعاء كميل: "واجْعَلْ أَعْمَالي وَأَوْرَادِي كُلَّها وِرْداً واحداً، وَحَالي فِي خِدْمَتِكَ سَرْمَداً". كان سماحته شخصيَّة ساحرة بمجمل عناوينها المطلَّة على الواقع الإسلاميّ والعربيّ والإنسانيّ.
وإذا أردت أن أختصر السيّد فضل الله بكلمتين، أقول: كان "عنوانه الإنسان"، كان دائماً يتحدَّث عن الإنسان. كان يقول أنا مسلم، أنا شيعيّ، أنا لبنانيّ، وأنا عربيّ، إلَّا أنَّه كان يعتبر أنَّ هذه الدَّوائر كلّها مفتوح بعضها على بعض، وكانت سمته الأساسيَّة هي الحبّ، فالسيّد شخصيّة محبّة جدّاً، لم أرَ حقداً عنده أبداً، حتّى تجاه الَّذين حاربوه.
فكرٌ عصيٌّ على التَّغييب
س: نلاحظ أنَّ اسم السيّد محمَّد حسين فضل الله تمَّ تغييبه أو محاولة تغييبه عن المشهد السياسيّ الشّيعيّ. لماذا، في رأيك، تمَّ اللَّعب لتحييد كلّ تاريخ هذا الرَّجل؟
ج: بدايةً أقول إنَّنا نحن الَّذين ننتمي إلى مدرسة المرجع السيّد فضل الله، الَّتي أعتزُّ بالانتماء إليها، نتحمَّل مسؤوليَّة كبرى، لأنّنا لم نقدّم بعد فكر السيّد فضل الله كما يجب، لأنّي أعتقد أنَّ فكر السيّد فضل الله لا يزال بكرًا على الرّغم من كلّ ما أثير حوله؛ وهذه المرحلة هي المرحلة الّتي يسمو فيها هذا الفكر، ولا أقولها من باب عصبيَّة، لأنَّ كلَّ ما تحدَّث به السيّد فضل الله، وكلّ ما كان يشير إليه، أنا شخصيّاً، من خلال معايشتي له، أراه اليوم بأمّ العين، وكنت أرى المرحلة الَّتي سنصل إليها..
ولذلك أعتقد أنَّنا لم نقدّم فكر السيّد كما يجب، وربما إمكاناتنا كمؤسَّسات تابعة للمرجع ليست كالإمكانات الموجودة عند الآخرين، وليست المسألة ترويجاً للشَّخصيَّة، لأنَّ السيّد بنفسه كان يقول إنَّ الأشخاص مرحلة ويرحلون، والَّذي يبقى هو الإسلام، وإنَّ الأهمَّ من الإمام الحسين (ع) هو الإسلام الَّذي قاتل من أجله الحسين واستشهد. ولذلك أقول إنَّنا نتحمَّل المسؤوليَّة في ذلك.
طبعًا، هناك عدَّة جهات عملت على التَّضبيب والتَّعتيم على اسم السيّد فضل الله لأكثر من سبب، ربَّما لصالح أسماء أخرى، منه ما له علاقة بالمرجعيَّة داخل الأوساط الشّيعيَّة، وأنا لا أشير هنا لا إلى دولة ولا إلى أحزاب ولا إلى أحد، بل نؤكّد أنَّ هذا التنوّع وهذه الإثارات لطالما كانت موجودة في تاريخ المسلمين الشّيعة. وهنا نذكر ما واجهه المرجع الوحدويّ السيّد محسن الأمين، الَّذي كان بالشَّام وكتب "رسالة التنزيه" في تنقية الشّعائر الحسينيّة، وأثير ضدّه حملات كثيرة، حتَّى إنَّ أحدهم قال:
                         يا راكبًا إمَّا مررت بـ"جَلَّقِ (أي الشام)         فابصقْ بوجهِ أمينِها المتزندقِ 

وهذا لم يقله أحد من خارج المذهب، بل من داخله، فحتّى السيّد محسن الأمين واجه ما واجهه.
أنا شخصيًّا أقول إنَّ هذا الفكر لا يزال بكرًا، ولا تزال أمامه المسارات. طبعًا، ربما الحلقة لا تحتمل أن نتحدَّث عن كلّ المجالات، ولكنّي أقول إنَّ السيّد فضل الله استطاع تقديم الإسلام بكلّ جوانبه، بما طرحه على المستوى الفقهيّ، وعلى مستوى رؤيته للمستقبل، وكيفيَّة تقديم الإسلام. وصحيح أنَّ السيّد كان ينتمي إلى الإسلام الشّيعيّ، ولكنَّه كان يصرُّ على تقديم الإسلام كإسلام، فقد كان يرى أنَّ الفقه إذا اقتصر على كونه شيعيًّا يظلّ ناقصًا، وأنَّ اكتماله يقتضي الانفتاح على الفقه السنّي أيضًا، ولأجل ذلك، كان يدرّس طلَّابه في مرحلة البحث الخارج دروس الفقه على المذاهب كلّها.
الشّخصيَّةُ الوحدويَّة
س: من هنا نسأل: كيف كان السيّد فضل الله ينظر إلى السنَّة؟ وهل كان هناك خلافٌ جوهريٌّ بين المذهبين في فكره؟...
ج: سأروي لك واقعة لربّما تقال لأوَّل مرَّة، ففي جلسة مع وفدٍ من الأزهر الشَّريف برئاسة سماحة الشَّيخ علي جمعة، قال له سماحة السيّد: أنا بدراستي للأمور الَّتي يختلف عليها السنّة والشّيعة، وجدت أنَّ المسائل الَّتي يختلفان عليها هي ثلاثون مسألة فقط، فردَّ عليه الشَّيخ علي جمعة: سيّدنا، أنت أستاذنا جميعاً، أنا لم أجد سوى ثلاث مسائل فقط.. وطبعاً كان السيّد يفرّع، وكان الشّيخ يؤصّل...
وأتذكّر أنَّ السيّد مرّة كانت عنده محاضرة في منطقة الخيارة في البقاع الغربيّ، ويومها سئل سؤالاً بريئاً: هل أنت سنّيّ أم شيعيّ؟ فقال لهم إنَّ السنَّة هم أهل الشّيعة لأنَّهم يحبّون أهل البيت، والشّيعة هم أهل السنَّة لأنَّهم يعملون بسنَّة رسول الله، وأنا أرفض أن يُقال سنّيّ وشيعيّ، لأنّ علينا أن ننطلق من شخصيَّتنا الإسلاميَّة قبل شخصيّتنا المذهبيَّة، وكان يقول أنا ولدت إسلاميًّا ونشأت إسلاميًّا.
وعندما توفّي السيّد محسن الأمين، أُقيم بمناسبة رحيله مهرجان تأبينيّ في منطقة قصقص ببيروت، وقد ألقى السيّد فضل الله فيه قصيدة رثاء، علماً أنَّه كان آنذاك في السَّابعة عشرة من عمره تقريبًا، ومما قاله فيها:
                        فالمسلمون لبعضهم في الدّين كالصَّرح المشيدِ
                        لا طائفيَّة بينهم ترمي العقائد بالجحودِ
                        والدّين روحٌ برّةٌ تحنو على كلّ العبيدِ
                        ترمي لتوحيدِ الصّفوفِ ودفعِ غائلةِ الحقودِ
                       عاشَ الموحّدُ في ظلالِ الحقّ في أفقِ الخلودِ
وكان السيّد فضل الله في الثَّانية عشرة من عمره حين بدأ بكتابة الشّعر ونظمه، وقد ذكر أنَّ أوَّل قصيدة نظمها كانت عن فلسطين، ومما جاء فيها:
                        دافعوا عن حقّنا المغتصبِ في فلسطين بحدّ القضبِ
                        واذكروا عهد صلاحٍ حينما هبَّ فيها طارداً للأجنبي
والسيّد فضل الله كان يرى، كما نرى نحن، أنَّ هناك فوارق بين السنَّة والشّيعة، وكان يقول إنَّ الوحدة الإسلاميَّة ليست أن تذهب مع السنَّة في كلّ شيء، أو أن يذهب معك السنّي في كلّ شي، بل أن نلتقي على الأولويَّات والعناوين الكبرى للأمَّة، أمَّا في التَّفاصيل، فنحن نختلف حتَّى فيما بيننا كشيعة، ويختلفون فيما بينهم كسنَّة، والقرآن الكريم يقول لنا: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92].
لقد كان السيّد فضل الله شخصيَّة وحدويَّة بامتياز، ودون تصنّع أو مواربة، مع حفاظه الكامل على قناعاته الإسلاميَّة الشّيعيَّة...
الشّخصيّة المقاومة
س: ما هي رؤية السيّد فضل الله بما يخصّ مقاومة إسرائيل وسلاح المقاومة...؟
ج: لن تجد شخصيَّة خارج إطار المقاومة دافعت عن المقاومة كما السيّد فضل الله (رض)، ففي الأصل، كلّ من انطلق في عمليَّات المقاومة في البدايات هم تلاميذ السيّد فضل الله، وقد انطلقوا من خلال فتاويه، ولكنَّه كان يقول: أتحدَّى كلّ من يثبت لي أنّي أفتيت بإراقة نقطة دم واحدة خارج إطار الاحتلال الصّهيوني...
ولكنّ السيّد فضل الله إلى جانب شعار "السّلاح زينة الرّجال" ضدّ العدوّ، كان يضيف إليه أهميَّة العقل، لأنَّه كان يعتبر أنَّ الرّافعة الثّقافيَّة هي أهمّ رافعة، لأنّه حتّى السّلاح يحتاج إلى رافعة ثقافيّة...
العلاقة مع إيران
س: بالانتقال إلى موضوع إيران، كيف كان السيّد فضل الله ينظر إلى العلاقة معها؟ هل يمكن القول بوجود مدرستين فقهيَّتين، وخصوصاً أنَّ المدرسة الخمينيَّة هي الظَّاهرة سياسيّاً في لبنان اليوم؟
ج: قد لا يكون تعبير "المدرستين" دقيقاً، فلا شكَّ أنَّك لن تجد شخصيَّة في العالم العربي والإسلامي دافعت عن الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، كما دافع السيّد فضل الله الَّذي كان يعتبرها مع المقاومة وفلسطين خطوطه الحمر الثَّلاث، ولكن كانت له مقارباته السياسيَّة الَّتي قد تختلف مع بعض الخطوط في إيران. ففي العام 1983، جاءه البعض واقترحوا إعلان جمهوريَّة إسلاميَّة في لبنان، فكان ردّه: قد تقوم جمهوريَّة إسلاميَّة في فلسطين، ولكن لبنان لا يصبح جمهوريَّة إسلاميَّة.
كان سماحته يؤمن بلبنان المنفتح، وكان أوَّل من تحدَّث عن لبنان الرّسالة، وقبل أن يتحدَّث البابا عن ذلك...
الانفتاحُ على العروبة
س: من هنا ندخل إلى علاقة السيّد فضل الله بالعرب، وطبعاً نتحدَّث عن المحيط السنّيّ، وكنَّا ذكرنا مثلاً اللّقاءات مع شيخ الأزهر، ولكن سياسيّاً، مثلاً المملكة العربيَّة السعوديَّة، اليوم نسمع من بعض الشّيعة كلاماً عن السّعوديَّة لا يقولونه بإسرائيل. كيف كانت رؤية السيّد فضل الله إلى علاقة لبنان بمحيطه العربيّ؟
ج: ... كان السيّد فضل الله حريصًا جدًّا على العلاقات العربيَّة العربيّة، وكان يرى أنّ أيّ إثارة للخلافات كدول وكشعوب، سوف تستفيد منها إسرائيل...
والسيّد فضل الله عندما كان يذهب في السّنوات الأخيرة إلى الحجّ، كانت السّلطات السّعوديَّة توفّر له كلَّ الإمكانات... وكانت الوفود تأتيه في مكَّة المكرَّمة، ولم تكن مقتصرة على الشّيعة، بل كانت مشتركةً بين الشّيعة والسنّة، كان يأتي الباكستاني والتركي إلى مجلسه، ومرّة زاره وفد تركيّ مؤلَّف من حوالي أربعين شخصًا، وكانوا يسألونه في الموضوعات السنيَّة الشيعيَّة، وكان يجيبهم، لأنّه كان شخصيَّة إسلاميَّة منفتحة على الجميع...
أمَّا عن موقفه من العروبة، فكان يقول: أنا أعتزّ بهويَّتي العربيّة، لأنّنا عرب، فحتَّى نبيّنا عربيّ، ونحن نعتزّ بنبيّنا، ونعتزّ بأئمَّتنا، ونعتزّ بصحابتنا الكرام، ولكنّه كان يستشهد بكلمة للإمام زين العابدين (ع) يتحدَّث فيها عن العصبيَّة: "إنَّ العصبيَّةَ الَّتي يَأْثَمُ عَلَيْها صَاحِبُها، أَنْ يَرَى الرَّجلُ شِرارَ قَوْمِهِ خيرًا مِنْ خيارِ قَوْمٍ آخرين، وَلَيْسَ مِنَ العَصَبيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجلُ قَوْمَهُ، وَلَكنْ مِنَ العَصبيَّةِ أَنْ يعينَ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْم"، فنحن نعتزّ بعروبتنا، ولكنَّنا نريد لعروبتنا أن تكون عروبةً مع الحقّ، عروبة تحتضن المظلوم، عروبة تنفتح على كلّ تاريخنا.
وأنا أذكر أنّي كنت مرّةً في مؤتمر ثقافيّ إسلاميّ في الأردن، وصعدت في المصعد مع رئيس جامعة القيروان في تونس، وعندما عرف أنَّني كنت مستشار السيّد فضل الله، قال لي إنَّ السيّد فضل الله كان يقول كلمة رائعة جدًّا عن العروبة والإسلام. فقلت له: أنت تقصد قوله إنَّ العروبة إطار يبحث عن الصّورة، والصّورة هي الإسلام، فقال لي إنَّ هذا من أروع ما قيل في هذا الموضوع...
سابقُ عصره
س: في آخر الحلقة، نريد أن نتكلَّم عن بعض الجوانب الأدبيَّة والشّعريَّة في شخصيَّة السيّد فضل الله، وأيضًا كنت رأيت لحضرتك مقالاً نشر في جريدة النّهار بعنوان: "آت من المستقبل" عن السيّد محمَّد حسين فضل الله، كيف هو آت من المستقبل؟
ج: أنا أعتقد، وإضافةً إلى كثيرين، أنَّ السيّد كان سابق عصره من أكثر من جانب.
أحد العلماء المسلمين الشّيعة الكبار، الرّاحل قبل حوالي أربع أو خمس سنوات، وهو سماحة الشَّيخ عبدالهادي الفضلي الَّذي كان وكيل السيّد فضل الله في السعوديَّة، ووكيل السيّد الخامنئي في السعوديَّة أيضاً، كان يقول إنَّ ما بين السيّد فضل الله والآخرين - وكان يشير إلى مراجع الشّيعة - حوالي مائتي سنة، كان يقول إنَّ هذا الرَّجل جاء قبل عصره، فالسيّد فضل الله كان عندما يخاطب الأجيال، يقول: سأقف ضدَّ التخلّف، وضدَّ الجهل، وضدَّ الغلوّ، وضدَّ الخرافة، ولو شتمني الشَّاتمون، وتحدَّث عنّي الآخرون.
السيّد فضل الله كان دائماً يتطلَّع إلى روح الإسلام، وكان عصريّاً، كان يقول إنَّ عالم الدّين إذا لم يكن عنده نبض العصر، فلا يستطيع أن يكون داعية، وكان سماحته أوَّل من انسجم مع روح العصر فيما له علاقة بالإنترنت وغيره.
وكان سماحته يرفض "الفقه الهندسيّ"، فمثلاً، عندما ذهب إلى موضوع الفلك، أن نأخذ بعلم الفلك فيما يخصّ بدايات الشّهور، ولا سيّما شهر رمضان وغيره، فأنا أذكر أنَّ وفدًا من جريدة اللّواء، سألوه عندما أعلن عن أوَّل الشَّهر في ذلك الوقت، وقالوا له: كيف أعلنت ذلك يا سيّدنا؟ قال لهم السيّد: لماذا تسألون؟ فقالوا له: أليس النبيّ (ص) يقول: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"؟ قال: حسنًا، هذا الحديث له بداية عند السنَّة والشّيعة، فهل يحفظ أحد منكم بدايته؟ يقول رسول الله (ص): "إنّا أمَّة أميَّة، لا تُحسن أن تقرأ أو تحسب"(2)، فهل لا نزال أمَّة أميَّة؟ قالوا له: لا. قال: هل نحن الآن نُحسن أن نقرأ أو نحسب؟ قالوا له: نعم. قال لهم: أتعرفون ما اسم علم الفلك؟ اسمه علم الحساب.
وبدأ السيّد يستعرض الأدلَّة، فقال: إنَّ الله خلق الشّهور قبل أن يخلق لنا عيونًا، وقبل أن يخلقنا نحن {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}[التَّوبة: 36]. فشهريَّة الشَّهر ليس لها علاقة بـ "أرى ولا أرى". النبيّ لم يكن لديه القدرة على رؤيته إلَّا بالعين، أمَّا نحن، فلدينا القدرة على رؤيته بوسائل أخرى..
ومما قاله: في السَّابق، كنَّا نستخدم الجَمَل في مواصلاتنا، فهل نبقى نستخدم الجمل الآن، أم نستخدم وسائل العصر؟!
السيّدُ الشَّاعر
س: بدقيقة، لمحة شعريَّة أدبيَّة عن السيّد فضل الله.
ج: السيّد فضل الله كان شخصيَّة أدبيَّة شاعرة من الطّراز الأوَّل، ولا أزال أذكر أنَّ السيّد حسن الأمين، ابن المرجع السيّد محسن الأمين، قال لي يومًا، لو أنَّ السيّد فضل الله تفرَّغ للشَّعر، لدانت له مملكة الشّعر في العالم العربيّ. وقد رأى يومًا أباه في المنام، فقام في اللَّيل لينظم قصيدة يقول فيها:
                       يا أبي.. قد تُطِلُّ روحي على الذِّكرى 
                       وعينــاكَ في الكـــرى تحضُنَانـي
                       وأنا أغـفو مع الحُلُــم ِالنَّــديانِ
                       أهفو إلـــيْكَ في تحْــنـــانـــي
                       وبعقلي فِكْــرٌ زرعتَ غِراسَ
                       لوعي فيهِ بالعِــلم ِوالإيـــمـانِ
إلى أن يقول:
                    أنتَ علَّمتني التَّسامحَ إمَّا زلزلَ العنفُ ساحةَ الإخوانِ 
                    قلْتَ لي: إنَّ للمحبَّةِ عمقًا أَرْيَحِيًّا في لهفةِ الإنسانِ
                    قد يعيشُ الأشرارُ طهرَ الينابيع بعيدًا عن وَحْلَةِ الأدرانِ
                   فإذا امتدَّتِ المحَبَّةُ بالرّوحِ وعاشتْ بِوَحْيها الشَّفتانِ
                   أطلعَ الخيرُ وحيَهُ في نداءِ الأَرْيَحِيَّاتِ في القلوبِ الحَوَاني
                   فإذا بالَّذينَ يَحْيَوْنَ للشرِّ ويَجْرُونَ في مدى الشَّيطانِ
                  يفتحُ الحبُّ روحَه في نَجَاوَاهُم فللخيرِ شَهْقةٌ في الـمَعَاني
 
وأذكر أنَّني في أواخر أيَّام حياته، قلت له سيّدنا، هل تأثَّرت بأبي القاسم الشَّابي؟ فنظر إليّ وقال: كيف عرفت؟ فقلت له: يا مولانا، أنا أقرأ لأبي القاسم الشَّابي، وهو يقول:
                 يا صميمَ الحياةِ كمْ أنا في هذه الدّنيا غريبٌ أشقى بغربةِ نفسي 
                 بينَ قومٍ لا يفقهون أناشيدَ فؤادي ولا معاني بؤسي 
على الفور، قال لي: وأنا ماذا أقول؟ ثمَّ أنشد:
               يا غيوب الأسرار نامت بعيني الدَّياجي، وغاب عنّي رفاقي 
              كيف أرنو إلى الشّروق وقد عاشت غيوم الحياة في أعماقي
              أنا يا ربّي ظامئٌ يركض الينبوع في روحه وأنت السَّاقي
 أخيرًا، في المجال الشّعريّ، قال لي السيّد فضل الله مرّةً عن قصيدة نسيها ولم يعد يتذكّر منها إلّا بيتًا واحدًا تحدَّث فيه عن نفسه، يقول:
            خُلقت رقيقًا كأنَّ الإلهَ براني مِنْ نسمةٍ نَادِيَه 
وأنا أقول إنَّ هذا البيت هو ملخَّص شخصيَّة السيّد فضل الله.
 
*** 
(1) الفقه الهندسي: استخدام التعبير الحرفي للنص في عملية الاستدلال، بطريقة جامدة أقرب إلى القواعد الهندسية، دون الأخذ بالاعتبار ظروف النص وموقعه والفهم العرفي له.
(2) صحيح البخاري.
 
أجرى برنامج "وجهة نظر" على منصّة "spot shot" الإلكترونيّة، مقابلة مع الحاج هاني عبد الله، المستشار السياسي والإعلامي للمرجع الرَّاحل السيّد محمَّد حسين فضل الله (رض)، وذلك بتاريخ 10 أيلول / سبتمبر 2025م. وفيما يلي مقتطفات من المقابلة:
مقدّم البرنامج أحمد شنطف: مشاهدينا، أهلاً وسهلاً بكم في حلقة جديدة من برنامج "وجهة نظر". ضيفي اليوم هو المستشار السياسي والإعلامي للمرجع الرَّاحل السيّد محمَّد حسين فضل الله. أهلاً وسهلاً بك.
ج: أهلاً وسهلاً بك.
فقيهٌ خارجَ القوالب
س: لقد عشتَ مع المرجع السيّد محمَّد حسين فضل الله لما يقارب الرّبع قرن، وما زلت اليوم مع نجله سماحة السيّد علي فضل الله. في بداية الحلقة، نودّ أن تحدّثنا عن جوانب من شخصيَّة المرجع الرَّاحل قد لا يعرفها النَّاس، وربما لا يكون هذا الجيل مطَّلعًا عليها.
ج: صحيح. إنَّ جيلنا نشأ في ظلّ الاحتلال، ووجدنا أنفسنا نعشو إلى هذا الضَّوء، ضوء المرجع السيّد فضل الله، من خلال خطاباته ومواقفه في مسجد الإمام الرّضا (ع) في بئر العبد.
الحقيقة أنَّ شخصيَّة السيّد فضل الله كانت متعدّدة الجوانب، إلى درجة أنَّني كنت أتساءل دائماً: من أيّ باب ندخل إليه؟! إنَّ النَّاس تعرفه كمرجع دينيّ، وكمتحدّث سياسيّ، وكان يُسمَّى "أهمّ رادار في المنطقة"، لقدرته على رصد ما يجري. لكنَّ هناك جوانب أخرى قد لا يلتفت إليها البعض، منها شخصيّته كمصلح اجتماعيّ، حيث كان مصلحاً اجتماعيّاً من طراز فريد، وشخصيّة الشَّاعر والأديب، وشخصيّة الفقيه المجدّد الَّذي خرج من "الإطار الفقهيّ الهندسيّ"(1)  كما كان يعبّر.
كانت شخصيَّته ساحرة، وأسلوبه في الحديث شيّقاً جدّاً. كان متديّناً للغاية، ومحبّاً لكلّ النَّاس. خلال خمسة وعشرين عاماً عشتها معه، لم أشعر يوماً بأنَّني أتقوقع داخل علبة طائفيَّة مغلقة، بل كنت أشعر بأنّي أحبّ كلّ النَّاس من خلال هذا الفكر الَّذي كان يمثّله السيّد فضل الله.
منذ بداية عملي مع السيّد في بدايات العام 1986، وكنت آنذاك شابّاً في الواحد والعشرين من عمري، كان يقول لي: أنا منذ بدأت العمل الإسلاميّ، نسيت شيئاً اسمه محمَّد حسين فضل الله المزاج، وكان يقدّم نفسه بالجانب الرّساليّ؛ فقد كان شخصيَّةً لا فرق بين ما تقوله وما تراه فيها، فمن الصَّعب بمكان أن تدخل إلى هذه الشّخصيَّة وترى فيها تناقضاً، فكانت شخصيَّته واحدة في كلّ شيء، وهذا ما لاحظه أحد النوّاب في منطقتنا حينها، وهو الأستاذ هنري شديد، وكنّا نوصل إليه ما يصدر عن سماحة السيّد، وقال لي كلمة رائعة: إنّني أرى السيّد في السياسة والأدب والشّعر شخصيَّة واحدة. والحقيقة أنَّ السيّد كان يجسّد الدّعاء المرويّ عن الإمام عليّ (ع)، والَّذي كان يكرّره أسبوعيّاً في دعاء كميل: "واجْعَلْ أَعْمَالي وَأَوْرَادِي كُلَّها وِرْداً واحداً، وَحَالي فِي خِدْمَتِكَ سَرْمَداً". كان سماحته شخصيَّة ساحرة بمجمل عناوينها المطلَّة على الواقع الإسلاميّ والعربيّ والإنسانيّ.
وإذا أردت أن أختصر السيّد فضل الله بكلمتين، أقول: كان "عنوانه الإنسان"، كان دائماً يتحدَّث عن الإنسان. كان يقول أنا مسلم، أنا شيعيّ، أنا لبنانيّ، وأنا عربيّ، إلَّا أنَّه كان يعتبر أنَّ هذه الدَّوائر كلّها مفتوح بعضها على بعض، وكانت سمته الأساسيَّة هي الحبّ، فالسيّد شخصيّة محبّة جدّاً، لم أرَ حقداً عنده أبداً، حتّى تجاه الَّذين حاربوه.
فكرٌ عصيٌّ على التَّغييب
س: نلاحظ أنَّ اسم السيّد محمَّد حسين فضل الله تمَّ تغييبه أو محاولة تغييبه عن المشهد السياسيّ الشّيعيّ. لماذا، في رأيك، تمَّ اللَّعب لتحييد كلّ تاريخ هذا الرَّجل؟
ج: بدايةً أقول إنَّنا نحن الَّذين ننتمي إلى مدرسة المرجع السيّد فضل الله، الَّتي أعتزُّ بالانتماء إليها، نتحمَّل مسؤوليَّة كبرى، لأنّنا لم نقدّم بعد فكر السيّد فضل الله كما يجب، لأنّي أعتقد أنَّ فكر السيّد فضل الله لا يزال بكرًا على الرّغم من كلّ ما أثير حوله؛ وهذه المرحلة هي المرحلة الّتي يسمو فيها هذا الفكر، ولا أقولها من باب عصبيَّة، لأنَّ كلَّ ما تحدَّث به السيّد فضل الله، وكلّ ما كان يشير إليه، أنا شخصيّاً، من خلال معايشتي له، أراه اليوم بأمّ العين، وكنت أرى المرحلة الَّتي سنصل إليها..
ولذلك أعتقد أنَّنا لم نقدّم فكر السيّد كما يجب، وربما إمكاناتنا كمؤسَّسات تابعة للمرجع ليست كالإمكانات الموجودة عند الآخرين، وليست المسألة ترويجاً للشَّخصيَّة، لأنَّ السيّد بنفسه كان يقول إنَّ الأشخاص مرحلة ويرحلون، والَّذي يبقى هو الإسلام، وإنَّ الأهمَّ من الإمام الحسين (ع) هو الإسلام الَّذي قاتل من أجله الحسين واستشهد. ولذلك أقول إنَّنا نتحمَّل المسؤوليَّة في ذلك.
طبعًا، هناك عدَّة جهات عملت على التَّضبيب والتَّعتيم على اسم السيّد فضل الله لأكثر من سبب، ربَّما لصالح أسماء أخرى، منه ما له علاقة بالمرجعيَّة داخل الأوساط الشّيعيَّة، وأنا لا أشير هنا لا إلى دولة ولا إلى أحزاب ولا إلى أحد، بل نؤكّد أنَّ هذا التنوّع وهذه الإثارات لطالما كانت موجودة في تاريخ المسلمين الشّيعة. وهنا نذكر ما واجهه المرجع الوحدويّ السيّد محسن الأمين، الَّذي كان بالشَّام وكتب "رسالة التنزيه" في تنقية الشّعائر الحسينيّة، وأثير ضدّه حملات كثيرة، حتَّى إنَّ أحدهم قال:
                         يا راكبًا إمَّا مررت بـ"جَلَّقِ (أي الشام)         فابصقْ بوجهِ أمينِها المتزندقِ 

وهذا لم يقله أحد من خارج المذهب، بل من داخله، فحتّى السيّد محسن الأمين واجه ما واجهه.
أنا شخصيًّا أقول إنَّ هذا الفكر لا يزال بكرًا، ولا تزال أمامه المسارات. طبعًا، ربما الحلقة لا تحتمل أن نتحدَّث عن كلّ المجالات، ولكنّي أقول إنَّ السيّد فضل الله استطاع تقديم الإسلام بكلّ جوانبه، بما طرحه على المستوى الفقهيّ، وعلى مستوى رؤيته للمستقبل، وكيفيَّة تقديم الإسلام. وصحيح أنَّ السيّد كان ينتمي إلى الإسلام الشّيعيّ، ولكنَّه كان يصرُّ على تقديم الإسلام كإسلام، فقد كان يرى أنَّ الفقه إذا اقتصر على كونه شيعيًّا يظلّ ناقصًا، وأنَّ اكتماله يقتضي الانفتاح على الفقه السنّي أيضًا، ولأجل ذلك، كان يدرّس طلَّابه في مرحلة البحث الخارج دروس الفقه على المذاهب كلّها.
الشّخصيَّةُ الوحدويَّة
س: من هنا نسأل: كيف كان السيّد فضل الله ينظر إلى السنَّة؟ وهل كان هناك خلافٌ جوهريٌّ بين المذهبين في فكره؟...
ج: سأروي لك واقعة لربّما تقال لأوَّل مرَّة، ففي جلسة مع وفدٍ من الأزهر الشَّريف برئاسة سماحة الشَّيخ علي جمعة، قال له سماحة السيّد: أنا بدراستي للأمور الَّتي يختلف عليها السنّة والشّيعة، وجدت أنَّ المسائل الَّتي يختلفان عليها هي ثلاثون مسألة فقط، فردَّ عليه الشَّيخ علي جمعة: سيّدنا، أنت أستاذنا جميعاً، أنا لم أجد سوى ثلاث مسائل فقط.. وطبعاً كان السيّد يفرّع، وكان الشّيخ يؤصّل...
وأتذكّر أنَّ السيّد مرّة كانت عنده محاضرة في منطقة الخيارة في البقاع الغربيّ، ويومها سئل سؤالاً بريئاً: هل أنت سنّيّ أم شيعيّ؟ فقال لهم إنَّ السنَّة هم أهل الشّيعة لأنَّهم يحبّون أهل البيت، والشّيعة هم أهل السنَّة لأنَّهم يعملون بسنَّة رسول الله، وأنا أرفض أن يُقال سنّيّ وشيعيّ، لأنّ علينا أن ننطلق من شخصيَّتنا الإسلاميَّة قبل شخصيّتنا المذهبيَّة، وكان يقول أنا ولدت إسلاميًّا ونشأت إسلاميًّا.
وعندما توفّي السيّد محسن الأمين، أُقيم بمناسبة رحيله مهرجان تأبينيّ في منطقة قصقص ببيروت، وقد ألقى السيّد فضل الله فيه قصيدة رثاء، علماً أنَّه كان آنذاك في السَّابعة عشرة من عمره تقريبًا، ومما قاله فيها:
                        فالمسلمون لبعضهم في الدّين كالصَّرح المشيدِ
                        لا طائفيَّة بينهم ترمي العقائد بالجحودِ
                        والدّين روحٌ برّةٌ تحنو على كلّ العبيدِ
                        ترمي لتوحيدِ الصّفوفِ ودفعِ غائلةِ الحقودِ
                       عاشَ الموحّدُ في ظلالِ الحقّ في أفقِ الخلودِ
وكان السيّد فضل الله في الثَّانية عشرة من عمره حين بدأ بكتابة الشّعر ونظمه، وقد ذكر أنَّ أوَّل قصيدة نظمها كانت عن فلسطين، ومما جاء فيها:
                        دافعوا عن حقّنا المغتصبِ في فلسطين بحدّ القضبِ
                        واذكروا عهد صلاحٍ حينما هبَّ فيها طارداً للأجنبي
والسيّد فضل الله كان يرى، كما نرى نحن، أنَّ هناك فوارق بين السنَّة والشّيعة، وكان يقول إنَّ الوحدة الإسلاميَّة ليست أن تذهب مع السنَّة في كلّ شيء، أو أن يذهب معك السنّي في كلّ شي، بل أن نلتقي على الأولويَّات والعناوين الكبرى للأمَّة، أمَّا في التَّفاصيل، فنحن نختلف حتَّى فيما بيننا كشيعة، ويختلفون فيما بينهم كسنَّة، والقرآن الكريم يقول لنا: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92].
لقد كان السيّد فضل الله شخصيَّة وحدويَّة بامتياز، ودون تصنّع أو مواربة، مع حفاظه الكامل على قناعاته الإسلاميَّة الشّيعيَّة...
الشّخصيّة المقاومة
س: ما هي رؤية السيّد فضل الله بما يخصّ مقاومة إسرائيل وسلاح المقاومة...؟
ج: لن تجد شخصيَّة خارج إطار المقاومة دافعت عن المقاومة كما السيّد فضل الله (رض)، ففي الأصل، كلّ من انطلق في عمليَّات المقاومة في البدايات هم تلاميذ السيّد فضل الله، وقد انطلقوا من خلال فتاويه، ولكنَّه كان يقول: أتحدَّى كلّ من يثبت لي أنّي أفتيت بإراقة نقطة دم واحدة خارج إطار الاحتلال الصّهيوني...
ولكنّ السيّد فضل الله إلى جانب شعار "السّلاح زينة الرّجال" ضدّ العدوّ، كان يضيف إليه أهميَّة العقل، لأنَّه كان يعتبر أنَّ الرّافعة الثّقافيَّة هي أهمّ رافعة، لأنّه حتّى السّلاح يحتاج إلى رافعة ثقافيّة...
العلاقة مع إيران
س: بالانتقال إلى موضوع إيران، كيف كان السيّد فضل الله ينظر إلى العلاقة معها؟ هل يمكن القول بوجود مدرستين فقهيَّتين، وخصوصاً أنَّ المدرسة الخمينيَّة هي الظَّاهرة سياسيّاً في لبنان اليوم؟
ج: قد لا يكون تعبير "المدرستين" دقيقاً، فلا شكَّ أنَّك لن تجد شخصيَّة في العالم العربي والإسلامي دافعت عن الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، كما دافع السيّد فضل الله الَّذي كان يعتبرها مع المقاومة وفلسطين خطوطه الحمر الثَّلاث، ولكن كانت له مقارباته السياسيَّة الَّتي قد تختلف مع بعض الخطوط في إيران. ففي العام 1983، جاءه البعض واقترحوا إعلان جمهوريَّة إسلاميَّة في لبنان، فكان ردّه: قد تقوم جمهوريَّة إسلاميَّة في فلسطين، ولكن لبنان لا يصبح جمهوريَّة إسلاميَّة.
كان سماحته يؤمن بلبنان المنفتح، وكان أوَّل من تحدَّث عن لبنان الرّسالة، وقبل أن يتحدَّث البابا عن ذلك...
الانفتاحُ على العروبة
س: من هنا ندخل إلى علاقة السيّد فضل الله بالعرب، وطبعاً نتحدَّث عن المحيط السنّيّ، وكنَّا ذكرنا مثلاً اللّقاءات مع شيخ الأزهر، ولكن سياسيّاً، مثلاً المملكة العربيَّة السعوديَّة، اليوم نسمع من بعض الشّيعة كلاماً عن السّعوديَّة لا يقولونه بإسرائيل. كيف كانت رؤية السيّد فضل الله إلى علاقة لبنان بمحيطه العربيّ؟
ج: ... كان السيّد فضل الله حريصًا جدًّا على العلاقات العربيَّة العربيّة، وكان يرى أنّ أيّ إثارة للخلافات كدول وكشعوب، سوف تستفيد منها إسرائيل...
والسيّد فضل الله عندما كان يذهب في السّنوات الأخيرة إلى الحجّ، كانت السّلطات السّعوديَّة توفّر له كلَّ الإمكانات... وكانت الوفود تأتيه في مكَّة المكرَّمة، ولم تكن مقتصرة على الشّيعة، بل كانت مشتركةً بين الشّيعة والسنّة، كان يأتي الباكستاني والتركي إلى مجلسه، ومرّة زاره وفد تركيّ مؤلَّف من حوالي أربعين شخصًا، وكانوا يسألونه في الموضوعات السنيَّة الشيعيَّة، وكان يجيبهم، لأنّه كان شخصيَّة إسلاميَّة منفتحة على الجميع...
أمَّا عن موقفه من العروبة، فكان يقول: أنا أعتزّ بهويَّتي العربيّة، لأنّنا عرب، فحتَّى نبيّنا عربيّ، ونحن نعتزّ بنبيّنا، ونعتزّ بأئمَّتنا، ونعتزّ بصحابتنا الكرام، ولكنّه كان يستشهد بكلمة للإمام زين العابدين (ع) يتحدَّث فيها عن العصبيَّة: "إنَّ العصبيَّةَ الَّتي يَأْثَمُ عَلَيْها صَاحِبُها، أَنْ يَرَى الرَّجلُ شِرارَ قَوْمِهِ خيرًا مِنْ خيارِ قَوْمٍ آخرين، وَلَيْسَ مِنَ العَصَبيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجلُ قَوْمَهُ، وَلَكنْ مِنَ العَصبيَّةِ أَنْ يعينَ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْم"، فنحن نعتزّ بعروبتنا، ولكنَّنا نريد لعروبتنا أن تكون عروبةً مع الحقّ، عروبة تحتضن المظلوم، عروبة تنفتح على كلّ تاريخنا.
وأنا أذكر أنّي كنت مرّةً في مؤتمر ثقافيّ إسلاميّ في الأردن، وصعدت في المصعد مع رئيس جامعة القيروان في تونس، وعندما عرف أنَّني كنت مستشار السيّد فضل الله، قال لي إنَّ السيّد فضل الله كان يقول كلمة رائعة جدًّا عن العروبة والإسلام. فقلت له: أنت تقصد قوله إنَّ العروبة إطار يبحث عن الصّورة، والصّورة هي الإسلام، فقال لي إنَّ هذا من أروع ما قيل في هذا الموضوع...
سابقُ عصره
س: في آخر الحلقة، نريد أن نتكلَّم عن بعض الجوانب الأدبيَّة والشّعريَّة في شخصيَّة السيّد فضل الله، وأيضًا كنت رأيت لحضرتك مقالاً نشر في جريدة النّهار بعنوان: "آت من المستقبل" عن السيّد محمَّد حسين فضل الله، كيف هو آت من المستقبل؟
ج: أنا أعتقد، وإضافةً إلى كثيرين، أنَّ السيّد كان سابق عصره من أكثر من جانب.
أحد العلماء المسلمين الشّيعة الكبار، الرّاحل قبل حوالي أربع أو خمس سنوات، وهو سماحة الشَّيخ عبدالهادي الفضلي الَّذي كان وكيل السيّد فضل الله في السعوديَّة، ووكيل السيّد الخامنئي في السعوديَّة أيضاً، كان يقول إنَّ ما بين السيّد فضل الله والآخرين - وكان يشير إلى مراجع الشّيعة - حوالي مائتي سنة، كان يقول إنَّ هذا الرَّجل جاء قبل عصره، فالسيّد فضل الله كان عندما يخاطب الأجيال، يقول: سأقف ضدَّ التخلّف، وضدَّ الجهل، وضدَّ الغلوّ، وضدَّ الخرافة، ولو شتمني الشَّاتمون، وتحدَّث عنّي الآخرون.
السيّد فضل الله كان دائماً يتطلَّع إلى روح الإسلام، وكان عصريّاً، كان يقول إنَّ عالم الدّين إذا لم يكن عنده نبض العصر، فلا يستطيع أن يكون داعية، وكان سماحته أوَّل من انسجم مع روح العصر فيما له علاقة بالإنترنت وغيره.
وكان سماحته يرفض "الفقه الهندسيّ"، فمثلاً، عندما ذهب إلى موضوع الفلك، أن نأخذ بعلم الفلك فيما يخصّ بدايات الشّهور، ولا سيّما شهر رمضان وغيره، فأنا أذكر أنَّ وفدًا من جريدة اللّواء، سألوه عندما أعلن عن أوَّل الشَّهر في ذلك الوقت، وقالوا له: كيف أعلنت ذلك يا سيّدنا؟ قال لهم السيّد: لماذا تسألون؟ فقالوا له: أليس النبيّ (ص) يقول: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"؟ قال: حسنًا، هذا الحديث له بداية عند السنَّة والشّيعة، فهل يحفظ أحد منكم بدايته؟ يقول رسول الله (ص): "إنّا أمَّة أميَّة، لا تُحسن أن تقرأ أو تحسب"(2)، فهل لا نزال أمَّة أميَّة؟ قالوا له: لا. قال: هل نحن الآن نُحسن أن نقرأ أو نحسب؟ قالوا له: نعم. قال لهم: أتعرفون ما اسم علم الفلك؟ اسمه علم الحساب.
وبدأ السيّد يستعرض الأدلَّة، فقال: إنَّ الله خلق الشّهور قبل أن يخلق لنا عيونًا، وقبل أن يخلقنا نحن {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}[التَّوبة: 36]. فشهريَّة الشَّهر ليس لها علاقة بـ "أرى ولا أرى". النبيّ لم يكن لديه القدرة على رؤيته إلَّا بالعين، أمَّا نحن، فلدينا القدرة على رؤيته بوسائل أخرى..
ومما قاله: في السَّابق، كنَّا نستخدم الجَمَل في مواصلاتنا، فهل نبقى نستخدم الجمل الآن، أم نستخدم وسائل العصر؟!
السيّدُ الشَّاعر
س: بدقيقة، لمحة شعريَّة أدبيَّة عن السيّد فضل الله.
ج: السيّد فضل الله كان شخصيَّة أدبيَّة شاعرة من الطّراز الأوَّل، ولا أزال أذكر أنَّ السيّد حسن الأمين، ابن المرجع السيّد محسن الأمين، قال لي يومًا، لو أنَّ السيّد فضل الله تفرَّغ للشَّعر، لدانت له مملكة الشّعر في العالم العربيّ. وقد رأى يومًا أباه في المنام، فقام في اللَّيل لينظم قصيدة يقول فيها:
                       يا أبي.. قد تُطِلُّ روحي على الذِّكرى 
                       وعينــاكَ في الكـــرى تحضُنَانـي
                       وأنا أغـفو مع الحُلُــم ِالنَّــديانِ
                       أهفو إلـــيْكَ في تحْــنـــانـــي
                       وبعقلي فِكْــرٌ زرعتَ غِراسَ
                       لوعي فيهِ بالعِــلم ِوالإيـــمـانِ
إلى أن يقول:
                    أنتَ علَّمتني التَّسامحَ إمَّا زلزلَ العنفُ ساحةَ الإخوانِ 
                    قلْتَ لي: إنَّ للمحبَّةِ عمقًا أَرْيَحِيًّا في لهفةِ الإنسانِ
                    قد يعيشُ الأشرارُ طهرَ الينابيع بعيدًا عن وَحْلَةِ الأدرانِ
                   فإذا امتدَّتِ المحَبَّةُ بالرّوحِ وعاشتْ بِوَحْيها الشَّفتانِ
                   أطلعَ الخيرُ وحيَهُ في نداءِ الأَرْيَحِيَّاتِ في القلوبِ الحَوَاني
                   فإذا بالَّذينَ يَحْيَوْنَ للشرِّ ويَجْرُونَ في مدى الشَّيطانِ
                  يفتحُ الحبُّ روحَه في نَجَاوَاهُم فللخيرِ شَهْقةٌ في الـمَعَاني
 
وأذكر أنَّني في أواخر أيَّام حياته، قلت له سيّدنا، هل تأثَّرت بأبي القاسم الشَّابي؟ فنظر إليّ وقال: كيف عرفت؟ فقلت له: يا مولانا، أنا أقرأ لأبي القاسم الشَّابي، وهو يقول:
                 يا صميمَ الحياةِ كمْ أنا في هذه الدّنيا غريبٌ أشقى بغربةِ نفسي 
                 بينَ قومٍ لا يفقهون أناشيدَ فؤادي ولا معاني بؤسي 
على الفور، قال لي: وأنا ماذا أقول؟ ثمَّ أنشد:
               يا غيوب الأسرار نامت بعيني الدَّياجي، وغاب عنّي رفاقي 
              كيف أرنو إلى الشّروق وقد عاشت غيوم الحياة في أعماقي
              أنا يا ربّي ظامئٌ يركض الينبوع في روحه وأنت السَّاقي
 أخيرًا، في المجال الشّعريّ، قال لي السيّد فضل الله مرّةً عن قصيدة نسيها ولم يعد يتذكّر منها إلّا بيتًا واحدًا تحدَّث فيه عن نفسه، يقول:
            خُلقت رقيقًا كأنَّ الإلهَ براني مِنْ نسمةٍ نَادِيَه 
وأنا أقول إنَّ هذا البيت هو ملخَّص شخصيَّة السيّد فضل الله.
 
*** 
(1) الفقه الهندسي: استخدام التعبير الحرفي للنص في عملية الاستدلال، بطريقة جامدة أقرب إلى القواعد الهندسية، دون الأخذ بالاعتبار ظروف النص وموقعه والفهم العرفي له.
(2) صحيح البخاري.
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية