الإنسان كموجود إلهيّ له رسالة في الحياة؛ رسالة إثبات الذّات وإعمار الأرض، والله تعالى يقبل منه فقط ما يصدر من كلام طيب نافع، ويرفع له في كتابه العمل الخالص لوجه الله، الذي يصلح في ميزان الأعمال، ويعود بمنفعته على ذات الإنسان والجنس البشري بوجه عامّ.
والإنسان الباحث عن تأكيد هويته وذاته، وتأصيل وجوده على قواعد ثابتة لا تهتزّ، بالشكل الذي يرفع من شأنه وينمّي كلّ طاقاته، عليه أن ينفتح بكلّ قواه على الله تعالى، المالك لكلّ شيء، بما يمثّل من عزّة وقوّة تمدّ الإنسان بما يلزم من عناصر تثبّت له مسيرته.
وحول ذلك، يقول سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) في معرض تفسيره للآية المباركة من سورة فاطر: "{مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ}، بما تفيده من القوّة الماديّة والمعنويّة التي تثبّت المواقع في الحياة والنّاس بشكل صلب لا يهتزّ ولا يُغلب ولا يُقهر {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}[فاطر: 10]، فهو الَّذي يملك كلّ مواقع القوّة في الأرض والسماء، فله كلّ شيء، ولا يملك أحدٌ معه شيئاً".
إنَّ الباري تعالى يريد من المؤمنين المخلصين الموحّدين، أن يربّوا أنفسهم على أن يعيشوا العزّة في كلّ تحرّكاتهم وأوضاعهم بعمق ووعي وقناعة، ولا يكون ذلك إلا في مدى انفتاحهم على مواقع العزّة الإلهيّة التي لا حدود لها، والتي تدعو الناس إلى التفاعل معها بشكل جدّيّ ومسؤول، لينعكس ذلك على مظاهر حياتهم وتفاصيل كلامهم ومواقفهم، بما يقوّي نظرتهم إلى الحياة، ويجعلهم ينطلقون في كلّ حركاتهم وسكناتهم من موقع القوّة المستمدّة من قوّة الإيمان بالله والإخلاص له.
وحول هذه النقطة، يشير سماحته(رض) إلى ذلك بالقول: "وهذه هي الروح التي أراد الله للناس المؤمنين أن يعيشوها في داخلهم بعمق ووعي وإيمان، ولا يتسنّى لهم ذلك إلا في التفكير الدائم في عظمة الله ومواقع قدرته في رحاب الأرض والسماء، وفي تكوين الإنسان وسيطرته المطلقة عليه، ما يجعلهم يحتقرون غير الله عندما يستشعرون عظمته... وهكذا نجد أنّ الله يريد أن يعمِّق الشعور بالحاجة إليه وحده، لينطلق المؤمن في الحياة مرتبطاً به، فيكون قوياً وعزيزاً بالله، معتقداً أنّ هؤلاء الذين قد يغرونه باستمداد العزّة منهم، يستمدّون العزة من الله، فينطلق إلى أهدافه بكلّ قوّة وطمأنينة، فلا تكون العزّة مجرد شعور طارئ يذهب لدى أية صدمة أو أية وحشة في حركة العناصر الطارئة للقوة في حياته".[من وحي القرآن، ج 19، ص 90، 91].
في المقابل، فإنَّ الله تعالى يُقبل على عبده الصالح الذي لا يلهج لسانه إلا بكلام الحقّ والصدق والعدل، ولا يحرّك كلماته إلا في خطّ نشر الوعي والمعرفة، لجهة العقيدة الحقّة والفكر المنفتح على عظمة الله وفضله ورضوانه، وينطلق من خلال شعوره الصادق الصافي الخالص من كلّ الحسابات الضيّقة، ليعبِّر عن روحية الإنسان الشفّافة المفطورة على توحيد الله الذي يتحرّك بمصاديقه في كلّ تفاصيل الحياة الخاصّة والعامّة.
يقول سماحته(رض) في تفسير {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}: "الذي يحمل في مضمونه الحقّ في العقيدة وفي المفهوم الكلي لقضايا الحياة، وفي مفاهيم المفردات الجزئية لتفاصيل الواقع، فإن الله يتقبّل الكلام الطيّب المعبِّر عن روحية الإنسان، المنطلق من مواقع الصّدق في فكره وشعوره وموقفه، ويعطي الإنسان أجره على ذلك، وهذا ما توحي به كلمة الصعود إليه، فهي كناية عن قبول الكلام الذي يتحرك في الحياة ليؤكّد الحقّ، وليثير فيها ما ينفع الناس ويستقيم بهم في نهج العقيدة والعمل الصّالح".[من وحي القرآن، ج 19، ص 91].
أمّا عمل الإنسان، فهو الأساس عند الله، بما يتركه من أثر مادي ومعنوي يعود بالنفع على الإنسان نفسه في دنياه، ويأخذ عليه أجره في القرب من الله تعالى، كجزاء بما التزم به من حقّ الله في أداء حقّه بأعماله، وسلوكه الفعلي، بحيث حوَّل إيمانه إلى عمل في الواقع يرفع من قيمته وقيمة الحياة من حوله. وكما قال أمير المؤمنين(ع): "اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل".
وفي تفسيره للآية الشّريفة: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، يقول سماحته(رض): "والعمل الصّالح يرفعه إليه، لأنّ العمل لا يبقى في الأرض ليكون مجرد حركةٍ تنطلق في نشاط الناس، ثم تموت في ذهاب الصّورة وغياب الزمن، بل يرتفع إلى الله، بما فيه من نفع للإنسان والحياة في معناه الإيماني، وغايته التوحيدية، وروحيته الإنسانية الرسالية المتعلقة بالله، الخاضعة له، فالإنسان يكون عزيزاً عند الله، بمقدار ما يكون طيباً في كلامه، صالحاً في عمله، وهو ما يجعله في مواقع القرب لديه، لينال ـ بذلك ـ الحظوة عنده". [من وحي القرآن، ج 19، ص 92].
فهلاَّ عملنا على تأكيد الكلم الطيّب فيما نطلقه من كلام وأحاديث في مواقفنا ومجالسنا الخاصّة والعامّة، فنحوّل كلّ أجواء الكلام إلى منافع وراحة وطمأنينة؟! وهلا عملنا على تأكيد القول الطيّب بالعمل الصّالح النافع الذي يبني الحياة والعلاقات؛ العمل الذي يزرع ثقافة الوعي والحكمة والمسؤوليّة والانفتاح، والعمل الذي يرفع من مستوى وعي الناس، وينمّي قدراتهم وطاقاتهم وأوضاعهم؟!
فالمؤمنون هم الذين يثبّتون الكلام الطيب عبر العمل الصالح في الحياة كلها، فالكلمة مسؤولية وأمانة، والعمل الصالح يعبِّر عن جوهر وجودنا وأصالة شخصيتنا، وهو سجلّ مصيرنا أمام الله تعالى في الدّنيا والآخرة.
ويحذّرنا الله تعالى من المقت الذي يجلب المفسدة والمهلكة لصاحبه، ويحرفه عن مساره الطبيعي في الالتزام بالحقّ قولاً وعملاً، ويجعله بذلك يعيش التّيه والضّياع والفوضى والاهتزاز... يقول الباري عزّ وجلّ في محكم كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[الصفّ: 2، 3].
ربّنا اجعلنا من أصحاب الكلم الطيب والعمل الصالح، وارزقنا المرضاة عنّا والرحمة والعزة في الدنيا، وسلامة المصير في الآخرة.
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .