كالّذي استهوته الشياطين حيران!

كالّذي استهوته الشياطين حيران!

قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام: 71].

يدعو المشركون والكافرون الناس عبر كل العصور، إلى هجر الإيمان بالله، والتمسك بالضلالة والكفر والشرك، متبعين زخارف القول والحجج الواهية التي لا تصمد أمام النقد والعقل والوجدان. فلو فكر الناس بما يدعوهم هؤلاء إليه بأدنى تفكير، لوجدوا الوهن في دعوتهم، ولتمسكوا أكثر بتوحيد الله، حيث كل غنى النفس، وكل سمو الروح، وكل انفتاحة عقل على الوجود كله والحق كله. فالإيمان هو مشروع تقدّمي نهضويّ للناس، يعمل على نقلهم من كل ضلالة وجهل وعصبية وتخلف، إلى حيث النور والحقيقة والخير والحق والصفاء والتعاون على البرّ والتقوى، ونبذ الإثم والعدوان والظلم والبغي والفساد. ومن وصل إلى مرحلة الإيمان الخالص لله تعالى، لا يمكنه التراجع وبيع نفسه من جديد لأتباع الشيطان، والتأثر بدعاياتهم المغرضة والمسمومة. فالمؤمنون هم الّذين يحافظون على استقامة الطريق والهدى من الله، ويسلّمون أمرهم لله تعالى في مواجهة كلّ من يحاول هدر كراماتهم، ومصادرة قرارهم الحرّ والمسؤول.

حول ما يتعلّق بالآية الشريفة، يقول العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض):

"ماذا يريد منهم هؤلاء الكافرون والمشركون؛ في ما يدعونهم إليه من عبادة هؤلاء الآلهة من دون الله؟ فهل يملكون أساساً لهذه الدعوة؟ هل تنفع هذه الآلهة أو تضرّ؟ ماذا لديها من عناصر القوّة والقدرة لتدافع عن الذين يؤمنون بها أو يعبدونها؟ إن ذلك هو أبسط الشروط للمعبود. ولكنهم ـ وهذه هي طبيعة الواقع بكلّ وضوحٍ وبساطةٍ ـ لا يملكون شيئاً من ذلك، لأنهم مجرّد أحجار جامدةٍ لا حسَّ فيها ولا حركة ولا حياة. فكيف يطلبون منا عبادتها من دون الله الذي هو الخالق لكلّ شيء، والقادر على أن ينفعنا ويضرّنا ويحمينا من كلّ سوء، وهل يفكر الإنسان العاقل في التراجع إلى الوراء، بعد أن انطلق بخطواته إلى الأمام؟ {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لا يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَ}، ولا يحمل أيّ مقوِّم بسيط من مقوّمات الألوهيّة، وهي القدرة على النفع والضرر؟ {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله}؟ وهل يمكن للإنسان الذي أبصر الهدى بعينين مفتوحتين، أن يعيش الضلال في أفكاره وخطواته؟ وقد لا يكون من المفروض أن تكون الآية دليلاً على وجود ضلالٍ سابقٍ على الهدى لهؤلاء القائلين، لأن الفقرة واردة على سبيل الكناية في التعبير عن طبيعة الضلال التي تمثّل خطوةً تراجعيةً، في مقابل الإيمان الذي يمثّل خطوة متقدِّمة.

{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَ}، وهذا مَثَل الإنسان الذي يعيش الحَيْرة الضاربة في الأرض، بفعل الإيحاءات التي تلقيها الشياطين في وعيه، فيفقد التركيز في الرؤية الطبيعيّة للأشياء، فيظلّ يضرب في الأرض يميناً وشمالاً، فلا يهتدي إلى قرارٍ، ولا يسكن إلى قاعدة، ولا يستجيب إلى نداء أصحابه الذين يحاولون إنقاذه من حَيْرته القاتلة، عندما يدعونه للسّير معهم، حيث إشراقة النور واستقامة الطريق.

ويأتي الجواب حاسماً في مواجهة علامات الاستفهام الإنكاري: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، فهو الشاطئ الأمين الذي تقف عنده سفن النجاة، وهو القاعدة التي تثبت عندها الأقدام، وهو الأفق الذي تنساب منه إشراقات الضياء، وما الذي يطلبه الإنسان أكثر من أن يحصل على هداية الله وحده؟! فلا خيار له بعد ذلك، من خلال ما يتحرك به الخطّ الواضح للحقيقة التي فرضت نفسها على كل وجدان الإنسان، الذي يقف لينتظر الأمر الذي يوحي به هذا الأفق الواعي للهدى، {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فهو الذي بيده الخلق، وهو الذي بيده الأمر، وله الحكم، يأمر العقل أن يهدي، والوجدان أن يذعن، والخطى أن تسير، بما يعنيه ذلك كلّه من إسلام الفكر والحسّ والخطى لربّ العالمين، فيما يأمرهم به أو ينهاهم عنه من إقامة الصلاة، والانطلاق في خطّ التقوى الشامل لكلّ جوانب الحياة. [تفسير من وحي القرآن، ج9، ص 159-161].

وجاء في تفسير الطبري للآية الكريمة: "القول في تأويل قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ الله مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَ}.

وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره نبيّه(ص) على حجته على مشركي قومه من عبدة الأوثان. يقول له تعالى ذكره: قل، يا محمّد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأنداد، والآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم: أندعو من دون الله حجرًا أو خشبًا لا يقدر على نفعنا أو ضرّنا، فنخصه بالعبادة دون الله، وندع عبادة الذي بيده الضرّ والنفع والحياة والموت، إن كنتم تعقلون فتميّزون بين الخير والشرّ؟ فلا شكّ أنكم تعلمون أنّ خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضرّه، أحقّ وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضرّه!

{وَنُرَدُّ عَلَى أعقابِن}. يقول: ونردّ إلى أدبارنا، فنرجع القهقرى خلفنا، لم نظفر بحاجتنا.

وقد بينّا معنى: "الردّ على العقب"، وأن العرب تقول لكلّ طالب حاجة لم يظفر بها: "ردّ على عقبيه"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وإنما يراد به في هذا الموضع: ونرد من الإسلام إلى الكفر {بعد إذ هدانا الله}، فوفّقنا له، فيكون مثلنا في ذلك مثل الرّجل الذي استتبعه الشّيطان، يهوي في الأرض حيران.

وقوله: {استهوته}، "استفعلته"، من قول القائل: "هوى فلان إلى كذا يهوي إليه"، ومن قول الله تعالى ذكره: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}[سورة إبراهيم: 37] ، بمعنى: تنـزع إليهم وتريدهم.

وأمّا "حيران"، فإنه "فعلان"، من قول القائل: "قد حار فلان في الطريق، فهو يَحَار فيه حَيرة وحَيَرَانًا وَحيرُورة"، وذلك إذا ضلّ فلم يهتد للمحجَّة.

{لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَ}، يقول: لهذا الحيران الذي قد استهوته الشياطين في الأرض، أصحابٌ على المحجة واستقامة السبيل، يدعونه إلى المحجة لطريق الهدى الذي هم عليه، يقولون له: ائتنا.

وترك إجراء "حيران"، لأنه "فعلان "، وكلّ اسم كان على "فعلان" مما أنثاه "فعلى"، فإنه لا يجري في كلام العرب في معرفة ولا نكرة.

وهذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لمن كفَر بالله بعد إيمانه، فاتبع الشّياطين، من أهل الشرك بالله، وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه، المقيمون على الدين الحقّ، يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون، والصواب الذي هم به متمسكون، وهو له مفارق وعنه زائل، يقولون له: "ائتنا فكن معنا على استقامة وهدى"! وهو يأبى ذلك، ويتبع دواعي الشيطان، ويعبد الآلهة والأوثان". [تفسير الطبري].

إنّ الإيمان الخالص لله تعالى، يفتح لنا الآفاق الواسعة على الحق والعدل والخير، وعلى كلّ معنى روحي وأخلاقي يدفعنا إلى التزام موقف الحقّ والثبات على الاستقامة، فلا تتزعزع إرادتنا أمام الأهواء والمصالح، ولا تضعف نفوسنا أمام المغريات، فنعيش الحيرة والتذبذب والانجرار إلى اتباع النزوات والمفاسد وبيع الضّمائر خدمةً للكفر وأهل الضّلالة.

الإيمان والاستقامة على هدى الله تعالى، يحمّلنا مسؤولية أكبر في مراجعة علاقاتنا وأوضاعنا الاجتماعية والأخلاقية والروحية، فننظر هل نحن في حيرة من أمرنا؟ وما مدى إخلاصنا لروح الإيمان ودروسه وفاعليته في حياتنا اليومية؟

محمد فضل الله

إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.

قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام: 71].

يدعو المشركون والكافرون الناس عبر كل العصور، إلى هجر الإيمان بالله، والتمسك بالضلالة والكفر والشرك، متبعين زخارف القول والحجج الواهية التي لا تصمد أمام النقد والعقل والوجدان. فلو فكر الناس بما يدعوهم هؤلاء إليه بأدنى تفكير، لوجدوا الوهن في دعوتهم، ولتمسكوا أكثر بتوحيد الله، حيث كل غنى النفس، وكل سمو الروح، وكل انفتاحة عقل على الوجود كله والحق كله. فالإيمان هو مشروع تقدّمي نهضويّ للناس، يعمل على نقلهم من كل ضلالة وجهل وعصبية وتخلف، إلى حيث النور والحقيقة والخير والحق والصفاء والتعاون على البرّ والتقوى، ونبذ الإثم والعدوان والظلم والبغي والفساد. ومن وصل إلى مرحلة الإيمان الخالص لله تعالى، لا يمكنه التراجع وبيع نفسه من جديد لأتباع الشيطان، والتأثر بدعاياتهم المغرضة والمسمومة. فالمؤمنون هم الّذين يحافظون على استقامة الطريق والهدى من الله، ويسلّمون أمرهم لله تعالى في مواجهة كلّ من يحاول هدر كراماتهم، ومصادرة قرارهم الحرّ والمسؤول.

حول ما يتعلّق بالآية الشريفة، يقول العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض):

"ماذا يريد منهم هؤلاء الكافرون والمشركون؛ في ما يدعونهم إليه من عبادة هؤلاء الآلهة من دون الله؟ فهل يملكون أساساً لهذه الدعوة؟ هل تنفع هذه الآلهة أو تضرّ؟ ماذا لديها من عناصر القوّة والقدرة لتدافع عن الذين يؤمنون بها أو يعبدونها؟ إن ذلك هو أبسط الشروط للمعبود. ولكنهم ـ وهذه هي طبيعة الواقع بكلّ وضوحٍ وبساطةٍ ـ لا يملكون شيئاً من ذلك، لأنهم مجرّد أحجار جامدةٍ لا حسَّ فيها ولا حركة ولا حياة. فكيف يطلبون منا عبادتها من دون الله الذي هو الخالق لكلّ شيء، والقادر على أن ينفعنا ويضرّنا ويحمينا من كلّ سوء، وهل يفكر الإنسان العاقل في التراجع إلى الوراء، بعد أن انطلق بخطواته إلى الأمام؟ {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لا يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَ}، ولا يحمل أيّ مقوِّم بسيط من مقوّمات الألوهيّة، وهي القدرة على النفع والضرر؟ {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله}؟ وهل يمكن للإنسان الذي أبصر الهدى بعينين مفتوحتين، أن يعيش الضلال في أفكاره وخطواته؟ وقد لا يكون من المفروض أن تكون الآية دليلاً على وجود ضلالٍ سابقٍ على الهدى لهؤلاء القائلين، لأن الفقرة واردة على سبيل الكناية في التعبير عن طبيعة الضلال التي تمثّل خطوةً تراجعيةً، في مقابل الإيمان الذي يمثّل خطوة متقدِّمة.

{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَ}، وهذا مَثَل الإنسان الذي يعيش الحَيْرة الضاربة في الأرض، بفعل الإيحاءات التي تلقيها الشياطين في وعيه، فيفقد التركيز في الرؤية الطبيعيّة للأشياء، فيظلّ يضرب في الأرض يميناً وشمالاً، فلا يهتدي إلى قرارٍ، ولا يسكن إلى قاعدة، ولا يستجيب إلى نداء أصحابه الذين يحاولون إنقاذه من حَيْرته القاتلة، عندما يدعونه للسّير معهم، حيث إشراقة النور واستقامة الطريق.

ويأتي الجواب حاسماً في مواجهة علامات الاستفهام الإنكاري: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، فهو الشاطئ الأمين الذي تقف عنده سفن النجاة، وهو القاعدة التي تثبت عندها الأقدام، وهو الأفق الذي تنساب منه إشراقات الضياء، وما الذي يطلبه الإنسان أكثر من أن يحصل على هداية الله وحده؟! فلا خيار له بعد ذلك، من خلال ما يتحرك به الخطّ الواضح للحقيقة التي فرضت نفسها على كل وجدان الإنسان، الذي يقف لينتظر الأمر الذي يوحي به هذا الأفق الواعي للهدى، {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فهو الذي بيده الخلق، وهو الذي بيده الأمر، وله الحكم، يأمر العقل أن يهدي، والوجدان أن يذعن، والخطى أن تسير، بما يعنيه ذلك كلّه من إسلام الفكر والحسّ والخطى لربّ العالمين، فيما يأمرهم به أو ينهاهم عنه من إقامة الصلاة، والانطلاق في خطّ التقوى الشامل لكلّ جوانب الحياة. [تفسير من وحي القرآن، ج9، ص 159-161].

وجاء في تفسير الطبري للآية الكريمة: "القول في تأويل قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ الله مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَ}.

وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره نبيّه(ص) على حجته على مشركي قومه من عبدة الأوثان. يقول له تعالى ذكره: قل، يا محمّد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأنداد، والآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم: أندعو من دون الله حجرًا أو خشبًا لا يقدر على نفعنا أو ضرّنا، فنخصه بالعبادة دون الله، وندع عبادة الذي بيده الضرّ والنفع والحياة والموت، إن كنتم تعقلون فتميّزون بين الخير والشرّ؟ فلا شكّ أنكم تعلمون أنّ خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضرّه، أحقّ وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضرّه!

{وَنُرَدُّ عَلَى أعقابِن}. يقول: ونردّ إلى أدبارنا، فنرجع القهقرى خلفنا، لم نظفر بحاجتنا.

وقد بينّا معنى: "الردّ على العقب"، وأن العرب تقول لكلّ طالب حاجة لم يظفر بها: "ردّ على عقبيه"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وإنما يراد به في هذا الموضع: ونرد من الإسلام إلى الكفر {بعد إذ هدانا الله}، فوفّقنا له، فيكون مثلنا في ذلك مثل الرّجل الذي استتبعه الشّيطان، يهوي في الأرض حيران.

وقوله: {استهوته}، "استفعلته"، من قول القائل: "هوى فلان إلى كذا يهوي إليه"، ومن قول الله تعالى ذكره: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}[سورة إبراهيم: 37] ، بمعنى: تنـزع إليهم وتريدهم.

وأمّا "حيران"، فإنه "فعلان"، من قول القائل: "قد حار فلان في الطريق، فهو يَحَار فيه حَيرة وحَيَرَانًا وَحيرُورة"، وذلك إذا ضلّ فلم يهتد للمحجَّة.

{لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَ}، يقول: لهذا الحيران الذي قد استهوته الشياطين في الأرض، أصحابٌ على المحجة واستقامة السبيل، يدعونه إلى المحجة لطريق الهدى الذي هم عليه، يقولون له: ائتنا.

وترك إجراء "حيران"، لأنه "فعلان "، وكلّ اسم كان على "فعلان" مما أنثاه "فعلى"، فإنه لا يجري في كلام العرب في معرفة ولا نكرة.

وهذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لمن كفَر بالله بعد إيمانه، فاتبع الشّياطين، من أهل الشرك بالله، وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه، المقيمون على الدين الحقّ، يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون، والصواب الذي هم به متمسكون، وهو له مفارق وعنه زائل، يقولون له: "ائتنا فكن معنا على استقامة وهدى"! وهو يأبى ذلك، ويتبع دواعي الشيطان، ويعبد الآلهة والأوثان". [تفسير الطبري].

إنّ الإيمان الخالص لله تعالى، يفتح لنا الآفاق الواسعة على الحق والعدل والخير، وعلى كلّ معنى روحي وأخلاقي يدفعنا إلى التزام موقف الحقّ والثبات على الاستقامة، فلا تتزعزع إرادتنا أمام الأهواء والمصالح، ولا تضعف نفوسنا أمام المغريات، فنعيش الحيرة والتذبذب والانجرار إلى اتباع النزوات والمفاسد وبيع الضّمائر خدمةً للكفر وأهل الضّلالة.

الإيمان والاستقامة على هدى الله تعالى، يحمّلنا مسؤولية أكبر في مراجعة علاقاتنا وأوضاعنا الاجتماعية والأخلاقية والروحية، فننظر هل نحن في حيرة من أمرنا؟ وما مدى إخلاصنا لروح الإيمان ودروسه وفاعليته في حياتنا اليومية؟

محمد فضل الله

إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية