قال تعالى في محكم كتابه العزيز : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ
الله مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ
وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.[البقرة:
253].
والسؤال: ما معنى التفضيل بين الرسل؟ وعلى أيّ أساس؟ وقد ورد في كتابه تعالى: {لاَ
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}.
وبمراجعةٍ لبعض التفاسير، فإنَّ التفضيل هو على أساس الدّور والمسؤوليّات، بحسب
الظروف والمعطيات التي عاشها كلّ نبيّ في مرحلته، وعلى أساس ما اقتضته حكمة الله
الذي يعلم الغيب والمصالح المترتبة وراء التفضيل، الذي لا يعدّ مصدر عدم مساواة في
القيمة بين رسول وآخر، ولا ارتفاع منزلة على أخرى بين نبيّ ونبيّ، فالجميع مبعوثون
من إله واحد، وبرسالة واحدة تدعو إلى توحيد الله وطاعته والتزام شريعته.
فالتفاضل إنّما هو في المهام، وبالقوى الذاتية التي تميَّز بها كلّ نبي على الآخر،
واستثماره لها في سبيل خدمة خطّ الله بكلّ تواضع، فلم يُعهد شعور نبيّ أو رسول
بميزة وافتخار، فهذا مخالف تماماً لأخلاق الأنبياء الذين بعثوا من أجل تكريس
الأخلاق وتربية النفوس على التواضع.
العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، يتعرض للآية ولمسألة التفضيل، فيقول:
أما التفضيل، فقد يخطر في البال، أنّ المراد به تفضيل القيمة، لما توحي به الكلمة
من الأفضليّة، ولكنَّ التدبّر في الآية يوحي أنّه بمعنى الميزة والخصوصيّة التي
يمنحها الله لبعض الناس دون بعض لحكمةٍ يراها، من دون أن تعني امتيازاً ذاتياً.
وهذا ما نستوحيه من الآيات التي تحدّثت عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين، حيث إن
البارز فيها هو تفضيل النعمة لا تفضيل القيمة، ولهذا، لم يمنع ذلك من ذمّهم ولعنهم
في آياتٍ كثيرة من القرآن، وربما يؤكد ذلك، أن الله عندما فصَّل التفضيل، جعل منه
تكليم الله لبعضهم، وجعل منه رفعه لبعضهم درجات، الأمر الذي نستوحي منه، أنّ
التفضيل قد يأتي بمعنى لا يفرض ارتفاع المنزلة. وبهذا نرُدّ على من تساءل أن فقرة {وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} بمثابة تكريرٍ لما تفيده كلمة التفضيل، فإنَّ المعنى الذي
أشرنا إليه، يبتعد بالآية عن ذلك كما هو واضح.
ولكنّ ذلك لا ينفي انطلاق القيمة في التفضيل من تفاضل العناصر الذاتية الموجودة في
كلّ واحد منهم، كما قد تكون من الألطاف الإلهية التي اختصّ بها الله بعضهم ببعض
الامتيازات والمهمات، انطلاقاً من الظروف الموضوعية المحيطة بالمرحلة الزمنية،
والتحديات المتنوّعة، والأوضاع الاجتماعية، أو بعض القضايا الخفية التي اختصّ الله
بعلمها، ما يفرض الحاجة إلى معجزةٍ معيَّنة في مجتمع ما، ومعجزةٍ أخرى في مواجهة
هذا التحدّي، وصفات مميزة في هذا النبي أو ذاك تبعاً للدّور الذي أوكل إليه أو
المهمة التي كلف بها.
وقد يطرح سؤال: كيف نوفق بين تفضيل بعض الرّسل على بعض ورفع بعضهم درجات، وبين قوله
تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[البقرة: 285] التي قد يستوحي
منها البعض المساواة؟ والجواب عن ذلك، أنّ تلك الآية واردة في مسألة الإيمان بالرسل،
وأن الله يريد للمؤمنين أن يؤمنوا بجميع الرسل، فلا يؤمن أحدهم برسول لينكر الرسول
الآخر، كما يحدث لدى اليهود الذين أنكروا رسالة عيسى(ع)، والنصارى الذي أنكروا
رسالة محمد(ص)، وليست واردة في الحديث عن الخصائص النبويّة في مسألة التفاصيل في
المساواة أو الفضل". [تفسير من وحي القرآن، ج 5، ص8].
ويقول سماحته في موضع آخر: "ليس هناك تفريق، بمعنى أن الرسل كلهم من عند الله، ولا
يصحّ أن يعتبر كلّ فريق أن له أنبياء خاصين فيه، فلا يؤمن أو يعترف بغيرهم،
والإسلام يعتبر كلّ ما سلف من الأنبياء للأمم السابقة هم أنبياء الله ويؤمن بهم
المسلم، إلا أنّ النبي محمد(ص) هو أفضل الرسل وخاتمهم، ورسالته خاتمة الرّسالات،
وشريعته خاتمة الشرائع، فخصّص ذكره في الصلاة لأجل ذلك".[استفتاءات].
والشيخ الشعرواي له توجيه للآية، بقوله:
"إن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى الرسل بقوله: {تِلْكَ الرسل}، و"الرّسل" هي جمع
لمفرد هو (رسول). والرسول هو المكلف بالرسالة. والرسالة هي الجملة من الكلام التي
تحمل معنى إلى هدف. ومادام الرّسل جماعة، فلماذا لم يقل الحقّ (هؤلاء الرسل)، وقال
"تِلْكَ الرسل"؟ ذلك ليدلّك القرآن الكريم على أن الرسل مهما اختلفوا، فهم مرسلون
من قبل إله واحد، وبمنهج واحد".(تفسير الشعراوي).
هكذا نكون قد أوضحنا معنى التفضيل بين الرّسل. ويبقى أنّ على المؤمن أن يؤمن بجميع
الرسل الّذين أرسلهم الله، دون تفريق بينهم، لأنّهم جميعاً جاؤوا بهدف واحد، هو
الدّعوة إلى عبادة الله سبحانه، وتحمّل المسؤوليّة في الحياة.
وعلى المجتمع الإيماني أن يحيا التّوحيد مزيداً من الوحدة والتعارف والتّضامن، ووعي
جوهر كلّ الرّسالات، وفهم حركة كلّ رسول، وما قدّمه من مساهمات، بغية الاقتداء
الحقيقي بكلّ ذلك.
إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن
وجهة نظر صاحبها.