إلقاء الجسد على كرسيّ سليمان(ع)!

إلقاء الجسد على كرسيّ سليمان(ع)!

جاء في كتاب الله العزيز : ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: 34]. فما المراد من هذه الآية؟ وما هو هذا الجسد الّذي ألقي على كرسيِّ سليمان(ع)؟

ولقد تنوَّعت التأويلات والتفسيرات لقصّة فتنة سليمان والجسد الملقى على كرسيّه.

العلّامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، يقول في تفسير هذه المسألة:

"{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً}. إنَّ هذه الآية توحي بوجود فتنةٍ واختبارٍ في حياة سليمان، لتوجيه بعض أوضاعه الّتي يريد الله له أن يركّزها على أساسٍ من الاستقامة في الفكر والعمل، في ما يبتلي الله به عباده ورسله، من أجل أن يربّيهم على الثبات في مواقع الاهتزاز، من خلال حركة التجربة في حياتهم العمليّة التي يُراد لها أن تطلّ على حياة الآخرين من موقع القيادة الرساليّة، وربما توحي الآية من خلال قوله: {ثُمَّ أَنَابَ}، بأنه ابتعد عن الخطّ قليلاً، في ما هو القرب السلوكي من الله، ثم عاد إليه بعد أن ابتلاه الله فعلياً.

وقد اختلفت الروايات في تصوير المراد بالفتنة، فذكر بعضها أنّه كان يشعر بالقوّة الكبيرة في جسده، بما تمنحه من القوّة الجنسية التي يواقع فيها عدداً كبيراً من نسائه، لتلد له كلّ واحدةٍ منهن ولداً، فولد له ولد غير متكامل الخلقة، وأماته الله وألقاه على كرسيّه جسداً لا روح فيه، ليدلّل له أنّ الأمور كلّها بيده. وقيل: إن الله ابتلاه بمرض فألقاه على كرسيّه كجسدٍ لا روح فيه، إلى غير ذلك من الروايات التي لا أساس فيها للحجيّة، ولا سيّما أنّ الكثير منها لا يتناسب مع أخلاقية الأنبياء أو المؤمنين مما روته المصادر الإسرائيلية، فلنردّ علم ذلك إلى أهله، ولنقف عند إيحاءات الآية في حصول نوع من البلاء الذي أنزله الله على سليمان، ليكون بمثابة الصّدمة الروحيّة التي تثير لديه الكثير من الأفكار حول القضايا المتصلة بموقعه من الله ورجوعه إليه، وطاعته والانقياد له في كلّ الأمور". [تفسير من وحي القرآن، ج 19، 261].

يقول الطّبري حول هذه الآية: "الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَان وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّه جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}، يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَلَقَدْ ابْتَلَيْنَا سُلَيْمَان وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّه جَسَدًا شَيْطَانًا مُتَمَثِّلًا بِإِنْسَانٍ، ذَكَرُوا أَنَّ اسْمه صَخْر. وَقِيلَ: إِنَّ اسْمه آصِف. وَقِيلَ: إِنَّ اسْمه آصِر. وَقِيلَ: إنَّ اسْمه حبقيق. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا في ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل". [تفسير الطبري].

وللمفسّر الشّعراوي توجيه للآية بقوله: "وقد فتن الله سليمان كما فتن من قَبْل أباه داود - عليهما السّلام - في مسألة المحراب.

ومعنى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً}[ص: 34]. الكرسيّ هو العرش الذي يجلس عليه الملك، والجسد هو قالب الكائن الحيّ. ويقال لهذا القالب (جسد) إذا كان خالياً من الرّوح. وللمفسّرين في هذه الآية عدّة أقوال:

قالوا: إنّ سيّدنا سليمان كان لديه جَوَارٍ كثيرات. فقال: سأطوف اللّيلة على سبعين جارية، وآتي من كلّ واحدة بولد فارس يركب فرسه في سبيل الله. يعني: المسألة كلّها كانت في الخير وفي الله، إلا أنّه لم يقدّم المشيئة ولم يقُلْ: إنْ شاء الله، فلم تَلِدْ منهن إلا جارية واحدة، ولدتْ له جسداً لا حركةَ فيه ولا تصرُّفَ؛ لأنَّ المؤمن مُطالب بأنْ يقدّم مشيئة الله إذا عزم على شيء في المستقبل، كما قال سبحانه: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً* إِلَّا أَن يَشَآءَ ٱللهُ}[الكهف: 23-24].

لأنّك حين تقول: سأفعل غداً كذا وكذا، فقد حكمتَ على فعل لا تملك عنصراً واحداً من عناصره، فأنت لا تضمن بقاء نفسك إلى أنْ تفعل، ولا تضمن تغيُّر الأحوال وتغيُّر الأسباب، فحين تعلِّق فعلَك على مشيئة الله، إنما تحفظ كرامتك وتبرّئ نفسك من الكذب، فقد شئتَ ولكنَّ الله لم يَشَأْ.

ويبدو أنَّ المُلْكَ أغرى سليمان، فداخله شيء من الزَّهْو؛ لأنه متحكّم في عوالم الإنس والجنّ والطير والحيوان، ومُطَاع من الكون كلّه من حوله. لذلك، لم يقُلْ إنْ شاء الله، فجازاه الله بذلك.

وقال آخرون: إنّ سليمان - عليه السلام - أنجب ولداً، وإنّ الجنّ أرادتْ به سوءاً؛ لأنها خافت أنْ يفعل بها كما يفعل سليمان، فأرادوا قتله، فما كان من سليمان إلا أنْ رفعه فوق السحاب يرضع من المزْن، فكأنه - عليه السلام - أراد أنْ يفرّ من قدر الله. وقالوا: إنّ الجسد هو سليمان نفسه؛ لأن الإنسان العادي، جعله الله يتحكَّم في جوارح نفسه حين يريد اللهُ ذلك، فيقوم بمجرّد أنْ يريد القيام، ويتحرّك بمجرّد أنْ يريدَ الحركةَ، دون أنْ يعرفَ هو نفسه ماذا يجري في أعضائه ومفاصله، فكأنَّ الله تعالى يعطي الإنسان مثلاً في نفسه؛ ليقرّب له المسائل المتعلّقة بالحقّ في إطار {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11].

فإذا كنتَ أنّت، أيها المخلوق، تفعل ما تشاء، وتنفعل لك جوارحك وتطاوعك بمجرّد الإرادة، ودون أنْ تأمرها بشيء، فهل تستبعد هذا في حقِّ الخالق سبحانه، حين يقول: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون}[يس: 82].

إنّ الحقّ سبحانه يقول للشيء: كُنْ. أما أنت، فلا تقول: كُنْ، وقد أراحك الله منها، وجعل الأعضاء تطاوعك دون أمر منك، لأنّك لو أمرتَها ما استجابتْ لك، هي تستجيب للخالق سبحانه، فإذا أراد الخالق سبحانه سَلبك هذه القدرة، فتريد أنْ تحرك يدك فلا تستطيع؛ لينبّهك إلى أنها موهوبة لك، ليستْ ذاتية فيك.

الحقّ سبحانه وهب سيدنا سليمان القدرةَ على السيطرة على جوارح ذاته، ثم عَدَّى هذه القدرة إلى السيطرة على الآخرين من جنسه ومن غير جنسه، وجعل له سيطرةً على الكون كلّه، ينفعل له ويجاوبه. يعني: المسألةُ كانت استعلاءً في التسلُّط على جنود الله.

ويبدو أنّ سليمان - عليه السلام - داخله شيء في نفسه، فأراد الحقّ سبحانه أنْ يلفته إلى أنّ هذه القدرة ليستْ ذاتية فيك، إنما هي موهوبة لك، أسلبها حين أشاء، فلا تستطيع السيطرة على جوارحك، ولا السيطرة على الآخرين، وألقاه الله فترة جسداً على كرسيّه لا يقدر على شيء، ولا يأمر بشيء.

فمادامتْ هذه النعمة موهوبةً من الله الذي أعطاك مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدك، فلا بُدَّ أنْ تظل مُتمسِّكاً بحبله، لاجئاً دائماً إلى مَنْ ملَّككَ هذا الملْكَ.

لذلك، يُرْوَى أنّه - عليه السلام - ركب مرّة البساط، وسارتْ به الريح كما يشاء، وفجأة مال به البساط، وكاد أنْ يُوقعه، فأمره أنْ يستوي به. فقال له البساط: أُمِرْنَا أنْ نطيعك ما أطعتَ الله.

إذاً: فتنّاه، لأننا مَلَّكناه مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، لكن لا نريد له أنْ يطغى أو يتعالى، والحقّ سبحانه لا يكذب كلامه، وقد قال سبحانه: {كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ* أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَى}.

وسليمان - عليه السلام - إنسان، فأراد الحقّ سبحانه أنْ يُثبت لنا أن الإنسان تملَّك في جوارحه، وتملَّك فيمن حوله، وتملَّك في جنس آخر غير جنسه، لكن هذا كلّه ليس ذاتياً فيه، بل هو موهوب له؛ بدليل أنّ الله سلبه هذا المُلْك في لحظة ما، وألقاه على كُرسيّه جسداً لا أمرَ له ولا نهيَ ولا سلطانَ على شيء. فلمّا فهم سليمان المسألة، آبَ ورجع {ثُمَّ أَنَابَ}[ص: 24] يعني: رجع إلى ما كان عليه قبل التجربة التي مَرَّ بها.

يعني: رجع وعاد إلى الجسد الذي فيه روح، أو أناب ورجع إلى الله وعرف السبب. فالمعنى يحتمل المعنيين: أناب في السبب، أو أناب في المسبِّب. والجسد هو الجِرْم والهيكل الظاهري الذي لا روحَ فيه، والذي قال الله عنه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ}[الحجر: 29]، أي: الجسد، ومنه قوله تعالى في قصّة السامري: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ...}[طه: 88] يعني: هيكل العجل وصورته الظاهريّة، لكن بدون روح..."[تفسير الشعراوي].

من خلال هذه القصة، نتعلّم أنّ البشر يُختبرون من قبل الله تعالى من خلال بعض الأحداث والظروف، حتى يعودوا إليه أكثر وعياً وإيماناً وارتباطاً بطاعته، وأكثر تحقّقاً من طبيعة علاقتهم به جرّاء ما يمكن لهم استفادته من تجاربهم التي يمرّون بها، وحتى لا يبقوا في دائرة ابتعادهم عن الله، بلا تحسّس لواجباتهم ودورهم.

إنّ قصص الأنبياء هي تحفيز لفكرنا ووعينا حتى نصحّح سلوكيّاتنا، ونتقرّب أكثر إلى الله تعالى، عبر التخلّي عن استغراقنا في حسابات الدّنيا، ومراجعة أعمالنا، والقيام يمسؤوليّاتنا، بما يصحّح حساباتنا مع الآخرة.

محمد فضل الله

إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.

جاء في كتاب الله العزيز : ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: 34]. فما المراد من هذه الآية؟ وما هو هذا الجسد الّذي ألقي على كرسيِّ سليمان(ع)؟

ولقد تنوَّعت التأويلات والتفسيرات لقصّة فتنة سليمان والجسد الملقى على كرسيّه.

العلّامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، يقول في تفسير هذه المسألة:

"{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً}. إنَّ هذه الآية توحي بوجود فتنةٍ واختبارٍ في حياة سليمان، لتوجيه بعض أوضاعه الّتي يريد الله له أن يركّزها على أساسٍ من الاستقامة في الفكر والعمل، في ما يبتلي الله به عباده ورسله، من أجل أن يربّيهم على الثبات في مواقع الاهتزاز، من خلال حركة التجربة في حياتهم العمليّة التي يُراد لها أن تطلّ على حياة الآخرين من موقع القيادة الرساليّة، وربما توحي الآية من خلال قوله: {ثُمَّ أَنَابَ}، بأنه ابتعد عن الخطّ قليلاً، في ما هو القرب السلوكي من الله، ثم عاد إليه بعد أن ابتلاه الله فعلياً.

وقد اختلفت الروايات في تصوير المراد بالفتنة، فذكر بعضها أنّه كان يشعر بالقوّة الكبيرة في جسده، بما تمنحه من القوّة الجنسية التي يواقع فيها عدداً كبيراً من نسائه، لتلد له كلّ واحدةٍ منهن ولداً، فولد له ولد غير متكامل الخلقة، وأماته الله وألقاه على كرسيّه جسداً لا روح فيه، ليدلّل له أنّ الأمور كلّها بيده. وقيل: إن الله ابتلاه بمرض فألقاه على كرسيّه كجسدٍ لا روح فيه، إلى غير ذلك من الروايات التي لا أساس فيها للحجيّة، ولا سيّما أنّ الكثير منها لا يتناسب مع أخلاقية الأنبياء أو المؤمنين مما روته المصادر الإسرائيلية، فلنردّ علم ذلك إلى أهله، ولنقف عند إيحاءات الآية في حصول نوع من البلاء الذي أنزله الله على سليمان، ليكون بمثابة الصّدمة الروحيّة التي تثير لديه الكثير من الأفكار حول القضايا المتصلة بموقعه من الله ورجوعه إليه، وطاعته والانقياد له في كلّ الأمور". [تفسير من وحي القرآن، ج 19، 261].

يقول الطّبري حول هذه الآية: "الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَان وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّه جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}، يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَلَقَدْ ابْتَلَيْنَا سُلَيْمَان وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّه جَسَدًا شَيْطَانًا مُتَمَثِّلًا بِإِنْسَانٍ، ذَكَرُوا أَنَّ اسْمه صَخْر. وَقِيلَ: إِنَّ اسْمه آصِف. وَقِيلَ: إِنَّ اسْمه آصِر. وَقِيلَ: إنَّ اسْمه حبقيق. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا في ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل". [تفسير الطبري].

وللمفسّر الشّعراوي توجيه للآية بقوله: "وقد فتن الله سليمان كما فتن من قَبْل أباه داود - عليهما السّلام - في مسألة المحراب.

ومعنى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً}[ص: 34]. الكرسيّ هو العرش الذي يجلس عليه الملك، والجسد هو قالب الكائن الحيّ. ويقال لهذا القالب (جسد) إذا كان خالياً من الرّوح. وللمفسّرين في هذه الآية عدّة أقوال:

قالوا: إنّ سيّدنا سليمان كان لديه جَوَارٍ كثيرات. فقال: سأطوف اللّيلة على سبعين جارية، وآتي من كلّ واحدة بولد فارس يركب فرسه في سبيل الله. يعني: المسألة كلّها كانت في الخير وفي الله، إلا أنّه لم يقدّم المشيئة ولم يقُلْ: إنْ شاء الله، فلم تَلِدْ منهن إلا جارية واحدة، ولدتْ له جسداً لا حركةَ فيه ولا تصرُّفَ؛ لأنَّ المؤمن مُطالب بأنْ يقدّم مشيئة الله إذا عزم على شيء في المستقبل، كما قال سبحانه: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً* إِلَّا أَن يَشَآءَ ٱللهُ}[الكهف: 23-24].

لأنّك حين تقول: سأفعل غداً كذا وكذا، فقد حكمتَ على فعل لا تملك عنصراً واحداً من عناصره، فأنت لا تضمن بقاء نفسك إلى أنْ تفعل، ولا تضمن تغيُّر الأحوال وتغيُّر الأسباب، فحين تعلِّق فعلَك على مشيئة الله، إنما تحفظ كرامتك وتبرّئ نفسك من الكذب، فقد شئتَ ولكنَّ الله لم يَشَأْ.

ويبدو أنَّ المُلْكَ أغرى سليمان، فداخله شيء من الزَّهْو؛ لأنه متحكّم في عوالم الإنس والجنّ والطير والحيوان، ومُطَاع من الكون كلّه من حوله. لذلك، لم يقُلْ إنْ شاء الله، فجازاه الله بذلك.

وقال آخرون: إنّ سليمان - عليه السلام - أنجب ولداً، وإنّ الجنّ أرادتْ به سوءاً؛ لأنها خافت أنْ يفعل بها كما يفعل سليمان، فأرادوا قتله، فما كان من سليمان إلا أنْ رفعه فوق السحاب يرضع من المزْن، فكأنه - عليه السلام - أراد أنْ يفرّ من قدر الله. وقالوا: إنّ الجسد هو سليمان نفسه؛ لأن الإنسان العادي، جعله الله يتحكَّم في جوارح نفسه حين يريد اللهُ ذلك، فيقوم بمجرّد أنْ يريد القيام، ويتحرّك بمجرّد أنْ يريدَ الحركةَ، دون أنْ يعرفَ هو نفسه ماذا يجري في أعضائه ومفاصله، فكأنَّ الله تعالى يعطي الإنسان مثلاً في نفسه؛ ليقرّب له المسائل المتعلّقة بالحقّ في إطار {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11].

فإذا كنتَ أنّت، أيها المخلوق، تفعل ما تشاء، وتنفعل لك جوارحك وتطاوعك بمجرّد الإرادة، ودون أنْ تأمرها بشيء، فهل تستبعد هذا في حقِّ الخالق سبحانه، حين يقول: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون}[يس: 82].

إنّ الحقّ سبحانه يقول للشيء: كُنْ. أما أنت، فلا تقول: كُنْ، وقد أراحك الله منها، وجعل الأعضاء تطاوعك دون أمر منك، لأنّك لو أمرتَها ما استجابتْ لك، هي تستجيب للخالق سبحانه، فإذا أراد الخالق سبحانه سَلبك هذه القدرة، فتريد أنْ تحرك يدك فلا تستطيع؛ لينبّهك إلى أنها موهوبة لك، ليستْ ذاتية فيك.

الحقّ سبحانه وهب سيدنا سليمان القدرةَ على السيطرة على جوارح ذاته، ثم عَدَّى هذه القدرة إلى السيطرة على الآخرين من جنسه ومن غير جنسه، وجعل له سيطرةً على الكون كلّه، ينفعل له ويجاوبه. يعني: المسألةُ كانت استعلاءً في التسلُّط على جنود الله.

ويبدو أنّ سليمان - عليه السلام - داخله شيء في نفسه، فأراد الحقّ سبحانه أنْ يلفته إلى أنّ هذه القدرة ليستْ ذاتية فيك، إنما هي موهوبة لك، أسلبها حين أشاء، فلا تستطيع السيطرة على جوارحك، ولا السيطرة على الآخرين، وألقاه الله فترة جسداً على كرسيّه لا يقدر على شيء، ولا يأمر بشيء.

فمادامتْ هذه النعمة موهوبةً من الله الذي أعطاك مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدك، فلا بُدَّ أنْ تظل مُتمسِّكاً بحبله، لاجئاً دائماً إلى مَنْ ملَّككَ هذا الملْكَ.

لذلك، يُرْوَى أنّه - عليه السلام - ركب مرّة البساط، وسارتْ به الريح كما يشاء، وفجأة مال به البساط، وكاد أنْ يُوقعه، فأمره أنْ يستوي به. فقال له البساط: أُمِرْنَا أنْ نطيعك ما أطعتَ الله.

إذاً: فتنّاه، لأننا مَلَّكناه مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، لكن لا نريد له أنْ يطغى أو يتعالى، والحقّ سبحانه لا يكذب كلامه، وقد قال سبحانه: {كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ* أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَى}.

وسليمان - عليه السلام - إنسان، فأراد الحقّ سبحانه أنْ يُثبت لنا أن الإنسان تملَّك في جوارحه، وتملَّك فيمن حوله، وتملَّك في جنس آخر غير جنسه، لكن هذا كلّه ليس ذاتياً فيه، بل هو موهوب له؛ بدليل أنّ الله سلبه هذا المُلْك في لحظة ما، وألقاه على كُرسيّه جسداً لا أمرَ له ولا نهيَ ولا سلطانَ على شيء. فلمّا فهم سليمان المسألة، آبَ ورجع {ثُمَّ أَنَابَ}[ص: 24] يعني: رجع إلى ما كان عليه قبل التجربة التي مَرَّ بها.

يعني: رجع وعاد إلى الجسد الذي فيه روح، أو أناب ورجع إلى الله وعرف السبب. فالمعنى يحتمل المعنيين: أناب في السبب، أو أناب في المسبِّب. والجسد هو الجِرْم والهيكل الظاهري الذي لا روحَ فيه، والذي قال الله عنه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ}[الحجر: 29]، أي: الجسد، ومنه قوله تعالى في قصّة السامري: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ...}[طه: 88] يعني: هيكل العجل وصورته الظاهريّة، لكن بدون روح..."[تفسير الشعراوي].

من خلال هذه القصة، نتعلّم أنّ البشر يُختبرون من قبل الله تعالى من خلال بعض الأحداث والظروف، حتى يعودوا إليه أكثر وعياً وإيماناً وارتباطاً بطاعته، وأكثر تحقّقاً من طبيعة علاقتهم به جرّاء ما يمكن لهم استفادته من تجاربهم التي يمرّون بها، وحتى لا يبقوا في دائرة ابتعادهم عن الله، بلا تحسّس لواجباتهم ودورهم.

إنّ قصص الأنبياء هي تحفيز لفكرنا ووعينا حتى نصحّح سلوكيّاتنا، ونتقرّب أكثر إلى الله تعالى، عبر التخلّي عن استغراقنا في حسابات الدّنيا، ومراجعة أعمالنا، والقيام يمسؤوليّاتنا، بما يصحّح حساباتنا مع الآخرة.

محمد فضل الله

إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية