آيات شريفة كثيرة وردت في سور متعددة في القرآن الكريم؛ من الأعراف إلى القصص
إلى النمل والنساء، لفتت إلى كلام الله تعالى مع نبيّه موسى(ع)، وأوقعت علماء
التفسير والكلام في تأويلات وتحليلات كثيرة حول طبيعة هذا التكليم، وبأيّة وسيلة
وكيفية، وهل سماع موسى للكلام يستلزم رؤية موسى لربّه؟!
فإذا كان من الممكن سماعُ كلام الله بطريقٍ غيرِ مباشر، كما حدث لموسى(ع)، فلماذا
لم يكن من الممكن رؤية الله؟
جاء في قوله تعالى في سورة النساء: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن
قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ
تَكْلِيمً}[النساء: 164].
وقد وجّه العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) هذه المسألة العقيدية
والكلامية التي أثارتها الآية الكريمة في عدّة مواضع، بقوله:
"نعتقد أن كلام الله سبحانه ليس ككلام البشر، أي ينطلق من جارحة، وإنما المراد أن
الخطاب كان موجّهاً إلى موسى(ع) بشكل مباشر من الله من دون واسطة من ملك أو وحي،
وذلك كله خاضع لقدرة الله سبحانه الّذي يخلق الصوت كما يخلق سائر
الأشياء".(استفتاءات).
وحول الملازمة بين سماع كلام الله ورؤيته، يوضح سماحته في موضع آخر:
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي
أَنظُرْ إِلَيْكَ}. ووصل موسى إلى الموعد الذي قطعه له ربّه، وكلّمه الله في ما
يريد أن يوحي به إليه، واندمج موسى في الجوّ الإلهي، فطلب من ربّه أن ينظر إليه،
فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}، فقد خيّل إليه أن من يسمع كلام الله
يستطيع أن يراه، أو يمكن له أن يطلب رؤيته.
وهنا يقف المفسّرون وقفة حيرةٍ فلسفيةٍ كلاميّةٍ، فكيف يمكن لهذا النبيّ العظيم أن
يطلب مثل هذا الطلب المستحيل من ربّه؟ وهو يعرف من خلال سموّ درجته، ورفعة منزلته
في عالم المعرفة بالله، أنَّ الله ليس جسداً مادياً محسوساً حتى تمكن رؤيته، فهو
ليس كمثله شيء؟! وأجاب بعضهم بأنَّ المراد بالنظر الرؤية القلبية، وهي كناية عن
العلم الواسع بالحقيقة الإلهيّة. وأجاب آخرون بأنّه لم يسأل ربّه انطلاقاً من قناعةٍ
بالسؤال أو من انسجام معه، بل كان سؤاله استجابةً لسؤال قومه الذين رافقوه إلى
الموعد الإلهيّ؛ فأراد أن يجعلهم وجهاً لوجه أمام الجواب الصاعق على هذا السؤال.
ولكنّنا لا نستبعد أن يسأل موسى هذا السؤال، فقد لا نستبعد من ناحية التصور
والاحتمال، أن لا يكون قد مرّ في خاطر موسى مثل هذا التصوّر التفصيلي للذات الإلهية...
ونحن نعرف تماماً معنى التكامل التدريجيّ للتصوّر الإيمانيّ في شخصية الرسول
الفكرية .
ولهذا، فإننا نحاول ـ هنا ـ أن نسجّل تحفظنا عن الكثير من الأحكام المسبقة التي
تحاول تطويق النص القرآني ببعض الاستبعادات الذاتية ـ كما في مثل هذه الآية ـ فإننا
نلاحظ أن تصوّرنا لشخصية الأنبياء يبدأ من القرآن، في ما يحدثنا عنهم من أحاديث،
ويسبغه عليهم من صفات، فهو المصدر الأساس الأمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه.
ونحن نرى أنّ الحديث القرآني يركّز في بعض آياته على نقاط الضّعف لدى الأنبياء، كما
يركّز على نقاط القوّة عندهم، من موقع بشريتهم التي يريد أن يركّزها في التصوّر
القرآني في أكثر من اتجاه. فهل نريد أن ندخل في مزايدةٍ كلاميَّة على القرآن في ما
يتعلق بمثل هذه الأمور، فنفرض لأنفسنا تصوّرات معيّنة للأنبياء، ثم نحاول تأويل
كلام الله بطريقةٍ لا يتقبلها النص في بعض الأحيان؟!... فليس هناك مانعٌ من إرادة
النظر بالمعنى الحسّي في ما طلبه موسى، بل هو الظاهر الواضح جداً في أجواء الآية،
من خلال التجربة التي قدّمها الله أمامه، في ما تعطيه كلمة التجلّي من أجواء
استحالة الرؤية البصرية في ما وجّهه الله للجبل من نوره الذي لا يستطيع الجبل أن
يتماسك معه، فكيف لو كان التجلّي له(ع) ؟ ثم لو كان المراد الرؤية القلبية، لما كان
هناك وجهٌ قريب لهذه التجربة في انهيار الجبل، في ما تعطيه من معنى ماديٍّ للمسألة،
لأنّ الجبل لا يحمل أيّة إشارة للجانب القلبي في الموضوع في تأثّره بنور الله. (تفسير
من وحي القرآن ج 10، ص 237).
إنّ الكلام الصادر عنه تعالى لنبيِّه موسى(ع)، كان إحداثاً وإيجاداً للكلام ابتداءً،
كما هو الشأن في إيجاده لسائر مخلوقاته، وهذا هو معنى ما أفاده الإمامُ الرضا(ع)،
كما جاء في بحار الأنوار : "ومعاذ الله أن يُشبه خلقَه أو يتكلَّم بمثل ما
يتكلَّمون، ولكنَّه تبارك وتعالى، ليس كمثلِه شيء، ولا كمثلِه قائل فاعل، قال
السائل: وكيف ذلك؟ قال: كلام الخالق للمخلوق ليس ككلام المخلوق للمخلوق، ولا يُلفظ
بشقِّ فمٍ ولسان، ولكن يقولُ له ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾، فكان بمشيئته ما خاطبَ به موسى
من الأمر والنهي عن غير تردُّدٍ في نفس". (بحار الأنوار ، ج 4، ص 152).
البعض رأى أنّ القرآن لم يأت فيه إشارة إلى كيفيّة الحوار بين الله تعالى ونبيّه
موسى، هل كان بالصّوت أم بالمعنى؟ وأنّه طالما لم يذكره الله تعالى، فيجب علينا
التوقّف عمّا توقّف عنه علّام الغيوب. فما سكت عنه يجب أن نتوقّف عنه، وفى كلّ
الأحوال، فلا بدّ من الإيمان بالغيب الموجود في القرآن فقط، وعدم التأويل العقيم في
طبيعة التكليم وما يستتبعه.
مسائل وقضايا عقيدية وفكرية وكلامية متشعّبة حملها النص القرآني، وترك لأهل العلم
والتفسير من الثقاة فهمها وإيضاحها كما هي، وحفظ معانيها من التحريف الذي يوقع
بمشاكل وتعقيدات على مستوى التصور والفهم، وخصوصاً بما يتعلّق بالذات الإلهيّة التي
هي فوق مدارك البشر في كلّ صفاتها وأحوالها.