جاء في قوله تعالى في سورة البقرة المباركة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ
لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ
فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَالله عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ... وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن
يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا
تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ
لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[البقرة: الآيتان: 246 و 248].
هناك من يسأل عن اسم النبيّ الذي طولب من بني إسرائيل أن يبعث لهم ملكاً يعيد إحياء
قوّتهم، ويسيرون خلفه،وعن معنى السكينة في التابوت الّذي كان آيةً للملك المرسَل.
وقد ورد كثير من الكلام في الروايات حول ذلك. أمّا العلّامة المرجع السيد محمد حسين
فضل الله(رض)، فيشير إلى عدم الفائدة العمليّة من الغوص في عالم التسميات، بعيداً
من التركيز على الفكرة القرآنية الأساسيّة.
يقول المرجع فضل الله(رض): "إنها قصة نبيّ من أنبياء بني إسرائيل مع قومه، ولا
يهمنا معرفة اسمه، لأنَّ ذلك لا قيمة له في ما نحن بصدده من الانفتاح على الفكرة
التي نريد أن نخرج بها من الحوار القصصي في هذه القصة القرآنيّة.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأ مِن بَنِي إِسْرائيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} الذين كانوا
يشعرون بالفراغ في جانب الواقع الاجتماعي من حولهم.. {إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ
لَّهُمُ } اختلف المفسّرون في اسمه، فقال بعضهم: إنّه صموئيل، وهو بالعربية إسماعيل،
وقيل شمعون، وقيل يوشع، وغير ذلك مما لا جدوى من الحديث فيه. {ابْعَثْ لَنَا
مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} . وقد جاء عن الإمام الصادق(ع) ـ كما في مجمع
البيان للطبرسي ـ كان الملك في ذلك الزّمان هو الذي يسير بالجنود، والنبيّ يقيم له
أمره، ويثبّته بالخير من عند ربّه. ولعلّ هذا ما دعاهم إلى طلب تعيين الملك، لأنَّ
النبيّ لم يكن في هذا الموقع من الناحية الفعلية.
وقد أعطوا حركتهم المبتغاة عنوان القتال في سبيل الله، لأنَّ هذا العنوان هو الذي
يمنح الصراع قدسيته، ويخرجه من ماديته إلى عنوان الروح، وهو الذي يستثير النفوس
ويحوّلها إلى طاقة عظيمة منفتحة على الإيمان بالله ومنطلقة في سبيله، فكأنها تؤدي
واجباً دينياً في الحرب الدفاعية، لا حاجة ذاتية في الواقع.
إنَّ الظاهر ـ في هذه المرحلة، أو في ما قبلها من مراحل النبوّة في بني إسرائيل ـ
هو توزيع الأدوار بين النبوّة والملك، فللنبيّ دور التوجيه والتربية والدّعوة إلى
الله، والإشراف على تعيين المراكز القيادية، وللملك دور الحرب والقتال والممارسة
العمليّة للقيادة. ولهذا، لم يطلب هؤلاء القوم من نبيّهم أن يقودهم للقتال، كما هو
الحال في الإسلام عندما كان النبيّ(ص) أو الإمام هو الذي يقود الجيوش في المعارك
الكبيرة، بل طلبوا منه أن يعيّن لهم ملكاً، يشعر الجميع بأنَّ له حقّ الأمر، ليكون
عليهم حقّ الطاعة.
ثُمَّ شرح لهم علامة ملكه: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن
يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}، وهي أن يأتي حاملاً
الصندوق الذي فيه السكينة، وهي الإيمان في ما روي عن الإمام محمَّد الباقر(ع)،
وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى من مواريث العلم والحكمة.
إيحاءات القصّة ودروسه
هذا درس للعاملين في سبيل الله، أن يقفوا موقف الحذر من كثير من المتحمّسين
والمندفعين الذين يطرحون الشعارات الحادّة، ويعلنون ـ في حماسٍ زائد ـ استعدادهم
للجهاد والقتال، في ما إذا حصلت لهم القيادة الحكيمة الصالحة، وهم يظنّون أو يأملون
في أنفسهم أن لا تحصل.
إنَّ علينا أن نستفيد من هذه القصّة، بالطريقة التي يمكننا ـ فيها ـ التفاهم معهم،
من أجل اكتشاف ما هم عليه من جدّية وتصميم، لتتميّز العناصر المخلصة من العناصر
المزيَّفة، سواء في وضعهم أمام التجربة العملية في ما يريدون، أو في إدارة الحوار
معهم في بعض القضايا التي توضح لنا الفرق بين الجوانب المرتبطة بالذّات وبين
الجوانب المرتبطة بالعقيدة.
إنَّ قضية النصر والهزيمة ليست بالقلة والكثرة، بل هي بالإيمان والتخطيط والتنظيم،
والأخذ بأسباب القوّة...
أن يبقى المؤمن المجاهد في موقف الاستعانة بالله، والشعور بالحاجة إليه في ما يحصل
عليه من قوّة، وما يحتاج إليه من مواقف الصبر والصمود والثبات، وما يتطلّع إليه من
نصر لاعتقاده بأنَّ النصر من عند الله أولاً وأخيراً، فلا يدفعه الشعور بالقوّة إلى
الغرور والتعالي ونسيان الله، ولا يمنعه الشعور بالضعف من التماسك إزاء قوّة الله،
كما يحصل لكثيرين من الذين ينسون الله في مواقف الحرب والسِّلم، فينسيهم أنفسهم،
فيخيّل إليهم أنهم على شيء، وليسوا بشيء". [تفسير من وحي القرآن، ج4].
في المرويّ عن أبي جعفر(ع)، أنَّ النبي المعني في الآية المباركة هو "أشمويل"، وهو
بالعربية إسماعيل. وأفاد الطبرسي أنَّ أكثر المفسِّرين ذهبوا إلى ذلك، والظاهر انَّ
"أشمويل" هذا ليس هو إسماعيل الذّبيح نجل النبيّ إبراهيم(ع). [مجمع البيان للطبرسي].
وقد يكون النبيّ المعنيّ في الآية هو شمعون بن صفية من ولد لاوي بن يعقوب، وقد يكون
يوشع بن نون بن أخراشيم بن يوسف بن يعقوب.
وورد أنّ المراد بالتّابوت، الصندوق الذي وضعت فيه أمّ موسى وليدها موسى وألقته في
اليم، فقد ورد ذلك عن أبي جعفر(ع)، قال: "انَّ التابوت كان الذي أنزله الله على أمّ
موسى، فوضعت فيه ابنها وألقته في البحر، وكان في بني إسرائيل معظَّماً يتبرّكون به،
فلما حضر موسى الوفاة، وضع فيه الألواح - التوراة- ودرعه، وما كان عنده من آثار
النبوّة، وأودعه وصيَّه يُوشع بن نون، فلم يزل التابوت بينهم، وبنو إسرائيل في عزٍّ
وشرف مادام فيهم، حتى استخفّوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلمّا عملوا
المعاصي واستخفُّوا به، رفعه الله عنهم، فلمّا سألوا نبيَّهم أن يبعث إليهم ملكاً،
بعث الله لهم طالوت، وردَّ عليهم التابوت"، كما ورد في تفسير القمّي.
والمراد من السكينة، الطمأنينة والسكون الذي ينتاب بني إسرائيل ببركة وجود التابوت
بينهم. سئل الكاظم(ع): ما كان تابوت موسى؟ وكم كانت سعته؟ قال(ع): "ثلاثة أذرع في
ذراعين". قيل: وما كان فيه، قال(ع): "فيه عصا موسى والسكينة". قيل: وما السكينة؟
قال(ع): "روح الله يتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شيء، كلَّمهم وأخبرهم ببيان ما
يريدون". [معاني الأخبار للصّدوق].
قال العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية(رض): {وقال لهم نبيّهم} يوشع أو شموئيل، بعد أن
طلبوا معجزة تدلّ على مكانة طالوت {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ} صندوق {فِيهِ سَكِينَةٌ} التوراة {مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ
مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ}. قيل: المراد بالبقيّة عصا موسى وفتات
الألواح...[التفسير المبين].