أدعو إلى ثورة فكرية - سياسية - إسلامية شاملة لوأد الفتنة السنية – الشيعية
كلما تقدم المرجع الشيعي اللبناني العلامة، السيد محمد حسين فضل الله، في العمر، ازداد عقله اتّساعاً، وفكره تألّقاً في السياسة والفقه وبقية المجالات.
فهو متابعٌ نهمٌ لمجمل الأحداث والتطورات على الساحات اللبنانية والإقليمية والدولية، وهمه الدائم هو الوحدة الإسلامية التي يقول إنّه «يتبناها» منذ الخمسينات من القرن الماضي، وهي حديثه الدائم مع كل زوَّاره اليوميّين من لبنانيين وعرب وأجانب، إلى جانب اهتمامه بالوحدة الوطنية اللبنانية، وبملاحقة الشؤون اليومية للناس.
في هذا الحوار مع «الوسط»، يُلقي المرجع السيد فضل الله مزيداً من الضوء على القضايا المطروحة لبنانياً وإقليمياً ودولياً.
وهذا نصُّ الحوار:
ضياع الهوية:
* في ظلِّ هذا الواقع العربي والإسلامي المرير، السؤال البديهي المطروح على لسان كل مسلم وعربي، هو هذه الأمة إلى أين؟ إلى أين تتجه الأمّة في رأيكم؟
ـ لعلَّ مشكلة الأمّة العربية والإسلامية كظاهرة ـ بقطع النظر عن بعض الاستثناءات، إذا أراد الإنسان أن يقدم بعض الاستثناءات ـ أنها سقطت تحت تأثير فقدان الهوية. فعندما ننظر إلى الواقع العربي، نجد أن مسألة العروبة أصبحت من التاريخ في ذهنية أكثر القادة العرب، لأنّ الإقليمية بمعناها الضيِّق لا بمعناها الوطني، أصبحت تمثّل العمق الذي يتحرّك به المسؤولون في العالم العربي. وقد لاحظنا ذلك في مؤتمر مدريد، عندما رفضت إسرائيل ومعها أميركا أن يتقدم العرب بوفد عربي ليفاوض إسرائيل، بل حتى إنها رفضت أن تكون الجامعة العربية مراقباً، واعتبرت أن مجلس التعاون والاتحاد المغاربي هما العنصران العربيان المراقبان، في الوقت الذي نعرف أنهما لم يكن لهما، على الأقل في تلك المرحلة، أيّ دور في القضية الفلسطينية. وهكذا عندما نقترب أكثر من الواقع، نجد أن مجمل المسؤولين في العالم العربي يتحركون في خطِّ السياسة الأميركية، وخصوصاً أن وزيرة الخارجية الأميركية (كوندوليزا رايس) دخلت على الواقع العربي لتقسِّمه بين دول معتدلة ودول متطرفة، وتقصد بالدول المعتدلة الدول المنفتحة على إسرائيل، والتي قال أحد وزراء خارجيتها، حسب مصدر موثوق، «إنّ إسرائيل هي حليفتنا، وإن السلاح النووي الإسرائيلي هو الذي يحمينا من السلاح النووي الإيراني» وما إلى ذلك.
أمّا العالم الإسلامي، فإنَّه هويته الإسلامية، ولم يعد لمنظمة المؤتمر الإسلامي أيّ دور فاعل، ولا يبعد أنّ أغلبية الدول الإسلامية، ما عدا إيران، تخضع للسياسة الأميركية في كلِّ خطوطها ومعطياتها، وهذا هو الذي يفسِّر الموقف العربي والإسلامي مما يحدث في العراق. فنحن لا نجد أنّ هناك موقفاً فاعلاً قوياً يحاول الوقوف مع الشَّعب العراقي في مواجهة الاحتلال أو في مواجهة الفتنة التي يغطّيها الاحتلال. وهكذا نجد أنَّ العالم الإسلامي لم يقف الوقفة القوية الفاعلة بالنسبة إلى أفغانستان والسودان والصومال وما إلى ذلك. ولهذا فإنَّنا نعتقدُ أنَّ العالمين العربي والإسلامي يواجهان حالة السقوط السياسي والابتعاد عن الهوية العربية والإسلامية، بحيث لم تعد العروبة والإسلام سوى لافتة توضع للتغطية على كل هذه التعقيدات التي تصيب هذين العالمين.
العالمين العربي والإسلامي يواجهان حالة السقوط السياسي والابتعاد عن الهوية العربية والإسلامية تحت شعار العروبة والإسلام
تحريم سبّ الصحابة:
* كان لكم فتاوى ودعوات مستمرة لمنع الفتنة، إلى أيّ مدى شعرت بأنّه تمَّ الاستجابة لذلك؟
ـ كنت منذ بداية الخمسينات أتبنى مسألة الوحدة الإسلامية، وهذا ما عبَّرت عنه عام 1952 في قصيدة في رثاء السيد محسن الأمين ألقيتها في بيروت، لأنّي رأيت أن قدر المسلمين في العالم ليحققوا دورهم الكبير على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي، هو الوحدة الإسلامية، ذلك لأنّ ما يختلف فيه المسلمون مما حدث بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قضية الخلافة، لم يصل إلى نتيجة حاسمة. ولكن المشكلة التي واجهت العالم الإسلامي في قضية الخلاف المذهبي، هي أن التّراكمات التاريخية تحوّلت إلى نوعٍ من حالات الحقد الدفين الذي يحمله أهل المذاهب بعضهم على بعض، وقد انعكست هذه الحالة السلبية على طريقة ممارسة المسلمين بعضهم تجاه بعض، في تكفير بعض المذاهب الأخرى من جهة، ومن جهة أخرى الإساءة إلى الصحابة بطريقة السب واللعن، مما لا يجوز شرعاً، ومما يرفضه الكِتاب والسُنَّة، وحتى إنّ عليّاً بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هو عنوان الخلاف في هذه المسألة، كان يرفض الإساءة إلى هؤلاء الصحابة، وحتى إلى الذين أبعدوه عن الخلافة، وأكثر من ذلك، فقد عاونهم وساعدهم وشاورهم وحفظ حياتهم وتحدّث عن بعضهم بشكل إيجابي، حفاظاً على وحدة المسلمين، وكانت كلمته الرائدة: لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليَّ خاصة». وقد قال لأصحابه أثناء سفره إلى الشام، عندما سمعهم يسبّون أهل الشام: «إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكنّكم لو ذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم، ربَّنا احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيِّ والعدوان من لَهِجَ به».
وإنّي أرى، أنّ الله سبحانه وتعالى قد رسم لنا في القرآن خطين لمعالجة مسألة الاختلاف؛ الخطّ الأول: {
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}(آل عمران/103)، والخط الثاني: {
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}(النساء/59). أي الارتكاز إلى قاعدة الحوار حول كل ما يختلف فيه المسلمون. ونحن نعتقد أنَّ الطريقة الموضوعية في الحوار التي عبّر عنها القرآن الكريم، هي الوقوف عند مواقع اللّقاء، والحوار بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالّتي هي أحسن في الاختلاف حتى مع أهل الكتاب، لأنه هو السبيل الأنجح لإيجاد حالة عقلانية مسؤولة منفتحة على القضايا بطريقة علمية بعيداً عن طريقة التراشق بالاتهامات، أو تكفير بعض المسلمين لبعض المسلمين الآخرين، مما انطلقت به بعض المذاهب المتطرّفة التي تحاول أن تكفّر فريقاً إسلامياً نتيجة شبهة هنا أو مشكلة هناك.
إنني أعتقد أن العالم الإسلامي يواجه التحدي الكبير، وهذه الإثارات هي من قبيل الفتنة التي يُراد إثارتها في العالم الإسلامي لإشغاله عن قضاياه الحيوية المصيرية من قبل الاستكبار العالمي، وفي مقدمه أميركا.
وإنني أتأسف كثيراً عندما أرى أنَّ المنظمات الإسلامية، سواء في اتحاد علماء الإسلام، أو غيره من المنظمات أو مجمعات التقريب وما أشبه ذلك، لم تستطع أن تقوم بأي دور فاعل في تقريب وجهات النظر بين المسلمين، وفي الوقوف موقفاً حاسماً ضد كل الوسائل السلبية التي يتحرّك بها فريق مسلم ضد فريق مسلم آخر، سواء أساليب الإساءة إلى مقدّسات بعض المسلمين، كأساليب اللعن والسب للصحابة، أو أساليب التكفير لبعض المسلمين.
لا بدّ من ثورة فكرية ثقافية روحية سياسية تمنع الفتنة التي يراد إثارتها في العالم الإسلامي
أعتقد أنّه لا بدّ من ثورة إسلامية فكرية ثقافية روحية سياسية تحاول أن تجمد وتمنع كل هذا الواقع، لأنّ العالم الإسلامي يمكن له أن يقف ليأخذ دوره الكبير بحسب حجمه العددي والاقتصادي والسياسي، الذي يمكّنه من القيام بدور قيادي في العالم، إلى جانب الأدوار القيادية الأخرى، ولكن الاستكبار العالمي وفي مقدمه أميركا، عمل بكل ما لديه من جُهد من خلال مخابراته المتحالفة مع «الموساد»، على تمزيق هذا العالم الإسلامي وإشغاله بقضاياه الضيّقة الخاصة، بحيث أصبحت كلُّ دولة تفكر في دوائرها الخاصة بعيداً عن الدول الأُخرى. وهذا ما نلاحظه في القضية الفلسطينية، إذ أصبح كثير من العرب يعيشون التحالف مع إسرائيل ضد فريق فلسطيني لمصلحة فريق آخر، وضد فريق عربي وفريق إسلامي لمصلحة الاستكبار.
وهكذا عندما ندرس التصريحات الصادرة عن كثير من المسؤولين العرب، نجد أنهم يتحدثون عن الصداقة مع إسرائيل ضد إيران، أو الصداقة مع إسرائيل ضد «حماس» وضد «حزب الله» أو ضد الفئات التي تحمل أسلوب الممانعة.
إنني أدعو العالم الإسلامي إلى أن يستيقظ من جديد ليصنع الحضارة التي تملكها العناصر الثقافية الإسلامية، والتي استطاعت أن تصنع الحضارة في بداية التاريخ الإسلامي، حتى قال نهرو في كتابه «لمحات في تاريخ العالم»، إن الحضارة الإسلامية هي أم الحضارات الحديثة، لأنّها هي التي أعطت الغرب اعتبار التجربة وسيلة من وسائل المعرفة في إدارة شؤون العلم وما إلى ذلك.
لذلك، نحن ندعو كل علماء المسلمين إلى أن يقوموا بحركة فاعلة، لا حركة تقليدية تنطلق من خلال فتاوى هنا وتصريحات هناك، أو من خلال السقوط تحت تأثير الحكّام الذين يدفعون لهم رواتبهم أو يسيطرون عليهم. إن المستقبل الذي يواجهنا هو مستقبل من أشدِّ المراحل خطورةً على العالم الإسلامي، ومن ضمنه العالم العربي.
بين ثقافة الهزيمة وثقافة الممانعة:
* إلى أيّ مدى تعتقد أن النـزاع القائم بين ثقافة الهزيمة وثقافة الممانعة والمقاومة أثرَّ في هذا الوضع؟ وهل هو المسؤول عن هذا الانقسام في العالم الإسلامي؟
ـ من الطبيعي جداً أنّ العالم الإسلامي كفَّ عن أن يصنع دوره، وأن يصنع القوة لقضاياه الحيوية والمصيرية. لذلك عندما ندرس الآن خريطة العالم، نجد أن المنطقة التي يتقاتل فيها الناس هي المنطقة الإسلامية، فنحن نرى أن هناك قتالاً بين المسلمين بإشراف المستكبرين في أفغانستان وباكستان والسودان وفلسطين والصومال وفي أكثر من بلد، وفي العراق الذي يمثّل المأساة ويمثل الكيان الجريح. كما نلاحظ أنّ هناك قتالاً وحرباً سياسية تتحرّك كما هي الحال في لبنان وفي أكثر من موقع من مواقع المسلمين.
لولا الانتفاضة في فلسطين والمقاومة في لبنان لبقيت إسرائيل في مفهوم العرب القوة التي لا تقهر
لذلك، نحن نعتقدُ أنَّ الصِّراع العربي ـ الإسرائيلي أريد له من خلال لعبة الأمم أن يجعل العرب في موقع الهزيمة، كما في هزيمة (عام 67)، وكما في الحروب التي انطلقت فيها إسرائيل لتجتاح المواقع الإسلامية، سواء في لبنان أو في مصر، حتى إنّ مصر عندما انتصرت في العبور (عبور قناة السويس)، تحركّت أميركا من خلال (هنري كيسنجر) لتحويل هذا النصر إلى هزيمة. حتّى أصبحت قضية الهزيمة قضية القدر الذي سلَّم كثيرون من العرب أنّه يمثل واقعنا وتاريخنا. ولولا أن هناك انتفاضة في فلسطين، ومقاومة في لبنان استطاعت أن تحقِّق بعض الانتصار، ولو بشكل جزئي، وتعيد للإنسان العربي والإنسان المسلم شيئاً من عنفوانه وانفتاحه على قضايا الانتصار على العدو وصنع المستقبل القوي والعزيز، لولا هذا لما بقيت لهذا العالم أي روحية للنّصر أو لإرادة النصر، لأنّ إسرائيل أصبحت، في نظر الكثيرين، تمثل القوة الكبرى التي تنطلق قوتها من القوة الأميركية التي تؤيد الأمن الإسرائيلي الاقتصادي والسياسي والعسكري بالمطلق، حتى أصبح بعض العرب يتحدّثون، أنّ العين لا ترتفع فوق الحاجب، أو أنّ العين لا تقاوم المخرز وما إلى ذلك.
لقد كنت أتابع المواقف الشعبية العربية الإسلامية عند انتصار المقاومة في لبنان على العدو، وكنت أجد فيها شيئاً من الأمل في المستقبل، عندما شعرت هذه الشعوب بأنّ المقاومة أعادت لها شيئاً من الكرامة والعزّة، وفتحت لها أبواب الحرية، وأنّ ذلك يمكن أن يتطوّر لتكون لدينا مقاومة من أجل الحرية على مستوى كل العالم العربي والعالم الإسلامي.
العرب و"الغضب الأميركي":
* لكن رغم كل الانتصارات التي حقَّقتها المقاومة والتفاعل الذي أحدثته في العالم العربي، نلاحظ أن الأنظمة لا تزال تنحو إلى الكلام عن تسوية ومبادرات. فكيف يمكن للواقع العربي أن يتغيّر مستفيداً من هذه المبادرات؟
ـ نحن نعتقد أنَّ الأنظمة العربية باتت تتحرك في الأفق الإسرائيلي، بحيث لم يعد هناك فارق بين أيِّ دولة عربية والدولة العبرية. حتى إنّ الدول العربية تحدثت في القمة الأخيرة (في الرياض) عن المبادرة العربية في قمة بيروت (عام 2002)، التي حاول العرب، من خلالها، أن يلهثوا وراء إسرائيل لتقبل مجرد قبول أن تفاوضهم، وهي المبادرة التي قال عنها شارون عندما انطلقت إنها لا تستحقّ ثمن الورق الذي كتبت عليه، وقالت عنها أميركا آنذاك إنها ليست للتنفيذ، ولكنها للتفاوض. وأنا أشعر بأنّ الواقع العربي أصبح يخطط لإسقاط المقاومة، وهذا ما نلاحظه في الموقف العربي الأميركي الأوروبي في مواجهة المقاومة في لبنان وفلسطين.
لذلك، أعتقد أن هناك نوعاً من السقوط العربي نتيجة الخوف من الغضب الأميركي. ونحن نلاحظ مثلاً أن وزيرة الخارجية الأميركية (كوندوليزا رايس) عندما جاءت إلى المنطقة، حاولت أن تجمع الدول العربية، على المستوى الأمني المخابراتي، وعلى المستوى السياسي، من أجل أن توظّفهم للتواصل والتعاون والتكامل مع إسرائيل لمواجهة القوى المقاومة، ومنها الانتفاضة في فلسطين، وقد رأينا في قمّة (شرم الشيخ) كيف انطلق العرب مع إسرائيل لتأييد الشرعية، ولكنّه تأييد يختزن في داخله التخطيط من أجل إسقاط حركة «حماس»، واتهامها بأنّها قامت بجرائم كبيرة وبانقلاب على الشرعية، من دون أن تحترم الجامعة العربية نفسها في إرسال وفد يدرس حقيقة ما حدث في غزة، لأنّ أميركا وإسرائيل ومعهما فريق السلطة (الفلسطينية)، رفضوا أن يأتي وفد عربي من أجل درس حقيقة ما حصل، وقد خضعت الجامعة العربية لهذا الأمر. ولم يأتِ أيُّ وفد عربي إلى فلسطين لدراسة الواقع الذي لا يزال يتهم «حماس» بالمجازر والانقلاب على الشرعية وما إلى ذلك.
إنّني أتصوَّر أنَّ العرب الذين يلهثون وراء التسوية مع إسرائيل، لن يحصلوا على التسوية، وإنّما سوف يحصلون، لو وافقت إسرائيل، على دولة تمثِّل مِزقاً متناثرة في فلسطين. ولهذا فإنّنا نلاحظ أن قمّة (شرم الشيخ) التي حضرها قائدان عربيان لدولتين عربيتين صالحتا إسرائيل، لم يستطيعا أن يحصلا من (إيهود أولمرت) على أيّ تنازل ولو من جهة إعادة مفاوضات الحلّ النهائي، وإنما قدم لفريق السلطة الفلسطينية بعض الأشياء، تماماً كما يُقدَّم إلى الطفل بعض الأشياء التي تلهيه وتُسكت بُكاءه.
العرب يلهثون وراء تسوية لا يحصلون من خلالها إلاّ على مزق متناثرة في فلسطين
لا غزة ثانية في لبنان:
* كيف قرأت الحدث الفلسطيني الأخير؟ وهل تخشى تكراره في لبنان؟
ـ إنّني أتصوّر أن هناك بعض الضوابط في لبنان من الناحية الأمنية، لأن الشعب اللبناني لم يصل إلى المستوى الذي يتحرّك فيه لقتال بعضه بعضاً، وهذا ما لاحظناه عندما حصلت بعض الأحداث الجزئية، عندما حدث الإضراب، أو عندما وقعت أحداث جامعة بيروت العربية (في محلة الطريق الجديدة) وما إلى ذلك. فنحن لاحظنا أن كل الوسط السياسي والشعبي اللبناني انطلق من أجل تطويق أي فتنة حاول البعض من السياسيين أن يُثيرها، خصوصاً بين السنّة والشيعة. لذلك نعتقد أنّه على الرغم من أن بعض الحساسيات والمخاوف في هذا الجانب المذهبي، والتي تحركت من خلال بعض الزعماء الذين أرادوا أن يؤكدوا زعامتهم على أساس العصبية المذهبية، قد بقيت، إلاّ أن التطوّرات الأخيرة التي حصلت في مخيم نهر البارد، وما حدث في طرابلس والبقاع الغربي، جعلت هذه الأوضاع تنمو باتّجاه الجمود، ولكن لا بدّ لنا من أن ندرس جيداً الخطة الأميركية في هذا المجال، وهل إنّ هناك مصلحة أميركية في اهتزاز الاستقرار اللبناني، أو في بقاء هذا الاستقرار للحفاظ على سياستها لإبقاء القوات الدولية (اليونيفيل)، وإبقاء إسرائيل في حالة من الأمن التي يراد لها أن تبقى طويلاً لتأمين استعداداتها المستقبلية؟ وهل إنّ هذه الفئات التي يُطلق عليها اسم الأصولية، والتي عبَّر بعض من قادتها بأنّ لبنان أصبح ساحة جهاد وليس ساحة نُصرة، تريد إثارة الأوضاع على الطريقة التي حصلت في نهر البارد أو التي يُخاف من أن تحصل في مخيم عين الحلوة أو ما حصل في مسألة القوّات الدولية (في الجنوب)؟ حتى الآن، لا أتصوّر أنّ هناك حرباً أهلية أو فتنة مذهبية إسلامية يحملها المستقبل، ولكن في السياسة وفي الأمن لا يمكن لك أن تتحدث عن نسبة مئة في المئة.
لا فتنة إسلامية أو مسيحية:
* هناك مخاوف في الوسط اللبناني حالياً من أن يكون لبنان مقبلاً على احتمالين: إما فتنة داخلية، أو عدوان إسرائيلي جديد في حال فشل المشروع الأميركي الهادف إلى القبض على السلطة من خلال انتخابات رئاسة الجمهورية؟
ـ لنتابع هذه المفردات واحدة واحدة. أما مسألة الفتنة، فقد يُتحدَّث عن فتنة سنية شيعية، وأعتقد أنّ الزمن تجاوزها، وأصبح الفريقان، ولا سيما المسلمون السُنة، يشعرون بأنّه ليس هناك أيّ مستقبل لأيّ حرب سنيّة شيعية، مع ملاحظة أن بعض الدول العربية التي تحتضن بعض المواقع السياسية في لبنان، لا تشجّع حدوث فتنة سنية شيعية.
أما الفتنة الإسلامية المسيحية، أو الفتنة المسيحية المسيحية، فإنّني لا أتصوّر أن هناك ظروفاً ملائمة لحدوثها، رغم الانقسام المسيحي بين فريق المعارضة وفريق الموالاة، لأنّ الوسط المسيحي، سواء من خلال المواقع الدينية أو المواقع السياسية، يجد أنّ أيّ فتنة مسيحية إسلامية جديدة، على غرار الفتنة التي انطلقت في الحرب الأهلية الكيسنجرية، سوف تُسقِط المسيحيين وتُخرجُهم من لبنان تماماً، وهذا ما لا يريده أيّ مسيحي وأيّ مسلم.
لا ظروف ملائمة لقيام حرب أهلية في لبنان أو لشن حرب صهيونية جديدة
أما مسألة الحرب الإسرائيلية، فإنني أعتقد أن إسرائيل ليست في موقع حرب جديدة، رغم أن وزير الدفاع الجديد رئيس حزب العمل (إيهود باراك) هو من الصقور الصهيونية، وقد مارس الحرب وعاشها في هذا المجال، وهو يدرك أسباب الفشل الإسرائيلي في عدوانه على لبنان، ويعرف أنّ المقاومة الإسلامية استعادت كلَّ قوَّتها، بل ربما أكثر من قوتها، بعد حرب تموز. لذا أعتقد أنّ إسرائيل ليست في وارد أن تخوض حرباً جديدة إلاّ بعد سنين. وأما بالنسبة إلى أميركا، فإنّني أعتقد أنها تكتفي بهذا الاهتزاز السياسي الذي يجعل فريقاً من اللبنانيين يقف معها في تحريك سياستها ضد المعارضة التي تعتبر بعضها مواقع إرهابية كحزب الله مثلاً، وهكذا بالنسبة إلى موقفها ضد سوريا وضد إيران. إنّني أعتقد أن أميركا تريد لبناناً مستقراً بالمعنى العسكري، وإنها تتحرك الآن من أجل أن تحاصر الفئات المتطرفة من «القاعدة» وحلفاء «القاعدة» والمنظمات الإرهابية، حسب تعبيرها، وهي تحاول أن تسخّر الحكومة اللبنانية باسم الحفاظ على الوطن، وباسم الحفاظ على التحرير والاستقلال، لمحاربة هذه الفئات بطريقة أو بأخرى، من أجل خلط أوراق لبنانية، وإحراج من يُراد إحراجه، وإخراج من يراد إخراجه. ولذلك أعتقد أنّ الحرب الأهلية ليست مصلحة أميركية، ولا مصلحة عربية، ولا تُمثِّل خياراً إسرائيلياً.
"مقام أبو لؤلؤة":
* كيف نظرتم إلى قرار مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي بإقفال مقام «أبو لؤلؤة»، قاتل الخليفة عمر بن الخطَّاب؟
ـ لقد كنت من أوائل الذين يتحدّثون بسلبية كبيرة جداً ضد وجود مقام لأبي لؤلؤة، لأنّه من الذي جاء به إلى إيران، ونحن نعرف أنّه قُتِلَ قصاصاً في هذا المجال؟ لذلك، فإنّني كنت أعتبر أنّ وجود مقام لهذا الرجل الذي قتل خليفة من خلفاء المسلمين، بقطع النظر عن الجدل الموجود بين المسلمين في قضية الخلافة، هو عمل عدواني يرى فيه المسلمون الآخرون موقفاً عدائياً.
وإنّنا نشكر القيادة الإسلامية في إيران على إغلاقها هذا الموقع ومنعها زيارة الناس له، ونرجو أن تستكمل خطتها بإزالته نهائياً.
علاقات دول الخليج بإيران:
* بعد انتصار الثورة في إيران وقيام الجمهورية الإسلامية فيها، بدأ يتراكم خوف عند دول الخليج منها، سواء من شعار «تصدير الثورة» أو ما تلاه من تعاظم الدور الإيراني الإقليمي... فمن هو
المسؤول عن هذا الموضوع؟ أليس هناك من سبيل لتبديد هذا الخوف الخليجي؟
ـ المسؤول هو أميركا، لأنَّ إيران، من خلال حركتها التاريخية في علاقتها مع دول الخليج لم تكن عدائية، بل إنها عقدت اتفاقاً أمنياً مع السعودية، وهي تقوم بزيارات متبادلة مع مسؤولين خليجيّين لتطمين الدول الخليجية إلى إنها لن تصنع السلاح النووي، وأن تسليحها ليس موجَّهاً نحوها، حتى إنّها طرحت على دول الخليج أن يكون هناك أمن خليجي تشارك فيه في مواجهة أيّ عدوان على الخليج في هذا المقام، لكن أميركا تريد أن تعبئ دول الخليج ضد إيران، كما عبأتهم ضدها في حرب صدام حسين في الحرب العراقية الإيرانية. إنّني أعتقد أن تعقيدات العلاقات الخليجية الإيرانية ليست بسبب خطورة إيران على دول الخليج، وقد صرّح بعض مسؤولي الخليج،: بأنّنا لا نخشى من إيران على أمننا، أمن هذه الدولة أو تلك. ولكن تبقى رايس، وتشيني، وبوش، يحاولون تعبئة هذه المنطقة في انتظار ما يمكن أن يُتخذ من قرار في الحرب على إيران، حتى ولو كان هذا القرار قراراً جنونياً.
لا تزال الإدارة الأمريكية تعبئ المنطقة العربية ضد إيران في انتظار قرار الحرب عليها
حربٌ نفسيَّة:
* هل تخشى من حصول مواجهةٍ أميركية إيرانية، أم ترى أنّ الأمور بين واشنطن وطهران آيلة إلى التسوية؟
ـ أنا لا أرى أنّ هناك مواجهة أميركية إيرانية، لأنّ ذلك سيؤثر بشكل سلبي وحاسم في الاقتصاد العالمي، وخصوصاً لجهة الارتفاع الجنوني لأسعار النفط في العالم. ولن يكون في مصلحة أميركا المثخنة بالجراح في العراق وأفغانستان أن تبحث عن جراح جديدة في سياستها، سواء على المستوى الخارجي أو في الداخل الأميركي. ولذلك نرى أن الحديث عن حرب أميركية إيرانية لا يتجاوز الحرب النفسية.
كتب: طارق ترشيشي ـ بيروت
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 20 جمادى الثاني 1428 هـ الموافق: 05/07/2007 م