الدُّعاء وبناء العلاقة مع اللّه
ربّما كانت الأجواء الّتي عاشت فيها الآيات المتقدِّمة، من تقوى الله الّتي ينطلق فيها الإنسان مع الصّوم، ومن شكر الله على ما أنعم به على الإنسان من نعمة الطّاعة والرِّعاية والتّيسير، تحمل الكثير من الإيحاءات الحميمة الّتي تفتح قلب الإنسان على الله، في محاولةٍ للتّقرُّب إليه، كوسيلةٍ من وسائل الحصول على لطفه ومحبّته ورضاه في كثيرٍ ممّا يهمُّ الإنسان من شؤون حياته، في تطلُّعاتها وأحلامها وآلامها. وهذا ما يجعل القضيّة تلحُّ على وجدان الإنسان، في سؤالٍ عميقٍ عن طبيعة العلاقة الّتي تشدُّ الخالق إلى مخلوقاته. فكانت هذه الآية تقريراً لروعة الألوهيّة الّتي انطلقت عظمتها وقوّتها في رحمتها للعباد، فهي قريبةٌ إلى كلِّ آمالهم وآلامهم ومطامحهم ونوازعهم في شتّى مجالات حياتهم، تستمع إليهم في دعواتهم، وتلبِّيهم في نداءاتهم، وتستجيب لهم في مناجاتهم، من دون وسيطٍ أو شفيعٍ، بل هي الكلمات الّتي تنطلق من القلب لترتفع إلى السّماء، حيث المحبّة والرّحمة والعفو والمغفرة.
إنّها دعوة الله إلى عبده أن يستجيب له فيدعوه؛ لأنّ في ذلك خلاصاً له من كلِّ سوءٍ أو شدّةٍ، وتحرُّراً عن كلِّ عبوديّةٍ لغير الله، عندما يشعر أنّ الله هو وليُّ حاجته، فمنه الفرج لكلِّ شدّةٍ، وبه الخلاص من كلِّ سوءٍ، وهو - لا غيره - مالك الدُّنيا والآخرة، ووليُّ الحياة والموت، وبيده مقاليد الأمور، وذلك هو سبيله الى الشُّعور بالأمن والطُّمأنينة والاستقرار، حين يشعر بأنّ حاجاته الصّعبة هي في دائرة رحمة القادر على قضائها والعالم بما يصلحه أو يفسده منها. وهي، في الوقت نفسه، دعوةٌ إلى الإيمان به؛ لأنّه الحقيقة الواضحة الّتي لا يحتاج الإنسان في وعيها، وفي الإيمان بها، إلى مزيدٍ من الفكر والتّأمُّل والمعاناة، بل يلتقي بها في كلِّ شيءٍ يعيش معه، وفي كلِّ ظاهرةٍ من ظواهر الوجود. وفي الحالين معاً، في الدُّعاء عندما ينطلق، وفي الإيمان عندما يتحرّك، الرُّشد كلُّ الرُّشد، في واقع الحياة وفي حركتها الصّاعدة أبداً إلى الله.
الدُّعاء عبادة
والدُّعاء - بعد ذلك كلِّه - عبادةٌ تهزُّ أعماق الإنسان بالشُّعور بوجود الله وحضوره في كلِّ ملتقًى للإنسان في ما يهمُّه من أمور الحياة، وفي ما يثيره من شؤون الآخرة. وهي عبادةٌ لا تُفرض عليه كلماتها وأجواؤها من خارج ذاته، من خلال تعليمات مفروضة، بل هي مشاعره وأفكاره وحاجاته وآلامه وآماله وكلماته المنطلقة من ذاته، في أسلوبٍ عفويٍّ محبّبٍ، في جوٍّ حميمٍ يفقد معه الشُّعور بالفواصل الّتي تفصله عن الله، بما تمثِّله علاقة العبد بالسّيِّد، أو علاقة المخلوق بخالقه؛ بل هو الجوُّ الّذي يحسُّ فيه بالانفتاح والامتداد في أجواء المطلق. وتلك هي السّعادة، كلُّ السّعادة، والرُّوحيّة الفيّاضة بالنُّور والعطر والحياة.
إنّها عبادة الإنسان الّتي تتحرّك معها حياته كلُّها بين يدي الله، في شعورٍ بالمحبّة الذّاتيّة الخالصة الّتي لا يعرف روعتها إلاّ المخلصون من عباد الله.
وقد ورد عن النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم «الدُّعاء مخُّ العبادة»(1)، وعنه أيضاً: «الدُّعاء هو العبادة»(2).
شبهات حول الدُّعاء
ربّما تُثار أمام الدُّعاء عدّة شبهاتٍ:
الشُّبهة الأولى: ما أثاره اليهود حين قالوا: إنّ الله لمّا خلق الأشياء وقدّر التّقادير تمّ الأمر، وخرج زمام التّصرُّف الجديد من يده بما حتّمه من القضاء، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء، لأنّ الأمر مفروغٌ عنه(3).
وقد عبّروا عن هذه الشُّبهة بأسلوب الاستدلال، فقالوا - في ما نُقل عنهم- «إنّ الحاجة المدعوّ لها إمّا أن تكون مقضيّةً مقدّرةً أو لا، وهي على الأوّل واجبةٌ، وإن لم تكن كذلك فهي ممتنعةٌ. وعلى أيِّ حال لا معنى لتأثير الدُّعاء»(4).
والجواب عن ذلك: أنّ التّقدير الإلهيّ للأشياء لا يعني تحقُّق الشّيء بشكلٍ مطلقٍ من دون سببٍ أو علّةٍ، بل يعني أنّ الله قدّر لها الوجود بأسبابها المادِّيّة والمعنويّة، فلا منافاة بين تقدير وجودها، وتوقُّفها على حصول الأسباب، وقد يكون الدُّعاء سبباً معنويّاً للوجود بالإضافة إلى الأسباب المادِّيّة الأخرى الّتي يرتبط بها ارتباطاً عفويّاً، فإذا لم يصدر الدُّعاء من العبد لم يوجد شيءٌ حسب التّقدير الإلهيِّ؛ لأنّ سببه المعنويّ لم يُوجد. وهذا ما قد تشير إليه الأحاديث المتضافرة عن أهل البيت عليهم السلام، الدّالّة على دور الدُّعاء في التّقدير الإلهيِّ؛ فقد ورد عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام، في رواية ميسر بن عبد العزيز عنه، «قال: قال لي: يا ميسر: ادعُ ولا تقل إنّ الأمر قد فُرغ منه؛ إنّ عند الله عزّ وجلّ منزلةً لا تُنال إلاّ بمسألة، ولو أنّ عبداً سدّ فاه ولم يسأل لم يُعط شيئاً، فسلْ تُعط. يا ميسر، إنّه ليس من بابٍ يُقرع إلاّ يوشك أن يفتح لصاحبه»(5). وقد جاء في بعض الأحاديث عن الدُّعاء أنّه يردُّ القضاء وقد أُبرم إبراماً، كما جاء في رواية بسطام الزّيّات، عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام، قال: «إنّ الدُّعاء يردُّ القضاء وقد نزل من السّماء وقد أُبرم إبراماً»(6). وروى أبو همّام، إسماعيل بن همّام، عن الرِّضا عليه السلام، قال: «قال عليُّ بن الحسين عليهما السلام: إنّ الدُّعاء والبلاء ليترافقان إلى يوم القيامة، إنّ الدُّعاء ليردُّ البلاء وقد أُبرم إبراماً»(7).
وربّما يُفسّر هذا الحديث وما قبله بأنّ الأسباب المادِّيّة الّتي تفرض وجود البلاء وتهيِّئ الظُّروف لحركة القضاء، قد تكون متوفِّرةً في الواقع الّذي يحيط بالإنسان في دائرة الظُّروف الموضوعيّة المتّصلة بعلاقة المسبّب بالسّبب، فيأتي الدُّعاء ليعطِّل ذلك في درجة الفعليّة بعد أن تكون الشّأنيّة الذّاتيّة مقتضيةً له، لتكون المسألة أنّ الله جعلها أسباباً لولا الدُّعاء، حيث يأخذ الدُّعاء دور المانع عن تأثير المقتضي في المقتضى. وقد يشير إلى ذلك الحديث المرويُّ عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام، الّذي رواه إسحاق بن عمّار، قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: «إنّ الله ليدفع بالدُّعاء الأمر الّذي علمه أن يدعى له فيستجيب، ولولا ما وُفِّق العبد من ذلك الدُّعاء لأصابه منه ما يجثُّه من جديد الأرض»(8). ويؤكِّد ذلك الحديث المرويُّ عن أبي ولاّد قال: قال أبو الحسن موسى الكاظم عليه السلام: «عليكم بالدُّعاء؛ فإنّ الدُّعاء لله والطّلب إلى الله يردُّ البلاء وقد قُدِّر وقُضي ولم يبق إلاّ إمضاؤه، فإذا دُعي الله عزّ وجلّ وسُئِل صرْف البلاء صرفهُ»(9).
الشُّبهة الثّانية: إنّ الدُّعاء وسيلةٌ من وسائل التّخدير الذّاتيِّ، الّذي يدفع الإنسان إلى الكسل والتّواكل والابتعاد عن الأخذ بالأسباب الطّبيعيّة في الأشياء، وعن الانفتاح على حركة الحياة من أجل تنميتها وتقويتها وتطويرها، ويبتعد بالإنسان عن عالم الحسِّ إلى عالم الغيب، ليكون غيبيّاً في وعيه للحياة بالإضافة إلى كونه غيبيّاً في ما وراءها.
ونجيب عن ذلك: بأنّ دراسة الأحاديث الواردة في الحثِّ على الدُّعاء توحي بأنّه ليس بديلاً عن الأخذ بالأسباب الطّبيعيّة المقدورة للإنسان في الوصول إلى أهدافه وحاجاته؛ لأنّ مورده هو الحالات الّتي لا يملك فيها الوسائل الطّبيعيّة لتحقيق غاياته.
وهذا ما جاءت به الأحاديث المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام، ممّا رواه الوليد بن صبيح عنه، قال: «صحبته بين مكّة والمدينة، فجاء سائلٌ فأمر أن يُعطى، ثمّ جاء آخر فأمر أن يُعطى، ثمّ جاء آخر فأمر أن يُعطى، ثمّ جاء الرّابع فقال أبو عبدالله عليه السلام: يُشبعك الله، ثمّ التفت إلينا فقال: أما إنّ عندنا ما نعطيه، ولكن أخشى أن نكون كأحد الثّلاثة الّذين لا يُستجاب لهم دعوةٌ: رجلٌ أعطاه الله مالاً فأنفقه في غير حقِّه، ثمّ قال: اللّهمّ ارزقني فلا يُستجاب له؛ ورجلٌ يدعو على امرأته أن يريحه منها، وقد جعل الله عزّ وجلّ أمرها إليه؛ ورجلٌ يدعو على جاره، وقد جعل الله عزّ وجلّ له السّبيل إلى أن يتحوّل عن جواره ويبيع داره»(10).
وفي روايةٍ أخرى عنه عليه السلام، ممّا رواه عنه جعفر بن إبراهيم، قال: «أربعةٌ لا تُستجاب لهم دعوةٌ: رجلٌ جالسٌ في بيته يقول: اللّهمّ ارزقني، فيُقال له: ألم آمرك بالطّلب؟! ورجلٌ كان له امرأةٌ فدعا عليها، فيُقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟! ورجلٌ كان له مالٌ فأفسده، فيقول: اللّهمّ ارزقني، فيُقال له: ألم آمرك بالاقتصاد؟! ألم آمرك بالإصلاح؟! ثمّ قال: {و الّذِين إِذا أنْفقُوا لمْ يُسْرِفُوا و لمْ يقْتُرُوا و كان بيْن ذلِك قواماً}[الفرقان: 67]، ورجلٌ كان له مالٌ فأدانه بغير بيِّنةٍ، فيُقال له: ألم آمرك بالشّهادة؟!»(11).
وجاء عن النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم قوله: «لتأمُرُنّ بالمعروف، ولتنْهُنّ عن المنكر، أو ليُسلِّطنّ الله شراركم على خياركم؛ فيدعو خيارُكم فلا يُستجاب لهم»(12).
فإنّنا نلاحظ في الحديثين الأوّلين تأكيداً على عدم استجابة الدُّعاء ممّن يملك الوصول إلى غايته وتحقيق مراده بالوسائل الموجودة عنده، ولكنّه يهملها ويلجأ إلى الدُّعاء، الأمر الّذي يدلُّ على أنّ الدُّعاء يمثِّل الوسيلة الّتي يلجأ إليها الإنسان حيث لا وسيلة لديه؛ لأنّ الله لا يريد للإنسان أن يجعل من إيمانه بربِّه سبيلاً للابتعاد عن سنن الله في الحياة، الّتي جعلها أساساً للعلاقة بين الأسباب والمسبّبات في الواقع الإنسانيِّ في شؤونه وحاجاته وأوضاعه الاختياريّة. وهذا ما يمثِّله معنى التّوكُّل في توكُّل الإنسان على الله، بعد استنفاد كافّة الوسائل الّتي تحقِّق له غرضه، فلا يسقط أمام حالة العجز، بل يترك أمره إلى الله الرّحمن الرّحيم القادر على كلِّ شيءٍ، والّذي يحبُّ عباده المتوكِّلين عليه. كما أنّ الحديث الثّالث يؤكِّد أنّ التّخلُّص من الأشرار يفرض القيام بمواجهتهم بالوسائل الموجودة ثمّ الدُّعاء، لا إهمال الواقع الفاسد ثمّ الدُّعاء.
ومع هذه الملاحظة، فكيف يمكن أن يدّعي أحدٌ أنّ الدُّعاء يجعل الإنسان غيبيّاً في حياته العمليّة، حتّى في موارد قدرته على الارتباط بعالم الحسِّ، ويعزله عن حركة النّشاط الطّبيعيِّ في الواقع الّذي يتحمّل مسؤوليّته؟
الشُّبهة الثّالثة: إنّ الدُّعاء يتنافى مع رضا الإنسان بقضاء الله وقدره؛ لأنّه لا يصبر على الواقع الّذي يعيش في داخله ممّا قدّره الله له.
وهذه شبهةٌ لا معنى لها؛ لأنّ الدُّعاء - كما ذكرنا - جزءٌ من الوسائل الّتي أراد الله للإنسان أن يأخذها في استكمال نظام الحياة الّتي جعل الله فيها لكلِّ شيءٍ قدراً في عناصره المادِّيّة والمعنويّة. وكما أنّ الله لا يريد للإنسان أن يصبر على البلاء الّذي يقدر على دفعه عن نفسه بالوسائل المادِّيّة، فإنّه لا يريد له أن يبتعد عن الرُّجوع إليه بالأخذ بالوسائل الرُّوحيّة - ومنها الدُّعاء - في دفعه، ما يعني أنّه يحقِّق إرادة الله في ذلك، لأنّه جعل قضاءه وقدره مربوطين بمسألة الدُّعاء سلباً أو إيجاباً.
وهذا هو الرّدُّ على من قال - في الاعتراض على الدُّعاء - بأنّه تدخُّلٌ في شؤون الله، والله يفعل ما يريد ممّا ينسجم مع مصالحنا، فلماذا نطلب منه ونتضرّع إليه؟! إذ إنّ الله يريد الأشياء بأسبابها ويحرِّك مصالحنا في اتِّجاه هذه الأسباب المادِّيّة والرُّوحيّة، ونحن نطلب منه لأنّه أراد منّا ذلك.
قريبٌ مجيبٌ للدُّعاء
{وإِذا سألك عِبادِي عنِّي} في قلق المعرفة وحيرة الفكر، انطلاقاً من عالم الغيب الّذي لا يملكون السّبيل إليه بطريقةٍ حسِّيّةٍ، ومن علوِّ الألوهيّة وسموِّها وارتفاعها في آفاق العظمة الّتي لا يدركون كنهها وحقيقتها، ولا يعرفون الوسيلة الّتي ينطلق فيها الإنسان إلى ربِّه، والعلاقة الّتي تربطه به في حاجاته الّتي يتطلّبها، وفي مشاعره الّتي يحسُّ بها، وفي تطلُّعاته الّتي يهفو إليها، ولا يدرون كيف يتحدّثون معه، ويصلون إليه، وهو البعيد عنهم بُعد السّماء عن الأرض، في الغموض الكثيف الّذي يلفُّ السّماء في مفهومها الطّبيعيِّ في أفكارهم، الأمر الّذي يخيِّل إليهم أنّه لا مجال لأيّة صلةٍ بينهم وبينه؛ لأنّها تنطلق من مواقع القرب المكانيِّ الّذي لا دور له هنا، والمعنويِّ الّذي لا مجال له بين العبد في حقارة موقعه وبين الرّبِّ الّذي هو في العلوِّ الأعلى الّذي ليس فوقه شيءٌ.
ولكنّ الله، الّذي يعلم عمق أسرار عباده، ودقّة أحاسيسهم، وضبابيّة الغيب في تصوُّراتهم، وقلق المعرفة في دائرة الحيرة في علامات الاستفهام الكامنة في ذواتهم، أراد أن يستبق السُّؤال - في حال صدوره منهم - بالجواب عن السُّؤال المتحرِّك في وجدانهم الخفيِّ. وهذا هو الفرق بين أسلوب السُّؤال هنا، وأسلوب السُّؤال في الأسئلة الّتي يقدِّمها النّاس إلى النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم، ممّا حدّثنا الله عنه بعنوان: «يسألونك»؛ لأنّ هذا السُّؤال كان في الأعماق، وفي همسات النّفس، وهواجس الفكر، بحيث يمثِّل علامة استفهامٍ جنينيّةً، فهو الحالة الشّأنيّة في السُّؤال، بينما ما ورد في القرآن من أسئلة النّاس كان يمثِّل الفعليّة الّتي تبحث عن معرفة كلِّ ما يدور في الذِّهن، ممّا يجهله النّاس ويتطلّبون معرفته.
{فإِنِّي قرِيبٌ}؛ لأنِّي لست وجوداً محصوراً في المكان لتكون المسافات هي الّتي تفصلني عنهم، بل هو الوجود الكلِّيُّ في القدرة والإحاطة والشُّمول، فلا يغيب عنه شيءٌ. فهو العالي في علوِّه في الوقت الّذي هو الدّاني في دنوِّه، فلا شيء أقرب إلى عباده منه. {ولقدْ خلقْنا الْإِنْسان و نعْلمُ ما تُوسْوِسُ بِهِ نفْسُهُ و نحْنُ أقْربُ إِليْهِ مِنْ حبْلِ الْورِيدِ}[ق: 16]، {يا أيُّها الّذِين آمنُوا اِسْتجِيبُوا لِلّهِ و لِلرّسُولِ إِذا دعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ واِعْلمُوا أنّ اللّه يحُولُ بيْن الْمرْءِ و قلْبِهِ و أنّهُ إِليْهِ تُحْشرُون}[الأنفال: 24]. إنّه الحاضر الّذي لا يملك أحدٌ معنى حضوره في وجود الإنسان؛ لأنّه سرُّ وجوده، ولهذا كان قربه إليه من خلال ارتباط ذاته به، فهو الّذي يمنحها الوجود في كلِّ آنٍ من جهة فقرها المطلق إليه.
وإذا كانت المسألة بهذا المستوى من معنى قرب الله إلى عبده، فإنّ على عباده أن يتعاملوا معه من موقع هذا القرب، ليتحدّثوا معه حديث القريب إلى القريب، سرّاً وجهراً، في همسة الرُّوح، وتمتمة الشِّفاه، وانفتاح القلب... ليجدوا فيه المعنى الرُّوحيّ للقرب من عمق رحمته، ليتحسّسوا وجوده في وجودهم، فلا يشعروا بالانفصال عنه، وليعيشوا لهفة الفقر في غناه، وصرخة الحرمان إلى عطائه، لتكون حاجاتهم بين يديه؛ فهو الّذي يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين، ويسمع الأنين والشّكوى، ويعلم السِّرّ وأخفى، ويسمع وساوس الصُّدور.
وهكذا خاطب الله كلّ واحدٍ منهم بالأمل الحيِّ الأخضر، المنفتح على النّتائج الإيجابيّة لكلِّ طلباتهم؛ باعتبار أنّهم عباده الّذين خلقهم، وأفاض عليهم من نعمه، وتكفّل بتدبيرهم في حياتهم كلِّها، وقرّبهم إليه.
{أُجِيبُ دعْوة الدّاعِ إِذا دعانِ} من كلِّ عمق الإخلاص في قلبه، وصدق المسألة في لسانه، وحقيقة الإحساس بالفقر والحاجة في روحه، وخفقة الإحساس في شعوره، ورقّة الدُّموع في عينيه، ورعشة الخشوع في كيانه... إنّه الدُّعاء الّذي ينبع من وجود الذّات في إنسانيّتها المؤمنة بخالقها، المنفتحة عليه، المستغيثة به، المستجيرة بقدرته، الرّاجعة إليه في كلِّ أمورها، من دون وسيطٍ، بل هو العبد بين يدي ربِّه.
شروط الاستجابة
وإذا عاش الإنسان هذا الرُّوح الإلهيّ في الدُّعاء، كانت الإجابة قريبةً منه، لطفاً به ورحمةً له. وقد يؤخِّر الله الإجابة لمصلحته؛ لأنّ المسألة الّتي أرادها الدّاعي لم تتوفّر عناصر وجودها في هذا الوقت من خلال الظُّروف الخاصّة أو العامّة، أو لم تكن له المصلحة في الإجابة الآن. وقد لا تتحقّق الإجابة أصلاً؛ لأنّ مضمون الدُّعاء لم يكن مرضيّاً عند الله؛ لاشتماله على طلب حرامٍ، أو ترك واجبٍ، أو مضرّة إنسانٍ لا يستحقُّ إيقاع الضّرر به، أو لتعلُّقه ببعض الأمور الّتي لا تتناسب مع حركة النِّظام الكونيِّ أو الاجتماعيِّ العامِّ، ونحو ذلك؛ فإنّ مسألة الإجابة ليست مطلقةً من خلال رغبة الإنسان ومزاجه، بل من خلال مصلحته؛ لأنّ الآية واردةٌ - على الظّاهر - في الدّلالة على استجابة الله لدعاء الدّاعي من حيث المبدأ، في مقابل عدم الاستجابة له مطلقاً، كما قد يحدث بالنِّسبة إلى بعض النّاس الّذين لا يستجيبون للطّلبات المقدّمة إليهم، تكبُّراً وترفعّاً وتجبُّراً على الطّالبين، لتُبيِّن بأنّ الله يستجيب للدّاعين دعاءهم من موقع قربه إليهم، وإلى ما يُصلح أمرهم ويُحقِّق لهم غاياتهم، مع عدم وجود مانعٍ ذاتيٍّ في متعلّق الدُّعاء للإنسان، أو لغيره من النّاس، أو للحياة من حوله.
وقد ورد أنّ من شروط استجابة الدُّعاء الإقبال على الله بقلبه، بحيث ينفتح على الله بوعي الكلمة والموقف بين يديه؛ فلا يستجيب اللهُ دعاء اللاّهي الغافل الّذي يتحوّل الدُّعاء عنده إلى كلماتٍ لا عمق لها في القلب. فقد جاء في حديث الإمام جعفر الصّادق عليه السلام، عن سليمان بن عمرو، قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «إنّ الله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاءً بظهر قلب ساهٍ(13)، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن الإجابة»(14).
وجاء في بعض الأحاديث أنّ صاحب اللِّسان البذيء، والقلب العاتي الجبّار، والنِّيّة غير الصّادقة، لا يستجاب دعاؤه؛ فقد روي عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام قال: «كان في بني إسرائيل رجلٌ، فدعا الله أن يرزقه غلاماً ثلاث سنين، فلما رأى أنّ الله لا يجيبه قال: يا ربِّ أبعيدٌ أنا منك فلا تسمعني، أم قريبٌ أنت منِّي فلا تجيبني؟ قال: فأتاه آتٍ في منامه فقال: إنّك تدعو الله - عزّ وجلّ - منذ ثلاث سنين بلسانٍ بذيءٍ، وقلب عاتٍ غير تقيٍّ، ونيّةٍ غير صادقةٍ، فأقلع عن بذائك، وليتّقِ الله قلبُك، ولتحسُن نيّتك. فقال: ففعل الرّجل ذلك، ثمّ دعا الله فولد له غلامٌ»(15).
ولعلّ لبذاءة اللِّسان في ألفاظه، وقسوة القلب في أحاسيسه، دوراً في إبعاد الإنسان عن الله، بحيث لا يعيش روحيّة الدُّعاء في موقفه البعيد عن خطِّ التّقوى.
وفي وصيّة الإمام عليٍّ عليه السلام لولده الحسن عليه السلام: «ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدُّعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يُقنِّطنّك إبطاء إجابته؛ فإنّ العطيّة على قدر النِّيّة. وربّما أُخِّرت عنك الإجابة، ليكون ذلك أعظم لأجر السّائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربّما سألت الشّيء فلا تؤتاه، وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صُرِف عنك لما هو خيرٌ لك؛ فلرُبّ أمرٍ قد طلبته فيه هلاك دينك لو أُوتِيته، فلتكن مسألتك في ما يبقى لك جمالُه، ويُنفى عنك وبالُه؛ فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له»(16).
ففي هذه الفقرات من الوصيّة أنّ الله ينظر إلى قلب الدّاعي في حجم القضايا الّتي يحملها ويتطلّع إليها في أعماقه، ممّا قد لا يعبِّر اللّفظ عنه؛ لأنّ اللّفظ قد لا يدلُّ على الآفاق الواسعة الّتي ينفتح عليها القلب، الأمر الّذي يؤكِّد أنّ الدُّعاء في القلب قبل أن يكون في اللِّسان، وبمقدار النِّيّة قبل أن تكون بمقدار المعنى المدلول عليه باللّفظ، فتكون الاستجابة على قدر النِّيّة.
وفي هذه الوصيّة أنّ الاستجابة قد لا تكون في دائرة المطلوب؛ لأنّها لا تحقِّق مصلحةً للدّاعي، أو قد تُسبِّب مفسدةً له، ولكنّ الله لا يهمل للدّاعي تطلُّعاته للخير من خلال ما اعتقده خيراً في دعائه، بل يختار له في مبدأ الاستجابة ما هو الأفضل والأوسع والأغنى في الدُّنيا أو في الآخرة. وهذا هو سرُّ الرّحمة الإلهيّة في رعاية الله لعبده الّذي يمنحه الخير من خلال دعائه وتضرُّعه إليه، حتّى لو كان الدُّعاء في اتِّجاهٍ آخر؛ لأنّ المسألة هي أن يستجيب له في انفتاح الخير على حياته لا في مفردات الدُّعاء بذاتها.
{فلْيسْتجِيبُوا لِي}، في كلِّ نداءاتي ودعواتي وأوامري ونواهيّ الّتي أردت لهم من خلالها الصّلاح في دنياهم وأخراهم، لتكون حياتهم متوازنةً منفتحةً على الخير في كلِّ أوضاعهم، ولتنطلق آخرتهم في خطِّ الاستقامة المنفتح على الله.
{و لْيُؤْمِنُوا بِي}، وبربوبيّتي الشّاملة، وبتوحيدي في الألوهيّة والعبادة والطّاعة؛ لأنّ ذلك هو الّذي يؤكِّد الصِّلة بين العبد وربِّه، ليعيش الحضور الإلهيّ في عقله وروحه وحياته، وليدرك معنى القرب الّذي يوحي به الله إليه، ليكون قريباً إلى ربِّه بالاستجابة له والإيمان به، كما أنّ ربّه قريبٌ إليه، وفي كلا الحالين تعود المنفعة له.
الرُّشد عقليٌّ وعمليٌّ
{لعلّهُمْ يرْشُدُون}؛ لأنّهم إذا استجابوا لله انطلقوا في خطِّ الوعي للحياة في كلِّ قضاياها العامّة والخاصّة، والوعي لإنسانيّتهم في كلِّ خصائصها الدّاخليّة والخارجيّة، وتحرّكوا نحو الأهداف من موقع الرُّشد العمليِّ الّذي يضع الأمور في مواضعها.
وإذا آمنوا به الإيمان العميق الشّامل الّذي ينطلق من سكينة العقل وطمأنينة الرُّوح، فإنّه يقف على أرضٍ صلبةٍ ثابتةٍ بعيدةٍ عن الاهتزاز، ويسير إلى الحياة من خلال انطلاق الوجود من مبدأ الإله الواحد الّذي ينطلق الخير منه، ويقف الحقُّ عنده، وتنطلق الرّحمة منه، ما يعني الانطلاق في خطِّ الرُّشد الفكريِّ الّذي ينفتح على الله الّذي هو الحقُّ، ليكون الفكر كلُّه حقّاً لا مجال للباطل معه.
وإذا كان اعتبار الرُّشد هدفاً من الاستجابة لله والإيمان به، فإنّ من الممكن أن نستوحي من ذلك أنّ الله سبحانه يوجِّه عباده إلى السّير على خطِّ الإيمان بالله، الّذي يجعل العقل يشرق بالنُّور الإلهيِّ، ليتأسّس التّوحيد على قاعدةٍ للفكر تبتعد به عن كلِّ الآلهة المزعومين، ممّن يؤلِّهون أنفسهم، أو يؤلِّههم النّاس من دون الله؛ ليوحِّدوا الخطّ العمليّ في خطِّ الاستقامة، كما يوجِّههم إلى الاستجابة لله في خطوط الإسلام الفكريّة والعمليّة، حيث يتحوّل الإنسان، من خلال تأثير ذلك في الشّخصيّة، إلى إنسانٍ رشيدٍ في عقله وفي حركته وعلاقته بالآخرين، بحيث يحرِّك طاقاته في المواقع الّتي تمنح الحياة العامّة ما تحتاجه منها، فلا يضيع منها شيءٌ في الفراغ أو في ما لا ينفع الحياة والنّاس، سواءً كانت الطّاقات طاقات الإنسان في داخل ذاته، أو في الزّمن الّذي جعله الله مسؤوليّة الإنسان في الانتفاع به في كلِّ مفرداته الصّغيرة والكبيرة؛ لأنّه يمثِّل عمره في مراحله المتعدِّدة، أو في القوى المادِّيّة الّتي يملكها الإنسان ممّا رزقه الله إيّاه وأعدّه له وسخّره لخدمة حياته، فلا يريد الله لها أن تضيع في متاهات اللّهو والعبث الّذي لا يؤدِّي إلى أيّة نتيجةٍ في الحياة.
إنّ الرُّشد يمثِّل الحركة الإنسانيّة السّائرة في النُّور، لتصل بالطّاقة إلى أهدافها الّتي خُلقت لها في النّتائج الكبرى الّتي تتحقّق من خلالها في الحياة والإنسان، ليكون السّفه عبارةً عن إهدار تلك الطّاقة وتضييعها وإطلاقها في صحراء الفراغ.
الهوامش:
(1) التِّرمذي، أبو عيسى محمّد بن عيسى (ت 279 هـ-)، سنن التِّرمذي، ط 2، حقّقه وصحّحه عبد الرّحمن محمّد عثمان، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1403 هـ - 1983 م، ج 5، ص 125، ح 3431.
(2) م. ن، ص 126، ح 3432.
(3) السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 2، ص 32.
(4) السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 2، ص 41.
(5) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 466 - 467، ح 3.
(6) م. ن، ص 469، ح 3.
(7) م. ن، ح 4.
(8) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 470، ح 9. يجثُّه: يقتلعه وينتزعه، كما في قوله تعالى: {كشجرةٍ خبِيثةٍ اُجْتُثّتْ مِنْ فوْقِ الْأرْضِ ما لها مِنْ قرارٍ} [إبراهيم: 26]، وهو كنايةٌ عن الإهلاك. وجديد الأرض: وجهها.
(9) م. ن، ح 8.
(10) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 510، ح 1.
(11) م. ن، ص 511، ح 2.
(12) م. ن، ص 374، ح 2، بمضمونٍ قريبٍ. وورد بنصِّه عن الرِّضا عليه السلام في: م. ن، ج 5، ص 56، ح 3. وقد ورد عن النّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم بهذا اللّفظ -مع اختلاف يسير- في بعض مصادر العامّة. انظر: الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، م. س، ج 13، ص 92 - 93. وانظر كذلك: السّيوطي، الجامع الصّغير في أحاديث البشير النّذير، ط1، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1401 هـ- - 1981 م، ج 2، ص 401، ح7223. كما تكرّر وروده بالمضمون نفسه عن عدّةٍ من أئمة أهل البيت عليهم السلام . نعم، ورد بنصِّه في: الشّيخ المجلسي، محمّد باقر (ت1111هـ-)، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ط 2، تحقيق يحيى العابدي، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت - لبنان، 1403 هـ- - 1983 م، ج 90، ص378، نقلاً عن كتاب فلاح السّائل للعلاّمة ابن طاووس.
(13) ورد في: الشّيخ المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرّسول، ط 2، إخراج مقابلة وتصحيح السّيِّد محسن الحسيني الأميني، دار الكتب الإسلاميّة، طهران - إيران، 1380 هـ- ش، ج 12، ص 24: «المشهور أنّ الظّهر هنا زائدٌ مقحم... وفي الحديث: الصّدقة عن ظهر غني، أي: صادرة عن غنى، فالظّهر فيه مقحمٌ كما في ظهر القلب... . ساهٍ، أي: غافل عن المقصود وعمّا يتكلّم به، غير مهتم به، أو غافل عن عظمة الله وجلاله ورحمته، غير متوجّهٍ إليه بشراشره وعزمه وهمّته».
(14) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 2، ص 473، ح 1.
(15) م. ن، ص 324، ح 7.
(16) نهج البلاغة، م. س، ص 127، الكتاب 31.