عاشوراء
10/07/2025

مِنْ وَحْيِ عاشوراءَ: كَيْفَ نبني الوَعْيَ وَنُجسّدُ القِيَم؟!

مِنْ وَحْيِ عاشوراءَ: كَيْفَ نبني الوَعْيَ وَنُجسّدُ القِيَم؟!

نحن هنا للعبرة، لنأخذ من دروس عاشوراء ما يقوّي فكرنا، ويشدّ عزيمتنا، ويفتح لنا أبواب الحياة الحرَّة الكريمة الواعية المنفتحة على الله، وعلى مصلحة الإنسان كلّه من أوسع آفاقها.
ونحن هنا للقدوة، لأنَّ مسألة القدوة هي مسألة أن يتحوَّل الإنسان إلى قيم تتجسَّد، بحيث إنَّك عندما تراه، ترى القيمة متجسّدةً فيه، كما لو كانت شخصاً متجسّداً بالقيم.
الرَّسولُ القدوة
والقلَّةُ في التَّاريخ هم الَّذين يمثّلون التَّجسيد الحيّ لأفكارهم ورسالتهم، وقد قدَّم لنا الله سبحانه وتعالى رسوله (ص)، باعتباره القدوة الَّتي يريد للنَّاس أن يتحركوا معها، وأن يتابعوا كلّ خطواتها، سلماً أو حرباً، انفتاحاً أو انغلاقاً، سلباً أو إيجاباً، لأنَّ رسول الله (ص) كان يجسّد الإسلام كلَّه؛ كان الإسلامُ عقلَه، وكان قلبَه وخلقَه، وكان اللهُ كلَّ شيء في ذاته، حتَّى إنَّه، وهو الَّذي أكَّد بشريَّته في أكثر من آية {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ}[الكهف: 110]، كان يذوب في الله، لتتحوَّل بشريَّته إلى فيض من الرّوح {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21]، فتأسَّوا به، وتابعوه في كلّ صفاته.
وقد حدَّثنا الله عن الجانب الاجتماعيّ الإنسانيّ الحركيّ الحيّ في صفات النَّبيّ (ص)، وهو الجانب الَّذي يركّز توازن الحياة في العلاقات الإنسانيَّة فيما بيننا، لأنَّ أخطر شيء في واقع الإنسان الفرد، أن يعيش فرديَّته منفصلاً عن الواقع الاجتماعيّ، بأن يعيش ذاته، ولا يلتفت إلى النَّاس من حوله، على طريقة ذلك الشَّاعر المهجريّ الَّذي يتحدَّث على لسان بعض النَّاس:
مَا عليْنا إِنْ قَضَى الشَّعْبُ جَمِيعاً      أَفلَسْنَا في أَمَانْ
فهو لا يفكّر في النَّاس، ولا في المجتمع، ولا في الأمَّة، فهمومه هموم الذَّات وليست هموم الإنسان، ولذلك، فإنَّه لا يحترم إنسانيَّة الآخر في إنسانيَّته.
من صفاتِ الرَّسول (ص)
لذلك، أراد الله أن يقدّم إلينا النَّبيّ (ص) في الجانب الأخلاقيّ من شخصيَّته المتَّصل بالحياة الاجتماعيَّة، لا الجانب الأخلاقيّ المتَّصل بذاتيّاته، قال تعالى:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ - لم يأتكم من الملائكة ولا من المرّيخ، بل جاء من داخل مجتمعكم، وهو مثلكم، أبوه وأمّه كمثل آبائكم وأمَّهاتكم - ما هي صفاته؟ أنَّه يتطلَّع إلى المجتمع؛ إلى المتألمين والمتعبين والمظلومين والفقراء، وكلّ مواقع التَّعب والمشقَّة لدى المجتمع، فيتفاعل مع هذه الآلام الإنسانيَّة، ويشعر بثقلها على نفسه، بحيث يشقّ عليه ما يشقّ على النَّاس، ويؤلمه ما يؤلمهم، فهو ليس حياديّاً أمام آلام النَّاس، بل إنّه يندمج بهذه الآلام ويتفاعل معها.
- عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ – والعنت يعني المشقَّة والتَّعب، أي يعزّ عليه، يؤلمه ويثقله كلّ ما يشقّ عليكم من شؤون الحياة، فهو يعيش هذا الإحساس الإنسانيّ بالأمَّة.
ثمَّ من صفاته أنَّه يتحمَّل مسؤوليَّة حماية الأمَّة بطاقاتها، فيواجه الأخطار الَّتي تتحدّاها، والمشاكل الّتي تعيش في داخلها، من التَّمزّقات التي تتحرَّك فيها، إلى التَّخلّف الَّذي يفرض نفسه عليها، إلى الجهل الَّذي يزحف إلى عقولها، والخرافة الَّتي تفرض نفسها على ذهنيَّتها مما يمكن أن يسقطها، فيحاول أن يرفعها ويحميها، ويحرص عليها أن لا تسقط وتضلّ، فيعطيها عناصر التقدّم في مواجهة التخلّف، وعناصر العلم في مواجهة الجهل، وعناصر الحقيقة في مواجهة الخرافة، وقاعدة الوحدة في خطوط التفرق والتمزّق.
- حَرِيصٌ عَلَيْكُم - يحرص على وحدتكم ووعيكم ومسيرتكم في خطّ التَّقدّم وما يرفع مستواكم، فكما يحرص الإنسان في حياته الخاصَّة على ماله، وكما تحرص الأمّ على ولدها عندما تعترضه الأخطار، وكما يحرص الإنسان على نفسه حتّى يجنّبها الأذى، كذلك يحرص النبيّ على الأمَّة.
- بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ - يرأف بهم، ويعطف عليهم، ويحنو عليهم، ويتفجَّر ينبوع الحنان والرَّأفة من قلبه ليفيض عليهم، ليشعروا بالطّمأنينة.
رَّحِيمٌ}[التّوبة: 128] يقدّم إليهم عقلاً يرحم جهلهم وتخلّفهم، ويعطيهم رحمة من قلبه وعلمه، والرَّحمة الكبرى هي رحمة رسالته {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]، رحمة الأفق الواسع الَّذي يخرج الأمَّة من كلّ هذا الأفق الضيّق والدَّائرة الضيّقة، والله يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21].
فإذا كنتم في مواقع المسؤوليَّة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، كونوا المسؤولين الَّذين تثقلهم آلام الأمَّة ومتاعبها، والَّذين يحرصون على حاضر الأمَّة ومستقبلها، فلا تتحرّك نوازعهم الذاتيَّة بما يتعب الأمَّة ويسقطها. كونوا المسؤولين الَّذين يعيشون الرأفة بالأمَّة، لا الَّذين يريدون أن يجعلوها بقرة حلوباً يشربون من لبنها ولا يعطونها شيئاً، كونوا الرّحماء الّذين يرحمون ضعفها وظروفها وآلامها..
هذا هو رسول الله، وهو الأسوة الحسنة، فاقتدوا به في هذه الأخلاق.
اللّينُ والرّحمةُ بالنَّاس
والله يقول أيضاً: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ}. بماذا رحم الله النَّاس؟ بأنَّ رسوله كان ليّن القلب معهم، ورقيقاً وحنوناً في عيشه معهم، تنبض نبضاته بالمحبَّة لهم جميعاً، ليّن الكلمة، لا يقسو في الكلام مع أحد، لأنَّ من مسؤوليَّة صاحب الرّسالة أن يخطّط ليُدخل رسالته في قلوب النَّاس، ليكون القلب هو النَّافذة التي تطلّ على العقل، لأنَّ من المعروف إنسانيّاً، أنَّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو قلبه، اربح قلوب النَّاس تنفتح لك عقولهم، لأنَّ الإنسان عندما يحبّك، يحبّ ما تؤمن به، ويحبّ أن يسمع لك، وأن يعرف أفكارك.
ونحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ كثيراً من النَّاس ضلَّلهم الحبّ، كما أنَّ كثيراً من النَّاس هداهم الحبّ، هناك الكثير ممن انحرفوا عن الطَّريق، لأنهم أحبّوا ورافقوا أناساً لا يؤمنون بالله، فقادهم حبّهم لهم إلى الانحراف، وهذه مسألة تعرفونها، فهناك كثير من النَّاس انحرفوا من خلال من يصادقون ومن يعشقون، حتّى إنّ البعض يرتكب جرائم، لأنَّ الحبّ لا يحسب حسابات دقيقة، بل إنّه ينطلق من خلال الحالة النفسيَّة التي تندمج بمن يُحَبّ. وهناك بعض النَّاس أيضاً انفتحوا على الخير، لانفتاحهم على الَّذين يمثّلون الخير. لذلك، مسألة الحبّ هي من المسائل الحيويَّة في حركيَّة الإنسان الرساليّ.
تأثيرُ الكلمة
ومن عناصر الحبّ، أن ينفتح الشَّخص بقلبه على النّاس، وأن تكون كلماته من أفضل الكلمات، لأنَّ الكلمة تجذب، والإحساس يجذب، وقد كان أعداء النَّبيّ (ص) يعيشون أزمة منه، وذلك لأنَّه كان يفرض محبَّته على كلّ النَّاس الَّذين حوله، حتَّى الَّذين يعادونه. لذلك، لم يستطيعوا إلَّا أن يفتروا عليه ليبعدوا النَّاس عنه، فقالوا عنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون، لكن لم يقل أحد إنَّه ليس إنساناً، لأنّ إنسانيَّته كانت تفرض نفسها على كلّ الواقع، لم يعرف قلبه الحقد، كان يُتَّهم ويُضرَب بالحجارة، وكان يرفع يديه إلى السَّماء ويقول: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون"، لا تعذّبهم يا الله، فلا تزال الصَّنميَّة متحجّرة في عقولهم، أعطهم فرصة، لأنَّ العقل عندما يتحجَّر، يحتاج إلى كثير من الجهد لتتكسّر حجارته. وحتَّى عندما سيطر على هؤلاء الَّذين أربكوا دعوته ورسالته، وشغلوا مرحلته بالحروب من حرب إلى حرب، عندما سيطر عليهم، قال لهم: "مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ"، فما عرفناك إلَّا بكرم الأخلاق وكرم النَّفس، ولذلك نحن لا نخاف من هذه السَّيطرة ومن هذه الغلبة، صحيح أنَّك فتحت مكَّة، ولكنَّك فتحت الأفق الواسع لكلّ أهلها.. وعندما دخل النَّبيّ (ص) مكّة، كانت رايته بيد بعض الأنصار الَّذي أخذه العنفوان، فراح يقول:
اليومَ يومُ الملحمة اليومَ تُسبَى الحُرُمَة
وجاء شخص إلى النّبيّ (ص) وأخبره بما يقول، فطلب النَّبيّ (ص) من الإمام عليّ (ع) أن يأخذ الرَّاية ويقول:
اليومَ يومُ المرحمة اليومَ تصانُ الحُرُمَة
وكان أبو سفيان قائد المشركين، وهو في كلّ تاريخه إلى حين هزيمته، كان يعمل ضدّ النَّبيّ والرّسالة، ومع ذلك، أراد النّبيّ أن يقدّم إليه خدمة حتّى يخرج الحقد الموجود في قلبه، فقال (ص): "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ"، ولذلك قال لهم: "اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ".
ولذلك، عندما خاطبت السيّدة زينب (ع) يزيد، ذكَّرته بهذا العفو النَّبويّ، وقالت له: "أَمِنَ الْعَدْلِ يَا بْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ، وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا؟!"، ذكَّرته بعفو جدّها الرَّسول عن جدّه وعن كلّ النَّاس، وكأنّها تقول له: هذا ما فعله جدّي، فماذا فعلْت أنت؟!
وقد نظم ذاك الشَّاعر أبياتاً حول ذلك، فقال:
مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَما غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَحُ
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا وكلُّ إِناءٍ بالَّذي فيهِ يَنْضَحُ
فإذا كان الماء صافياً وحلواً، نضح الإناء بالماء الحلو الصّافي، وإذا كان عكراً نضح بما فيه، وكذلك الأخلاق. لذلك، قال الله للنَّبيّ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ – فسمعوا كلامك وانفتحوا عليه، فدخل إلى قلوبهم وعقولهم، وتحرَّك في حياتهم - وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159].
الأسلوبُ الحسن
وهذا هو البرنامج الإسلاميّ في العلاقات الاجتماعيَّة الإنسانيَّة، سواء في المجالات الدّينيَّة أو السياسيَّة أو الاجتماعيَّة، حتَّى في بعض المسائل الاقتصاديَّة، عندما تريد أن تجذب الزَّبائن إليك.
فإذا كنت تريد أن تنفذ إلى عمق المجتمع، فافتح قلبك للنَّاس، وانزع الشَّرَّ من صدرك، تكلَّم بالكلمة الحلوة الَّتي تجتذب النَّاس، وابتعد عن كلمات الحقد والعداوة والبغضاء.. ونحن قد نكون تعلَّمنا أن نكون وسواسيّين، فنتوضّأ عشرات المرّات، ونصلّي عشرات المرّات، لكنَّنا لم نتعلَّم من القرآن كيف نتكلَّم مع النَّاس، ولا كيف نتحاور معهم، ولا كيف ندفع المشاكل بالطَّرق الأفضل، فالله كما قال لك: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 43]، قال أيضاً: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: 53]، فعندما تريد أن تتكلَّم الكلمة، لا تطلقها كيفما كان، كما عندما يقول البعض: سأقول كلمتي وليحصل ما يحصل، ولو خربت الدّنيا. وهذا لا يجوز، فعندما تكون في المجتمع، كما عندما تكون على البيدر، عليك أن تطفئ سيجارتك، وإلَّا إذا ألقيتها كيفما كان، فقد تتسبَّب بالحرائق، وكثير من الحرائق يحرق الغابات كلّها... كذلك الأمر عندما تريد أن تلقي الكلمة في البيدر الاجتماعي والبيدر السياسي والبيادر الدّينيَّة، عندما تريد أن تسبَّ هؤلاء النّاس وأولئك النَّاس، فقد تحرق الكلمة بلداً، ألا يقال: "رُبَّ كلمةٍ سلبَتْ نعمةً".
عندما تذهب إلى السّوق لتشتري الفاكهة أو الخضار أو أيّ شيء، ألا تختار الأفضل والأحسن منها؟ وكذلك عندما تريد أن تتكلّم، عليك أن تختار الأفضل والأحسن من الكلمات، والله يقول: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ – لماذا؟ - إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ - فالشَّيطان يدخل في عبّ الكلمة - إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}[الإسراء: 53].
وعندنا تجربة في هذا المجال، فكم خلقت لنا الكلمات الطَّائفيَّة حروباً! وكم خلقت لنا الكلمات المذهبيَّة فتناً! وكذلك الكلمات العصبيَّة الحزبيَّة، والكلمات العصبيَّة العشائريَّة، وذلك عندما نتحدَّث بالكلمة دون أن نفكّر فيها، بل نطلقها من خلال عصبيَّاتنا.
بينَ الأحمقِ والعاقل
والكلام يجرّ الكلام، ولا أريد الإطالة عليكم، لكن نحتاج إلى أن نخرج من مجلس الحسين أكثر وعياً، وليس أكثر بكاءً، لأنَّ الحسين يحتاج إلى وعينا حتَّى نستمرّ في مسيرته، والدموع حالة عاطفيَّة.
الإمام عليّ (ع) فرَّق بين الأحمق والعاقل، فقال: "قَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ، وَلِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ"، والمقصود بالقلب منطقة الوعي الدَّاخلي. كيف ذلك؟
لأنَّ الأحمق إذا طرأت الكلمة في ذهنه تكلَّمها، ثمَّ بعد ذلك، إذا خلقت له الكلمة مشاكل، يقول للعقل دبّرني، فاللّسان هو القائد عنده والعقل جنديّ. أمَّا العاقل، فإذا طرأت الكلمة في ذهنه، تدبَّرها ودرس سلبيَّاتها وإيجابيَّاتها، خسائرها وأرباحها، هل تنتج سلماً أم حرباً، مشكلة أم حلًّا، "فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَدَبَّرَهُ في نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ، وَإِنْ كَانَ شَرَّاً وَارَاهُ"، فالقلب هو القيادة، واللّسان جنديٌّ من جنوده...
والله يقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ – إلى سبيله في العبادات والواجبات والمحرَّمات، سبيله في الحرب والسّلم، وفي السياسة والاجتماع، وفي كلّ ما يرضيه – بِالْحِكْمَةِ - والحكمة هو وضع الشَّيء في موضعه - وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ - الَّتي تفتح قلوب النَّاس - وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النّحل: 125]، أن يكون جدالك مع الآخرين بالأسلوب الطيّب والأفضل.
الجدالُ معَ أهلِ الكتاب
وكم بيننا وبين أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى! ومع ذلك، يقول الله إنَّ هناك اختلافاً بينكم وبينهم في مسائل العقيدة، فلديهم وجهة نظر في التَّوحيد تختلف عن وجهة نظركم، لكن لا ينبغي أن يكون الجدل معهم منطلقاً من عقدة نفسيَّة، بأن تجادل اليهودي أو النّصرانيّ بعقليَّة الغالب والمغلوب - من ناحية فكريَّة - وعقليَّة تسجيل النقاط، بل بالأسلوب الإنسانيّ الّذي يفتح عقله وقلبه {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ - لأنَّ الظَّالم لا يتقبَّل الحوار ولا يريده، بل يريد أن يضربك ويؤذيك، كما في يهود إسرائيل، وربّما يهود العالم، في هذه الأيَّام، هؤلاء لا نصنّفهم من فريق المحاورين والمجادلين، بل من فريق الظَّالمين الَّذي يريد أن يفرض نفسه على أرضنا وأمَّتنا ومستقبلنا بالقوَّة.
- وَقُولُوا – أيُّها اليهود والنَّصارى - آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ – وإن اختلفنا في خصوصيَّة التَّوحيد - وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46].
فالله سبحانه وتعالى يقول للمسلم ابحث عن مواقع اللّقاء، حتَّى تعيش المناخ التَّصالحيّ مع الآخر، وتعطيه إيحاءً بأنَّ هناك أرضاً مشتركة بينك وبينه، فلنقف على هذه الأرض معاً، فإذا وصلنا إلى نقطة الافتراق، فإمَّا أن تجرّني إلى ساحتك، أو أجرّك إلى ساحتي.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[آل عمران: 64]. هذا هو الأسلوب القرآنيّ، وهذا الأسلوب ليس مطلوباً فقط مع أهل الكتاب، بل مع كلّ من بيننا وبينه كلمة سواء، فبعض النَّاس قد لا يؤمنون بالله، ولكن هناك كلمة سواء بيننا وبينهم في القضيَّة الفلسطينيَّة، فنمشي معهم في هذه القضيَّة، وهناك مَنْ بيننا وبينهم كلمة سواء في مواجهة الاستكبار العالميّ، أيضاً نمشي معهم، وعندما نصل إلى نقطة الافتراق، يذهب كلّ منّا في طريق، إذا لم نستطع أن يقنع بعضنا بعضاً...
{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصّلت: 34]. فإذا حدثت مشكلة، فهناك أسلوب العنف وأسلوب الرّفق، فاختر أسلوب الرّفق الَّذي يحوّل أعداءك إلى أصدقاء، يعني تحدَّث باللّغة الَّتي تفتح قلوب أعدائك، حتَّى يقتنعوا بكلامك، ليصيروا أصدقاء لك ولدينك ولقضيَّتك.
الابتعادُ عن التَّعميم
وهذا هو، أيُّها الأحبَّة، الَّذي ينبغي لنا أن ندرج عليه، وهذا هو أسلوب النَّبيّ (ص)، يعني نحن الآن نضع خطّاً أحمر على كلّ أمريكا وعلى كلّ الغرب، ونفترض أنّهم كلّهم أعداؤنا، ولكن ليس كلّ الأمريكيّين يعيشون العداوة لنا، ولا كلّ الغربيّين، فهناك مَنْ عندهم ذهنيَّة منفتحة، وهناك ناس يدافعون عن الإسلام وإن لم يكونوا مسلمين.
في الأسبوع الماضي، زارني قسّ أمريكيّ مستشرق يتقن اللّغة العربيَّة ويعيش في موريتانيا، وقال لي إنَّه درس الإسلام وفهمه، وأخبرني بأنَّه ينتقل من كنيسة إلى كنيسة حتّى يحدّث الأمريكيّين عن الإسلام، ويقنعهم بأنَّ فهمهم للإسلام ليس صحيحاً، وقال إنَّه بعد أحداث 11 أيلول، وبعد أن احتجّ البعض منهم بأنَّ علماء المسلمين لم يستنكروا ما حدث، اطَّلع على موقفي عبر الإنترنت، وترجمه إلى الإنكليزيَّة ووزّعه على الكثير من الأمريكيّين..
فليس بالضَّرورة أن نعلن عداءنا لكلّ الأمريكيّين. نعم، الأمريكيّون صارت عندهم صدمة وهزّة، وقد اشتغل الإعلام اليهودي وإعلام الدّولة الخاضعة لليهود من أجل تعقيد الأمريكيّين وإثارة نزعتهم الوطنيَّة ضدّ المسلمين، لكن عندما يكون هناك ناس يفهموننا خطأً، فإنَّ علينا أن نعطي الفرصة لكي يفهمونا بشكل صحيح، لأنّنا بحاجة إلى العالم، لأنَّ حركتنا السياسيَّة والاقتصاديّة والأمنيّة مرتبطة بالعالم، شئنا أم أبينا.
وليس معنى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أن نتنازل عن مبادئنا، ولو بنسبة الواحد في المئة، فالحوار ليس معناه التّنازل، بل أن يكون منطلقاً من خطّة لنربح النّاس.. والله عندما يقول: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، ماذا يقول بعدها؟ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصّلت: 35]، فالإنسان الَّذي يريد أن يمتصّ السَّلبيَّات، ويضغط على مشاعره وحواسّه، ولا سيّما إذا كان أمام مَنْ بينَهُ وبينَهُ عداوة، هذا الإنسان يحتاج إلى صبر، والله يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134].
الوعيُ في الخلاف
هذا هو الأسلوب الَّذي نستطيع من خلاله أن نقتدي برسول الله، حتَّى نربح العالم لحساب ديننا، ولحساب قضايانا، وحتَّى يربح بعضنا بعضاً.
ونحن أخذنا في أساليبنا من كثير من التيَّارات غير الإسلاميَّة القائمة بالعنف، والَّتي يدمّر فيها الإنسان خصمه ويشهّر به ويسقطه، ونحن إسلاميّون، ولكنَّنا مشينا خلفهم، فترى الواحد منَّا لا يطيق الآخر، وإذا ما اختلف معه، تراه مستعدّاً لأن يدمّره، وأن يستحلّ كلّ المحرَّمات معه، ويذبحه على القبلة، تحت عنوان أنا الحقّ وهو الباطل، وأنا الإسلام وهو الكفر. ولكنّ الله يقول لنا إذا اختلفنا: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍۢ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ}[النّساء: 59]، وحتَّى الحسين (ع) قال: "وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ". إنّ كتاب الله أمامنا، وسنّة النّبي أمامنا، فلنحتكم إليهما، لنعرف من منّا على الحقّ ومن منّا على الباطل.
هناك كثير من النَّاس يقول لك أنا الإسلام وأنا الحقَّ وأنا النَّاطق باسم الله.. لا، أنت تخطئ وتصيب، وأنا أخطئ وأصيب، فلنترافق في رحلة البحث عن الحقيقة.
لقد دخلت العصبيَّة في الفكر، كما دخلت في السياسة والاجتماع، وهذا الَّذي نعيشه في حياتنا أمام التحدّيات الكبرى.
استكمالُ مسيرة الحسين (ع)
الحسين (ع) كان الإنسانَ المحاور، لأنَّ الحسين (ع)، كما ذكرنا، لم يأتِ محارباً، بل جاء فاتحاً للقلوب والعقول، جاء حتَّى يفتح عقول النَّاس على الحقّ والخير والعدل. ولذلك، عندما ننظر إلى مسيرته (ع) في كلّ من التقاهم حتَّى في عاشوراء، نرى أنَّ أسلوبه معهم كان أسلوب الحوار الَّذي يذكّرهم بالله تعالى، وقد أُحرِجُوا من أسلوبه، ولذلك كان كلامهم: "مَا نَدْرِي مَا تَقُولُ، وَلَكِنْ انْزِلْ عَلَى حُكْمِ بَنِي عَمِّكَ"، فلم يكن عندهم لغة حوار ولغة تفاهم، لأنَّ الأطماع والقوَّة سيطرت عليهم، وانحسرت عنهم المبادئ الحقيقيَّة.
هذا ما لا بدَّ لنا أن نعيشه وأن نتحمَّل مسؤوليَّته...
إنَّ عاشوراء تناديكم، أنَّ مسؤوليَّتكم هي أن تكملوا مسيرة الحسين (ع)، ومسيرة الحسين هي الإسلام، فالحسين ليس عنده شيء خاصّ، بل عنده الإسلام. لذلك، مسؤوليَّتنا، كما علَّمنا الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) في البرنامج اليوميّ: "وَوَفِّقْنَا فِي يَوْمِنَا هذا ولَيْلَتِنَا هذِهِ، وَفِي جَمِيعِ أيّامِنَا، لاسْتِعْمَالِ الْخَيْرِ، وَهِجْـرَانِ الشَرِّ، وَشُكْـرِ النِّعَمِ، وَاتّبَـاعِ السُّنَنِ، وَمُجَانَبَةِ البِدَعِ، وَالأمْرِ بِـالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَحِياطَةِ الإسْلاَمِ، وَانْتِقَاصِ الْبَاطِلِ وَإذْلالِهِ، وَنُصْرَةِ الْحَقِّ وَإعْزَازِهِ، وَإرْشَادِ الضَّالِّ، وَمُعَاوَنَةِ الضَّعِيفِ، وَإدْرَاكِ اللَّهِيْفِ".
هذا هو البرنامج اليوميّ للإنسان المسلم، ومنه حياطة الإسلام.. فلنتحمّل مسؤوليَّتنا؛ أن تكون حياتنا اليوميَّة حياة مسؤولة، أن نخطّط لحياتنا الفرديَّة كما نخطّط لحياتنا السياسيَّة والاجتماعيَّة.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لا تكن نهاية المطاف عندكم في عاشوراء، أقبلوا على كلّ مواقع الثَّقافة الإسلاميَّة، وكلّ مواقع الوعظ الإسلاميّ، وكلّ مواقع العبادة الإسلاميَّة.
المساجد حصون الوعي
في هذه اللَّيلة، نتحدَّث عن أنصار الحسين، والحسين معهم، كانوا بين قائم وقاعد وراكع وساجد وتال للقرآن، كانوا يعيشون مع الله. وفي يوم عاشوراء، كان الحسين (ع) وهو بين الصفَّين، يصلّي، ووقف أوَّل استشهاديّ أمامه ليردَّ السّهام عنه، ويستقبل السَّهام بيده وصدره، حتّى عندما سقط، قال للحسين (ع): "يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ، أَوَفَيْتُ؟! قَالَ: نعمَ، أنْتَ أَمَامِي فِي الجَنَّة"، وهذا أوَّل استشهاديّ بمعنى الاستشهاد بهذه الطَّريقة في معسكر الإمام الحسين (ع).
لذلك، أدعوكم أن لا تتركوا مساجدكم.. هناك كلمة للإمام الخميني (رض) يقول فيها: "مساجدُكُمْ متاريسُكُمْ"، فهناك متاريس ضدّ العدوّ، وهناك متاريس ضدَّ الشَّيطان، ونحن محتاجون إلى متاريس ضدّ الشَّيطان، لأنَّها تحمينا من أنفسنا الَّتي يمكن أن تسقط أمام العدوّ.
لهذا، لا تتركوا المساجد، وخصوصاً المساجد الَّتي يذكر فيها اسم الله، مساجد الوعي والموعظة، ومساجد الثَّقافة الإسلاميَّة، ولا تسمعوا لأيّ أحد يدعوكم إلى عدم الصَّلاة في هذا المسجد أو ذاك المسجد، {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}[الأعراف: 45]، فكأنّه لا بأس في أن يصبح الشّباب في الشَّوارع، ولكن المهمّ أن لا يصلّوا في هذا المسجد أو ذاك. وأنا أقول لكم: صلّوا في كلّ المساجد {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجنّ: 18]، وخصوصاً صلاة الجمعة، لأنَّ الله لم يركّز على صلاة كما ركَّز على صلاة الجمعة، ومع الأسف أنَّ الشّيعة تركوها في أكثر تاريخهم إلّا القليل، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الجمعة: 9 - 10].
ثمَّ يحدّثنا الله عن جماعة في ذاك الوقت، كما هو موجود في هذا الوقت ممّن يقولون إنَّ صلاة الجمعة غير واجبة: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ ۚ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ}[الجمعة: 11]، فهي ساعة قد تربح فيها وعيك لله وهداك، والله هو الَّذي يرزقنا.
أيُّها الأحبَّة، كان الحسين (ع) للإسلام كلّه، وللإنسان كلّه، وللحقّ كلّه، وللعدل كلّه، فلنكن للحسين كلّه، ولله بكلّنا، وللإسلام بكلّنا.

*محاضرة عاشورائيّة، ليلة العاشر من محرّم، بتاريخ: 23/03/2002م.

نحن هنا للعبرة، لنأخذ من دروس عاشوراء ما يقوّي فكرنا، ويشدّ عزيمتنا، ويفتح لنا أبواب الحياة الحرَّة الكريمة الواعية المنفتحة على الله، وعلى مصلحة الإنسان كلّه من أوسع آفاقها.
ونحن هنا للقدوة، لأنَّ مسألة القدوة هي مسألة أن يتحوَّل الإنسان إلى قيم تتجسَّد، بحيث إنَّك عندما تراه، ترى القيمة متجسّدةً فيه، كما لو كانت شخصاً متجسّداً بالقيم.
الرَّسولُ القدوة
والقلَّةُ في التَّاريخ هم الَّذين يمثّلون التَّجسيد الحيّ لأفكارهم ورسالتهم، وقد قدَّم لنا الله سبحانه وتعالى رسوله (ص)، باعتباره القدوة الَّتي يريد للنَّاس أن يتحركوا معها، وأن يتابعوا كلّ خطواتها، سلماً أو حرباً، انفتاحاً أو انغلاقاً، سلباً أو إيجاباً، لأنَّ رسول الله (ص) كان يجسّد الإسلام كلَّه؛ كان الإسلامُ عقلَه، وكان قلبَه وخلقَه، وكان اللهُ كلَّ شيء في ذاته، حتَّى إنَّه، وهو الَّذي أكَّد بشريَّته في أكثر من آية {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ}[الكهف: 110]، كان يذوب في الله، لتتحوَّل بشريَّته إلى فيض من الرّوح {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21]، فتأسَّوا به، وتابعوه في كلّ صفاته.
وقد حدَّثنا الله عن الجانب الاجتماعيّ الإنسانيّ الحركيّ الحيّ في صفات النَّبيّ (ص)، وهو الجانب الَّذي يركّز توازن الحياة في العلاقات الإنسانيَّة فيما بيننا، لأنَّ أخطر شيء في واقع الإنسان الفرد، أن يعيش فرديَّته منفصلاً عن الواقع الاجتماعيّ، بأن يعيش ذاته، ولا يلتفت إلى النَّاس من حوله، على طريقة ذلك الشَّاعر المهجريّ الَّذي يتحدَّث على لسان بعض النَّاس:
مَا عليْنا إِنْ قَضَى الشَّعْبُ جَمِيعاً      أَفلَسْنَا في أَمَانْ
فهو لا يفكّر في النَّاس، ولا في المجتمع، ولا في الأمَّة، فهمومه هموم الذَّات وليست هموم الإنسان، ولذلك، فإنَّه لا يحترم إنسانيَّة الآخر في إنسانيَّته.
من صفاتِ الرَّسول (ص)
لذلك، أراد الله أن يقدّم إلينا النَّبيّ (ص) في الجانب الأخلاقيّ من شخصيَّته المتَّصل بالحياة الاجتماعيَّة، لا الجانب الأخلاقيّ المتَّصل بذاتيّاته، قال تعالى:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ - لم يأتكم من الملائكة ولا من المرّيخ، بل جاء من داخل مجتمعكم، وهو مثلكم، أبوه وأمّه كمثل آبائكم وأمَّهاتكم - ما هي صفاته؟ أنَّه يتطلَّع إلى المجتمع؛ إلى المتألمين والمتعبين والمظلومين والفقراء، وكلّ مواقع التَّعب والمشقَّة لدى المجتمع، فيتفاعل مع هذه الآلام الإنسانيَّة، ويشعر بثقلها على نفسه، بحيث يشقّ عليه ما يشقّ على النَّاس، ويؤلمه ما يؤلمهم، فهو ليس حياديّاً أمام آلام النَّاس، بل إنّه يندمج بهذه الآلام ويتفاعل معها.
- عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ – والعنت يعني المشقَّة والتَّعب، أي يعزّ عليه، يؤلمه ويثقله كلّ ما يشقّ عليكم من شؤون الحياة، فهو يعيش هذا الإحساس الإنسانيّ بالأمَّة.
ثمَّ من صفاته أنَّه يتحمَّل مسؤوليَّة حماية الأمَّة بطاقاتها، فيواجه الأخطار الَّتي تتحدّاها، والمشاكل الّتي تعيش في داخلها، من التَّمزّقات التي تتحرَّك فيها، إلى التَّخلّف الَّذي يفرض نفسه عليها، إلى الجهل الَّذي يزحف إلى عقولها، والخرافة الَّتي تفرض نفسها على ذهنيَّتها مما يمكن أن يسقطها، فيحاول أن يرفعها ويحميها، ويحرص عليها أن لا تسقط وتضلّ، فيعطيها عناصر التقدّم في مواجهة التخلّف، وعناصر العلم في مواجهة الجهل، وعناصر الحقيقة في مواجهة الخرافة، وقاعدة الوحدة في خطوط التفرق والتمزّق.
- حَرِيصٌ عَلَيْكُم - يحرص على وحدتكم ووعيكم ومسيرتكم في خطّ التَّقدّم وما يرفع مستواكم، فكما يحرص الإنسان في حياته الخاصَّة على ماله، وكما تحرص الأمّ على ولدها عندما تعترضه الأخطار، وكما يحرص الإنسان على نفسه حتّى يجنّبها الأذى، كذلك يحرص النبيّ على الأمَّة.
- بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ - يرأف بهم، ويعطف عليهم، ويحنو عليهم، ويتفجَّر ينبوع الحنان والرَّأفة من قلبه ليفيض عليهم، ليشعروا بالطّمأنينة.
رَّحِيمٌ}[التّوبة: 128] يقدّم إليهم عقلاً يرحم جهلهم وتخلّفهم، ويعطيهم رحمة من قلبه وعلمه، والرَّحمة الكبرى هي رحمة رسالته {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]، رحمة الأفق الواسع الَّذي يخرج الأمَّة من كلّ هذا الأفق الضيّق والدَّائرة الضيّقة، والله يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21].
فإذا كنتم في مواقع المسؤوليَّة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، كونوا المسؤولين الَّذين تثقلهم آلام الأمَّة ومتاعبها، والَّذين يحرصون على حاضر الأمَّة ومستقبلها، فلا تتحرّك نوازعهم الذاتيَّة بما يتعب الأمَّة ويسقطها. كونوا المسؤولين الَّذين يعيشون الرأفة بالأمَّة، لا الَّذين يريدون أن يجعلوها بقرة حلوباً يشربون من لبنها ولا يعطونها شيئاً، كونوا الرّحماء الّذين يرحمون ضعفها وظروفها وآلامها..
هذا هو رسول الله، وهو الأسوة الحسنة، فاقتدوا به في هذه الأخلاق.
اللّينُ والرّحمةُ بالنَّاس
والله يقول أيضاً: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ}. بماذا رحم الله النَّاس؟ بأنَّ رسوله كان ليّن القلب معهم، ورقيقاً وحنوناً في عيشه معهم، تنبض نبضاته بالمحبَّة لهم جميعاً، ليّن الكلمة، لا يقسو في الكلام مع أحد، لأنَّ من مسؤوليَّة صاحب الرّسالة أن يخطّط ليُدخل رسالته في قلوب النَّاس، ليكون القلب هو النَّافذة التي تطلّ على العقل، لأنَّ من المعروف إنسانيّاً، أنَّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو قلبه، اربح قلوب النَّاس تنفتح لك عقولهم، لأنَّ الإنسان عندما يحبّك، يحبّ ما تؤمن به، ويحبّ أن يسمع لك، وأن يعرف أفكارك.
ونحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ كثيراً من النَّاس ضلَّلهم الحبّ، كما أنَّ كثيراً من النَّاس هداهم الحبّ، هناك الكثير ممن انحرفوا عن الطَّريق، لأنهم أحبّوا ورافقوا أناساً لا يؤمنون بالله، فقادهم حبّهم لهم إلى الانحراف، وهذه مسألة تعرفونها، فهناك كثير من النَّاس انحرفوا من خلال من يصادقون ومن يعشقون، حتّى إنّ البعض يرتكب جرائم، لأنَّ الحبّ لا يحسب حسابات دقيقة، بل إنّه ينطلق من خلال الحالة النفسيَّة التي تندمج بمن يُحَبّ. وهناك بعض النَّاس أيضاً انفتحوا على الخير، لانفتاحهم على الَّذين يمثّلون الخير. لذلك، مسألة الحبّ هي من المسائل الحيويَّة في حركيَّة الإنسان الرساليّ.
تأثيرُ الكلمة
ومن عناصر الحبّ، أن ينفتح الشَّخص بقلبه على النّاس، وأن تكون كلماته من أفضل الكلمات، لأنَّ الكلمة تجذب، والإحساس يجذب، وقد كان أعداء النَّبيّ (ص) يعيشون أزمة منه، وذلك لأنَّه كان يفرض محبَّته على كلّ النَّاس الَّذين حوله، حتَّى الَّذين يعادونه. لذلك، لم يستطيعوا إلَّا أن يفتروا عليه ليبعدوا النَّاس عنه، فقالوا عنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون، لكن لم يقل أحد إنَّه ليس إنساناً، لأنّ إنسانيَّته كانت تفرض نفسها على كلّ الواقع، لم يعرف قلبه الحقد، كان يُتَّهم ويُضرَب بالحجارة، وكان يرفع يديه إلى السَّماء ويقول: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون"، لا تعذّبهم يا الله، فلا تزال الصَّنميَّة متحجّرة في عقولهم، أعطهم فرصة، لأنَّ العقل عندما يتحجَّر، يحتاج إلى كثير من الجهد لتتكسّر حجارته. وحتَّى عندما سيطر على هؤلاء الَّذين أربكوا دعوته ورسالته، وشغلوا مرحلته بالحروب من حرب إلى حرب، عندما سيطر عليهم، قال لهم: "مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ"، فما عرفناك إلَّا بكرم الأخلاق وكرم النَّفس، ولذلك نحن لا نخاف من هذه السَّيطرة ومن هذه الغلبة، صحيح أنَّك فتحت مكَّة، ولكنَّك فتحت الأفق الواسع لكلّ أهلها.. وعندما دخل النَّبيّ (ص) مكّة، كانت رايته بيد بعض الأنصار الَّذي أخذه العنفوان، فراح يقول:
اليومَ يومُ الملحمة اليومَ تُسبَى الحُرُمَة
وجاء شخص إلى النّبيّ (ص) وأخبره بما يقول، فطلب النَّبيّ (ص) من الإمام عليّ (ع) أن يأخذ الرَّاية ويقول:
اليومَ يومُ المرحمة اليومَ تصانُ الحُرُمَة
وكان أبو سفيان قائد المشركين، وهو في كلّ تاريخه إلى حين هزيمته، كان يعمل ضدّ النَّبيّ والرّسالة، ومع ذلك، أراد النّبيّ أن يقدّم إليه خدمة حتّى يخرج الحقد الموجود في قلبه، فقال (ص): "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ"، ولذلك قال لهم: "اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ".
ولذلك، عندما خاطبت السيّدة زينب (ع) يزيد، ذكَّرته بهذا العفو النَّبويّ، وقالت له: "أَمِنَ الْعَدْلِ يَا بْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ، وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا؟!"، ذكَّرته بعفو جدّها الرَّسول عن جدّه وعن كلّ النَّاس، وكأنّها تقول له: هذا ما فعله جدّي، فماذا فعلْت أنت؟!
وقد نظم ذاك الشَّاعر أبياتاً حول ذلك، فقال:
مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَما غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَحُ
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا وكلُّ إِناءٍ بالَّذي فيهِ يَنْضَحُ
فإذا كان الماء صافياً وحلواً، نضح الإناء بالماء الحلو الصّافي، وإذا كان عكراً نضح بما فيه، وكذلك الأخلاق. لذلك، قال الله للنَّبيّ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ – فسمعوا كلامك وانفتحوا عليه، فدخل إلى قلوبهم وعقولهم، وتحرَّك في حياتهم - وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159].
الأسلوبُ الحسن
وهذا هو البرنامج الإسلاميّ في العلاقات الاجتماعيَّة الإنسانيَّة، سواء في المجالات الدّينيَّة أو السياسيَّة أو الاجتماعيَّة، حتَّى في بعض المسائل الاقتصاديَّة، عندما تريد أن تجذب الزَّبائن إليك.
فإذا كنت تريد أن تنفذ إلى عمق المجتمع، فافتح قلبك للنَّاس، وانزع الشَّرَّ من صدرك، تكلَّم بالكلمة الحلوة الَّتي تجتذب النَّاس، وابتعد عن كلمات الحقد والعداوة والبغضاء.. ونحن قد نكون تعلَّمنا أن نكون وسواسيّين، فنتوضّأ عشرات المرّات، ونصلّي عشرات المرّات، لكنَّنا لم نتعلَّم من القرآن كيف نتكلَّم مع النَّاس، ولا كيف نتحاور معهم، ولا كيف ندفع المشاكل بالطَّرق الأفضل، فالله كما قال لك: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 43]، قال أيضاً: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: 53]، فعندما تريد أن تتكلَّم الكلمة، لا تطلقها كيفما كان، كما عندما يقول البعض: سأقول كلمتي وليحصل ما يحصل، ولو خربت الدّنيا. وهذا لا يجوز، فعندما تكون في المجتمع، كما عندما تكون على البيدر، عليك أن تطفئ سيجارتك، وإلَّا إذا ألقيتها كيفما كان، فقد تتسبَّب بالحرائق، وكثير من الحرائق يحرق الغابات كلّها... كذلك الأمر عندما تريد أن تلقي الكلمة في البيدر الاجتماعي والبيدر السياسي والبيادر الدّينيَّة، عندما تريد أن تسبَّ هؤلاء النّاس وأولئك النَّاس، فقد تحرق الكلمة بلداً، ألا يقال: "رُبَّ كلمةٍ سلبَتْ نعمةً".
عندما تذهب إلى السّوق لتشتري الفاكهة أو الخضار أو أيّ شيء، ألا تختار الأفضل والأحسن منها؟ وكذلك عندما تريد أن تتكلّم، عليك أن تختار الأفضل والأحسن من الكلمات، والله يقول: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ – لماذا؟ - إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ - فالشَّيطان يدخل في عبّ الكلمة - إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}[الإسراء: 53].
وعندنا تجربة في هذا المجال، فكم خلقت لنا الكلمات الطَّائفيَّة حروباً! وكم خلقت لنا الكلمات المذهبيَّة فتناً! وكذلك الكلمات العصبيَّة الحزبيَّة، والكلمات العصبيَّة العشائريَّة، وذلك عندما نتحدَّث بالكلمة دون أن نفكّر فيها، بل نطلقها من خلال عصبيَّاتنا.
بينَ الأحمقِ والعاقل
والكلام يجرّ الكلام، ولا أريد الإطالة عليكم، لكن نحتاج إلى أن نخرج من مجلس الحسين أكثر وعياً، وليس أكثر بكاءً، لأنَّ الحسين يحتاج إلى وعينا حتَّى نستمرّ في مسيرته، والدموع حالة عاطفيَّة.
الإمام عليّ (ع) فرَّق بين الأحمق والعاقل، فقال: "قَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ، وَلِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ"، والمقصود بالقلب منطقة الوعي الدَّاخلي. كيف ذلك؟
لأنَّ الأحمق إذا طرأت الكلمة في ذهنه تكلَّمها، ثمَّ بعد ذلك، إذا خلقت له الكلمة مشاكل، يقول للعقل دبّرني، فاللّسان هو القائد عنده والعقل جنديّ. أمَّا العاقل، فإذا طرأت الكلمة في ذهنه، تدبَّرها ودرس سلبيَّاتها وإيجابيَّاتها، خسائرها وأرباحها، هل تنتج سلماً أم حرباً، مشكلة أم حلًّا، "فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَدَبَّرَهُ في نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ، وَإِنْ كَانَ شَرَّاً وَارَاهُ"، فالقلب هو القيادة، واللّسان جنديٌّ من جنوده...
والله يقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ – إلى سبيله في العبادات والواجبات والمحرَّمات، سبيله في الحرب والسّلم، وفي السياسة والاجتماع، وفي كلّ ما يرضيه – بِالْحِكْمَةِ - والحكمة هو وضع الشَّيء في موضعه - وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ - الَّتي تفتح قلوب النَّاس - وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النّحل: 125]، أن يكون جدالك مع الآخرين بالأسلوب الطيّب والأفضل.
الجدالُ معَ أهلِ الكتاب
وكم بيننا وبين أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى! ومع ذلك، يقول الله إنَّ هناك اختلافاً بينكم وبينهم في مسائل العقيدة، فلديهم وجهة نظر في التَّوحيد تختلف عن وجهة نظركم، لكن لا ينبغي أن يكون الجدل معهم منطلقاً من عقدة نفسيَّة، بأن تجادل اليهودي أو النّصرانيّ بعقليَّة الغالب والمغلوب - من ناحية فكريَّة - وعقليَّة تسجيل النقاط، بل بالأسلوب الإنسانيّ الّذي يفتح عقله وقلبه {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ - لأنَّ الظَّالم لا يتقبَّل الحوار ولا يريده، بل يريد أن يضربك ويؤذيك، كما في يهود إسرائيل، وربّما يهود العالم، في هذه الأيَّام، هؤلاء لا نصنّفهم من فريق المحاورين والمجادلين، بل من فريق الظَّالمين الَّذي يريد أن يفرض نفسه على أرضنا وأمَّتنا ومستقبلنا بالقوَّة.
- وَقُولُوا – أيُّها اليهود والنَّصارى - آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ – وإن اختلفنا في خصوصيَّة التَّوحيد - وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46].
فالله سبحانه وتعالى يقول للمسلم ابحث عن مواقع اللّقاء، حتَّى تعيش المناخ التَّصالحيّ مع الآخر، وتعطيه إيحاءً بأنَّ هناك أرضاً مشتركة بينك وبينه، فلنقف على هذه الأرض معاً، فإذا وصلنا إلى نقطة الافتراق، فإمَّا أن تجرّني إلى ساحتك، أو أجرّك إلى ساحتي.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[آل عمران: 64]. هذا هو الأسلوب القرآنيّ، وهذا الأسلوب ليس مطلوباً فقط مع أهل الكتاب، بل مع كلّ من بيننا وبينه كلمة سواء، فبعض النَّاس قد لا يؤمنون بالله، ولكن هناك كلمة سواء بيننا وبينهم في القضيَّة الفلسطينيَّة، فنمشي معهم في هذه القضيَّة، وهناك مَنْ بيننا وبينهم كلمة سواء في مواجهة الاستكبار العالميّ، أيضاً نمشي معهم، وعندما نصل إلى نقطة الافتراق، يذهب كلّ منّا في طريق، إذا لم نستطع أن يقنع بعضنا بعضاً...
{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصّلت: 34]. فإذا حدثت مشكلة، فهناك أسلوب العنف وأسلوب الرّفق، فاختر أسلوب الرّفق الَّذي يحوّل أعداءك إلى أصدقاء، يعني تحدَّث باللّغة الَّتي تفتح قلوب أعدائك، حتَّى يقتنعوا بكلامك، ليصيروا أصدقاء لك ولدينك ولقضيَّتك.
الابتعادُ عن التَّعميم
وهذا هو، أيُّها الأحبَّة، الَّذي ينبغي لنا أن ندرج عليه، وهذا هو أسلوب النَّبيّ (ص)، يعني نحن الآن نضع خطّاً أحمر على كلّ أمريكا وعلى كلّ الغرب، ونفترض أنّهم كلّهم أعداؤنا، ولكن ليس كلّ الأمريكيّين يعيشون العداوة لنا، ولا كلّ الغربيّين، فهناك مَنْ عندهم ذهنيَّة منفتحة، وهناك ناس يدافعون عن الإسلام وإن لم يكونوا مسلمين.
في الأسبوع الماضي، زارني قسّ أمريكيّ مستشرق يتقن اللّغة العربيَّة ويعيش في موريتانيا، وقال لي إنَّه درس الإسلام وفهمه، وأخبرني بأنَّه ينتقل من كنيسة إلى كنيسة حتّى يحدّث الأمريكيّين عن الإسلام، ويقنعهم بأنَّ فهمهم للإسلام ليس صحيحاً، وقال إنَّه بعد أحداث 11 أيلول، وبعد أن احتجّ البعض منهم بأنَّ علماء المسلمين لم يستنكروا ما حدث، اطَّلع على موقفي عبر الإنترنت، وترجمه إلى الإنكليزيَّة ووزّعه على الكثير من الأمريكيّين..
فليس بالضَّرورة أن نعلن عداءنا لكلّ الأمريكيّين. نعم، الأمريكيّون صارت عندهم صدمة وهزّة، وقد اشتغل الإعلام اليهودي وإعلام الدّولة الخاضعة لليهود من أجل تعقيد الأمريكيّين وإثارة نزعتهم الوطنيَّة ضدّ المسلمين، لكن عندما يكون هناك ناس يفهموننا خطأً، فإنَّ علينا أن نعطي الفرصة لكي يفهمونا بشكل صحيح، لأنّنا بحاجة إلى العالم، لأنَّ حركتنا السياسيَّة والاقتصاديّة والأمنيّة مرتبطة بالعالم، شئنا أم أبينا.
وليس معنى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أن نتنازل عن مبادئنا، ولو بنسبة الواحد في المئة، فالحوار ليس معناه التّنازل، بل أن يكون منطلقاً من خطّة لنربح النّاس.. والله عندما يقول: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، ماذا يقول بعدها؟ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصّلت: 35]، فالإنسان الَّذي يريد أن يمتصّ السَّلبيَّات، ويضغط على مشاعره وحواسّه، ولا سيّما إذا كان أمام مَنْ بينَهُ وبينَهُ عداوة، هذا الإنسان يحتاج إلى صبر، والله يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134].
الوعيُ في الخلاف
هذا هو الأسلوب الَّذي نستطيع من خلاله أن نقتدي برسول الله، حتَّى نربح العالم لحساب ديننا، ولحساب قضايانا، وحتَّى يربح بعضنا بعضاً.
ونحن أخذنا في أساليبنا من كثير من التيَّارات غير الإسلاميَّة القائمة بالعنف، والَّتي يدمّر فيها الإنسان خصمه ويشهّر به ويسقطه، ونحن إسلاميّون، ولكنَّنا مشينا خلفهم، فترى الواحد منَّا لا يطيق الآخر، وإذا ما اختلف معه، تراه مستعدّاً لأن يدمّره، وأن يستحلّ كلّ المحرَّمات معه، ويذبحه على القبلة، تحت عنوان أنا الحقّ وهو الباطل، وأنا الإسلام وهو الكفر. ولكنّ الله يقول لنا إذا اختلفنا: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍۢ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ}[النّساء: 59]، وحتَّى الحسين (ع) قال: "وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ". إنّ كتاب الله أمامنا، وسنّة النّبي أمامنا، فلنحتكم إليهما، لنعرف من منّا على الحقّ ومن منّا على الباطل.
هناك كثير من النَّاس يقول لك أنا الإسلام وأنا الحقَّ وأنا النَّاطق باسم الله.. لا، أنت تخطئ وتصيب، وأنا أخطئ وأصيب، فلنترافق في رحلة البحث عن الحقيقة.
لقد دخلت العصبيَّة في الفكر، كما دخلت في السياسة والاجتماع، وهذا الَّذي نعيشه في حياتنا أمام التحدّيات الكبرى.
استكمالُ مسيرة الحسين (ع)
الحسين (ع) كان الإنسانَ المحاور، لأنَّ الحسين (ع)، كما ذكرنا، لم يأتِ محارباً، بل جاء فاتحاً للقلوب والعقول، جاء حتَّى يفتح عقول النَّاس على الحقّ والخير والعدل. ولذلك، عندما ننظر إلى مسيرته (ع) في كلّ من التقاهم حتَّى في عاشوراء، نرى أنَّ أسلوبه معهم كان أسلوب الحوار الَّذي يذكّرهم بالله تعالى، وقد أُحرِجُوا من أسلوبه، ولذلك كان كلامهم: "مَا نَدْرِي مَا تَقُولُ، وَلَكِنْ انْزِلْ عَلَى حُكْمِ بَنِي عَمِّكَ"، فلم يكن عندهم لغة حوار ولغة تفاهم، لأنَّ الأطماع والقوَّة سيطرت عليهم، وانحسرت عنهم المبادئ الحقيقيَّة.
هذا ما لا بدَّ لنا أن نعيشه وأن نتحمَّل مسؤوليَّته...
إنَّ عاشوراء تناديكم، أنَّ مسؤوليَّتكم هي أن تكملوا مسيرة الحسين (ع)، ومسيرة الحسين هي الإسلام، فالحسين ليس عنده شيء خاصّ، بل عنده الإسلام. لذلك، مسؤوليَّتنا، كما علَّمنا الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) في البرنامج اليوميّ: "وَوَفِّقْنَا فِي يَوْمِنَا هذا ولَيْلَتِنَا هذِهِ، وَفِي جَمِيعِ أيّامِنَا، لاسْتِعْمَالِ الْخَيْرِ، وَهِجْـرَانِ الشَرِّ، وَشُكْـرِ النِّعَمِ، وَاتّبَـاعِ السُّنَنِ، وَمُجَانَبَةِ البِدَعِ، وَالأمْرِ بِـالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَحِياطَةِ الإسْلاَمِ، وَانْتِقَاصِ الْبَاطِلِ وَإذْلالِهِ، وَنُصْرَةِ الْحَقِّ وَإعْزَازِهِ، وَإرْشَادِ الضَّالِّ، وَمُعَاوَنَةِ الضَّعِيفِ، وَإدْرَاكِ اللَّهِيْفِ".
هذا هو البرنامج اليوميّ للإنسان المسلم، ومنه حياطة الإسلام.. فلنتحمّل مسؤوليَّتنا؛ أن تكون حياتنا اليوميَّة حياة مسؤولة، أن نخطّط لحياتنا الفرديَّة كما نخطّط لحياتنا السياسيَّة والاجتماعيَّة.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لا تكن نهاية المطاف عندكم في عاشوراء، أقبلوا على كلّ مواقع الثَّقافة الإسلاميَّة، وكلّ مواقع الوعظ الإسلاميّ، وكلّ مواقع العبادة الإسلاميَّة.
المساجد حصون الوعي
في هذه اللَّيلة، نتحدَّث عن أنصار الحسين، والحسين معهم، كانوا بين قائم وقاعد وراكع وساجد وتال للقرآن، كانوا يعيشون مع الله. وفي يوم عاشوراء، كان الحسين (ع) وهو بين الصفَّين، يصلّي، ووقف أوَّل استشهاديّ أمامه ليردَّ السّهام عنه، ويستقبل السَّهام بيده وصدره، حتّى عندما سقط، قال للحسين (ع): "يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ، أَوَفَيْتُ؟! قَالَ: نعمَ، أنْتَ أَمَامِي فِي الجَنَّة"، وهذا أوَّل استشهاديّ بمعنى الاستشهاد بهذه الطَّريقة في معسكر الإمام الحسين (ع).
لذلك، أدعوكم أن لا تتركوا مساجدكم.. هناك كلمة للإمام الخميني (رض) يقول فيها: "مساجدُكُمْ متاريسُكُمْ"، فهناك متاريس ضدّ العدوّ، وهناك متاريس ضدَّ الشَّيطان، ونحن محتاجون إلى متاريس ضدّ الشَّيطان، لأنَّها تحمينا من أنفسنا الَّتي يمكن أن تسقط أمام العدوّ.
لهذا، لا تتركوا المساجد، وخصوصاً المساجد الَّتي يذكر فيها اسم الله، مساجد الوعي والموعظة، ومساجد الثَّقافة الإسلاميَّة، ولا تسمعوا لأيّ أحد يدعوكم إلى عدم الصَّلاة في هذا المسجد أو ذاك المسجد، {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}[الأعراف: 45]، فكأنّه لا بأس في أن يصبح الشّباب في الشَّوارع، ولكن المهمّ أن لا يصلّوا في هذا المسجد أو ذاك. وأنا أقول لكم: صلّوا في كلّ المساجد {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجنّ: 18]، وخصوصاً صلاة الجمعة، لأنَّ الله لم يركّز على صلاة كما ركَّز على صلاة الجمعة، ومع الأسف أنَّ الشّيعة تركوها في أكثر تاريخهم إلّا القليل، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الجمعة: 9 - 10].
ثمَّ يحدّثنا الله عن جماعة في ذاك الوقت، كما هو موجود في هذا الوقت ممّن يقولون إنَّ صلاة الجمعة غير واجبة: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ ۚ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ}[الجمعة: 11]، فهي ساعة قد تربح فيها وعيك لله وهداك، والله هو الَّذي يرزقنا.
أيُّها الأحبَّة، كان الحسين (ع) للإسلام كلّه، وللإنسان كلّه، وللحقّ كلّه، وللعدل كلّه، فلنكن للحسين كلّه، ولله بكلّنا، وللإسلام بكلّنا.

*محاضرة عاشورائيّة، ليلة العاشر من محرّم، بتاريخ: 23/03/2002م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية