يعطي الدّين الإسلاميّ اهتماماً كبيراً للجانب الأخلاقيّ والعمليّ في حياة الإنسان، ويؤكِّد التكامل بين الجانب العباديّ والجانب العمليّ، بحيث لا تصبح العبادة في الإسلام مجرّد طقوسٍ تتمّ تأديتها ويتحقَّق بها الفوز للمؤمن بالآخرة.
فالعبادة من منظورٍ إسلاميٍّ هي قربٌ من الله وانفتاح عليه، بالشَّكل الّذي ينعكس على حياة المؤمن، ويجعله إنساناً أفضل يخدم أهله ومجتمعه وأمته والإنسانيَّة جمعاء. ومن هنا، فإنَّ لكلِّ عبادةٍ فلسفة معيَّنة وغاية أخلاقيَّة سامية تنعكس على واقع المرء، لتؤدِّي دورها في إصلاحه والاتجاه به نحو الخير والصَّلاح، بما يحقِّق له خير الدّنيا والآخرة.
ومن هنا، جاء في الحديث الشَّريف: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"، وذلك على الرّغم مما للصَّلاة من أهميَّة، حيث إنها عمود الدّين لدى المسلمين: "إن قبلت قبل ما سواها، وإن ردّت ردَّ ما سواها". وكذلك الحال بالنّسبة إلى كلّ العبادات الأخرى، مثل الحجّ والصّيام، حيث يحلّ علينا بعد أيّام قليلة شهر رمضان المبارك، الَّذي يعتبر موسماً روحيّاً وعباديّاً للإنسان المسلم، يؤدّي دوراً أساسيّاً في حياته الروحيّة والعباديّة والعمليّة، وينعكس على مسارها طوال أيّام السَّنة.
ومن هنا، يجب على الإنسان المسلم أن يستعدّ استعداداً مناسباً لاستقبال هذا الضَّيف المبارك الَّذي تعتبر أيّامه أفضل الأيّام، وساعاته أفضل السَّاعات، ولياليه أفضل اللّيالي، والَّذي فيه ليلة القدر، الَّتي هي خير من ألف شهر.
لذلك، علينا أن نقف وقفة تأمّل قبل بداية هذا الشَّهر المبارك، ونضع لأنفسنا برنامجاً عمليّاً يتيح لنا الاستعداد لاستقباله والاستفادة من بركاته، حتى لا يأتينا على حين غرَّة، فلا نستقبله بما يليق به، وتفوتنا خيراته وبركاته وما يتنزَّل فيه من رحمةٍ ومغفرة، فتصبح العبادة فيه مجرّد إمساكٍ عن الطَّعام والشّراب والمفطرات، أو طقساً تقليديّاً نؤدّيه دون معرفةٍ بكلِّ أبعاده، ودون ملامسةٍ لعمق معانيه الروحيَّة والعباديَّة والأخلاقيَّة الّتي تحقِّق الصَّلاح للإنسان في دنياه وآخرته.
وقد قدَّم لنا رسولنا الأكرم(ص) برنامجاً عمليّاً روحيّاً وعباديّاً يمكن أن يشكِّل لنا مرتكزاً وبوصلةً في هذا الشّهر، حتى نخرج منه بالجوائز الّتي وعد بها الله عباده المؤمنين. ومن المهمّ أن نلتفت إلى هذا البرنامج قبل قدوم هذا الشّهر، الَّذي له من القيمة ما يدعونا إلى الاهتمام به وانتظار قدومه بلهفةٍ وشوقٍ واهتمام.
وقد أراد لنا رسول الله أن نستعدَّ روحيّاً لاستقبال هذا الشَّهر، فأكَّد لنا في خطبته المرويَّة عنه، الّتي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعةٍ من شعبان، أنَّ هذا الشَّهر جاء محمَّلاً بالخير والبركة والرّحمة، فكأنّه يقول للنَّاس: استعدّوا، فقد جاءت هداياكم الإلهيَّة في هذا الشَّهر المبارك، وهي رحمة الله بكم، وبركته عليكم، ومغفرته لكم.
وقد أكَّدت خطبته(ص) أنَّ هذا الشَّهر هو أفضل شهور السَّنة، وقد اعتبرنا الله تعالى ضيوفاً عليه فيه، حيث إنَّ المضيف يمنح ضيفه كلَّ اهتمام وتكريم، كما ورد في بعض أدعية شهر رمضان: "وقد أوجبت لكلِّ ضيف قرى، وأنا ضيفك، فاجعل قراي اللّيلة الجنَّة"، وكما أنَّ على المضيف أن يكرّم ضيفه، فعلى الضَّيف أن يكون ضيفاً مهذَّباً لا يسيء إلى كرم الضّيافة.
وقد جعلنا الله تعالى في هذا الشَّهر من أهل كرامته، فجعل أنفاسنا بمثابة التَّسبيح، وجعل نومنا عبادة، ودعاءنا فيه مستجاباً، كلّ ذلك إكراماً لهذا الشّهر، وعوناً لنا على نيل مغفرة الله ومرضاته. وأرادنا الله تعالى أن نتوجَّه إليه بالدّعاء، ونسأله بنيّات صادقة وقلوب طاهرة، أن يوفّقنا لصيامه وتلاوة كتابه، وأن يمنحنا من بركاته وألطافه، لأنَّ "الشّقي من حُرم غفران الله في هذا الشَّهر العظيم"، فالإنسان الَّذي يخسر في الموسم، لا يستطيع أن يربح في خارجه، لأنَّ هذا الموسم هو الأساس الَّذي يرتكز عليه في حصد الأرباح طوال العام.
لذلك، علينا أن نتحضَّر من الآن لاستقبال الشَّهر الكريم، ونعامله بما يليق به من اهتمام، ونستعدّ له استعداداً خاصّاً، لنفتح حياتنا كلَّها من خلاله على الخير، لأنفسنا ولمجتمعنا وللنّاس من حولنا، فنكون قد غنمنا الجوائز والعطايا الإلهيَّة، ونكون من الفائزين.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.