آفاق العبادات في الإسلام وأبعادها

آفاق العبادات في الإسلام وأبعادها

لماذا العبادة؟ هل يعبد النّاس ربّهم من خلال ما تفرضه العبوديّة من خضوعٍ وإذلالٍ وما إلى ذلك مما يعبّر فيه الإنسان المؤمن عن هذا الذَّوبان في الله تعالى، بحيث يفقد ذاته أمامه؟ وهل العبادة شيء متَّصل بالله فيما يعبّر به الإنسان عن طبيعة علاقته به، أو أنَّ في العبادة معنى في حركة الإنسان في الحياة، بحيث تتداخل علاقة الإنسان بربّه بالإيجابيَّات الّتي تؤصِّل في داخله معنى إنسانيّته، وتحرّك علاقته بغيره وبالحياة؟

معنى العبوديَّة لله

قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[1]، وكانت كلّ دعوات الأنبياء تتَّجه بهذا الاتجاه، {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً}[2]، ونحن نقرأ في تراثنا أنَّ الله "لا تضرّه معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه"[3]، فمن الطّبيعيّ أن يعبِّر الإنسان عن عبوديّته لربِّه بكلِّ مظاهر العبوديّة، ولكنَّنا نفهم من أكثر من آية، ومن أكثر من امتدادٍ لمعنى العبادة في نداءات الأنبياء(ع)، أنَّ العبادة تتحرّك من أجل الإنسان، ومن أجل أن تطلق كلّ عناصر الخير في نفسه، ومن حيث إنّها تؤكِّد له الثقة بنفسه، وتثبِّت له أقدامه في كلِّ ساحات الصِّراع.

فكيف نفهم ذلك؟ إنّنا نفهم ذلك من خلال أنَّ قيمة كلّ حركةٍ في خطّ التّوازن، هي الإحساس بوجود قوّةٍ ترعى كلّ الحياة، بحيث تمثِّل الحياة وحدة في داخل وحدتها، وتنفتح عليها لتوحي لها دائماً بأنها لا تعيش الضَّياع، ففي الدّين كلّه، وفي الإسلام بشكلٍ خاصّ، لا معنى لما أثاره الغرب من كلمات الضّياع وكلمات العبث وما إلى ذلك، لأنَّ الضّياع إنما يكون عندما تشعر كأنّك تعيش مع الأموات، وكأنّه ليست لك أيّة بوصلة يمكن أن تحدِّد لك الطّريق والغاية، فهؤلاء الملحدون أو المشكِّكون هم الَّذين يعيشون معنى الضَّياع في الحياة، وهؤلاء هم الَّذين يعيشون معنى اللاجدّية في الحياة، وهم الّذين يعيشون الحياة ولا يعرفون من أين جاءوا وإلى أين يذهبون، على طريقة "إيليا أبو ماضي" عندما يقول في لا أدريَّته:

جئْتُ لا أعلــمُ مـن أيـن ولكنّـي أتيـْت      

ولقد أبصرْتُ قدَّامي طريقاً فمشيـْت

وسأبقى سائراً إن شئْت هذا أم أبيْت

كيف جئْت؟ كيف أبصرْتُ طريقي؟

     لست أدري!

هؤلاء هم الّذين يعيشون الضَّياع..

الاتّصال بالله تعالى

أمَّا عندما يعيش الإنسان مع الله ربِّ العالمين، الرّحمن الرّحيم الحكيم الخبير الَّذي لا حدَّ لعلمه، والَّذي يحيط بالإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن أيمانه وعن شمائله، ويرعاه، ويملك حياته وموته، عندما يعيش الإنسان في ظلِّ هذه العقيدة، فإنَّه يشعر بأنَّه بدأ من موقع حكمةٍ في بدايته قد يعرف بعض أسرارها، ولكنّه يختزن في داخله ما لا يعرف على أساس أنّه يمثّل الحكمة، وهكذا يعرف أنَّ له طريقاً يتحرّك في نطاق مسؤوليَّته من خلال الربّ الّذي حدَّد له ذلك، وعندما يفكّر في المستقبل، فإنّه يعرف أنَّ هناك نهايةً لها معالم ولها ملامح ولها واقع لا بدَّ من أن يبلغه بطريقةٍ أو بأخرى.

لذلك ـ أيّها الأحبَّة ـ فإنَّ مسألة العبادة كلّها، هي أن يتَّصل الإنسان بربّه، لا اتصالاً روحياً يحلّق فيه مع أفكاره ومع أحلامه ومع آلامه، دون أن يتجذَّر هذا الاتصال الرّوحيّ في حياة الإنسان المسلم، ولكن أن يتَّصل بربّه من خلال حركة عبادته، وأن تتوزَّع عناصر هذه الحركة على كلّ مواقعه وخطواته وتطلّعاته.

الصَّلاة حركة ثقافيَّة

فإذا جئت إلى الصَّلاة، فإنها بحسب أوقاتها، وبحسب أفعالها وأقوالها، تمثِّل حركةً ثقافيّةً يوميّةً تؤكّد لك مفردات عقيدتك، وتفتح عقلك وقلبك على رحمة ربّك ورعايته، وكلّ ما تتّصل به حياتك في مسؤوليّتها وفي نتائج المسؤوليّة، وتجعلك تشعر وأنت بين يدي ربّك بمعنى العبوديّة الّتي تتمثّل في ركوعك وسجودك، لتتجسَّد العظمة في نفسك سلوكاً مادّياً، ولتتجسَّد النّعمة في نفسك حركةً في كلّ واقعك.

ومن هنا، أكَّد القرآن الكريم {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}[4]، لأنَّ الصَّلاة تثقّفك من خلال مفرداتها، سواء في التّكبير، أو فيما تقرأ من فاتحة الكتاب وما بعدها، أو فيما تثيره في نفسك بالتّسبيح والتّحميد والمفردات التي تدخل في ركوعك وسجودك، وتؤكِّد هذه الشّهادة الإسلاميّة بصلاتك، بحيث إنّك تصلّي وإسلامك يعيش في عقلك وفي لسانك، وتعطيك الصَّلاة وعي ربّك؛ ربّك الأكبر، ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الذي يُعبَد ولا يُعبَد سواه، والذي يُستعان به ولا يُستعان بسواه، والّذي يهدي الإنسان إلى الطّريق العظيم الأعلى وما إلى ذلك.

لذلك، فإنَّ الصَّلاة ليست مجرّد حركة روحيّة، ولكنّها حركة ثقافيّة تثقّفك يوميّاً وفي كلّ وقت؛ تثقّفك بمجمل العقيدة الإسلاميّة في خطوطها العامّة، ولا سيَّما في معنى ربّك في نفسك وفي حياتك وفي حياة الآخرين. ومن هنا، أكَّدت الأحاديث، كما أكَّدت الآيات، مسألة الخشوع في الصَّلاة، فقد حدّثنا الله عن ذلك بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[5]، وجاء في الحديث أنّه "مَن لم تنهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعداً"[6]، وجاء الحديث أيضاً بأنّه: "إنّما للعبد من صلاته ما أقبل عليه منها بقلبه"[7]، ما يعني أنَّك لا بدَّ من أن تصلّي بقلبك وعقلك وإحساسك وحركة جسدك، حتى تتمثّل في كلّ ذلك معاني الصّلاة، لذلك، فإنَّ عبادة الصّلاة هي مظهر من مظاهر العبوديَّة، وفي عمقها تتبيّن حركة التربية للإنسان.

الخضوع الإراديّ لله

فإذا جئنا إلى الصَّوم، والصَّوم في معناه يمثّل حالةً سلبيَّةً تحمل في داخلها معنًى إيجابيّاً، لأنّ السّلب عندما يكون مسؤوليّة، فإنَّ إرادتك في حركة السَّلب تمثّل حالةً إيجابيّةً أيضاً، فأنت تريد أن لا تأكل، وأن لا تشرب، وأن لا تتلذَّذ، ولذلك هو ليس سلبيّة طبيعيّة بعيدة عن إنسانيّة إرادتك، بل هي حركة في الإرادة أن ترفض ما لا يريده الله منك..

ومن هنا، فإنّنا نستطيع أن نقول، كما أنَّ الصّلاة تدفعك إلى أن تؤصِّل الرَّفض في نفسك للفحشاء والمنكر، فإنَّ الصّوم يدفعك إلى أن تحرّك إرادتك في رفض كلّ ما لا يريده الله سبحانه وتعالى، وبذلك كان الصَّوم حركةً في الإنسان، من خلال هذا الخضوع الإرادي لله سبحانه وتعالى، ولذلك، كان الصّوم، وهو عبادة صامتة لا يتحرَّك فيها شيء في جسدك، ولا يتحرَّك فيها أيّ تعبيرٍ في لسانك.. فدور الصّوم هو في أن يبقى في عمق إرادتك، وفي عمق إحساسك وشعورك، وذلك بأن تكون بالصّوم الإنسان الرافض، فالصّوم هو حركة رفض في الوقت الّذي تتوجَّه في نفسك إلى القبول.

ومن هنا، فقد نعيش الصَّوم في هذه المفردات، وربما ننحرف في ممارستنا له، بأن نطوِّق هذا الرفض في السّحور وفي الفطور، بنحوٍ لا يحقِّق شيئاً فيما نستعدّ له من مآكل قبل أن نصوم وبعد أن نصوم، كأنّنا نثأر من الرّفض على طريقة الحيل الشّرعيّة التي تجعل إرادة الإنسان تضعف في مقدّمة الصوم وفي نهايته، فيما المطلوب من الصّوم، أن تكون إنساناً رافضاً لكلّ ما حرّمه الله، لأنَّ هناك الصّوم الصّغير الّذي هو مقدّمة للصّوم الكبير، فإذا كان الله قد حرّم علينا أن نأكل أو نشرب أو نستمتع بما نستمتع به في هذا الوقت المعيّن، فلقد أرادنا أن نصوم في كلّ عمرنا عمّا حرّمه من مآكل ومشارب ولذّات وما إلى ذلك.

وإذا انطلقت كإنسانٍ يرفض المطاعم والمشارب والملذّات في هذا الوقت المعيّن، فإنّك تنطلق أيضاً لترفض سياسيّاً ما يحرّمه الله من حركة السياسة، ولترفض اجتماعيّاً ما يحرّمه الله من حركة الاجتماع، ولترفض أمنيّاً وعسكريّاً ما يحرّمه الله من حركة الأمن والعسكر في هذا المجال أو ذاك، لأنَّ الفكرة واحدة، فكُن إنسان الله الَّذي يحبّ ما يحبّه الله، والّذي يرفض ما يرفضه الله، فأنت تمتنع عن طعامك وشرابك، لأنَّ الله يرفض لك أن تأكل أو أن تشرب في هذا الوقت، ومن خلال ذلك، عليك أن تعي معنى الرّفض، وهو أنّ عليك أن ترفض الظّلم في كلّ الناس من حولك، سواء الظّلم الصّغير أو الظّلم الكبير، وأنَّ عليك أن ترفض الانحراف في كلّ الخطوط التي يتحرّك فيها النّاس، وأن ترفض كلّ الضَّلال وكلَّ الفسق وما إلى ذلك، ولهذا ركَّز الله الصَّوم في كلمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[8]، و"التّقوى" كلمة تشمل كلَّ الخطوط المستقيمة الّتي تنطق من إيمانك وإسلامك في الحياة، وهي "أن لا يفقدك الله حيث أمرك ـ في كلّ شؤون الحياة ـ ولا يراك حيث نهاك"[9] في كلّ مواقعها.

أبعاد الصَّوم

لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ نمتدّ بعد ذلك بالصَّوم كإرادةٍ عندما يحاصرك الظّالمون ويحاولون أن يضغطوا عليك في طعامك وشرابك، فتجوع في سجنٍ تكون فيه أو في واقعٍ ضاغط، أو عندما ينطلق الاستكبار ليحاصرك كشعبٍ وكأمّةٍ في طعامك وشرابك، وعندما يحاول الآخرون إغراءك، كالوضع الّذي نعيشه الآن مع الصهيونيّة، التي تحاول أن ترسل بضائعها بسعرٍ ملائمٍ أكثر من السّعر الذي تشتري به ما يصنع في وطنك أو في مكانٍ آخر ينسجم معك. عندها، يقول الصّيام لك: صُم الصّوم السياسي، ارفض بضاعة العدوّ حتى لو كانت تتلاءم مع أوضاعك الاقتصاديّة، ارفض الضّغط الّذي يضغط فيه العدوّ عليك لتفشي أسرار أمّتك وأسرار النّاس من حولك، لأنّك عندما تسقط تحت تأثير هذا الضّغط، فإنّ معنى ذلك أنّك توازن بين طعامك وشرابك وبين أمّتك، وتقدِّم طعامك وشرابك على أمّتك.

إنَّ الصّوم يمثّل كلّ هذا الجوّ الّذي يبدأ من تجربة تعيشها في حياتك بهذه المفردات الصّغيرة، ولكنّه يمتدّ إلى كلّ ما يتصل بحياتك الخاصّة والعامّة، وربما نحتاج إلى أن نصوم إراديّاً، بحيث نضغط على أنفسنا عندما تحتاج الأمّة إلى مشاريع وتحتاج إلى مساعدات، وربما نحتاج أن نضغط على كماليّاتنا لنساعد الأمَّة عندما تحتاج إلى المياتم أو إلى المستشفيات أو إلى أيّ شيءٍ يكفل لها الحياة الكريمة، إنّني أتصوّر أنَّ هذا الصّوم الإسلاميّ هو الّذي جعل المسلمين الأوّلين يتحركون في خطِّ الدَّعوة وفي خطِّ الجهاد وهم جياع وعطاشى، وهم يعانون الكثير من المشاكل المحيطة بهم.

لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ فإنَّ الصّوم عبادة لله: "الصّوم لي وأنا أجزي به"[10]، هو عبادة لله، ولكنَّك كلّما اقتربت من الله أكثر، وقفت مع مسؤوليَّتك التي حمّلك الله إيّاها أكثر، وكلّما اقتربت إلى الله أكثر، اقتربت من الناس أكثر، لأنَّ الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله من أدخل على أهل بيته سروراً.

تمتين العلاقة مع الله

وهكذا تنطلق العبادة عندما تتَّصل بالله، بخطٍّ منه تعالى إلى الناس، لأنَّ هناك نقطةً في عقيدتنا الإسلاميّة، وهي أنَّ الله ربما يكون في بعض الدّيانات شيئاً غامضاً، بحيث لا علاقة للبشريَّة به، أو لا علاقة له بالبشر إلا أن يتعبَّدوا له، لكن تعالوا إلى ربّنا في عقيدتنا، فهو الرّحمن، وهو الرّحيم، وهو المعطي، وهو الكريم، وهو المغيث، ومعنى ذلك أنّ ربّك لا ينفصل عن حياتك، فأنت عندما تتحرّك في كلّ أصعدة حياتك، فإنّك تشعر بأنّ الربَّ المنعم قد أنعم بذلك عليك، وأنت عندما تفكّر وتبدع في فكرك، تشعر بأنَّ الربّ هو الذي أنعم عليك فألهمك، وعندما تحسّ القوّة في نفسك، فإنَّك تشعر بأنّك تستمدّ القوّة منه، وهكذا هو الرّحمن الرّحيم، وهو ربّ العالمين، وهو المعطي، وهو الكريم، وهو الجواد، وهو الحكيم الَّذي يمنح حياتك من حكمته.

لذلك، فكلَّما عرفنا الله أكثر، اقتربنا من مسؤوليَّاتنا بالحياة أكثر، وشعرنا بالأمن أكثر، ولقد كان رسول الله(ص) في أشدّ حالات الخطر، ولكنَّه كان يحسّ بالأمن، تماماً كما لو لم يكن هناك خطر، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}[11]، هذه المعيّة؛ معيّة الله لعبده، تعني أنّك لو كنت في الصّحراء وحدك، فإنّك لست وحدك، لأنَّ الله معك، وفي الدّعاء عندما نقول: "يا عدّتي في كربتي، ويا صاحبي في شدّتي"[12]، فإنَّ الله هو صاحبك الَّذي يصحبك في الشّدّة التي تهزّ كلّ كيانك، والله معك في شدَّتك، بحيث يخفّفها عنك ويحميك من كلِّ تأثيراتها، فالمسألة ليست مختصّةً بالنبيّ فحسب، ولكنَّها مسألة المؤمنين أيضاً، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[13].

حركة جامعة للعبادات

وعندما ننطلق ـ أيّها الأحبّة ـ إلى الحجّ، وهو عبادة، نرى أنّه حركة تجمع كلَّ العبادات، فهو حركة صومٍ من نوعٍ آخر فيما يحرم على المحرم أن يمارسه، وهو حركة هجرة إلى الله سبحانه وتعالى عبّر عنها إبراهيم(ع): {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}، وهو وقفة تأمّل تعيش فيها مع ربّك، فلا شغل لك في "عرفات"، ليس بالمعنى الإسلاميّ للشغل، وليس هناك أيّ شغل في "المشعر" بالمعنى الإلزامي للشّغل، وليس هناك أيّ شغلٍ في المبيت في "منى" بالمعنى الإلزامي للشّغل، بل قف في عرفات وعش مع ربّك، وقف في المشعر وادعُ ربَّك، {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[14]، اجلس مع ربك، فكّر وتأمّل، وازدد معرفةً به، وازدد قرباً منه، وهكذا عندما تبيت في منى، فإنَّك لا تبيت نائماً عابثاً لاهياً، بل تقوم بحساب كلّ ما تقوم به، وتعرف كيف تحتفظ بعلاقتك مع ربّك الذي عبدته في هذا المكان، لتستقبل حجّاً جديداً إلى ربّك في كلّ حياتك، فلقد حججت إلى بيته، وطفت في بيته، ليعطيك الطواف معنى طوافك في الحياة في الموقع الذي يرتبط بالله، فلا تطوف ببيوت الظالمين والمستكبرين والمنحرفين والفاسقين، فهو ـ أي الطواف ـ رمزٌ لكلِّ حركتك فيمن تتحرّك حوله، وهكذا عندما تسعى، فإنَّ سعيك هو أن تكون حياتك صفا ومروة في كلِّ مواقعك، بحيث تبدأ بالصّفا قربةً إلى الله، وتنتهي بالمروة قربةً إلى الله، لتكون كلّ بداياتك قربةً إلى الله.

الدّعاء حديث مع الله

وهكذا عندما تجلس إلى الدّعاء، والأدعية ـ أيّها الأحبَّة ـ هي هذه الرّوح التي تجلس بين يدي ربها لتحدّثه عن مفردات عقيدتها، ولتحدّثه عن كلّ آلامها وكلّ أحلامها وكلّ تطلّعاتها. ولذلك، فإنّ العبادة هي معنى ينطلق في الانفتاح على الله، وإذا انفتح الإنسان على الله، فإنّه لا بدّ من أن يفتح الله له، وهو ربُّ العالمين، كلّ العالم، بأن يفتح عقله عليه ليفكِّر فيما يمكن أن يكون حقّاً في العالم، وأن يفتح قلبه عليه فيما يكون خيراً في العالم، وأن يفتح حياته عليه فيما يكون عدلاً في كلّ حركته في العالم. إنّك عندما تعيش مع ربِّ العالمين، لا يضيق أفقك في دائرة شخصيّة أو عائليّة أو قوميّة أو عرقيّة، إنّك عبد الله، والله ربّ العباد كلّهم، ولذلك فلا يمكن لمؤمنٍ يعرف الله ويعبده، أن يضيق عقله وقلبه وحركته عن أيِّ موقع من مواقع الإنسان.

أيّها الأحبّة، وهذا شهر رمضان أقبل علينا، وهو شهر الله، وقد دعانا الله إلى ضيافته، فأنفاسنا فيه تسبيح، ونومنا فيه عبادة، ودعاؤنا فيه مستجاب، وعملنا فيه مقبول، فلنطهّر قلوبنا، ولنصفِّ عقولنا، ولنقرأ كتاب ربّنا، حتى نكون الضّيوف الذين يأكلون من كلّ هذه المائدة الروحيّة اللّذيذة.

أيّها الأحبَّة، شهر رمضان هو الشَّهر الَّذي أراد الله أن يكون منفتحاً على السّنة كلّها؛ تخطّط فيه لسنتك كيف تتقرَّب إلى ربّك، وكيف تؤكّد إرادتك، وكيف تنهى نفسك عن الفحشاء وعن المنكر، وكيف تفرح الفرح الرّوحيّ الّذي ينتظرك في نهايته. وتأتي كلمة عليّ(ع) ليختصر لنا معنى العيد في حياتنا: "إنَّما هو عيدٌ لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه، وكلّ يوم لا تعصي الله فيه فهو عيد"[15]، فكأنَّ عليّاً(ع) يقول لنا: لماذا لا تجعلون أيّامكم كلّها أعياداً؟ فطاعة الله هي العيد الَّذي لا بدَّ من أن تحتفل به، فلماذا لا تعيش هذا الفرح الرّوحيّ في كلّ حياتك؟ وليس من الضّروريّ أن يكون عيد فطر، ولكن أن يكون عيد الطّاعة إلى الله والقرب منه والمسير في طريقه.. إنَّ السَّاحة جاهزة، والربّ يفيض علينا من رحمته، وعلى كلّ منّا أن يعرف كيف يغترف من هذا النّبع الصّافي السّلسبيل، ويبقى النّداء: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[16].

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الذاريات: 56].

[2]  [النساء: 36].

[3]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 64، ص 315.

[4]  [العنكبوت: 45].

[5]  [المؤمنون: 1، 2].

[6]  بحار الأنوار،ج 79، ص 198.

[7]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 5، ص 478.

[8]  [البقرة: 183].

[9]  ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 4، ص 3638.

[10]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 4، ص 64.

[11]  [التوبة: 40].

[12]  الكافي، ج 2، ص 590.

[13]  [آل عمران: 173].

[14]  [البقرة: 200، 201].

[15]  وسائل الشيعة، ج 15، ص 309.

[16]  [التوبة: 105].

لماذا العبادة؟ هل يعبد النّاس ربّهم من خلال ما تفرضه العبوديّة من خضوعٍ وإذلالٍ وما إلى ذلك مما يعبّر فيه الإنسان المؤمن عن هذا الذَّوبان في الله تعالى، بحيث يفقد ذاته أمامه؟ وهل العبادة شيء متَّصل بالله فيما يعبّر به الإنسان عن طبيعة علاقته به، أو أنَّ في العبادة معنى في حركة الإنسان في الحياة، بحيث تتداخل علاقة الإنسان بربّه بالإيجابيَّات الّتي تؤصِّل في داخله معنى إنسانيّته، وتحرّك علاقته بغيره وبالحياة؟

معنى العبوديَّة لله

قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[1]، وكانت كلّ دعوات الأنبياء تتَّجه بهذا الاتجاه، {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً}[2]، ونحن نقرأ في تراثنا أنَّ الله "لا تضرّه معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه"[3]، فمن الطّبيعيّ أن يعبِّر الإنسان عن عبوديّته لربِّه بكلِّ مظاهر العبوديّة، ولكنَّنا نفهم من أكثر من آية، ومن أكثر من امتدادٍ لمعنى العبادة في نداءات الأنبياء(ع)، أنَّ العبادة تتحرّك من أجل الإنسان، ومن أجل أن تطلق كلّ عناصر الخير في نفسه، ومن حيث إنّها تؤكِّد له الثقة بنفسه، وتثبِّت له أقدامه في كلِّ ساحات الصِّراع.

فكيف نفهم ذلك؟ إنّنا نفهم ذلك من خلال أنَّ قيمة كلّ حركةٍ في خطّ التّوازن، هي الإحساس بوجود قوّةٍ ترعى كلّ الحياة، بحيث تمثِّل الحياة وحدة في داخل وحدتها، وتنفتح عليها لتوحي لها دائماً بأنها لا تعيش الضَّياع، ففي الدّين كلّه، وفي الإسلام بشكلٍ خاصّ، لا معنى لما أثاره الغرب من كلمات الضّياع وكلمات العبث وما إلى ذلك، لأنَّ الضّياع إنما يكون عندما تشعر كأنّك تعيش مع الأموات، وكأنّه ليست لك أيّة بوصلة يمكن أن تحدِّد لك الطّريق والغاية، فهؤلاء الملحدون أو المشكِّكون هم الَّذين يعيشون معنى الضَّياع في الحياة، وهؤلاء هم الَّذين يعيشون معنى اللاجدّية في الحياة، وهم الّذين يعيشون الحياة ولا يعرفون من أين جاءوا وإلى أين يذهبون، على طريقة "إيليا أبو ماضي" عندما يقول في لا أدريَّته:

جئْتُ لا أعلــمُ مـن أيـن ولكنّـي أتيـْت      

ولقد أبصرْتُ قدَّامي طريقاً فمشيـْت

وسأبقى سائراً إن شئْت هذا أم أبيْت

كيف جئْت؟ كيف أبصرْتُ طريقي؟

     لست أدري!

هؤلاء هم الّذين يعيشون الضَّياع..

الاتّصال بالله تعالى

أمَّا عندما يعيش الإنسان مع الله ربِّ العالمين، الرّحمن الرّحيم الحكيم الخبير الَّذي لا حدَّ لعلمه، والَّذي يحيط بالإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن أيمانه وعن شمائله، ويرعاه، ويملك حياته وموته، عندما يعيش الإنسان في ظلِّ هذه العقيدة، فإنَّه يشعر بأنَّه بدأ من موقع حكمةٍ في بدايته قد يعرف بعض أسرارها، ولكنّه يختزن في داخله ما لا يعرف على أساس أنّه يمثّل الحكمة، وهكذا يعرف أنَّ له طريقاً يتحرّك في نطاق مسؤوليَّته من خلال الربّ الّذي حدَّد له ذلك، وعندما يفكّر في المستقبل، فإنّه يعرف أنَّ هناك نهايةً لها معالم ولها ملامح ولها واقع لا بدَّ من أن يبلغه بطريقةٍ أو بأخرى.

لذلك ـ أيّها الأحبَّة ـ فإنَّ مسألة العبادة كلّها، هي أن يتَّصل الإنسان بربّه، لا اتصالاً روحياً يحلّق فيه مع أفكاره ومع أحلامه ومع آلامه، دون أن يتجذَّر هذا الاتصال الرّوحيّ في حياة الإنسان المسلم، ولكن أن يتَّصل بربّه من خلال حركة عبادته، وأن تتوزَّع عناصر هذه الحركة على كلّ مواقعه وخطواته وتطلّعاته.

الصَّلاة حركة ثقافيَّة

فإذا جئت إلى الصَّلاة، فإنها بحسب أوقاتها، وبحسب أفعالها وأقوالها، تمثِّل حركةً ثقافيّةً يوميّةً تؤكّد لك مفردات عقيدتك، وتفتح عقلك وقلبك على رحمة ربّك ورعايته، وكلّ ما تتّصل به حياتك في مسؤوليّتها وفي نتائج المسؤوليّة، وتجعلك تشعر وأنت بين يدي ربّك بمعنى العبوديّة الّتي تتمثّل في ركوعك وسجودك، لتتجسَّد العظمة في نفسك سلوكاً مادّياً، ولتتجسَّد النّعمة في نفسك حركةً في كلّ واقعك.

ومن هنا، أكَّد القرآن الكريم {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}[4]، لأنَّ الصَّلاة تثقّفك من خلال مفرداتها، سواء في التّكبير، أو فيما تقرأ من فاتحة الكتاب وما بعدها، أو فيما تثيره في نفسك بالتّسبيح والتّحميد والمفردات التي تدخل في ركوعك وسجودك، وتؤكِّد هذه الشّهادة الإسلاميّة بصلاتك، بحيث إنّك تصلّي وإسلامك يعيش في عقلك وفي لسانك، وتعطيك الصَّلاة وعي ربّك؛ ربّك الأكبر، ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الذي يُعبَد ولا يُعبَد سواه، والذي يُستعان به ولا يُستعان بسواه، والّذي يهدي الإنسان إلى الطّريق العظيم الأعلى وما إلى ذلك.

لذلك، فإنَّ الصَّلاة ليست مجرّد حركة روحيّة، ولكنّها حركة ثقافيّة تثقّفك يوميّاً وفي كلّ وقت؛ تثقّفك بمجمل العقيدة الإسلاميّة في خطوطها العامّة، ولا سيَّما في معنى ربّك في نفسك وفي حياتك وفي حياة الآخرين. ومن هنا، أكَّدت الأحاديث، كما أكَّدت الآيات، مسألة الخشوع في الصَّلاة، فقد حدّثنا الله عن ذلك بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[5]، وجاء في الحديث أنّه "مَن لم تنهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعداً"[6]، وجاء الحديث أيضاً بأنّه: "إنّما للعبد من صلاته ما أقبل عليه منها بقلبه"[7]، ما يعني أنَّك لا بدَّ من أن تصلّي بقلبك وعقلك وإحساسك وحركة جسدك، حتى تتمثّل في كلّ ذلك معاني الصّلاة، لذلك، فإنَّ عبادة الصّلاة هي مظهر من مظاهر العبوديَّة، وفي عمقها تتبيّن حركة التربية للإنسان.

الخضوع الإراديّ لله

فإذا جئنا إلى الصَّوم، والصَّوم في معناه يمثّل حالةً سلبيَّةً تحمل في داخلها معنًى إيجابيّاً، لأنّ السّلب عندما يكون مسؤوليّة، فإنَّ إرادتك في حركة السَّلب تمثّل حالةً إيجابيّةً أيضاً، فأنت تريد أن لا تأكل، وأن لا تشرب، وأن لا تتلذَّذ، ولذلك هو ليس سلبيّة طبيعيّة بعيدة عن إنسانيّة إرادتك، بل هي حركة في الإرادة أن ترفض ما لا يريده الله منك..

ومن هنا، فإنّنا نستطيع أن نقول، كما أنَّ الصّلاة تدفعك إلى أن تؤصِّل الرَّفض في نفسك للفحشاء والمنكر، فإنَّ الصّوم يدفعك إلى أن تحرّك إرادتك في رفض كلّ ما لا يريده الله سبحانه وتعالى، وبذلك كان الصَّوم حركةً في الإنسان، من خلال هذا الخضوع الإرادي لله سبحانه وتعالى، ولذلك، كان الصّوم، وهو عبادة صامتة لا يتحرَّك فيها شيء في جسدك، ولا يتحرَّك فيها أيّ تعبيرٍ في لسانك.. فدور الصّوم هو في أن يبقى في عمق إرادتك، وفي عمق إحساسك وشعورك، وذلك بأن تكون بالصّوم الإنسان الرافض، فالصّوم هو حركة رفض في الوقت الّذي تتوجَّه في نفسك إلى القبول.

ومن هنا، فقد نعيش الصَّوم في هذه المفردات، وربما ننحرف في ممارستنا له، بأن نطوِّق هذا الرفض في السّحور وفي الفطور، بنحوٍ لا يحقِّق شيئاً فيما نستعدّ له من مآكل قبل أن نصوم وبعد أن نصوم، كأنّنا نثأر من الرّفض على طريقة الحيل الشّرعيّة التي تجعل إرادة الإنسان تضعف في مقدّمة الصوم وفي نهايته، فيما المطلوب من الصّوم، أن تكون إنساناً رافضاً لكلّ ما حرّمه الله، لأنَّ هناك الصّوم الصّغير الّذي هو مقدّمة للصّوم الكبير، فإذا كان الله قد حرّم علينا أن نأكل أو نشرب أو نستمتع بما نستمتع به في هذا الوقت المعيّن، فلقد أرادنا أن نصوم في كلّ عمرنا عمّا حرّمه من مآكل ومشارب ولذّات وما إلى ذلك.

وإذا انطلقت كإنسانٍ يرفض المطاعم والمشارب والملذّات في هذا الوقت المعيّن، فإنّك تنطلق أيضاً لترفض سياسيّاً ما يحرّمه الله من حركة السياسة، ولترفض اجتماعيّاً ما يحرّمه الله من حركة الاجتماع، ولترفض أمنيّاً وعسكريّاً ما يحرّمه الله من حركة الأمن والعسكر في هذا المجال أو ذاك، لأنَّ الفكرة واحدة، فكُن إنسان الله الَّذي يحبّ ما يحبّه الله، والّذي يرفض ما يرفضه الله، فأنت تمتنع عن طعامك وشرابك، لأنَّ الله يرفض لك أن تأكل أو أن تشرب في هذا الوقت، ومن خلال ذلك، عليك أن تعي معنى الرّفض، وهو أنّ عليك أن ترفض الظّلم في كلّ الناس من حولك، سواء الظّلم الصّغير أو الظّلم الكبير، وأنَّ عليك أن ترفض الانحراف في كلّ الخطوط التي يتحرّك فيها النّاس، وأن ترفض كلّ الضَّلال وكلَّ الفسق وما إلى ذلك، ولهذا ركَّز الله الصَّوم في كلمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[8]، و"التّقوى" كلمة تشمل كلَّ الخطوط المستقيمة الّتي تنطق من إيمانك وإسلامك في الحياة، وهي "أن لا يفقدك الله حيث أمرك ـ في كلّ شؤون الحياة ـ ولا يراك حيث نهاك"[9] في كلّ مواقعها.

أبعاد الصَّوم

لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ نمتدّ بعد ذلك بالصَّوم كإرادةٍ عندما يحاصرك الظّالمون ويحاولون أن يضغطوا عليك في طعامك وشرابك، فتجوع في سجنٍ تكون فيه أو في واقعٍ ضاغط، أو عندما ينطلق الاستكبار ليحاصرك كشعبٍ وكأمّةٍ في طعامك وشرابك، وعندما يحاول الآخرون إغراءك، كالوضع الّذي نعيشه الآن مع الصهيونيّة، التي تحاول أن ترسل بضائعها بسعرٍ ملائمٍ أكثر من السّعر الذي تشتري به ما يصنع في وطنك أو في مكانٍ آخر ينسجم معك. عندها، يقول الصّيام لك: صُم الصّوم السياسي، ارفض بضاعة العدوّ حتى لو كانت تتلاءم مع أوضاعك الاقتصاديّة، ارفض الضّغط الّذي يضغط فيه العدوّ عليك لتفشي أسرار أمّتك وأسرار النّاس من حولك، لأنّك عندما تسقط تحت تأثير هذا الضّغط، فإنّ معنى ذلك أنّك توازن بين طعامك وشرابك وبين أمّتك، وتقدِّم طعامك وشرابك على أمّتك.

إنَّ الصّوم يمثّل كلّ هذا الجوّ الّذي يبدأ من تجربة تعيشها في حياتك بهذه المفردات الصّغيرة، ولكنّه يمتدّ إلى كلّ ما يتصل بحياتك الخاصّة والعامّة، وربما نحتاج إلى أن نصوم إراديّاً، بحيث نضغط على أنفسنا عندما تحتاج الأمّة إلى مشاريع وتحتاج إلى مساعدات، وربما نحتاج أن نضغط على كماليّاتنا لنساعد الأمَّة عندما تحتاج إلى المياتم أو إلى المستشفيات أو إلى أيّ شيءٍ يكفل لها الحياة الكريمة، إنّني أتصوّر أنَّ هذا الصّوم الإسلاميّ هو الّذي جعل المسلمين الأوّلين يتحركون في خطِّ الدَّعوة وفي خطِّ الجهاد وهم جياع وعطاشى، وهم يعانون الكثير من المشاكل المحيطة بهم.

لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ فإنَّ الصّوم عبادة لله: "الصّوم لي وأنا أجزي به"[10]، هو عبادة لله، ولكنَّك كلّما اقتربت من الله أكثر، وقفت مع مسؤوليَّتك التي حمّلك الله إيّاها أكثر، وكلّما اقتربت إلى الله أكثر، اقتربت من الناس أكثر، لأنَّ الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله من أدخل على أهل بيته سروراً.

تمتين العلاقة مع الله

وهكذا تنطلق العبادة عندما تتَّصل بالله، بخطٍّ منه تعالى إلى الناس، لأنَّ هناك نقطةً في عقيدتنا الإسلاميّة، وهي أنَّ الله ربما يكون في بعض الدّيانات شيئاً غامضاً، بحيث لا علاقة للبشريَّة به، أو لا علاقة له بالبشر إلا أن يتعبَّدوا له، لكن تعالوا إلى ربّنا في عقيدتنا، فهو الرّحمن، وهو الرّحيم، وهو المعطي، وهو الكريم، وهو المغيث، ومعنى ذلك أنّ ربّك لا ينفصل عن حياتك، فأنت عندما تتحرّك في كلّ أصعدة حياتك، فإنّك تشعر بأنّ الربَّ المنعم قد أنعم بذلك عليك، وأنت عندما تفكّر وتبدع في فكرك، تشعر بأنَّ الربّ هو الذي أنعم عليك فألهمك، وعندما تحسّ القوّة في نفسك، فإنَّك تشعر بأنّك تستمدّ القوّة منه، وهكذا هو الرّحمن الرّحيم، وهو ربّ العالمين، وهو المعطي، وهو الكريم، وهو الجواد، وهو الحكيم الَّذي يمنح حياتك من حكمته.

لذلك، فكلَّما عرفنا الله أكثر، اقتربنا من مسؤوليَّاتنا بالحياة أكثر، وشعرنا بالأمن أكثر، ولقد كان رسول الله(ص) في أشدّ حالات الخطر، ولكنَّه كان يحسّ بالأمن، تماماً كما لو لم يكن هناك خطر، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}[11]، هذه المعيّة؛ معيّة الله لعبده، تعني أنّك لو كنت في الصّحراء وحدك، فإنّك لست وحدك، لأنَّ الله معك، وفي الدّعاء عندما نقول: "يا عدّتي في كربتي، ويا صاحبي في شدّتي"[12]، فإنَّ الله هو صاحبك الَّذي يصحبك في الشّدّة التي تهزّ كلّ كيانك، والله معك في شدَّتك، بحيث يخفّفها عنك ويحميك من كلِّ تأثيراتها، فالمسألة ليست مختصّةً بالنبيّ فحسب، ولكنَّها مسألة المؤمنين أيضاً، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[13].

حركة جامعة للعبادات

وعندما ننطلق ـ أيّها الأحبّة ـ إلى الحجّ، وهو عبادة، نرى أنّه حركة تجمع كلَّ العبادات، فهو حركة صومٍ من نوعٍ آخر فيما يحرم على المحرم أن يمارسه، وهو حركة هجرة إلى الله سبحانه وتعالى عبّر عنها إبراهيم(ع): {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}، وهو وقفة تأمّل تعيش فيها مع ربّك، فلا شغل لك في "عرفات"، ليس بالمعنى الإسلاميّ للشغل، وليس هناك أيّ شغل في "المشعر" بالمعنى الإلزامي للشّغل، وليس هناك أيّ شغلٍ في المبيت في "منى" بالمعنى الإلزامي للشّغل، بل قف في عرفات وعش مع ربّك، وقف في المشعر وادعُ ربَّك، {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[14]، اجلس مع ربك، فكّر وتأمّل، وازدد معرفةً به، وازدد قرباً منه، وهكذا عندما تبيت في منى، فإنَّك لا تبيت نائماً عابثاً لاهياً، بل تقوم بحساب كلّ ما تقوم به، وتعرف كيف تحتفظ بعلاقتك مع ربّك الذي عبدته في هذا المكان، لتستقبل حجّاً جديداً إلى ربّك في كلّ حياتك، فلقد حججت إلى بيته، وطفت في بيته، ليعطيك الطواف معنى طوافك في الحياة في الموقع الذي يرتبط بالله، فلا تطوف ببيوت الظالمين والمستكبرين والمنحرفين والفاسقين، فهو ـ أي الطواف ـ رمزٌ لكلِّ حركتك فيمن تتحرّك حوله، وهكذا عندما تسعى، فإنَّ سعيك هو أن تكون حياتك صفا ومروة في كلِّ مواقعك، بحيث تبدأ بالصّفا قربةً إلى الله، وتنتهي بالمروة قربةً إلى الله، لتكون كلّ بداياتك قربةً إلى الله.

الدّعاء حديث مع الله

وهكذا عندما تجلس إلى الدّعاء، والأدعية ـ أيّها الأحبَّة ـ هي هذه الرّوح التي تجلس بين يدي ربها لتحدّثه عن مفردات عقيدتها، ولتحدّثه عن كلّ آلامها وكلّ أحلامها وكلّ تطلّعاتها. ولذلك، فإنّ العبادة هي معنى ينطلق في الانفتاح على الله، وإذا انفتح الإنسان على الله، فإنّه لا بدّ من أن يفتح الله له، وهو ربُّ العالمين، كلّ العالم، بأن يفتح عقله عليه ليفكِّر فيما يمكن أن يكون حقّاً في العالم، وأن يفتح قلبه عليه فيما يكون خيراً في العالم، وأن يفتح حياته عليه فيما يكون عدلاً في كلّ حركته في العالم. إنّك عندما تعيش مع ربِّ العالمين، لا يضيق أفقك في دائرة شخصيّة أو عائليّة أو قوميّة أو عرقيّة، إنّك عبد الله، والله ربّ العباد كلّهم، ولذلك فلا يمكن لمؤمنٍ يعرف الله ويعبده، أن يضيق عقله وقلبه وحركته عن أيِّ موقع من مواقع الإنسان.

أيّها الأحبّة، وهذا شهر رمضان أقبل علينا، وهو شهر الله، وقد دعانا الله إلى ضيافته، فأنفاسنا فيه تسبيح، ونومنا فيه عبادة، ودعاؤنا فيه مستجاب، وعملنا فيه مقبول، فلنطهّر قلوبنا، ولنصفِّ عقولنا، ولنقرأ كتاب ربّنا، حتى نكون الضّيوف الذين يأكلون من كلّ هذه المائدة الروحيّة اللّذيذة.

أيّها الأحبَّة، شهر رمضان هو الشَّهر الَّذي أراد الله أن يكون منفتحاً على السّنة كلّها؛ تخطّط فيه لسنتك كيف تتقرَّب إلى ربّك، وكيف تؤكّد إرادتك، وكيف تنهى نفسك عن الفحشاء وعن المنكر، وكيف تفرح الفرح الرّوحيّ الّذي ينتظرك في نهايته. وتأتي كلمة عليّ(ع) ليختصر لنا معنى العيد في حياتنا: "إنَّما هو عيدٌ لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه، وكلّ يوم لا تعصي الله فيه فهو عيد"[15]، فكأنَّ عليّاً(ع) يقول لنا: لماذا لا تجعلون أيّامكم كلّها أعياداً؟ فطاعة الله هي العيد الَّذي لا بدَّ من أن تحتفل به، فلماذا لا تعيش هذا الفرح الرّوحيّ في كلّ حياتك؟ وليس من الضّروريّ أن يكون عيد فطر، ولكن أن يكون عيد الطّاعة إلى الله والقرب منه والمسير في طريقه.. إنَّ السَّاحة جاهزة، والربّ يفيض علينا من رحمته، وعلى كلّ منّا أن يعرف كيف يغترف من هذا النّبع الصّافي السّلسبيل، ويبقى النّداء: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[16].

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الذاريات: 56].

[2]  [النساء: 36].

[3]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 64، ص 315.

[4]  [العنكبوت: 45].

[5]  [المؤمنون: 1، 2].

[6]  بحار الأنوار،ج 79، ص 198.

[7]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 5، ص 478.

[8]  [البقرة: 183].

[9]  ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 4، ص 3638.

[10]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 4، ص 64.

[11]  [التوبة: 40].

[12]  الكافي، ج 2، ص 590.

[13]  [آل عمران: 173].

[14]  [البقرة: 200، 201].

[15]  وسائل الشيعة، ج 15، ص 309.

[16]  [التوبة: 105].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية