اعتاد المسلمون أن يحتفلوا في كلّ عام بقدوم شهر رمضان، وبطريقة مميَّزة، لأنّه
شهر الصوم في ما يمثّله الصوم من معنى الفريضة العباديّة، التي تستلزم تغييراً في
النظام الغذائيّ اليوميّ، وفي الممارسات العمليّة التي يستجيب فيها لشهواته
وملذَّاته في ما يفعله وفي ما يتركه منها، وفي الأجواء الروحيّة الداخليّة التي
يمكن أن يعيشها من خلال هذه الفريضة.. وإذا كانت التقاليد الشعبية تتحرّك في حياة
الناس من حدثٍ طارئ أو موقف معيّن، فإنّ هذه الفريضة قد تحرّكت في الطريق إلى خلق
تقاليد شعبيّة جديدة في أسلوب ممارساتهم للحياة الاجتماعيّة الخاصّة والعامّة، حتى
صارت جزءاً من شخصيّة هذا الشهر، في ما تتميّز به الأزمنة من الملامح الشخصية.
ولا نريد أن نفيض في هذا الحديث عن طبيعة هذه التقاليد في نطاقها السلبيّ والإيجابيّ
في ما استطاعت معه أن تغنيَ التّجربة، أو تُفقدها معناها، لأنّنا نعرف أنّ للتقاليد
في حياة الأمم، وفي حركة القضايا، سلبياتها التي تجمّد المعنى في عمق الواقع،
وإيجابياتها التي تركّز الرّمز في امتداد الزمن.. ولسنا هنا في بحثٍ عن ذلك كلّه،
لأنّه لا يتّصل بالغاية التي نريد أن نثير فيها الحديث.
إنّ ما نحاول إثارته هنا، هو الجواب عن سؤالٍ محدَّد؛ كيف يمكن تحريك الدور الفاعل
لهذا الشهر في حركة الشخصيّة الإسلاميّة؟ لأنّنا في هذه اليقظة الإسلامية الجديدة
التي تطفو على سطح التيّار، نحاول تعميق المشاعر الرّوحية، والأفكار الواقعيّة لها،
حتى لا تتحوَّل إلى ظاهرة عابرة في حركة الواقع، بل تبقى عنصراً ثابتاً من عناصر
الدفع المستقبليّ نحو النموّ والتقدّم والتجدّد المستمرّ.
أمّا الإجابة على هذا السؤال، فقد تتحدّد في العمل على تحريك نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: دور الصّوم في تنمية الشخصيّة الإسلامية
فقد نستطيع التوقّف أمام هذه الفريضة، لنجد أنّها تمثّل في تكوينها الماديّ ـــ إنْ
صحّ التعبير ـــ الإمساك عن الطعام والشراب وبعض الملذّات الخاصّة، وتمثّل في
مدلولها الروحي، العمل الذي يأتي به الإنسان متقرّباً إلى الله، في ما تعنيه
عباديّة العمل من انطلاقة من معنى التقرّب به إلى الله.. فإذا وحَّدنا بين الجانب
المادّي والرّوحي، كانت النتائج الحاسمة؛ يقظةً روحيّةً متحرّكةً في داخل الإرادة،
وإرادة ثابتةً قويّةً في حركة الروح، ممّا يوحي للإنسان بالمراقبة الدائمة لخطواته
العملية، ومشاعره الذاتية وأفكاره الخاصّة، من خلال ما تحقّقه المراقبة اليومية في
مسألة الملذّات العادية التي يريد أن يحفظ نفسه من ممارستها.. فإنّ الالتزام بالكفّ
عنها على أساس هدف القرب من الله، يعمِّق في الذات ـــ بشكل متحرِّك ـــ معنى القرب
من الله، كعنصر أساس من العناصر الحيّة من غايات الإنسان في الحياة، وهو ما ينعكس
إيجابيّاً على كلّ جوانب شخصيّته الأخرى في الفكر والشعور والعمل، لأنَّ القاعدة
الثابتة واحدة في ذلك كلّه، لأنّ الإنسان لا يمكن أن يحقِّق القرب من الله في حياته،
إلّا إذا تحوَّل كيانه إلى حركة دائبة شاملة في هذا الاتجاه في جميع المجالات
العملية التي يستهدفها في الحياة.. وهذا ما تعمل التربية الإسلاميّة الهادفة على
تحقيقه في عملية تدريب الإنسان المسلم، عندما توجّه كلّ اهتماماته نحو الله،
باعتبار أنّه غاية الغايات، فلا يتحرّك الإنسان إلّا من خلاله على أساس الشعور
الحميم العميق بالخوف منه أو المحبّة له.. وهذا هو معنى العبوديّة، في ما تعنيه من
الخضوع المطلق لله، في كلّ منطلقاته وتطلّعاته، وذلك هو سرّ التوحيد الإسلاميّ الذي
يمثّل وحدة الدّرب والهدف، من خلال وحدة الخالق في ما توحيه لنا الآية الكريمة.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}.
{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*
لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.
وقد يستطيع الصّوم، في مدلوله الإنساني، أن يحرّك الجانب الاجتماعي في شخصيّة
الإنسان المسلم، وذلك من خلال بعض المشاعر الذاتية التي يعيش فيها الشعور بالجوع
والحرمان، فيلتفت في ومضة روحيّة سريعة، إلى الفئات المحرومة التي تعيش الجوع
والحرمان في ظروف اقتصادية صعبة، لتثير في نفسه الإحساس بالمسؤوليّة في الخروج من
هذا الواقع الذي يفرض مثل هذه المشكلات والآلام، فيتحرّك، تبعاً لذلك، من أجل
المواجهة العملية للواقع، بالجهد الفرديّ تارةً، أو بالجهد الجماعي أخرى، أو
بالتحرّك السياسي الزاحف نحو تغيير النظام في حالة ثالثة.
وقد يثير الصّوم مشاعر الإنسان في الأجواء الروحيّة نحو أفقٍ أبعد، فينتقل من
الشعور بالجوع والحرمان، إلى ما ينتظره في يوم القيامة من جوعٍ وعطشٍ، عندما يطول
وقوفه بين يدي الله، على أساس الأعمال المنحرفة التي تنتظر من خلالها الحسابات
الدّقيقة الطويلة، فيعمل في الدنيا ليخفّف عن نفسه هذا الموقف الطويل، بما يتراجع
فيه من خطوات، وما يصحِّح من أخطاء، وما يتحرَّك نحوه من مشاريع وأهداف. وهذا ما
عالجه رسول الله(ص) في بداية خطبته التي استقبل بها شهر رمضان:
"واذكروا بجوعكم وعطشكم جوعَ يوم القيامة وعطشه".
وهكذا، نجد في الصوم مجالاً واسعاً للانطلاق إلى آفاق متنوّعةٍ واسعة في ما يريد
الله للإنسان أن يعيشه من آفاق الخير والتقوى والصلاح.
النقطة الثانية: دور قراءة القرآن
حيث إنّ النصوص الدينية تؤكّد استحباب قراءة القرآن الكريم في هذا الشهر، فيمكن
للإنسان أن يستفيد من الجوّ الروحيّ المتحرّك مع الجوّ القرآني، وأن يحرّك في داخله
الحيويّة والانفتاح والامتداد، لأنّ قراءة القرآن قد تختلف في تأثيرها في النفس،
تبَعاً لاختلاف الجوّ الذي تعيش فيه القراءة.. فإذا كانت القراءة في جوّ فكريّ
ينطلق من موقع استيحاء المفاهيم الفكرية منه، فإنّها توحي بالتأمّل الهادئ
والمناقشة العلمية، بعيداً عن أيّ انفعال بشيءٍ آخر، وإذا كانت القراءة في الجوّ
الروحي الذي يعرج بالمؤمن في روحه إلى الله، كانت تأثيراتها انطلاقةً روحيّة إلى
الله في ما تستوحيه من أفكار ومشاعر وتأمّلات، فلا تتحرّك بالفكر المجرّد ولا
بالتأمّل الشارد، بل تلتقي بالفكر في حركة الروح في جوّ إيمانيّ رائع.
ولعلّ هذا الهدف هو الذي أراده الإسلام، في ما استحبّه من تلاوة القرآن بعد الصلاة
وفي أجواء الصّوم، لأنَّ الإيحاءات الروحيّة التي تبعثها هذه القراءة في شخصيّة
المسلم، تختلف كثيراً عمّا تولّده في نفسه إذا كانت بعيدةً عن هذه الأجواء.. بل
نستطيع أن نقرّر أنّ القرآن لا يُفهَم جيّداً، إلّا إذا عاشه الإنسانُ قراءةً
وسماعاً وتأمُّلاً في داخل الأجواء الروحيّة، لأنّه انطلق من خلال ذلك كلّه.. وذلك
هو جوّ قراءة القرآن في شهر رمضان في لياليه وأيّامه، حيث يرتفع بالإنسان إلى أجواء
روحيّة عالية. فإذا أضفنا إلى ذلك الثقافة الإسلامية التي تتمثَّل في القرآن، في ما
تحمله آياته من مفاهيم الإسلام وأفكاره وشريعته، عرفنا كيف يساعد ذلك على نموّ
الشخصيّة الإسلامية التي ينبغي لها أن تعيش فكرها في أجواء روحيّة هادئة، لتتمكن من
خلال ذلك من الانطلاق من قاعدة فكرية روحية عميقة في داخل النفس والفكر والوجدان.
وقد لا نحتاج إلى التنبيه كثيراً إلى ما يفرضه الوصول إلى هذا الهدف من التدبّر
والتأمّل في قراءة القرآن، لأنّ ذلك هو السّبيل الوحيد للحصول على النتيجة المرجوّة
من الانطلاق في وضوح الرؤية، في ما يحمله الإنسان من فكر، وفي ما يختزنه من مشاعر.
أمّا الطريقة التقليدية التي ترتكز على أساس ملاحظة الكمّ دون الكيف في قراءة
القرآن، فإنّها لا تستطيع أن تضيف إلى الإنسان شيئاً في مشاعره وأفكاره، بل كلُّ ما
هناك، أنّها تمنح القرآن سمة جمودٍ في الكلمة وتجميد في الوعي، في الأساليب التي
تركتها لنا عهود التخلُّف.. وربّما كان بعض السبب في ذلك، هو هذا التسابق في عدد "الختمات"
التي تُهدى إلى الموتى في هذا الشهر، تكريماً لهم، أو تحبّباً إليهم، من خلال جلب
الثواب لأرواحهم بتلك الوسيلة، فإنّ تحقيق هذا الهدف، يفرض على القارئ السّرعة التي
تبتعد به عن الوعي للفكرة والاستيحاء لمعاني الروح.
النقطة الثالثة: دور الدعاء في شهر رمضان
قد يكون الدعاء من أبرز الأعمال العباديّة الظّاهرة في شهر رمضان، في ما يمارسه
المؤمنون في سائر أوقات الشهر، حتى يشعر الإنسان بأنّ هناك شمولاً في ما ينبغي
للمرء أن يدعو به، فهناك دعاء للأيام، ويقابله دعاء للّيالي، وهناك أدعية للصّباح
وللسّحر ولأوقات الصّلاة والفطور والسّحور، ولغير ذلك.. وقد تنوّعت أساليب الدعاء
ومضامينه في ما حفلت به الأحاديث المأثورة من نوعيّات الأدعية، وفي ما وضعه
المؤلّفون والعلماء من ذلك كلّه.. فهناك الأدعية التي يستغرق فيها الإنسان في
المشاعر الذاتية التي يواجه فيها ذنوبه بين يدي الله، ويعبِّر فيها عن محبّته لله،
وخوفه منه، ويلتقي فيها بحساباته في ما يفعله وفي ما يتركه في عمله تصفيةً للنفس،
ويثير أمام نفسه الكثير الكثير من تفاصيل العقيدة، في ما يعتقده من توحيد الله
ورسالة رسوله والإيمان باليوم الآخر، ليؤكِّد معانيها التفصيلية في نفسه.
وهكذا يجد الإنسان نفسه في جولة واسعة في رحاب الله وفي آفاق النفس، وفي أوضاع
الحياة المحيطة به، في أسلوب روحيّ لذيذ يرتفع بالنفس إلى سماوات الروح والإيمان
والإبداع ليصنع الإنسان المسلم الجديد.. كما نواجهه في دعاء السحر الذي رواه أبو
حمزة الثمالي عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع).. وهناك الأدعية الاجتماعية
الإنسانية التي تثير في داخل الإنسان الشعور بمشاكل الناس من حوله، إضافةً إلى
مشاكله الخاصّة، في عملية إيحاء روحيّة بأنّ عليه أن يبتعد عن الحياة في نطاق
مسؤوليّته عندما يلتقي بالله ويجلس بين يديه، بل يحاول الاقتراب من ذلك كلّه، ليعرف
أنّ الحياة كلّها، في مشاكلها وحلولها، مشدودة إلى الله في عمليّة البقاء والامتداد،
كما هي مشدودة إليه في عملية الخَلق، وتحرِّك في داخله الشعور بأنّ العبادة لا تعزل
الإنسان عن الحياة، بل تربطه بها بطريقة واسعة مثيرة.. وهناك الأدعية التي تخلق في
وعيه الوعي السياسيّ، في ما يلتقي به من المشاكل الإسلاميّة العامّة في الحكم
والحاكمين وقضايا العدل والظّلم والحقّ والباطل، لتتحوّل إلى دعوات ورَغبات وأمنيات
يطرحها بين يدي الله سبحانه وتعالى، ليكون ذلك سبيلاً من سبل الوعي الّذي يختزنه
الإنسان في أجواء العبادة.
*من كتاب "في رحاب دعاء الافتتاح"، ص 7- 12.