في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) عند دخول شهر رمضان المبارك:
"وَفِّقْنا فيهِ لاَنْ نَصِلَ أَرْحامَنا بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ نَتَعاهَدَ
جيرانَنا بِالإفْضالِ وَالْعَطِيَّةِ، وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوالَنا مِنَ التَّبِعاتِ،
وَأَنْ نُطَهِّرَها بِإِخْراجِ الزَّكَواتِ، وَأَنْ نُراجِعَ مَنْ هاجَرَنا، وَأَنْ
نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنا، وَأَنْ نُسالِمَ مَنْ عادانا، حاشا مَنْ عُودِىَ فيكَ
وَلَكَ، فَإِنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذي لا نُواليهِ، وَالْحِزْبُ الَّذي لا نُصافيهِ،
وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إِلَيْكَ فيهِ مِنَ الأعْمالِ الزّاكِيَةِ بِما تُطَهِّرُنا بِهِ
مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَعْصِمُنا فيهِ مِمّا نَسْتَأَنِفُ مِنَ الْعُيُوبِ، حَتّى لا
يُورِدَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ مَلائِكَتِكَ إِلاّ دُونَ ما نورِدُ مِنْ أَبْوابِ
الطّاعَةِ لَكَ، وَأَنْواعِ الْقُرْبَةِ إِلَيْكَ..".
* * *
مضامين إنسانية:
وهذا نداء من قلب الحياة لاجتذاب التوفيق الإلهي في حركة المسؤولية، في نطاق بعض
المواقف المتصلة بالعلاقات الإنسانية وبالمبادرات المالية الخيِّرة، وبالأعمال
الزكية التي تفتح للإنسان أبواب الرحمة الإلهية، ليكون هذا الشهر المبارك شهر تصحيح
العلاقات على الخط الذي يحبه الله ويرضاه، وتحريك الطاقات في ساحات الإنفاق على
الفئات المحرومة أو الجهات الخيِّرة، وتوجيه الأعمال في اتجاه الحصول على غفران
الذنوب، وعلى العصمة من العيوب.
وهذا هو الذي يجعله منطلقاً للمضمون الإنساني في حركة المسؤولية في الإنسان، كما هو
منطلق في تحريك المضمون الروحي في حركة العبادة في حياته، ليرتفعا به إلى المستوى
الأعلى في رضوان الله.
صلة الرحم:
"ووفِّقْنَا لأن نصِلَ أرحامِنا بالبِرِّ والصِّلَة". والأرحام جزء من الخلايا
الاجتماعية التي تتحرك في الواقع الإنساني، لتربط علاقات الإنسان بالآخرين في دائرة
التوازن المسؤول، فهم أقرب الناس إليه في قرابة الدم، ما يجعل من العاطفة التي تشده
إليهم حالةً طبيعية، وهم الأكثر اتصالاً بحياته في ما يمكن أن تصطدم فيه المواقف
والمصالح والمشاعر، الأمر الذي قد يخلق لوناً من ألوان التماس اليومي بفعل الاحتكاك
الدائم، ويؤدّي إلى إثارة المشاكل والتعقيدات في داخل هذا المجتمع الصغير المتشابك
الأوضاع والعلاقات.. وهذا هو الذي جعل التخطيط الأخلاقي الإسلامي يمنح العلاقة
بالأرحام وضعاً روحياً يمتص كل النتائج السلبية التي قد تحدث في داخل الوضع المعقّد
في شبكة العلاقات، بحيث يفكر الإنسان في النتائج الإلهية على مستوى صلة الأرحام، في
إيجابيات المغفرة والثواب وطول العمر وسعة الرزق، أو على مستوى قطيعة الأرحام في
سلبيات الغضب الإلهي والعقاب الأخروي، وقصر العمر وضيق الرّزق، فلا تعود العلاقة
بالأرحام سلباً أو إيجاباً، مجرّد علاقةٍ شخصيةٍ أو عائليةٍ، في ما هي العلاقات
الاجتماعية العادية، بل تتحوّل إلى حالةٍ سلوكية في ما هو الخطّ الإلهيّ الذي يؤكّد
للإنسان المؤمن علاقاته بأقربائه في دائرة المسؤولية المتصلة بنتائجها بقضية المصير
في الدنيا والآخرة...
تعهّد الجيران:
"وأن نتعاهد جيراننا بالإفضال والعطية"، والجيران كالأرحام في طبيعة العلاقة
الوثيقة المتصلة بالحياة اليومية الدائمة في لقاء الجيران بعضهم ببعض، وفي ما
يقتضيه ذلك من كثرة السلبيات الناشئة في المصالح المتشابكة والأوضاع المعقدة،
والحساسيات الدقيقة والعلاقات المتنوعة، الأمر الذي لا يمكن السيطرة عليه بالحلول
العادلة المرتكزة على الأوضاع المادية في دائرة العلاقات الإنسانية، ولذلك كان
التخطيط الأخلاقي الإسلامي ينطلق من التركيز على حسن الجوار بالإحسان إلى الجيران
بالإفضال والعطية، وتحمّل الأذى منهم، وبناء العلاقات بهم على أساس العفو والتسامح
طلباً لرضى الله، ليكون العنصر الروحي الباحث عن مواقع القرب من الله هو الأساس في
احتواء كل السلبيات.
وقد نصّ القرآن على الإحسان إلى الجار، قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ
تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ
وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ
اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء: 36].
قيل: معنى "الجار ذي القربى"، القريب ذو النسب، و"الجار الجنب" الذي ليس بينك وبينه
قرابة. وقيل: الجار ذو القربى منك بالإسلام، والجار الجنب المشكر البعيد في الدين.
فلقد روي عن النبي(ص) أنه قال: "الجيران ثلاثة، فمنهم من له ثلاثة حقوق؛ حقّ
الإسلام، وحق الجوار، وحق القرابة. ومنهم من له حقان؛ حق الإسلام وحقّ الجوار،
ومنهم من له حقّ واحد؛ الكافر له حقّ الجوار".
وقد جاء في الحديث عن رسول الله(ص): "مازال جبرائيل(ع) يوصيني بالجار حتى ظننت أنه
سيورثه".
تزكية الأموال:
"وأن نخلص أموالنا من التبعات، وأن نطهّرها بإخراج الزكوات". المال مسؤولية في
دائرة الملكية التي هي وظيفة فردية واجتماعية شرعية، فقد جعل الله له حدوداً في
أسباب الملكية والسلطنة، وفي حركة التصرف وفي طبيعة العلاقات بالآخرين، في ما يتصل
بأوضاعهم المالية المتصلة به، وبماله.. ولا بدّ للإنسان المؤمن الذي يخضع في حياته
لأحكام الله، من أن يخلّص ماله من التبعات، وهي الحقوق المتعلقة به لله وللناس.
وللزكاة حقّ معلومٌ بالمال، في ما افترضه الله على عباده من إخراجها منه بطريقةٍ
معينةٍ، وفي حدودٍ محدودةٍ، باعتبارها سبيلاً لتطهير المال، كما ورد في قوله تعالى:
{خُذْ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكّيهم بها}[التوبة: 103]، وهي من الفرائض
المؤكّدة التي دعت إليها الآيات القرآنية الكثيرة، كما وردت الأحاديث التي تهدّد
مانع الزكاة بدخول النار.
وهكذا يريد الله للإنسان المؤمن أن يعيش هذا الهمّ الكبير في مسؤوليّة المال في
تخليصه من كل الحقوق اللازمة له، وفي تطهيره بإخراج الزكاة منه، ليقف عند حدود الله
في نطاق العطاء المسؤول الذي يؤكّد للإنسان إنسانيته في انفتاحه على النّاس، كما
يؤكّد له عبوديّته التي يتعبد فيها لله.
الدفع بالتي هي أحسن:
"وأن نراجع مَن هاجرنا"، فنبادله في هجرانه لنا انفتاحاً عليه وعودةً إلى صحبته،
ورجوعاً إلى مواقع العلاقة الحميمة القديمة به. "وأن ننصف مَن ظلمنا"، بأن نسير معه
في طبيعة المسألة التي تتصل بظلامتنا عنده بالعدل، فلا نميل عن حدود الحق معه، ولا
نعمل على معاملته بردود الفعل النفسية المليئة بالغيظ وبالحاجة إلى التشفي، وبإثارة
الحميّة الذاتية.. وهذا هو الخطّ الشرعي في زمام المبادرة، فلا نقابل ظلم ظالم لنا
بأن نظلمه، بل أن نأخذ منه حقّنا من دون زيادة، انطلاقاً من العقل الهادئ المتّزن
الخاضع للشّرع، البعيد عن نوازع الذات المنفعلة الغاضبة.
"وأن نسالم مَن عادانا"، فنغلّب جانب المسالمة على جانب المحاربة، على أساس المصلحة
العامة الحية في ما نأخذ به من أسباب ذلك، من أجل أن نفسح في المجال له للتراجع عن
عداوته، وذلك من خلال التوجيه الإلهي الذي أراد لنا أن يكون عملنا في نطاق المشاكل
الطارئة مع الآخرين، هادفاً إلى تحويل الأعداء إلى أصدقاء، وذلك قوله تعالى: {ولا
تستوي الحسنةُ ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليّ
حميم}. [فصّلت: 34].
الموقف الصّلب:
"..حاشا مَنْ عُوديَ فيك ولك، فإنه العدوّ الذي لا نواليه، والحزب الذي لا نصافيه".
وهذا هو الاستثناء الإسلامي للمسألة الأخلاقية القائمة على أساس تقديم التنازلات
الشعورية والعملية لمصلحة تحويل العدوّ إلى صديق، فإن ذلك داخل في نطاق العلاقات
الشخصية في المشاكل الخاصة أو العامة المتحركة في الدائرة الاجتماعية.. أما في
المسائل المتصلة بالموقف الرسالي الذي ينطلق فيه أعداء الرسالة وأعداء الله ليثيروا
المشاكل في ساحة الرسالة، وليطلقوا التحديات في مواجهة أولياء الله، من أجل إضعاف
الموقف، وهزيمة الموقع، سواء تمثّل وجودهم في جماعات متناثرة أو في أحزاب منظمة..
أما في هذه المسائل، فلا بدّ من الحسم في الموقف، لأن المسألة ليست مسألة مشاعر
يراد تبريدها، أو مشاكل معقّدة يُراد حلّها، بل هي مسألة رسالة يراد حمايتها،
ومجتمعٍ يراد تقويته، وخطةٍ يراد إسقاطها. ولذلك، فلا بد من الموقف الحاسم الذي
يراقب العواطف الذاتية والانفعالات النفسية التي قد تجعل الإنسان خاضعاً للمؤثرات
السريعة التي قد تفتح القلب لأعداء الله في لحظة ضعف شعوري.
وهذا هو الذي ينبغي للإنسان المسلم أن يستوعبه في وعيه الرسالي العملي، ليجعل
عواطفه خاضعةً لحركة رسالته في مسألة السلامة العامة للرسالة، من الذين يكيدون لها
ويتربّصون بها الدوائر مستغلّين بعض نقاط الضعف لدى الطيّبين من أتباعها، فلا مجال
للتّسامح العاطفي في هذا المجال.
ولكن.. هل يعني ذلك أنّ يتحرك الرساليون عشوائياً في رد الفعل السلبي ضدهم ليتحركوا
في فوضى انفعاليةٍ، أم أن عليهم أن يحرسوا أنفسهم من الانفتاح الروحي أو العاطفي
عليهم لئلا يسقطوا أمامهم.. ليتابعوا السعي نحو تركيز الموقف بدقة؟
إن القضية تتحرك في الخيار الثاني، لأنّ التحرك لا بدّ من أن يخضع للتخطيط الواعي
في مصلحة الرسالة، ليكون الأسلوب مدروساً، والأجواء متوازنة، والحسابات دقيقة، لأنّ
أيّ خطأ في الحسابات قد يسيء إلى الموقف كله.
* * *
وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إِلَيْكَ فيهِ مِنَ الأعْمالِ الزّاكِيَةِ بِما تُطَهِّرُنا بِهِ
مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَعْصِمُنا فيهِ مِمّا نَسْتَأَنِفُ مِنَ الْعُيُوبِ، حَتّى لا
يُورِدَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ مَلائِكَتِكَ إِلاّ دُونَ ما نورِدُ مِنْ أَبْوابِ
الطّاعَةِ لَكَ، وَأَنْواعِ الْقُرْبَةِ إِلَيْكَ..
* * *
العمل دليل الصدق:
ثم تأتي الفكرة العامة التي تلاحق الشخصية الإنسانية في طهارتها الروحية، وفي
سلامتها الأخلاقية.. فلا بدّ للإنسان من أن يدخل في برنامج عملي، يختار فيه الأعمال
الزاكية التي تتميّز بمواقع القرب من الله، لتترك تأثيرها الإيجابي في إيجاد حالة
روحية تتميز بالقوة العاصمة التي تتطهّر فيها الشخصية من ضغط الذنوب عليها، وتبتعد
عن العيوب التي تثقل حركة الإنسان عن السير في الاتجاه السليم..
وفي ضوء ذلك، نعرف أن مسألة التصحيح السلوكي لا تتحدد بالتوبة الفكرية أو الشعورية،
بل لا بد من أن تتمثل بالممارسة العملية المضادة التي تصدم ضغط الانحراف بقوة
الاستقامة، فينطلق العمل في خط الله، فيرتفع منه إلى الله، في تقارير الملائكة،
المستوى الذي يقلّ عنه عمل الملائكة من خلال ما نبلغه من الدرجة العالية في مواضع
رضاك.
* * *
اللّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ هذَا الشَّهْرِ، وَبِحَقِّ مَنْ تَعَبَّدَ لَكَ
فيهِ مِنِ ابْتِدائِهِ إِلى وَقْتِ فَنائِهِ، مِنْ مَلَك قَرَّبْتَهُ، أَوْ نَبِىٍّ
أَرْسَلْتَهُ، أَوْ عَبْد صالِح اخْتَصَصْتَهُ، أَنْ تُصَلِّىَ عَلى مُحَمَّد
وَآلِهِ، وَأَهِّلْنا فيهِ لِما وَعَدْتَ أَوْلِياءَكَ مِنْ كَرامَتِكَ، وَأَوْجِبْ
لَنا فيهِ ما أَوْجَبْتَ لأِهْلِ الْمُبالَغَةِ في طاعَتِكَ، وَاجْعَلْنا في نَظْمِ
مَنِ اسْتَحَقَّ الرَّفيعَ الأعْلى بِرَحْمَتِكَ...
* * *
التطلّع إلى مواقع القرب:
... وإذا كان القلب ينفتح على الخير في هذا الشهر، لتتكامل كل عناصر الحق في داخل
الشخصية الإنسانية المؤمنة، فإنه يخضع ويرقّ ويبتهل ويرتفع بكل عمق الصوت الإلهي في
روحه.. ويتوسل بحق هذا الشهر وبحق كل المتعبدين لله فيه من الملائكة والأنبياء
والصالحين، أن يؤهله فيه لكرامته الإلهية التي تجمع كل الرحمة والرضوان، وأن يوجب
له كل الفيوضات والألطاف التي تنساب من عطفه الإلهي على الذين استغرق وجوده كل
وجدانهم الروحي العملي حتى بلغ الدرجة العليا من طاعته، وأن يمنحه الارتفاع إلى
مواقع الذين ارتفعت درجاتهم إلى الرفيع الأعلى من خلال رحمته..
إنه الابتهال الخاشع الذي لا يتطلع إلى عمله الذي يقدمه بين يديه ليستحق عطاء ربه،
بل يتطلع إلى كل مواقع القرب من الله في الزمن الذي منحه الله معنى القداسة في
روحانيته، وفي الملائكة والمقرّبين من الأنبياء والصالحين ليقدمهم شفعاء بين يدي
الله، وذلك في ما جعله الله لهم من الحق، من خلال إخلاصهم وطاعتهم له.. ولكن رحمة
الله وراء ذلك، لأن رحمته تمتد إلى كل عباده من دون حاجةٍ إلى شفيع، غير أنه ـ
سبحانه ـ يمنح بعض عباده شرف الشفاعة ليكرمهم بذلك، وليشفّعهم في من ارتضاه من خلقه.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَجَنِّبْنَا الإلْحادَ في تَوْحيدِكَ،
وَالتَّقْصيرَ في تَمْجيدِكَ، وَالشَّكَّ في دينِكَ، والْعَمى عَنْ سَبيلِكَ،
وَالاْغْفالَ لِحُرْمَتِكَ، وَالاْنْخِداعَ لِعَدُوِّكَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ.
* * *
الابتهال لمواجهة الانحرافات:
وهذه جولة جديدة في أجواء السلبيات العقيدية والعملية التي يمكن أن تحدث للإنسان
لتنحرف به عن الخط المستقيم في وعي العقيدة، أو في استقامة العمل، فقد يخضع لشبهة
فكرية يهتز فيها يقينه بتوحيد الله، فتميل به نحو خط الشرك، وقد يستسلم لحالة نفسية
صعبة تسلب منه طمأنينته وسكينته الروحية المنفتحة على الله... وقد يفقد إحساسه
بعظمة الله، فيقصّر في تمجيده في ما هو الذكر لله بصفاته وأسمائه الحسنى وآلائه
العليا، فيبتعد بذلك عن مواقع الإخلاص له.. وقد تطوف بالقلب ظلالٌ من الشك في دين
الله وهو الإسلام، من خلال ما يداخله من الأحاسيس والانفعالات، وقد يزول إشراق
البصيرة في وجدانه، ليتحول إلى ظلمة تعميه عن تلمُّس السبيل السويّ الذي يؤدي به
إلى الله في مواقع رضوانه، وقد يغفل حرمة الله من حسابه، فيسيء إلى سموّ قدسه وعظمة
جلاله، فيتصرف في أفعاله وأقواله تصرّف المتمرّد الجاهل، وينتهك حرمة ربه في ذلك
كله، وقد ينخدع بالشيطان الرجيم في أمانيّه وغروره وتزيينه وتثبيطه وتهاويله، فيمتد
في طريقه إلى غاياته الخبيثة، ويلتقي بمعصية الله في أوضاعه، فيسقط في هاوية الهلاك..
وهنا تنطلق الابتهالات الروحية في نداء خاشع يستعطف الله أن يجنّبه ذلك كله، لتسلم
روحه من كل التهاويل التي تبتعد بها عن صفاء العقيدة واستقامة الطريق.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَإِذا كانَ لَكَ في كُلِّ لَيْلَة مِنْ
لَيالي شَهْرِنا هذا رِقابٌ يُعْتِقُها عَفْوُكَ، أَوْ يَهَبُها صَفْحُكَ، فَاجْعَلْ
رِقابَنا مِنْ تِلْكَ الرِّقابِ، وَاجْعَلْنا لِشَهْرِنا مِنْ خَيْرِ أَهْل
وَأَصْحاب.
* * *
إنها دعوات العباد الذين يشعرون بثقل الخطايا على رقابهم، حتى كأنّ النار تطل عليهم
لتملكهم، كما يملك صاحب الحق مورد حقه، فيتعلقون بوعد الله لهم بأن يعتق في هذا
الشهر رقاباً خاطئة من النار، ويبتهلون إليه أن يجعل رقابهم من تلك الرقاب، وأن
يوثّق صلتهم بهذا الشهر كما لو كانوا من أهله وأصحابه في نتائج الخير والمغفرة التي
خصّ اغلله بها أيامه ولياليه.
*من كتاب "آفاق الروح"، ج 2، ص 278-284.