[ورد في الصحيفة السجاديّة للإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه في الاعتراف وطلب
التوبة إلى الله تعالى. ومنه:]
"أتُوبُ إليْكَ في مَقَامِي هَذَا تَوْبَةَ نَادِمٍ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ،
مُشْفِقٍ عَلَى مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ، خَالصِ الحَيَاءِ ممّا وَقَعَ فِيه، عَالمٍ
بِأنَّ العَفْوَ عَن الذَّنْبِ العَظِيمِ لاَ يَتَعاظَمُكَ، وَأنَّ التَّجاوُزَ عَنِ
الإثْمِ الجَلِيلِ لا يَسْتَصعبُكَ، وَأنّ احْتِمَالَ الجَنَايَاتِ الفَاحِشَةِ لاَ
يَتكأّدُكَ، وَأنَّ أحَبَّ عِبَادِكَ إليْكَ مَنْ تَرَكَ الاسْتِكْبارَ عَليْكَ،
وَجَانَبَ الإصْرَارَ وَلَزِمَ الاسْتِغْفَارَ، وأَنَا أبْرأُ إليْكَ مِنْ أن
أسْتَكْبِرَ، وَأعوذُ مَنْ أن أُصِرَّ، وأسْتَغْفِرُكَ لَما قصَّرْتُ فيه،
وأسْتَعِينُ بِكَ عَلَى مَا عَجِزْتُ عنه".
* * *
توبة ندم
لقد أعلنت لك ـ يا ربّ ـ في موقف الاعتراف، عن طبيعة الحالة النفسية التي تهيمن على
كياني، وأنا في هذا الموقف العبوديّ التعبيري عن الخوف والرجاء، والندم والأمل
والحزن والسرور.
وها أنا ـ يا رب ـ أصل إلى النهاية الحاسمة للموقف، فلست ـ هنا ـ مجرد شخص يصرخ
ويتأوّه ويرتعش ويبكي، ليستدرج العطف والحنان، كحالةٍ ذاتيةٍ تجتذب الإحساس الحميم،
ولكني إنسان يريد أن يتجدد ويسمو ويعيش روحية الارتفاع إلى الأعالي في مواقع القرب
منك، حيث يتحوّل القدس الغارق في ينابيع الضياء إلى هاجس في الروح والوجدان والضمير،
في انطلاقتي الروحية إليك.
إنني أريد أن أجتاز الحدّ الفاصل بين حياة كنت فيها هارباً منك، وبين حياة جئت
إليها هارباً إليك، وأنفتح على آفاق الطمأنينة والأمان بدلاً من آفاق القلق والفزع.
إنني أريد أن أتوب إليك، ولكن، ما هي طبيعة الحالة الداخلية في إحساسي بالتوبة؟ وما
هي تصوراتي لمجد الربوبية في ذاتك، وصفات الرحمة في عظمتك، وما هي التزاماتي في هذا
الموقف الحاسم؟...
إنني أتوب إليك توبة نادم على ما فرط منه، تتمزق الحسرات في نفسه، وتحترق اللوعة في
قلبه، وتتوتر الآلام في أعصابه، وتتساءل مشاعره، كيف حدث ما حدث؟ ولماذا كانت
الغفلة الخانقة؟ وكيف غاب النور الإلهي عن وعي المستقبل لديّ؟ وماذا عن الاستغراق
في الشهوات من دون انتباه الآلام التي تفرضها النتائج السلبية؟ وكيف أخلدت إلى
الأرض وأثبتّ هواي وعصيت خالقي {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي
هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١)} (الشعراء: ٧٨ ـ ٨١).
تلك هي أفكار النّدم التي تتحوّل إلى حالةٍ من الإشفاق على النفس في ما اجتمع عليها
من الذنوب الكثيرة، وإلى إحساسٍ بالحياء مما وقعت فيه من الخطايا، عندما أقف عارياً
من كل أثواب الطهارة والنقاء في مواقف العصيان.
ولكني ـ مع ذلك كله ـ أتطلع إليك، فماذا أرى؟ وما هي تصوّراتي في وعي مقام
الألوهيّة في رحمتك، ومجد الربوبيّة في عظمتك؟ فقد يكون ذنبي عظيماً، ولكنّ مسألة
العفو عند الناس قد ترتبط بالحالة النفسية للمعتدى عليه، أمّا عندك، فإنها تتصل
بالحكمة والرحمة واللّطف الكبير، الأمر الذي لا قيمة معه لحجم الذّنب، بل القيمة
كلّها للمعنى الذي يختزنه العفو عن الذّنب، فلا مشكلة في العفو عن الذّنب العظيم،
لأنّ الذنوب كلها تصغر لديك، فلا تعظم مغفرة الذنب عندك، مهما بلغ، ولا يصعب عليك
التجاوز عن الإثم الجليل أو عن استيعاب الجنايات الفاحشة ـ وهي كبائر الذنوب ـ
فالصغير والكبير، والفاحش والعادي عندك بمنـزلة سواء في دائرة رحمتك، إذا كانت
الحكمة تقتضي ذلك، وإذا فكرت في القاعدة التي تمنح فيها محبتك لعبادك، فقد أجد أنّك
تكره المستكبرين عليك وتحبّ التاركين لها، وتُبعد المتمرّدين على طاعتك، وتقرّب
المستغفرين لك والتائبين من ذنوبهم.
وهكذا عرفت أن أحبَّ عبادك مَن ترك الاستكبار عليك، وجانب الإصرار ولزم الاستغفار،
لأنَّ هذه الصفات تمثّل المسؤوليَّة في حركة العبودية في الذات الإنسانيّة، وتدلّل
على الإحساس بعظمة الألوهيَّة، والخوف من التعرّض لغضبها وسخطها، والرغبة في الحصول
على رضاها ومحبّتها، ممّا يبعث على الاستقامة في الخطّ، والانفتاح في الإيمان،
والعمق في الالتزام.
وهذا الذي يجعل عبادك في موقع المحبّة لك، كما يشرّفهم بمحبتك لهم.
وأنا الآن ـ يا ربّ ـ أعلن لك البراءة من الاستكبار فكراً وإحساساً وعملاً وموقعاً،
لأعيش بدلاً من ذلك التواضع والخشوع والسجود الروحي حتى الانسحاق والذّوبان فيك،
والابتهال الدائم إليك في كلّ الأمور، وأعوذ بك من الوقوع في الإصرار على الخطايا
الخفيّة والمعلنة، والظاهرة والباطنة، لأبتعد عنها في كلّ مواقع حياتي، إدراكاً مني
لنتائجها المهلكة التي تبعدني عنك وعن رحمتك.
وأستغفرك لكلّ ما عشت فيه من التقصير في عبادتك، والاستهانة بأوامرك ونواهيك،
واللامبالاة في رضاك وسخطك، لأعود من جديد، فأكون الجادّ في التعبد إليك بإخلاص
العبادة، والمتحرّك في إطاعة أوامرك ونواهيك بكلّ دقّةٍ وتركيز، وأستنفر كلّ مشاعري
واهتماماتي، لتكون حياتي كلها رحلة إلى مواقع القرب إليك، وأستعين بك على ما قد
أعجز عنه من التزاماتي كلّها، لأنني لا أملك القوّة في إرادتي وعملي إلا من خلال
قوّتك.
من كتاب "آفاق الروح"، ج 1.