[في دعاء زين العابدين (ع) إِذَا مَرِضَ أَوْ نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أَوْ بَلِيَّةٌ:]
"اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وحَبِّبْ إليَّ مَا رَضيتَ لي،
ويسِّرْ لي مَا أحْلَلْتَ بي، وطهِّرْني مِنْ دنَسِ السَّلاَمَةِ، واجْعَلْ
مَخْرَجي عن عِلَّتي إلى عَفْوِكَ، ومُتَحَوَّلي عَن صَرْعَتي إلى تَجاوُزِكَ،
وخَلاصِي مِنْ كَرْبي إلى رَوْحِكَ، وسَلامَتِي مِنْ هذِهِ الشدَّةِ إلى فَرَجِكَ،
إنّكَ المُتَفَضِّلُ بِالإحْسَانِ، المُتطوِّلُ بِالامْتِنَان، الوَهَّابُ الكَرِيمُ،
ذُو الجَلالِ وَالإكْرَامِ".
* * *
حبّبني بما ترضى
"وحبِّب إليَّ ما رضيت لي". ويبقى لي ـ بعد ذلك كلّه ـ أن أجعل من نفسي صورةً لما
تحبّ، وأتخلّص من كلّ أثقال الماضي، في محاولة للبدء بحاضرٍ تكون فيه حياتي في نقاء
الإيمان، ومستقبل ينفتح على حركة الإخلاص، وأن أعيش في رحابك الواسعة المشرقة في كلّ
آفاق الصفاء، امنحني الوعي لأحبّ ما قضيت لي، لأنّ ذلك يعني الثقة بك وبحكمتك
وبالتّخطيط الدّقيق للكون وما فيه، ونحن بعض ما فيه، ليستقيم النظام الذي يصلح به
أمر الوجود كله والإنسان كله، سواء كان ذلك من خلال إرادة الإنسان المتحركة بسوء
اختياره أو بحسن اختياره في سلوكه المتعلق به أو بالآخرين، أو من خلال الظروف
المحيطة به، أو الأسباب الكونية المتناثرة في كل ساحات الوجود. وربما يفكر البعض
بأن الرضى بقضائك يمثّل سقوط الإرادة الإنسانية تجاه الغيب، بحيث تتعطّل طموحات
الإنسان أمام الحتميّة الوجوديّة، فيستسلم للأمواج الهادرة التي تقوده إلى الشّاطئ
أو إلى أعماق البحر، من دون أن يملك تغييراً للمصير المحتوم، لأنّه يسير بعينين
مغمضتين لا تملكان أن تنفتحا على المستقبل الآمن من خلال الضّباب.
القدر وليد الإرادة
ولكن هؤلاء لا يواجهون المسألة بدقة في منطق الواقع، بل يواجهونها في المفاهيم
الغائمة التي تثير الانفعال الذاتي ولكنّها لا تغيّر الحقيقة، إنهم يتحدّثون عن
حرية الإرادة، وأنَّ الإنسان هو صانع قدره، وأنّه أساس التّغيير للواقع، ولذا، فإن
عليه أن يتحرّك في وجوديّته من موقع إحساسه بحريته التي تنطلق من داخل ذاته لا من
خارجها، فهي ليست قراراً صادراً عن أحد، ولكنها جزء من طبيعة الشخصية الإنسانيّة؛
ولكن، من قال لهم إنّ الرضى بالقضاء يعني شيئاً مختلفاً عن هذه المفاهيم، ذلك لأنّ
حريّة الإرادة لا تنفصل عن الظروف الكونيّة والإنسانيّة التي تحيط به في الوقت الذي
يتحرّك نحو العمل، بل لا بدّ له من أن تنطلق إرادته في دائرة الممكن.
وهكذا نفهم مسألة صنع الإنسان لقدره، فالقدر الإنساني وليد الإرادة والجهد والطاقة،
ولكن ذلك كلّه في المجال الذي يسمح به الواقع في حدوده وأسبابه ووسائله، في عناصره
الكونيّة والإنسانيّة التي قد تعيش في عالم الغيب وقد تعيش في عالم الحسّ.
إنّ الإرادة إذا تحركت ولم تصل إلى غايتها، بعد استخدام كلّ الوسائل المتوفرة لديها،
بكل أبعاد الحرية التي تملكها، فإن الرضى بالنتيجة السلبية، هو لون من ألوان الرضى
بقضاء الله، لأنّ الله عندما يقضي بذلك، فإن قضاءه منطلق من خلال السنن العامة التي
أودعها في الحياة، ومنها الإرادة الإنسانية.
إنّ قيمة الرضى بالقضاء الإلهيّ تتمثّل في النظرة الواقعية للنتائج من خلال خضوعها
للأسباب وللمقدمات المتناثرة هنا وهناك.
وإذا كان الإنسان يلتقي بالسلبيات في مرحلة معيّنة، فليس معنى ذلك أنها ستكون الظرف
الحتمي الذي لا بدّ من أن يخضع له في حركته على مدى العمر، بل كلّ ما هناك، هو
الظروف الخاصّة المحدودة التي يمكن أن تتغيّر، ولو من خلال إرادة الإنسان، عندما
تتوفر له الوسائل والقدرات التي يستطيع ـ منها ـ أن يصنع ظروفاً جديدةً، يحقق من
خلالها شروطاً أخرى لنتائج إيجابية، ولكنّه في الحالة الأولى ينظر إلى السلبيّات
نظرة واقعيّة، كما أنه في الحالة الثانية ينظر إلى الإيجابيات بالنظرة نفسها،
انطلاقاً من الفكرة الإيمانية الموحية التي توحي إلى الإنسان بأنّ حكمة الله تقتضي
أن تكون الأشياء بأسبابها، ولذلك فإن على الإنسان أن يكون واعياً لحركة الأسباب
والمسببات، فلا يسقط أمام الفشل، ولا يخرج عن طوره أمام النجاح، فالفشل جهده في
نطاق ظروفه، كما أن النجاح عمله في نطاق قدراته، وفي ما بين هذا وذاك، يمكن للإنسان
أن يتدخّل في حركة الظروف وينتظرها، ليعرف كيف يتحرّك، تبعاً للأجواء المتحكمة فيها.
برد السّلامة
"ويسِّرْ لي مَا أحْلَلْتَ بي". يا ربّ، قد تكون هذه المصائب ـ من مرض ونحوه ـ مما
قضيت عليّ، مشكلة صعبة في حياتي، وقد تضغط عليّ بشكل عنيف، وقد يتعسّر عليّ التماسك
أمامها.
إنني أطلب منك أن تيسّر لي ما أحللته بي منها، وذلك بأن ترزقني القوّة على التحمل،
فلا أنوء بثقل ما قضيته عليّ، ولا أسقط تحت تأثير ضغطه، والعزيمة على التّوازن في
الحالة الشعورية الداخلية، فلا أجزع، ولا أنهار، فتنهار إنسانيتي أمامه.
إنني أعرف أنّ لكلّ مشكلة يسرها وعسرها، فاجعل اليسر في قلب مشكلتي هذه، لأتعامل
معها بطريقة متوازنة تحفظ لي ذاتي في نطاق إيماني.
"وطهِّرْني مِنْ دنَسِ السَّلاَمَةِ". ثم أنا ـ يا ربّ ـ أعيش هاجس الحاجة إلى
الطّهارة من التاريخ السلوكي الذي يتميّز بالقذارة، لأنّ دنس الذنوب في المعنى
الروحيّ، أكثر خطورة من دنس الوسخ في المعنى المادّي، فهل لي أن أطمع ـ يا ربّ ـ أن
يكون هذا البلاء وسيلةً من وسائل تطهيري من دنس الخطايا السّالفة، وسبباً في محو كلّ
تلك الصفحات السّوداء التي قدّمتها أمامي؟!
إنني ـ يا ربّ ـ أحسّ بالطّعم المرّ للمرض وللبلاء، فامنحني حلاوة العافية، لأتذوّق
فيها اللّطف الحلو الّذي ينساب لذيذاً في كلّ نبضات جسدي، واهتزازات أعصابي.
وإنني أحسّ بحرارة الخوف من الهلاك، ولذعة الاحتراق أمام الخطر، فاجعلني أتذوَّق
برد السلامة الذي يمنحني الهدوء والانسياب الجميل في كلّ خلجات روحي.
أنا الآن حبيس المرض في جسدي، وسجين الذّنب في عملي، فامنحني، يا ربّ، حرية العافية
من المرض، لتكون لي حرية الحركة من خلال الصحّة، وحرية العفو من الذنب، لتكون لي
حريّة الانطلاق في مواقع رضاك، واجعلني أتحوّل من صرعة المرض الذي طرحتني عاجزاً
على الفراش، حتى بدأت أهتزّ وأرتجف وأسقط، إلى أن أقف بثبات في قوّة الموقف الذي
أحصل فيه على تجاوزك عن خطاياي.
أنا المكروب ـ يا ربّ ـ فخلّصني من كربتي ـ هذه ـ إلى الراحة الجسديّة والروحيّة.
وأنا الواقع تحت تأثير شدّة المرض وضغطه، فسلّمني منها وامنحني الفرج الذي يفتح لي
أبواب السعادة التي أتنفّس فيها معنى الحياة، تفضّل عليّ بامتنانك أيّها المتطوّل
بالامتنان، وهبني الكثير من عطاياك أيّها الوهّاب الكريم، ووفّقني لأن أبقى متطلّعاً
لجلالك وإكرامك يا ذا الجلال والإكرام.
*من كتاب "آفاق الرّوح"، ج 1".