أورع النَّاس من وقف عند الشُّبهة

أورع النَّاس من وقف عند الشُّبهة

كلّ الحقوق والواجبات تصاغ في أطر عامّة وقواعد كلية، أخلاقية كانت أم شرعية أم سياسية أم غير ذلك. أما الجزئيات، فتُستخرج أحكامها من القوانين حيث لا حصر لها ولا عدّ، ولا يسوّغ أن تترك لضمائر الأفراد، فتستخدم في أحامها ما هبّ ودبّ، وعن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: "علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرّعوا".

ومن أمثلة هذا التفريع، ما روي عن الإمام الباقر، أن رسول الله (ص) نهى عن القيل والقال، وفساد المال وكثرة السؤال، فقيل له: أين هذا من كتاب الله؟ فاستخرج النهي عن القيل والقال من الآية 114 من النساء: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، وأرجع النهي عن فساد المال إلى الآية 5 من النساء: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً}. أمّا النهي عن كثرة السؤال، فدليله الآية 10 من المائدة: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.

وأيضاً عن الإمام الصّادق(ع): "أورع الناس من وقف عند الشّبهة، وأعبد الناس من أقام الفرائض، وأزهد النّاس من ترك الحرام".

وعليه، يمكن القول بأنَّ أشقى الناس في آخرته من اقتحم الشّبهات، ناسياً الدين والإيمان، وأشدّ من هذا شقاوةً وعداوةً لله ورسوله، من اخترع المبرّرات لارتكاب المحرَّمات تبعاً لأهوائه وأهواء أبنائه، وهذا وأمثاله هم السّبب الأوّل لهدم الدين باسم الدّين، بدليل قول المعصوم: "هم أشدّ على الإسلام من جيش يزيد بن معاوية".

مهّدنا بما تقدم لكي نشير إلى أن أهون شيء على الإنسان أن يحرك لسانه في فمه كيف شاء متى شاء، فيصف الجبن بالوداعة والتواضع، والاستسلام للذل والهوان بالقضاء والقدر، والتقتير بالتدبير، وإثارة الحروب بالحفاظ على السِّلم، والكذب بالحجة الدامغة، وكثير من الأطفال يحفظون قصة ذاك الذئب مع الحمل المسكين الذي عكّر الماء عليه، مع أن الذئب كان في أعلى الماء والحمل في أدناه، ثم دعوى الذئب بأنّ أبا الحمل قد سبّه وشتمه.. ومعلوم أنّ كلّ حمل في الدنيا لا يعرف أباه، ولكن هذا الذئب عرف أبا هذا الحمل الذي يريد أن يفترسه، عرفه باسمه وشخصه!

وهكذا ضعيف الدّين والإيمان يزوّر الواقع، ويخضع الحقّ لأهوائه، وتبعاً لمطامعه، كما فعل الذئب. وإليك هذا الشاهد الخالد:

قال ابن خلكان في "وفيات الأعيان"، وهو يترجم للقاضي أبي يوسف: أن هارون الرشيد أحب جارية عيسى بن جعفر، فسأله هبتها أو بيعها، فأبى وقال: حلفت بالطلاق والعتاق وصدقة جميع ما أملك إن بعتها أو وهبتها، فطلب الرّشيد من أبي يوسف أن يوجد له حلاً شرعياً لهذه المعضلة. فقال أبو يوسف لعيسى: هبه نصفها وبعه نصفها، ولا حنث عليك في ذلك، لأنك ما بعتها كلّها ولا وهبتها كلّها.

ففعل عيسى، حيث لا بدّ مما ليس منه بدّ، وحملت الجارية إلى الرّشيد وهو في مجلسه. فقال الرشيد لأبي يوسف: بقيت واحدة. قال: ما هي؟ قال: إنها جارية، ولا بدّ من أن تستبرئ بحيضة، وإذا لم أبت ليلتي معها خرجت نفسي. قال أبو يوسف: اعتقها فتصبح حرّة، واعقد عليها بعد العتق، فإنّ الحرّة لا تستبرئ. فأعتقها الرشيد، وعقد له عليها أبو يوسف، وقبض مئتي ألف!

ولا فرق اطلاقاً بين من يحتال ويحرّف دين الله وشرعه تبعاً لهوى خليفة أو قويّ، وبين من يحرّفه تبعاً لهواه أو هوى أبنائه. ومن جملة ما قرأت، أن العالم النفساني الكبير إدوارد ليتين قال: "إن بعض الآباء يذعنون لرغبة أبنائهم، حتى يتصوّر المرء أن الأبناء هم الكبار، وأنّ الأب هو الصغير الّذي لا يملك إلا أن يسمع ويطيع".

وهذه صورة طبق الأصل لما سمعناه من الناس عن البعض، ويا للأسف! فأين الاحتياط الذي قرأناه في كتب الفقه وأصوله، والابتعاد عن التّهم والشّبهات؟ ألا يكفي ما يحيط بنا من الأعداء، وما نحن فيه وما هو قادم علينا؟

وبعد، فإنّ الله سبحانه يعذر من ينسى جزءاً من أجزاء العبادة، أو يخطئ في فهم نص من النصوص إذا كان صادقاً في قصده، جاداً في بحثه، قال سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}(5 ـ الأحزاب). إنما الإثم والجرم على من حرف وزيّف، واستبدّ بأمره دون أمر الله جلّ وعزّ.

*من كتاب "فلسفة الأخلاق في الإسلام".

كلّ الحقوق والواجبات تصاغ في أطر عامّة وقواعد كلية، أخلاقية كانت أم شرعية أم سياسية أم غير ذلك. أما الجزئيات، فتُستخرج أحكامها من القوانين حيث لا حصر لها ولا عدّ، ولا يسوّغ أن تترك لضمائر الأفراد، فتستخدم في أحامها ما هبّ ودبّ، وعن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: "علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرّعوا".

ومن أمثلة هذا التفريع، ما روي عن الإمام الباقر، أن رسول الله (ص) نهى عن القيل والقال، وفساد المال وكثرة السؤال، فقيل له: أين هذا من كتاب الله؟ فاستخرج النهي عن القيل والقال من الآية 114 من النساء: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، وأرجع النهي عن فساد المال إلى الآية 5 من النساء: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً}. أمّا النهي عن كثرة السؤال، فدليله الآية 10 من المائدة: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.

وأيضاً عن الإمام الصّادق(ع): "أورع الناس من وقف عند الشّبهة، وأعبد الناس من أقام الفرائض، وأزهد النّاس من ترك الحرام".

وعليه، يمكن القول بأنَّ أشقى الناس في آخرته من اقتحم الشّبهات، ناسياً الدين والإيمان، وأشدّ من هذا شقاوةً وعداوةً لله ورسوله، من اخترع المبرّرات لارتكاب المحرَّمات تبعاً لأهوائه وأهواء أبنائه، وهذا وأمثاله هم السّبب الأوّل لهدم الدين باسم الدّين، بدليل قول المعصوم: "هم أشدّ على الإسلام من جيش يزيد بن معاوية".

مهّدنا بما تقدم لكي نشير إلى أن أهون شيء على الإنسان أن يحرك لسانه في فمه كيف شاء متى شاء، فيصف الجبن بالوداعة والتواضع، والاستسلام للذل والهوان بالقضاء والقدر، والتقتير بالتدبير، وإثارة الحروب بالحفاظ على السِّلم، والكذب بالحجة الدامغة، وكثير من الأطفال يحفظون قصة ذاك الذئب مع الحمل المسكين الذي عكّر الماء عليه، مع أن الذئب كان في أعلى الماء والحمل في أدناه، ثم دعوى الذئب بأنّ أبا الحمل قد سبّه وشتمه.. ومعلوم أنّ كلّ حمل في الدنيا لا يعرف أباه، ولكن هذا الذئب عرف أبا هذا الحمل الذي يريد أن يفترسه، عرفه باسمه وشخصه!

وهكذا ضعيف الدّين والإيمان يزوّر الواقع، ويخضع الحقّ لأهوائه، وتبعاً لمطامعه، كما فعل الذئب. وإليك هذا الشاهد الخالد:

قال ابن خلكان في "وفيات الأعيان"، وهو يترجم للقاضي أبي يوسف: أن هارون الرشيد أحب جارية عيسى بن جعفر، فسأله هبتها أو بيعها، فأبى وقال: حلفت بالطلاق والعتاق وصدقة جميع ما أملك إن بعتها أو وهبتها، فطلب الرّشيد من أبي يوسف أن يوجد له حلاً شرعياً لهذه المعضلة. فقال أبو يوسف لعيسى: هبه نصفها وبعه نصفها، ولا حنث عليك في ذلك، لأنك ما بعتها كلّها ولا وهبتها كلّها.

ففعل عيسى، حيث لا بدّ مما ليس منه بدّ، وحملت الجارية إلى الرّشيد وهو في مجلسه. فقال الرشيد لأبي يوسف: بقيت واحدة. قال: ما هي؟ قال: إنها جارية، ولا بدّ من أن تستبرئ بحيضة، وإذا لم أبت ليلتي معها خرجت نفسي. قال أبو يوسف: اعتقها فتصبح حرّة، واعقد عليها بعد العتق، فإنّ الحرّة لا تستبرئ. فأعتقها الرشيد، وعقد له عليها أبو يوسف، وقبض مئتي ألف!

ولا فرق اطلاقاً بين من يحتال ويحرّف دين الله وشرعه تبعاً لهوى خليفة أو قويّ، وبين من يحرّفه تبعاً لهواه أو هوى أبنائه. ومن جملة ما قرأت، أن العالم النفساني الكبير إدوارد ليتين قال: "إن بعض الآباء يذعنون لرغبة أبنائهم، حتى يتصوّر المرء أن الأبناء هم الكبار، وأنّ الأب هو الصغير الّذي لا يملك إلا أن يسمع ويطيع".

وهذه صورة طبق الأصل لما سمعناه من الناس عن البعض، ويا للأسف! فأين الاحتياط الذي قرأناه في كتب الفقه وأصوله، والابتعاد عن التّهم والشّبهات؟ ألا يكفي ما يحيط بنا من الأعداء، وما نحن فيه وما هو قادم علينا؟

وبعد، فإنّ الله سبحانه يعذر من ينسى جزءاً من أجزاء العبادة، أو يخطئ في فهم نص من النصوص إذا كان صادقاً في قصده، جاداً في بحثه، قال سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}(5 ـ الأحزاب). إنما الإثم والجرم على من حرف وزيّف، واستبدّ بأمره دون أمر الله جلّ وعزّ.

*من كتاب "فلسفة الأخلاق في الإسلام".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية