سليمان نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل، تميَّزت حياته بما حصل عليه من قوَّةٍ كبيرةٍ وملك واسع لم يحصل لأحدٍ من بعده، فقد جعل الله له جنوداً من الإنس والجنّ والطّير يتحركون في تنفيذ أوامره وتحقيق مقاصده في أهدافه المنفتحة على الخير الَّذي يفيضه على النَّاس لتحقيق رسالته. وقد سخَّر الله له الرّيح تجري بأمره حيثما أراد في العالم الَّذي يحكمه، كما سخَّر له الشَّياطين ليقوموا بتوفير الخدمات له في التَّعمير والغوص في البحار.
سليمان وارث داود
وقد وهبه الله لداود ليكون الوارث له في ملكه وأمواله ورسالته، فكان العبد المرضيَّ لله، الرّاجع إليه في عبادته، والمنفتح على عظمته في توحيده، كما جاء في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[1]، وفي قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}[2]، كما يرث الابن أباه في ملكه وماله، وكما يرث الأشخاص الموقع والدَّرجة، وكما يرث الأنبياء الرّسالة ممن تقدَّمهم، وخصوصاً إذا كان النّبيّ مرتبطاً به بالنَّسب، من خلال العطاء الإلهيّ في اصطفائه لرسله، لأنَّ الرّسالة لا تورَّث مادّياً كما يورَّث المال، بل إنّ الله هو الّذي يتكرّم بها على المتأخّر من الأنبياء، وليس النبيّ المتقدّم هو الذي يورّثه إيّاها مباشرةً، فإرث الرّسالة هنا هو بمعنى الامتداد الرّساليّ الّذي يجعل من كلِّ واحدٍ من الأنبياء مرحلةً متّصلةً بالمرحلة السّابقة فيما هو امتداد حركة النبوّة في الحياة.
وقد كان لسليمان ذلك كلّه، ولا سيَّما من خلال طبيعة العلاقة النَّسبيَّة الَّتي قد توحي بهذا الامتداد الوراثيّ المنفتح على المواقع كلِّها. وهكذا أخذ سليمان موقع أبيه بكلِّ خصوصيَّاته، وكانا متعاونين منفتحين على الدرجة التي رفعهما الله إليها، وعلى العلم الواسع الَّذي منحهما إيّاه. وقد ارتفعا في إخلاصهما لله في شكره وحمده على ما وصلا إليه من مستوى، وعلى تفضيلهما على كثيرٍ من عباده المؤمنين به المخلصين له، وذلك لما أعطاهما الله من علمٍ تمتدُّ حركته المعرفيّة إلى كلِّ المهمَّات التي كلَّفهما الوصول إلى أهدافها، وإلى الرِّسالة التي يبلّغونها للنّاس، ما جعلهما حاجةً شاملةً لعباد الله في الارتفاع إلى المستوى الثّقافيّ الَّذي يفتح لهم النّوافذ التي تطلّ بهم على مشارق النّور الّذي يضيء للرّوح وللعقل وللحياة.
وهذا هو دور الأنبياء الّذين أرسلهم الله ليخرجوا النّاس من الظّلمات إلى النّور، وليهدوهم إلى الصِّراط المستقيم، وهذا ما تحدَّث الله عنه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}[3]. وإذا كان لداود خصوصيَّة تسبيح الطَّير معه في مزاميره الرّوحيَّة، فقد ورث ابنه سليمان هذه الميزة مع ميزةٍ إضافيَّة، فقد علَّمه الله منطق الطّير، فأصبح يفهم لغتهم، ويتحدَّث معهم بمفرداتها وأساليبها، ويكلّفهم بالمهمَّات العمليَّة في حاجته إلى إيصال رسائله إلى النَّاس الَّذين ترتبط قضاياه بإبلاغهم رسائله، واستدعائهم إلى موقع سلطته وساحة ملكه.
وهكذا، كانت هذه الوراثة الّتي منحها الله للابن من خلال أبيه بشكلٍ يزيد عن طبيعة العلاقة المميَّزة للأب في جانب محدود: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ}، مما يعطيه الله للإنسان من علمٍ وقدرةٍ وملكٍ وسلطةٍ ونبوّة وحُكمٍ ومالٍ ونحو ذلك، ممّا يمكن للإنسان أن يحصل عليه فيما يحتاجه موقعه المميَّز في حركيَّته وفاعليَّته بشكلٍ طبيعيٍّ معقول، ولكن خارج حدود المألوف مما يملكه النّاس العاديّون.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}[4]، الَّذي يمنحنا موقع القيادة في حياتكم، ويفرض عليكم الطَّاعة لنا فيما نأمركم به أو ننهاكم عنه في صلاح أموركم واستقامتها وتوازنها، لأنَّ الفضل في الطّاعة يثبت الفضل في الموقع، تبعاً للحاجة والحركة والدَّور، بما يتنوَّع النَّاس به مما يملكونه ومما لا يملكونه. ولم يكن إعلان سليمان لهذا الفضل المبين من الله استعراضاً للقوَّة واستعلاءً على النّاس، بل كان بياناً للعناصر الَّتي تجعلهم في حاجةٍ إليه في أوضاعهم العامَّة والخاصَّة، تماماً كما هي الجماهير الَّتي تخضع لتوجيهات القيادة المالكة لكلِّ وسائل التَّوعية والتّرشيد والارتفاع إلى الدّرجات العليا، بفضل العلم الَّذين يبثّونه لهم، والإدارة التي ينظّمون بها أمورهم، من خلال ما يحصلون عليه من المعرفة والحكمة...
ولقد أعلن سليمان عن هذا الفضل، ليقوم بدوره الواسع الجديد في تبليغ رسالة الله بطريقة فاعلةٍ قويَّة غير مسبوقة.
مظاهر قوَّة سليمان
وقد أراد الله لسليمان أن يظهر بمظهر القوَّة، في استعراضٍ شاملٍ يبيّن فيه نوعيَّة المخلوقات الخاضعة له في سيطرته عليها واستخدامه لها، وهذا ما عبّر عنه في قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}[5]، أي يتحركون في مواقفهم وحركاتهم، في تنظيمٍ متقنٍ، ومسيرةٍ منتظمةٍ بعيدةٍ عن حال الفوضى الّتي قد تحدث في مثل هذا الجمع المتنوّع الّذي يختلف في طبيعته الخاصَّة الّتي لا يرتبط فيها بعضه بالبعض الآخر.
وهكذا أراد الله له من خلال المسؤوليّات التي كلّفه بها، والمهمّات التي أراد له القيام بها على تنوّعها واختلاف مواقعها، أن تكون له هذه السَّيطرة على الإنس فيما يريد أن يتحرك به في مجتمع الإنسان، وعلى الجنّ فيما يريد إثارته في مجتمعات الجنّ، وعلى الطَّير فيما يريد أن يكلّفهم به من مهمّات.
وليس من الضَّروري أن يكون لهذه الأصناف عقل وإرادة وثقافة، بالمستوى الَّذي يملكون معه التصرّف على أساس المسؤوليّة، كما احتمله بعض المفسّرين، حيث اعتبر أنّه كان للطَّير في زمان سليمان عقل بقدرة الله، دون زماننا، ولكنَّ مسألة الجنديّة يكفي فيها وجود بعض الخصوصيّات وعناصر القدرة التي يملك القائد تحريكها في مهمَّاته، مما يملكه الطَّير في حركته بحسب طبيعته الخاضعة لنظام حياة حدَّد الله مسارها الحركيّ لإدارة أموره في خطوط السَّير ونظام التَّكاثر والبحث عن سُبُل العيش في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ممّا أعدّه الله له، وألهمه هداه في شؤون الحياة، فهو الَّذي ألهم كلّ نفس هداها.
وهكذا اجتمع له كلّ هؤلاء في عرضٍ واسعٍ مهيبٍ معبّرٍ عن حجم القوّة، في مهمّة محدّدةٍ يتحركون نحوها إلى هدفٍ لم يحدِّثنا القرآن عن تفاصيله. وانطلقت المسيرة بسليمان وجنوده، ووصلوا إلى وادٍ يسمَّى وادي النَّمل: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ}، وهو من المناطق التي يتكاثر فيها النّمل بشكل كثيف، كما يوحي بذلك اسمه، باعتبار أنَّ هذه النِّسبة توحي بالامتداد الواسع لهذا الحيوان الصّغير.
وفوجئ النّبيّ سليمان بالنَّملة القائدة لمجتمعها وهي تحذّر النمل المنتشر في الوادي، وتطلب منهم الاختباء في مساكنهم حتى لا يسحقهم جنود سليمان في مسيرتهم الضَّخمة السّاحقة، فيطأونهم بأقدامهم وهم غافلون أو عارفون، {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[6]، لأنهم لا يتطلَّعون إلى مواطئ أقدامهم.
وهذا ما يوحي بأنَّ لمجتمع النَّمل قيادةً تدير أمورهم وشؤونهم، وتتولّى تحذيرهم من الأخطار القادمة إليهم أو المحيطة بهم، سواء كان ذلك بطريقةٍ غريزيّةٍ، أو بذهنيّةٍ واعية مما ألهم الله الحيوان لحماية نفسه، بما لا نملك معرفته، لأنّنا لا نملك لغته، ولكنَّ الآية توحي بشيء من هذا القبيل. وسمعها سليمان، لأنّه كان يعرف منطق النّمل بإلهام الله له، كما كان يعرف منطق الطَّير، وعرف بنعمة الله عليه ما يثيره موكبه الملوكيّ من اهتمامٍ حتى لدى النّمل الّذي كان يتابعه بخوفٍ وحذر.
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ}، بما أعطيتني من شؤون العلم والقدرة والملك والنبوَّة، وبما أعطيت والدي من ذلك ومن غيره مما يتميّز به، {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ}، لأحصل على محبَّتك ولطفك، لأنَّ ذلك يمثّل شكراً عمليّاً للنِّعمة الّتي أنعمت بها عليَّ، ويجسِّد وسائل القرب إلى الله، الّذي يقرّب عباده إلى رضوانه من خلال طاعتهم وإيمانهم وتحركهم في مواقع رضاه.
{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}[7]، حتى أكون جزءاً من هذه المسيرة الصَّالحة من عبادك في الدّنيا، مما وفّقت إليه أنبياءك ورسلك الَّذين جسَّدوا الصَّلاح في حياتهم في أقوالهم وأعمالهم ومواقفهم وعلاقاتهم ودعوتهم إلى الله، وأكون جزءاً من هذا المجتمع الصَّالح القريب إليك بإيمانه وعمله، والسَّعيد بجنّتك ونعيمك في الآخرة، {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}[8].
الارتباط الدَّائم بالله
وهكذا، يستوحي الإنسان من خلال هذا الدّعاء المنطلق من أعماق الروحيَّة الإيمانيَّة لدى سليمان، أنَّ على الإنسان دائماً أن لا ينفصل عن شعوره بالله وحاجته إليه، وإحساسه بفضله على وجوده كلِّه، حتى وهو في أعلى مواقع القوَّة، ليبقى مشدوداً إليه، ومنفتحاً عليه بعقله وشعوره، وليفكِّر دائماً في أنَّ وجوده مستمدٌّ من وجود الله، وأنَّ قوَّته هبةٌ منه، لأنَّه لا يملك أيّة قوّة ذاتيَّة بشكلٍ طبيعيٍّ مستقلّ، لأنَّ القوّة لله جميعاً، ولأنَّ النِّعمة الّتي يغدقها الله على الوالدين، هي نعمةٌ على الولد بشكلٍ غير مباشر، فيما يحصل عليه منهما من رعايةٍ وعنايةٍ، وما يمثِّله وجودهما من السَّبب المباشر في آليّة وجوده.
كما أنَّ عليه أن يبتهل إلى الله تعالى في أن يوفِّقه للقيام بالعمل الصَّالح، لتكون حياته مثالاً للصَّلاح في كلِّ مفرداتها وتطلّعاتها إلى النّموّ والسّموّ والتقدّم والتقرّب إلى الله، وأن يدخله في المجتمع الصَّالح، فلا يكون مجرَّد فردٍ يعيش روحيَّة الصّلاح في نفسه وحركيّته في عمله، بل يكون جزءاً من المجتمع الصَّالح الّذي يتفاعل معه، ويتحرَّك في ساحاته، ويعيش في تفاصيله، وينتهي معه في مصيره.
ولعلّنا نستوحي من ذلك، أنَّ الإنسان المسلم لا بدَّ من أن يبقى مشدوداً إلى المجتمع الصَّالح بالعمل الّذي يرضي الله، وينال به رحمته ولطفه وغفرانه، ليعمل من أجل تكوينه في امتداد رسالته، وليقوى به ويقوِّيه، ويرتفع بإيحاءاته إلى الدَّرجات العليا في مدارج الخير والمعرفة والتَّقوى، والحصول على سعادة الدنيا والآخرة. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [ص: 30].
[2] [النّمل: 16].
[3] [النّمل: 15].
[4] [النّمل: 16].
[5] [النّمل: 17].
[6] [النّمل: 18].
[7] [النّمل: 19].
[8] [القمر: 55].