قصّة النّبيّ سليمان(ع) مع الهدهد

قصّة النّبيّ سليمان(ع) مع الهدهد

ولا زلنا نواصل الحديث عن التَّجربة النبويَّة للنّبيّ سليمان(ع)، إذ أراد الله تعالى للنّبيّ سليمان أن يكون له مُلْكٌ مميّزٌ عن أيِّ مُلْكٍ آخر، من حيث حجم القوَّة وتنوّعاتها في حركة أفرادها، في المهمَّات الكبيرة الَّتي كان يحمّلهم مسؤوليَّتها بقيادته، فيما كان يضعه من خططٍ للقضايا الكبرى الممتدَّة في كلِّ الأرض الَّتي يصل إليها ملكه، وفي الفضاء أيضاً، حيث كان جنوده، الطَّير، يحلِّقون في الفضاء، ويتنقَّلون في الأجواء، في انطلاقتهم الحركيَّة السَّاعية لأكثر من موقعٍ من مواقع المسؤوليَّة الَّتي يتحمَّلها النّبيّ سليمان في الدَّعوة إلى الله، إضافةً إلى رحلة الطَّيران السَّريعة الَّتي تُحمَل فيها الرَّسائل وتُتَفَحَّصُ فيها الأوضاع.

وكان من جنوده الجنّ، الَّذي يتمتَّع بقدرةٍ كبيرة على التحرّك في الأرض وفي الفضاء، وعلى النّفوذ إلى المناطق الخفيَّة، إضافةً إلى خبرته في العمران وبناء التَّماثيل والآلات المتنوّعة في حاجات النّاس الخاصَّة والعامَّة.

هذا إضافةً إلى جيوشه من النَّاس، الَّذين كانوا يتوزَّعون الوظائف الإداريَّة والقتاليَّة والأمنيَّة، وكان النَّبيّ سليمان يمارس إدارة ذلك كلِّه ويتفقّده، ويلاحق التزامهم بالحضور أمامه في نطاق الخطَّة التنظيميّة الّتي وضعها لهم، وقد تحدَّث الله عن ذلك بقوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}[1]، أي يسيرون سيراً منتظماً بعيداً عن الفوضى، على الرَّغم من تنوّعاتهم واختلاف طبيعة كلٍّ منهم عن الآخر. وقد كانت هذه الكثرة في جنوده تفرض عليهم عند التحرّك والمسير، أن تتوقَّف مقدّمة الجيش لتلحق بها مؤخّرته، وهذا هو مدلول قوله تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ}، أي إيقاف أوَّل الجيش ليلحق به آخره، ليُحفظ من التشتّت والتفرّق.

أمَّا تعبير "حشر الجنود"، فيدلُّ على إخراج الجمع من المقرّ العام والتحرّك نحو ميدان القتال، أو نحو مهمَّة حركيَّة تتَّصل بمسؤوليَّة سليمان القياديّة الرئاسيّة، من دون تحديدٍ قرآنيّ لطبيعتها.

وليس من الضَّروريّ أن يكون لكلّ صنفٍ من هذه الأصناف عقل وإرادة، بالمستوى الّذي يملكون معه التّصرّف على أساس الالتزام بالتّعليمات الصَّادرة إليهم، كما احتمله بعض المفسّرين، حيث اعتبر أنّه كان للطَّير في زمان سليمان عقلٌ منفتحٌ على الأمور العامَّة بقدرة الله، دون أن يكون ذلك وارداً في زماننا. إنَّ ذلك ليس ضروريّاً، لأنَّ مسألة الجنديّة يكفي فيها وجود بعض الخصائص والقدرات الَّتي يملك القائد تحريكها وتوجيهها في مهمَّاته، وهو ما يملكه الطّير بحسب طبيعته في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ممّا أعدّه الله له وألهمه هداه في شؤون الحياة، وربما ألهم الله بعض الطّيور حالةَ من الوعي للاستفادة منها في بعض المهمَّات، كما في نموذج الهدهد الّذي يأتي الحديث عنه.

غياب الهدهد

وكان النَّبيُّ سليمان يستعرض جنوده ليتعرَّف الحاضرين منهم والغائبين، والملتزمين وغير الملتزمين، لأنَّ المسيرة الَّتي أراد الانطلاق إليها، تفرض حضور الجميع لتولّي المسؤوليَّات الملقاة عليهم، وكان الطَّير من بين الَّذين تفقَّدهم في استعراضه، ليعرف تكامل أعدادهم في هذا الحشر الشّامل. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ـ في عمليَّة استعراضه لهم ـ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ـ إذ لفت نظره غيابه عن جمع الطّيور، لما له من أهميّة في الأمور الموكلة إليه بين وقتٍ وآخر، ولا سيَّما في المهمَّة الجديدة الَّتي يتحضَّر لها سليمان في مسيرته ـ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}[2]، فلم يلتزم بالحضور المطلوب منه إلى جانب الطّيور الأخرى.

وفي هذا دلالة على أنَّ القائد المسؤول الواعي لمسؤوليّاته، لا بدَّ من أن يجعل كلَّ شيءٍ يجري داخل إطار الدّولة تحت نظره ونفوذه، حتى على مستوى وجود طائرٍ واحدٍ وغيابه، وخصوصاً إذا كان لهذا الطَّائر خصوصيَّة ذات أهميّة في المسيرة الجديدة، وهو ما جعل سليمان يطلق الإنذار والتَّهديد القاسي ضدّه، في حال كان غيابه منطلقاً من حالة ذاتيَّة أو من تمرّد وعصيان، حفاظاً على حالة الانضباط لدى جنوده، باعتبار أنَّ عصيان الأوامر قد يسيء إلى إتمام المهمَّة أو حالة الانتصار في الحرب، بفعل ما قد يحدثه من الفوضى في التزام الجيش ونظامه، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ـ عقاباً لتمرّده ـ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}[3]، مما يدخل في حسابات المصلحة العليا للدَّور الرّساليّ الّذي يتحمَّل مسؤوليَّته في رسالته، لأنَّ ذلك يوحي بانسجامه مع رغبة القيادة في تلك المرحلة.

ولم يطل غياب الهدهد: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ـ من الزَّمان الَّذي انطلق فيه حديث سليمان وتهديده، ثم مَثُلَ أمام قائده، وقدَّم له تقريره فيما فعله في فترة غيابه ـ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ـ لأنَّك لا تملك الوصول إلى المنطقة الّتي وصلت إليها، بفعل قوَّة الطَّيران الّتي زوَّدني الله بها، بما يجعلني أقطع المسافات البعيدة بيسرٍ وسهولة، بينما إمكاناتك لا تحقِّق لك هذه الإحاطة الجغرافيَّة والثقافيَّة ـ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}[4]، فقد ذهبت إلى اليمن، ودخلت إلى عاصمتها (سبأ)، واطَّلعت على طبيعة النَّاس فيها، ونوعيّة الحكم المسيطر عليها، والعقيدة التي يلتزمونها في عبادتهم وإيمانهم، وجئتك بالخبر المفصَّل الواضح الّذي يرتكز على المعرفة اليقينيّة.

مهمَّة إعلاميّة رساليّة

ونلاحظ من خلال ما ورد، أنَّ الهدهد قد تحدَّث إلى النَّبيِّ سليمان بشكلٍ طبيعيّ، لإحساسه بأنَّه يتمتَّع بالعدالة والحريَّة الَّتي لا تفرض على أتباعه وجنوده الخضوع الذّليل الّذي قد يدفعهم إلى التملّق له، كما يفعل الملأ الّذين يتملّقون الجبابرة في إحساسهم بالحقارة الإنسانيَّة أمامهم، بل إنَّ معرفتهم بعدالته تدفعهم إلى أن يواجهوه بطريقةٍ مباشرة، وبكلّ حريَّة وصراحة، في تقديم المعلومات الضَّروريَّة له.

وهكذا، أخبر الهدهد النّبيَّ سليمان أنّه كان في غيابه يمارس مهمّةً إعلاميّةً تدخل في نطاق مهمَّة سليمان الرساليّة الممتدّة في الأرض البعيدة والقريبة في خطِّ المسؤوليَّة، لتكون لديه المعرفة بهذه المنطقة وبهؤلاء النّاس.

ونستوحي من ذلك، أنَّ قضيَّة العلم قد يحملها الصَّغير للكبير، والتَّابع للمتبوع، من دون أن يشعر الكبير بأيّة حالةٍ سلبيّة في مركزه القياديّ. وهذا ما بدأ الهدهد بتفصيله: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}[5]، ففي هذا البلد الكثير من الثّروات والإمكانات والقدرات، وفي مركز السّلطة، كانت امرأة تحكمهم بإرادة مطلقة لا يقيّدها شيء، أمّا عرشها الملوكيّ الَّذي تجلس عليه، وتصدر أحكامها من خلاله، فقد كان عرشاً عظيماً لم أرَ مثله، بما في ذلك عرش سليمان الّذي كان يتميَّز بالتَّواضع...

معتقد ملكة سبأ وقومها

واستمرَّ الهدهد بتقديم تقريره، فتحدَّث عن الجانب العقيديّ والعباديّ الّذي تلتزم به هذه الملكة مع قومها: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ}، فهم من الوثنيّين الّذين بهرتهم الشَّمس في إشراقها على الكون كلّه، ليكون النّهار الّذي يحصّلون فيه أرزاقهم وأمورهم العامّة، وفي غروبها الّذي يصنع اللّيل ليخلد النّاس إلى راحته ومنامه، فخيِّل إليهم أنها الإله المعبود الّذي لا فناء له، ولم يكن ذلك نتيجة تفكيرٍ عقلانيّ في معنى الإله وصفاته في خالقيَّته للحياة وللإنسان والحيوان، وفي تنظيمه للكون كلِّه، وفي أنَّ الشّمس لا تمثّل إلا كوكباً متميِّزاً بشعلة الضّوء المنتشرة في الفضاء من دون عناصر أخرى في حركة الألوهيَّة العظيمة. ولكنَّ المشكلة هي أنهم ورثوا هذه العبادة من آبائهم من دون أن يفكِّروا في طبيعة ذلك.

{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}، فقد استغرقوا في العناصر الّتي اجتذبتهم إلى تقديسها وتعظيمها والارتفاع بها إلى مستوى الإله، وقادهم الشَّيطان إلى الشّعور بأنهم على حقّ في هذه التصوّرات المضلَّة، عندما عطَّل تفكيرهم عن دراسة سلبيّاتها العقيديّة والعباديّة المعبّرة عن التخلّف الفكريّ، فلم يهتدوا إلى الرّشد الإنسانيّ العقليّ، {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}، الَّذي يفرض على السَّائرين فيه الالتفات إلى مواقعه، والمعرفة لبدايته ونهايته، كما يفرض الرّغبة في سلوكه من موقع النّتائج الطيّبة الّتي يحصّلها الإنسان من خلاله، {فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}[6]، بعد أن فقدوا ملامح الصّورة للواقع الّذي يحيط بهم أو يطلّ عليهم، فأضاعوا درب الهدى، وابتعدوا عن الفطرة الصّافية الكامنة في أعماقهم الّتي تدلّهم على مواقع الشّروق في حركة الحقيقة في الكون والفكر والإحساس العميق.

ويتابع الهدهد تقريره الّذي ينقد عبادتهم للشَّمس، وجحودهم لله الواحد القادر المهيمن الخالق لكلّ شيء: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ ـ وهو المخبوء الّذي أحاط به غيره حتى منع من إدراكه، وهو مصدرٌ وصف به، وما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنـزلة. وبذلك يكون التَّعبير وارداً على سبيل الاستعارة، بلحاظ اختباء الأشياء كلِّها ـ قبل أن توجد ـ في قلب العدم الّذي لا يحيط به أحد إلا الله ـ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، فالله هو وحده الّذي يخرج الأشياء من عمق العدم بقدرته الّتي لا يحدّها شيء، تماماً كما يخرج الأشياء الكامنة في داخل السَّماوات والأرض، مما لا يملك أحد الوصول إليها، فهو الّذي ينبغي أن يسجد النّاس له، بما يمثّله السّجود من الخضوع للقدرة المطلقة المهيمنة على نظام الكون كلّه بجميع مظاهره وظواهره في السَّماء والأرض.

وما قيمة عظمة الشَّمس أمام عظمة الله الَّذي خلقها ووضع لها القوانين والشّروط الّتي تحكم حركتها؟! بل إنَّ عظمة التَّدبير فيها، دليل على عظمة المدبِّر لها، وهو الله، فكيف يسجدون لها ويتركون السّجود لله الذي يملك الأمر كلَّه، {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}[7]، لأنّه المحيط بكم، وهو الّذي يعلم عمق ما تخفونه من أموركم وما تظهرونه منها؟ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[8]، فهو وحده الإله الّذي يستحقّ العبادة، وكلّ من عداه هو مألوه له، ومخلوق في وجوده بقدرته، وكلّ عرشٍ في الكون هو دون عرشه، لأنَّ قوّته مستمدَّة من قوّة الله، بما أعطاه من مواقع السّلطة لعباده، مما يقدرون عليه ويملكونه من أشياء.

وقد يكون هذا من كلام الهدهد الّذي يملك وعي ذلك بفطرته الصّافية وغريزته العفويّة، مما أودعه الله فيه من طاقة الفكر، باعتبار دوره الخاصّ في حاجة النبيّ سليمان إليه، بحيث يدرك وجه الحقّ والباطل في شؤون العقيدة بما يأخذه النّاس منها، كما يعرف مواقع الحَبّ الذي يلتقطه في الأرض ليميِّز الصّالح منه من غير الصّالح، بما ألهمه الله من علم ذلك كلِّه. وقد يكون من كلام الله، كما درج عليه الأسلوب القرآني من الامتداد في مواقع الفكرة عند الحديث عن بعض مفرداتها، بما تقتضيه طبيعة الأمور في تفاصيلها الواقعيَّة، ولا سيَّما عندما ينطلق الحديث عن الله في مقابل حديث المشركين. والحمد لله ربِّ العالمين.

 *ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [النّمل: 17].

[2]  [النّمل: 20].

[3]  [النّمل: 21].

[4]  [النّمل: 22].

[5] [النّمل: 23].

[6]  [النّمل: 24].

[7]  [النّمل: 25].

[8]  [النّمل: 26].


ولا زلنا نواصل الحديث عن التَّجربة النبويَّة للنّبيّ سليمان(ع)، إذ أراد الله تعالى للنّبيّ سليمان أن يكون له مُلْكٌ مميّزٌ عن أيِّ مُلْكٍ آخر، من حيث حجم القوَّة وتنوّعاتها في حركة أفرادها، في المهمَّات الكبيرة الَّتي كان يحمّلهم مسؤوليَّتها بقيادته، فيما كان يضعه من خططٍ للقضايا الكبرى الممتدَّة في كلِّ الأرض الَّتي يصل إليها ملكه، وفي الفضاء أيضاً، حيث كان جنوده، الطَّير، يحلِّقون في الفضاء، ويتنقَّلون في الأجواء، في انطلاقتهم الحركيَّة السَّاعية لأكثر من موقعٍ من مواقع المسؤوليَّة الَّتي يتحمَّلها النّبيّ سليمان في الدَّعوة إلى الله، إضافةً إلى رحلة الطَّيران السَّريعة الَّتي تُحمَل فيها الرَّسائل وتُتَفَحَّصُ فيها الأوضاع.

وكان من جنوده الجنّ، الَّذي يتمتَّع بقدرةٍ كبيرة على التحرّك في الأرض وفي الفضاء، وعلى النّفوذ إلى المناطق الخفيَّة، إضافةً إلى خبرته في العمران وبناء التَّماثيل والآلات المتنوّعة في حاجات النّاس الخاصَّة والعامَّة.

هذا إضافةً إلى جيوشه من النَّاس، الَّذين كانوا يتوزَّعون الوظائف الإداريَّة والقتاليَّة والأمنيَّة، وكان النَّبيّ سليمان يمارس إدارة ذلك كلِّه ويتفقّده، ويلاحق التزامهم بالحضور أمامه في نطاق الخطَّة التنظيميّة الّتي وضعها لهم، وقد تحدَّث الله عن ذلك بقوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}[1]، أي يسيرون سيراً منتظماً بعيداً عن الفوضى، على الرَّغم من تنوّعاتهم واختلاف طبيعة كلٍّ منهم عن الآخر. وقد كانت هذه الكثرة في جنوده تفرض عليهم عند التحرّك والمسير، أن تتوقَّف مقدّمة الجيش لتلحق بها مؤخّرته، وهذا هو مدلول قوله تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ}، أي إيقاف أوَّل الجيش ليلحق به آخره، ليُحفظ من التشتّت والتفرّق.

أمَّا تعبير "حشر الجنود"، فيدلُّ على إخراج الجمع من المقرّ العام والتحرّك نحو ميدان القتال، أو نحو مهمَّة حركيَّة تتَّصل بمسؤوليَّة سليمان القياديّة الرئاسيّة، من دون تحديدٍ قرآنيّ لطبيعتها.

وليس من الضَّروريّ أن يكون لكلّ صنفٍ من هذه الأصناف عقل وإرادة، بالمستوى الّذي يملكون معه التّصرّف على أساس الالتزام بالتّعليمات الصَّادرة إليهم، كما احتمله بعض المفسّرين، حيث اعتبر أنّه كان للطَّير في زمان سليمان عقلٌ منفتحٌ على الأمور العامَّة بقدرة الله، دون أن يكون ذلك وارداً في زماننا. إنَّ ذلك ليس ضروريّاً، لأنَّ مسألة الجنديّة يكفي فيها وجود بعض الخصائص والقدرات الَّتي يملك القائد تحريكها وتوجيهها في مهمَّاته، وهو ما يملكه الطّير بحسب طبيعته في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ممّا أعدّه الله له وألهمه هداه في شؤون الحياة، وربما ألهم الله بعض الطّيور حالةَ من الوعي للاستفادة منها في بعض المهمَّات، كما في نموذج الهدهد الّذي يأتي الحديث عنه.

غياب الهدهد

وكان النَّبيُّ سليمان يستعرض جنوده ليتعرَّف الحاضرين منهم والغائبين، والملتزمين وغير الملتزمين، لأنَّ المسيرة الَّتي أراد الانطلاق إليها، تفرض حضور الجميع لتولّي المسؤوليَّات الملقاة عليهم، وكان الطَّير من بين الَّذين تفقَّدهم في استعراضه، ليعرف تكامل أعدادهم في هذا الحشر الشّامل. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ـ في عمليَّة استعراضه لهم ـ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ـ إذ لفت نظره غيابه عن جمع الطّيور، لما له من أهميّة في الأمور الموكلة إليه بين وقتٍ وآخر، ولا سيَّما في المهمَّة الجديدة الَّتي يتحضَّر لها سليمان في مسيرته ـ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}[2]، فلم يلتزم بالحضور المطلوب منه إلى جانب الطّيور الأخرى.

وفي هذا دلالة على أنَّ القائد المسؤول الواعي لمسؤوليّاته، لا بدَّ من أن يجعل كلَّ شيءٍ يجري داخل إطار الدّولة تحت نظره ونفوذه، حتى على مستوى وجود طائرٍ واحدٍ وغيابه، وخصوصاً إذا كان لهذا الطَّائر خصوصيَّة ذات أهميّة في المسيرة الجديدة، وهو ما جعل سليمان يطلق الإنذار والتَّهديد القاسي ضدّه، في حال كان غيابه منطلقاً من حالة ذاتيَّة أو من تمرّد وعصيان، حفاظاً على حالة الانضباط لدى جنوده، باعتبار أنَّ عصيان الأوامر قد يسيء إلى إتمام المهمَّة أو حالة الانتصار في الحرب، بفعل ما قد يحدثه من الفوضى في التزام الجيش ونظامه، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ـ عقاباً لتمرّده ـ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}[3]، مما يدخل في حسابات المصلحة العليا للدَّور الرّساليّ الّذي يتحمَّل مسؤوليَّته في رسالته، لأنَّ ذلك يوحي بانسجامه مع رغبة القيادة في تلك المرحلة.

ولم يطل غياب الهدهد: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ـ من الزَّمان الَّذي انطلق فيه حديث سليمان وتهديده، ثم مَثُلَ أمام قائده، وقدَّم له تقريره فيما فعله في فترة غيابه ـ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ـ لأنَّك لا تملك الوصول إلى المنطقة الّتي وصلت إليها، بفعل قوَّة الطَّيران الّتي زوَّدني الله بها، بما يجعلني أقطع المسافات البعيدة بيسرٍ وسهولة، بينما إمكاناتك لا تحقِّق لك هذه الإحاطة الجغرافيَّة والثقافيَّة ـ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}[4]، فقد ذهبت إلى اليمن، ودخلت إلى عاصمتها (سبأ)، واطَّلعت على طبيعة النَّاس فيها، ونوعيّة الحكم المسيطر عليها، والعقيدة التي يلتزمونها في عبادتهم وإيمانهم، وجئتك بالخبر المفصَّل الواضح الّذي يرتكز على المعرفة اليقينيّة.

مهمَّة إعلاميّة رساليّة

ونلاحظ من خلال ما ورد، أنَّ الهدهد قد تحدَّث إلى النَّبيِّ سليمان بشكلٍ طبيعيّ، لإحساسه بأنَّه يتمتَّع بالعدالة والحريَّة الَّتي لا تفرض على أتباعه وجنوده الخضوع الذّليل الّذي قد يدفعهم إلى التملّق له، كما يفعل الملأ الّذين يتملّقون الجبابرة في إحساسهم بالحقارة الإنسانيَّة أمامهم، بل إنَّ معرفتهم بعدالته تدفعهم إلى أن يواجهوه بطريقةٍ مباشرة، وبكلّ حريَّة وصراحة، في تقديم المعلومات الضَّروريَّة له.

وهكذا، أخبر الهدهد النّبيَّ سليمان أنّه كان في غيابه يمارس مهمّةً إعلاميّةً تدخل في نطاق مهمَّة سليمان الرساليّة الممتدّة في الأرض البعيدة والقريبة في خطِّ المسؤوليَّة، لتكون لديه المعرفة بهذه المنطقة وبهؤلاء النّاس.

ونستوحي من ذلك، أنَّ قضيَّة العلم قد يحملها الصَّغير للكبير، والتَّابع للمتبوع، من دون أن يشعر الكبير بأيّة حالةٍ سلبيّة في مركزه القياديّ. وهذا ما بدأ الهدهد بتفصيله: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}[5]، ففي هذا البلد الكثير من الثّروات والإمكانات والقدرات، وفي مركز السّلطة، كانت امرأة تحكمهم بإرادة مطلقة لا يقيّدها شيء، أمّا عرشها الملوكيّ الَّذي تجلس عليه، وتصدر أحكامها من خلاله، فقد كان عرشاً عظيماً لم أرَ مثله، بما في ذلك عرش سليمان الّذي كان يتميَّز بالتَّواضع...

معتقد ملكة سبأ وقومها

واستمرَّ الهدهد بتقديم تقريره، فتحدَّث عن الجانب العقيديّ والعباديّ الّذي تلتزم به هذه الملكة مع قومها: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ}، فهم من الوثنيّين الّذين بهرتهم الشَّمس في إشراقها على الكون كلّه، ليكون النّهار الّذي يحصّلون فيه أرزاقهم وأمورهم العامّة، وفي غروبها الّذي يصنع اللّيل ليخلد النّاس إلى راحته ومنامه، فخيِّل إليهم أنها الإله المعبود الّذي لا فناء له، ولم يكن ذلك نتيجة تفكيرٍ عقلانيّ في معنى الإله وصفاته في خالقيَّته للحياة وللإنسان والحيوان، وفي تنظيمه للكون كلِّه، وفي أنَّ الشّمس لا تمثّل إلا كوكباً متميِّزاً بشعلة الضّوء المنتشرة في الفضاء من دون عناصر أخرى في حركة الألوهيَّة العظيمة. ولكنَّ المشكلة هي أنهم ورثوا هذه العبادة من آبائهم من دون أن يفكِّروا في طبيعة ذلك.

{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}، فقد استغرقوا في العناصر الّتي اجتذبتهم إلى تقديسها وتعظيمها والارتفاع بها إلى مستوى الإله، وقادهم الشَّيطان إلى الشّعور بأنهم على حقّ في هذه التصوّرات المضلَّة، عندما عطَّل تفكيرهم عن دراسة سلبيّاتها العقيديّة والعباديّة المعبّرة عن التخلّف الفكريّ، فلم يهتدوا إلى الرّشد الإنسانيّ العقليّ، {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}، الَّذي يفرض على السَّائرين فيه الالتفات إلى مواقعه، والمعرفة لبدايته ونهايته، كما يفرض الرّغبة في سلوكه من موقع النّتائج الطيّبة الّتي يحصّلها الإنسان من خلاله، {فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}[6]، بعد أن فقدوا ملامح الصّورة للواقع الّذي يحيط بهم أو يطلّ عليهم، فأضاعوا درب الهدى، وابتعدوا عن الفطرة الصّافية الكامنة في أعماقهم الّتي تدلّهم على مواقع الشّروق في حركة الحقيقة في الكون والفكر والإحساس العميق.

ويتابع الهدهد تقريره الّذي ينقد عبادتهم للشَّمس، وجحودهم لله الواحد القادر المهيمن الخالق لكلّ شيء: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ ـ وهو المخبوء الّذي أحاط به غيره حتى منع من إدراكه، وهو مصدرٌ وصف به، وما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنـزلة. وبذلك يكون التَّعبير وارداً على سبيل الاستعارة، بلحاظ اختباء الأشياء كلِّها ـ قبل أن توجد ـ في قلب العدم الّذي لا يحيط به أحد إلا الله ـ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، فالله هو وحده الّذي يخرج الأشياء من عمق العدم بقدرته الّتي لا يحدّها شيء، تماماً كما يخرج الأشياء الكامنة في داخل السَّماوات والأرض، مما لا يملك أحد الوصول إليها، فهو الّذي ينبغي أن يسجد النّاس له، بما يمثّله السّجود من الخضوع للقدرة المطلقة المهيمنة على نظام الكون كلّه بجميع مظاهره وظواهره في السَّماء والأرض.

وما قيمة عظمة الشَّمس أمام عظمة الله الَّذي خلقها ووضع لها القوانين والشّروط الّتي تحكم حركتها؟! بل إنَّ عظمة التَّدبير فيها، دليل على عظمة المدبِّر لها، وهو الله، فكيف يسجدون لها ويتركون السّجود لله الذي يملك الأمر كلَّه، {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}[7]، لأنّه المحيط بكم، وهو الّذي يعلم عمق ما تخفونه من أموركم وما تظهرونه منها؟ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[8]، فهو وحده الإله الّذي يستحقّ العبادة، وكلّ من عداه هو مألوه له، ومخلوق في وجوده بقدرته، وكلّ عرشٍ في الكون هو دون عرشه، لأنَّ قوّته مستمدَّة من قوّة الله، بما أعطاه من مواقع السّلطة لعباده، مما يقدرون عليه ويملكونه من أشياء.

وقد يكون هذا من كلام الهدهد الّذي يملك وعي ذلك بفطرته الصّافية وغريزته العفويّة، مما أودعه الله فيه من طاقة الفكر، باعتبار دوره الخاصّ في حاجة النبيّ سليمان إليه، بحيث يدرك وجه الحقّ والباطل في شؤون العقيدة بما يأخذه النّاس منها، كما يعرف مواقع الحَبّ الذي يلتقطه في الأرض ليميِّز الصّالح منه من غير الصّالح، بما ألهمه الله من علم ذلك كلِّه. وقد يكون من كلام الله، كما درج عليه الأسلوب القرآني من الامتداد في مواقع الفكرة عند الحديث عن بعض مفرداتها، بما تقتضيه طبيعة الأمور في تفاصيلها الواقعيَّة، ولا سيَّما عندما ينطلق الحديث عن الله في مقابل حديث المشركين. والحمد لله ربِّ العالمين.

 *ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [النّمل: 17].

[2]  [النّمل: 20].

[3]  [النّمل: 21].

[4]  [النّمل: 22].

[5] [النّمل: 23].

[6]  [النّمل: 24].

[7]  [النّمل: 25].

[8]  [النّمل: 26].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية