دعوة سليمان(ع) ملكة سبأ وقومها إلى الإيمان بالله

دعوة سليمان(ع) ملكة سبأ وقومها إلى الإيمان بالله

كنَّا قد تناولنا في العدد السَّابق، الحوار الَّذي جرى بين الهدهد والنّبيّ سليمان، والَّذي نقل فيه الهدهد مشاهداته عن سبأ وملكتها وقومها، وطريقة عبادتهم وسجودهم لغير الله. وقد كان حديث الهدهد بحاجةٍ إلى توثيقٍ دقيق، لأنَّ سليمان كان يخطِّط ليتحرك رسالياً في إبلاغ أهلها رسالة التَّوحيد، على أساس مسؤوليّته الإيمانيّة في دعوة النّاس إلى عبادة الله، وإبعادهم عن عبادة غيره من مخلوقاته العظيمة الّتي تدلّ على عظمة القدرة وإبداع الخلق. ولما كان ذلك يحتاج إلى الوضوح في المعرفة من خلال صدق الخبر ووثاقة المخبر، فقد أراد امتحان الهدهد ليظهر صدقه بما حدَّثه به، لتكون الحركة منفتحةً على الواقع المتمثِّل بحياة هؤلاء النّاس، وليصل إلى هدفه من قاعدة ثابتة.

الكتاب البيِّنة

{قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَـ لأنَّك لم تقدِّم إليَّ إلا الدَّعوة المجرّدة من الدَّليل ـ اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ـ واطرحه بينهم ليقرأوه ويفكّروا فيه ويتشاوروا في مضمونه، وليتَّخذوا الموقف الحاسم منه. وما نستوحيه من تعبير: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ}، أن يكون إلقاؤه بحضور ملكة سبأ، لئلا تعبث به يد النّسيان والكتمان لو ألقي بالطَّريقة التقليديَّة ـثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ـ وابتعد عن القصر، وابق في خطِّ المراقبة لما يفعلون بعد قراءتهم الكتاب ـ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}[1]، فيما يعلّقون به على الكتاب بعد مناقشتهم إيَّاه فيما بينهم.

ونفَّذ الهدهد ما أمر به سليمان، وألقى إليهم الكتاب بشكلٍ مفاجئ، فلم يتبيّنوا له مصدراً، وكانت ملكة سبأ هي الَّتي تسلَّمت الكتاب وقرأته، فجمعت كبار قومها للتحدّث معهم في هذا الأمر العجيب: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[2]، إنَّ هذا الكتاب بحسب طبيعته، ومن خلال مرسله وكلماته، يدلّ على أنَّه كتابٌ كريم ذو قيمةٍ حقيقيَّة في مضمونه الَّذي يوحي بالأهميَّة والعظمة، فقد بدأ باسم صاحبه الَّذي يملك القوَّة الكبيرة السّاحقة، ثم باسم الله الرّحمن الرّحيم، الّذي يوحي بالرّحمة الإلهيَّة الّتي قد يختزنها عبدة الشَّمس الَّذين يعبدونها ليتقرّبوا بها إلى الله.

وربما كانت صفتا الرّحمة لوناً من ألوان الإيحاء بأنَّ المرسل ليس جبّاراً قاسياً في علاقته بالآخرين، باعتباره يرتبط بالرَّحمن الرَّحيم الَّذي يرحم النّاس بما يحقّق مصالحهم ويرفع مستواهم، ما جعل مضمون الكتاب يمثِّل دعوةً لقوم سبأ إلى أن يأخذوا بأسباب الواقعيَّة، فلا يشعروا بالعلوّ الَّذي يؤدّي إلى الاستكبار من خلال عناصر القوّة الّتي يملكونها، من دون دراسةٍ لما يملكه سليمان منها، بل أن يتواضعوا في نظرتهم إلى قدراتهم المحدودة الَّتي لا تستطيع الدّخول الفاعل في ساحة الصّراع مع مركز القوّة الأعلى.

ثم ينتهي الكتاب بدعوتهم إلى أن يأتوا إلى مملكته طائعين منقادين مسلمين لما يريده من التزامٍ وسلوكٍ وموقف، بعيداً عن المنهج الخاطئ الَّذي يأخذون به في سجودهم للشَّمس من دون الله. وربما كانت هذه الدَّعوة تحمل الانفتاح على توفير فرصة اللّقاء به، من أجل الحوار معهم ومع ملكتهم، لهدايتهم إلى السَّير في خطِّ التّوحيد لله في العبادة، ولم تكن إعلان حرب ضدَّهم.

التَّشاور بين ملكة سبأ وقومها

{قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}[3]، لأنّي بنيت إدارة مملكتي على التَّشاور مع أهل الرّأي، ولا سيَّما في الأمور المهمَّة الَّتي قد تتَّصل بالأمن والاستقرار وحركة القوَّة المتوازنة الّتي تحفظ المملكة من كلِّ اهتزازٍ أو ضعفٍ أو انهيار. ولذلك، فإنَّني لن أتخذ أيَّ قرارٍ حاسمٍ في الموقف من هذه الرّسالة المفاجئة، قبل أن أستمع إلى آرائكم في الفتوى الّتي تقدّمونها إليّ بعد دراسة الموضوع من جميع جوانبه، من خلال التأمّل والفكر وحساب الاحتمالات بدقّة متناهية فيما يمكن أن يحدث من خيرٍ أو شرٍّ أو ضررٍ أو نفع.

ونستوحي من هذا العرض للمسألة في طلبها الرّأي الجماعيّ ممّن هم كبار المملكة، أنها لم تكن ملكةً مستبدّةً تتفرَّد بقراراتها من موقع سلطتها الكبيرة لتفرضها على النّاس، ولا سيَّما أنَّ هؤلاء النّاس وأتباعهم كانوا يطيعونها في كلِّ ما تأمر به أو تنهى عنه، كما هو الحال في بعض الملوك والرّؤساء الَّذين تخضع لهم شعوبهم من دون مناقشةٍ فيما يصدرونه لهم من قراراتٍ تتَّصل بحياتهم العامَّة في الحرب والسّلم.

ولعلَّ هذا النّموذج الفريد لهذه الملكة، يدلّنا على أنَّ من الممكن للمرأة العاقلة المنفتحة على المعرفة بما له علاقة بأمور الإدارة وبالمسؤوليّات التدبيريَّة والقياديَّة، أن يكون لها الموقع القياديّ للأمّة، وهذا ما قد نلاحظه في الفقرات التّالية:

{قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍـ فنحن نملك القوَّة والشَّجاعة الَّتي نستطيع من خلالها مواجهة التّحدّيات، والدّخول في صراع الحرب المفروضة علينا، بما قد يوحي به هذا الكتاب الَّذي لا نعرف ما يريده مرسله، وخصوصاً أنَّ مضمونه يوحي بالوعيد والتَّهديد، الأمر الَّذي قد يستدعي منّا الاستعداد للوقوف ضدّه في ساحة المعركة إذا اختار الدّخول فيها، فنحن نملك القوّة العدديّة والعسكريّة الّتي نردّ فيها التحدّي بالشّجاعة الصّلبة الّتي تمكّننا من تحقيق الانتصار، ولكنّنا مع ذلك، نترك الأمر في القرار الحاسم إليك ـ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ ـ فأنت صاحبة القرار الأولى والأخيرة، لأنَّك الملكة القادرة الَّتي تملك الأمر كلَّه ـ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}[4]، في مواجهة هذا الموقف الجديد الغريب الَّذي لم نعهد مثله في الماضي، ونحن مطيعون لكِ في ما تأمرين به.

لقد أرادت منهم أن يقدِّموا إليها نتاج عقولهم وعضلات أفكارهم، ولكنَّهم قدَّموا إليها عضلات سواعدهم، وتحوَّلوا إلى مجرّد جماعةٍ مقاتلةٍ ومطيعة.

اختبار سليمان بالهديّة

ولذلك، انطلقت بعقلها الواسع، وخبرتها العميقة، ومسؤوليَّتها الكبرى، لتفكِّر: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[5]. وبدأت تحسب الحساب الدَّقيق في عمليَّة تساؤل عن شخصيَّة سليمان؛ فهل هو نبيٌّ مرسل يدعو إلى دينه الّذي أرسله به ربّه ليهدي النَّاس إلى ما يراه حقّاً، أو هو ملكٌ يريد السَّيطرة على البلاد والعباد، ويتطلَّب المزيد من المال الَّذي يحصل عليه في احتلاله الممالك، ليعيث في الأرض فساداً، ويقمع النَّاس بالقهر والغلبة؟

ولذلك، قرَّرت اختبار طبيعة هذا الشَّخص بإرسال هديّة كريمة إليه، تدليلاً على الانفتاح عليه، لتعرف موقفه من خلال ردِّ فعله على الهديّة؛ هل هو موقف القبول بها واعتبارها دليل صداقة وعلاقة تقارب، أو هو موقف الرّفض لها بقسوة، واعتبارها لا تتناسب مع مكانته الملوكيَّة التي لا تعطي قيمةً للهدايا الماليّة الكبيرة، لأنّه يملك الكثير منها، فليست هي المطلوب، بل إنَّ المطلوب هو الخضوع له والاستسلام لمركز القوَّة لديه، وتنفيذ أوامره، وإذلال أهل سبأ من قِبَلِهِ، حتى تحدِّد موقفها من الاستعداد للحرب، دفاعاً عن ملكها أو الوقوف في خطِّ السّلم؟

وجاء الرسول الَّذي يحمل الهدية إلى سليمان، فرفضها رفضاً قاطعاً، وردّها ردّاً قاسياً، {فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}[6]. وهكذا أراد أن يوحي إليها وإليهم، أنَّ المسألة ليست مسألة مالٍ يفتح المواقف على علاقات طيِّبة، ويحقِّق النَّتائج التي يخطَّط لها، لأنّ الَّذين ينفتحون على الهدايا وينجذبون بمشاعرهم إلى أصحابها، هم الَّذين يشعرون بالحاجة إلى المال من خلال فقرٍ أو حرمانٍ أو طمع بالاستزادة منه، وهم الَّذين يشعرون بالضَّعف النّفسيّ في مواجهته، وليس هو من هؤلاء، فقد أعطاه الله ملكاً لم يعطه لأحدٍ من النّاس، وهو ملكٌ يصغر معه كلّ مالٍ أو ملكٍ لأحد، بخلاف الملوك الَّذين يفرحون بالهدايا النّفيسة الّتي يرسلونها للتَّدليل على قوّتهم الماليَّة، أو الّتي يقدّمها الآخرون إليهم لاجتذاب مشاعرهم، لأنهم يرون لها شأناً كبيراً نسبةً إلى مستوى مواقعهم المتواضعة، فالمسألة عند سليمان لم تكن في هذا الاتجاه، بل كانت مسألة امتداد للسّلطة الّتي تعمل على أن تبسط ظلَّها على الأرض من حولها، من خلال نشر الدَّعوة إلى الحقّ في توحيد الله وعبادته وطاعته.

رفض الهديَّة

وهكذا، اعتبر أنَّ هذه الطَّريقة التي تحركوا فيها جواباً لرسالته، لا تمثِّل استجابةً لما طرحه عليهم، فكان ردّ فعله التَّهديد بالقوَّة الّتي تسقط أمامها قوَّتهم، ليشتدَّ الضَّغط عليهم لاجتذابهم إلى القدوم إليه، ليلتقوا عنده، وليسمعوا كلامه، فيستجيبوا إلى دعوته القائمة على الحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب الإنسانيّ الّذي يحترم فيه الدَّاعية ـ ولا سيّما إذا كان نبيّاً ـ الشّخص الّذي يريد هدايته إلى الحقّ.

وقال للرَّسول الّذي يحمل الهدية: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}[7]، لأنَّ موقفهم يمثِّل نوعاً من المماطلة والاستعلاء ورفض السَّلام الَّذي دعوتهم إليه، ولذلك، فإنَّ الموقف هو تنفيذ مضمون الرِّسالة واقعيّاً، ليعرفوا أنَّ هناك قوَّة عليا لا يستطيعون مواجهتها ولا التمرّد عليها، مهما كانت قوَّتهم الذاتيَّة، وستكون النَّتيجة أنَّنا سنتغلَّب عليهم، وسنخرجهم من بلادهم أذلّةً صاغرين، في الوقت الّذي كنا نخطِّط لإبقاء ملكهم وعزِّهم وكرامتهم، من خلال التَّقارب بيننا وبينهم، والتَّفاهم على قاعدة الحقّ والهدى والرّشاد.

قال سليمان هذا للرّسول، وقد عرف أنّهم سيبادرون إلى القدوم إليه والاستسلام، عندما يدركون ما لديه من حجم القوَّة ومستوى الردّ، ولكنَّه مع ذلك أراد أن يواجههم بالقوَّة المستمدَّة من الغيب في مواقع القدرة، مما منحه الله إيَّاه في وسائله غير العاديّة، ليفاجئهم بذلك، وليكون ذلك وسيلةً لإقناعهم عندما يعرفون عظمة القدرة الإلهيَّة المتمثِّلة بهذا الفعل العجيب الّذي يدلّ على أنَّ القضيَّة ليست قضيّة مُلكٍ يراد له أن يتوسَّع ويكبر، بل هي قضيَّة رسالةٍ مرتبطةٍ بالله، يراد لها أن تمتدَّ في العقول والقلوب والمواقف...

الإتيان بعرش إبليس

وهكذا، التفت إلى أعوانه من الجنّ الَّذين يملكون العنصر الخفيَّ من القدرة على الحركة السَّريعة غير العاديّة لنقل الأشياء من الأماكن البعيدة واختصار الزّمن، وإلى أعوانه من النّاس الّذين منحهم الله بعض القدرات الرّوحيَّة الَّتي تتيح لهم القيام بذلك بطريقةٍ أسرع بقدرة الله، من خلال ما أعطاهم الله من أسرار العلم الرّوحيّ: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[8]، حتى إذا جاءت وجدت عرشها أمامها، لتعرف موقع قدرة الله فيما أعطاه لسليمان ـ النّبيّ، فتسلم لله من أقرب موقع، بعيداً عن الحاجة إلى الحوار والتَّحليل والتنظير لإقناعها بالعقيدة التوحيديّة.

{قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَـ والعفريت هو المارد الخبيث؛ فقد عرض أن يأتي به بمدَّة زمنيَّة مقدارها انتهاء الجلسة ـ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}[9]، لأنّي أملك القوَّة على حمله والإتيان به، كما أملك الأمانة في حفظه ووضعه حيث تريد، فقد منحني الله القدرة على مثل هذه التَّجربة في اختراق الأجواء البعيدة بأسرع وقت، من دون حاجة إلى التوقّف أمام المسافات، كما منحني القوّة الجسديّة على حمل الأشياء الثَّقيلة، {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}[10].

وقد اختلف المفسِّرون في اسم هذا الشَّخص ـ بعد أن ذكروا أنَّه من الإنس ـ فقيل إنَّه آصف بن برخيا (وزير سليمان ووصيّه)، وقيل: هو الخضر، وقيل رجل كان عنده اسم الله الأعظم الَّذي إذا سئل به أجاب، أو الَّذي يملك العارف به قوّةً معنويّةً تمنحه القيام ببعض الأعمال الخارقة للعادة، مما قد يعهد الله بها إليه على نحو التَّحديد، لا على نحو الإطلاق.

وقد اختُلِفَ أيضاً في المراد بالكتاب الَّذي يملك هذا الشَّخص علمه؛ هل هو الكتاب المعروف مما جاءت به الرّسالات الإلهيَّة وتحدَّث به القرآن، أو هو اللّوح المحفوظ الّذي قد يُطلِع الله عليه أو على بعضِ ما فيه بعضَ عباده، أو هو نوعٌ آخر مما يوحي بالعلم الخفيّ الذي يلهمه الله إيّاه من كتاب العلم اللّدني الَّذي يملك أسرار الأشياء، ويمنح صاحبه بعض القدرات الّتي تفوق القدرة الطبيعيّة للنّاس، والأسباب المألوفة للأمور؟

قد لا يكون هناك كبير فائدة من الاستغراق في هذه الاحتمالات، لأنَّنا لن نصل منها إلى نتيجة معرفيّة حاسمة، بعد أن كانت غيباً لا سبيل إلى الإحاطة به في المصادر الموثوقة، فلنقتصر على ما أجمله القرآن في أمره، ولنكتفِ من ذلك بأنَّه الكتاب الّذي فيه علم الله الذي قد يشتمل على العلم الّذي لا يشبه العلم المألوف لدى الناس ممّا يكسبونه بالفكر والتّجربة والتعلّم من أهل المعرفة، بل هو نوعٌ من العلوم الروحيَّة التي لا نعرف طبيعتها، بحيث تطلُّ بصاحبها على بعض القدرات، وتتيح له أن يتصرَّف في بعض الأمور الكونيَّة بما يشبه المعجزة. ولكنّ السّؤال: كيف تعلّم هذا الرّجل ذلك؟ وما هي خصوصيّته؟ وما هي مكانته عند الله ليعطيه من العلم والقدرة ما لم يعطه للنَّبيّ سليمان الّذي استعان ببعض من حوله للإتيان بعرش ملكة سبأ؟

هذه علامات استفهامٍ لم نجد جواباً عنها، ولا نرى كبير فائدة في إثارتها والبحث فيها فيما يجب علينا معرفته من شؤون العقيدة والحياة، فكلّ ما يمكن التركيز عليه من ذلك، هو أنَّ هذا الرّجل العظيم قد اختصر المدّة الزمنيَّة الَّتي يحتاجها نقل العرش إلى مستوى اللّحظة، في مقابل العرض الذي قدَّمه العفريت بنقله في المدّة التي تسبق قيام سليمان من مكانه.

تفسير علم الكتاب

وقد جاء في تفسير بعض المفسّرين، أنَّ هناك فرقاً في المعنى بين تعبير: {الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} كما في هذه الآية، وتعبير {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}[11]، الذي جاء في الآية 43 من سورة الرّعد، حيث يدلّ الأوّل على العلم الجزئي، بينما يدلّ الثّاني على العلم الكلّي. وقد جاءت الرّواية عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: "سألت رسول الله(ص) عن {الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} الوارد في قصَّة سليمان، فقال: هو وصيّ أخي سليمان بن داود، فقلت: والآية {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}، عمن تتحدَّث؟ فقال(ص): ذلك أخي علي بن أبي طالب"[12].

ولكنَّنا نتحفَّظ عن ذلك:

أوّلاً: لأنّ قوله: {الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ}، لا دلالة ظاهرة فيه على العلم الجزئيّ، لأنَّ ظاهره أنَّ علمه مستمدّ من الكتاب، وهو شامل للعلم الجزئيّ والعلم الكلّيّ، لأنَّ الحديث في الآية هو عن مصدر علمه، وليس عن حجم علمه.

وثانياً: لأنَّ آية سورة الرَّعد لا تنسجم مع اعتبار أنَّ المراد بمن {عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}، هو الإمام عليّ(ع)، لأنّه ليس من الطّبيعيّ أن يستشهد به النبيّ على كونه مرسلاً، لأنه أراد أن يقيم الحجَّة على المشركين بمن يعترفون به من الّذين يقرأون الكتاب وهم اليهود، وقد جاء قوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[13]، مع ملاحظة أنَّ الإمام عليّاً(ع) لم تكن له عندهم مكانة كبرى عند نزول الآية، بل إنهم كانوا يثقون بالنّبيّ محمّد(ص) أكثر من ثقتهم به، لأنهم كانوا يعرفون أنّه تلميذه وصاحبه وأوّل من آمن به.

وثالثاً: إنَّ النّبيّ(ص) كان يحتجّ عليهم بكتاب التّوراة الَّذي يملكونه ويتحدّاهم به، باعتبار أنّه ينصّ على نبوّته، وإذا كانت الرّواية موثوقةً، فقد تكون واردةً مورد تأكيد علم الإمام عليّ(ع) بالكتاب، من دون أن يكون لذلك علاقة بمضمون الآية.

ومن الطَّريف أنَّ بعض القائلين بالولاية التكوينيَّة للأنبياء وللأئمّة (ع)، يستدلّون على قولهم بهذه الآية، باعتبار أنّ ما يملكه الّذي عنده علم من الكتاب من الولاية التكوينيَّة، ناشئ من علمه ببعض الكتاب، بينما يملك الأئمّة(ع) علم الكتاب كلّه، فلا بدَّ من أن تكون لهم هذه الولاية بطريقٍ أولى وأقوى. ويرد على ذلك:

أوّلاً: ما ذكرناه من عدم دلالة الآية على أنَّ صاحب سليمان كان عنده العلم الجزئيّ.

وثانياً: أنَّ ما قام به لا علاقة له بالولاية التكوينيَّة، بل هو مسألة خاصّة قد لا تتعدّى هذه المهمّة.

وثالثاً: أنه ليس من الضَّروري أن يكون لعلمه بالكتاب علاقة بما قام به من القدرة السريعة على نقل عرش ملكة سبأ.

ورابعاً: أنه لو كان هذا العمل من الولاية التكوينيَّة، لكان من اللازم أن نثبتها للعفريت من الجنّ الّذي كان يملك القدرة العجيبة في نقل العرش بما لم يألفه الناس في قدراتهم الطبيعيَّة، إذ لا فرق بينه وبين الَّذي عنده علم من الكتاب إلا في المدة الزمنية مع اتفاقهما في العمل الخارق للعادة. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة


[1]  [النّمل: 27، 28].

[2]  [النّمل: 29 ـ 31].

[3]  [النّمل: 32].

[4]  [النّمل: 33].

[5]  [النّمل: 34، 35].

[6]  [النّمل: 36].

[7]  [النّمل: 37].

[8]  [النّمل: 38].

[9]  [النّمل: 39].

[10]  [النّمل: 40].

[11]  [الرّعد: 43].

[12]  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج 12، ص 74.

[13]  [يونس: 94].


كنَّا قد تناولنا في العدد السَّابق، الحوار الَّذي جرى بين الهدهد والنّبيّ سليمان، والَّذي نقل فيه الهدهد مشاهداته عن سبأ وملكتها وقومها، وطريقة عبادتهم وسجودهم لغير الله. وقد كان حديث الهدهد بحاجةٍ إلى توثيقٍ دقيق، لأنَّ سليمان كان يخطِّط ليتحرك رسالياً في إبلاغ أهلها رسالة التَّوحيد، على أساس مسؤوليّته الإيمانيّة في دعوة النّاس إلى عبادة الله، وإبعادهم عن عبادة غيره من مخلوقاته العظيمة الّتي تدلّ على عظمة القدرة وإبداع الخلق. ولما كان ذلك يحتاج إلى الوضوح في المعرفة من خلال صدق الخبر ووثاقة المخبر، فقد أراد امتحان الهدهد ليظهر صدقه بما حدَّثه به، لتكون الحركة منفتحةً على الواقع المتمثِّل بحياة هؤلاء النّاس، وليصل إلى هدفه من قاعدة ثابتة.

الكتاب البيِّنة

{قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَـ لأنَّك لم تقدِّم إليَّ إلا الدَّعوة المجرّدة من الدَّليل ـ اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ـ واطرحه بينهم ليقرأوه ويفكّروا فيه ويتشاوروا في مضمونه، وليتَّخذوا الموقف الحاسم منه. وما نستوحيه من تعبير: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ}، أن يكون إلقاؤه بحضور ملكة سبأ، لئلا تعبث به يد النّسيان والكتمان لو ألقي بالطَّريقة التقليديَّة ـثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ـ وابتعد عن القصر، وابق في خطِّ المراقبة لما يفعلون بعد قراءتهم الكتاب ـ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}[1]، فيما يعلّقون به على الكتاب بعد مناقشتهم إيَّاه فيما بينهم.

ونفَّذ الهدهد ما أمر به سليمان، وألقى إليهم الكتاب بشكلٍ مفاجئ، فلم يتبيّنوا له مصدراً، وكانت ملكة سبأ هي الَّتي تسلَّمت الكتاب وقرأته، فجمعت كبار قومها للتحدّث معهم في هذا الأمر العجيب: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[2]، إنَّ هذا الكتاب بحسب طبيعته، ومن خلال مرسله وكلماته، يدلّ على أنَّه كتابٌ كريم ذو قيمةٍ حقيقيَّة في مضمونه الَّذي يوحي بالأهميَّة والعظمة، فقد بدأ باسم صاحبه الَّذي يملك القوَّة الكبيرة السّاحقة، ثم باسم الله الرّحمن الرّحيم، الّذي يوحي بالرّحمة الإلهيَّة الّتي قد يختزنها عبدة الشَّمس الَّذين يعبدونها ليتقرّبوا بها إلى الله.

وربما كانت صفتا الرّحمة لوناً من ألوان الإيحاء بأنَّ المرسل ليس جبّاراً قاسياً في علاقته بالآخرين، باعتباره يرتبط بالرَّحمن الرَّحيم الَّذي يرحم النّاس بما يحقّق مصالحهم ويرفع مستواهم، ما جعل مضمون الكتاب يمثِّل دعوةً لقوم سبأ إلى أن يأخذوا بأسباب الواقعيَّة، فلا يشعروا بالعلوّ الَّذي يؤدّي إلى الاستكبار من خلال عناصر القوّة الّتي يملكونها، من دون دراسةٍ لما يملكه سليمان منها، بل أن يتواضعوا في نظرتهم إلى قدراتهم المحدودة الَّتي لا تستطيع الدّخول الفاعل في ساحة الصّراع مع مركز القوّة الأعلى.

ثم ينتهي الكتاب بدعوتهم إلى أن يأتوا إلى مملكته طائعين منقادين مسلمين لما يريده من التزامٍ وسلوكٍ وموقف، بعيداً عن المنهج الخاطئ الَّذي يأخذون به في سجودهم للشَّمس من دون الله. وربما كانت هذه الدَّعوة تحمل الانفتاح على توفير فرصة اللّقاء به، من أجل الحوار معهم ومع ملكتهم، لهدايتهم إلى السَّير في خطِّ التّوحيد لله في العبادة، ولم تكن إعلان حرب ضدَّهم.

التَّشاور بين ملكة سبأ وقومها

{قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}[3]، لأنّي بنيت إدارة مملكتي على التَّشاور مع أهل الرّأي، ولا سيَّما في الأمور المهمَّة الَّتي قد تتَّصل بالأمن والاستقرار وحركة القوَّة المتوازنة الّتي تحفظ المملكة من كلِّ اهتزازٍ أو ضعفٍ أو انهيار. ولذلك، فإنَّني لن أتخذ أيَّ قرارٍ حاسمٍ في الموقف من هذه الرّسالة المفاجئة، قبل أن أستمع إلى آرائكم في الفتوى الّتي تقدّمونها إليّ بعد دراسة الموضوع من جميع جوانبه، من خلال التأمّل والفكر وحساب الاحتمالات بدقّة متناهية فيما يمكن أن يحدث من خيرٍ أو شرٍّ أو ضررٍ أو نفع.

ونستوحي من هذا العرض للمسألة في طلبها الرّأي الجماعيّ ممّن هم كبار المملكة، أنها لم تكن ملكةً مستبدّةً تتفرَّد بقراراتها من موقع سلطتها الكبيرة لتفرضها على النّاس، ولا سيَّما أنَّ هؤلاء النّاس وأتباعهم كانوا يطيعونها في كلِّ ما تأمر به أو تنهى عنه، كما هو الحال في بعض الملوك والرّؤساء الَّذين تخضع لهم شعوبهم من دون مناقشةٍ فيما يصدرونه لهم من قراراتٍ تتَّصل بحياتهم العامَّة في الحرب والسّلم.

ولعلَّ هذا النّموذج الفريد لهذه الملكة، يدلّنا على أنَّ من الممكن للمرأة العاقلة المنفتحة على المعرفة بما له علاقة بأمور الإدارة وبالمسؤوليّات التدبيريَّة والقياديَّة، أن يكون لها الموقع القياديّ للأمّة، وهذا ما قد نلاحظه في الفقرات التّالية:

{قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍـ فنحن نملك القوَّة والشَّجاعة الَّتي نستطيع من خلالها مواجهة التّحدّيات، والدّخول في صراع الحرب المفروضة علينا، بما قد يوحي به هذا الكتاب الَّذي لا نعرف ما يريده مرسله، وخصوصاً أنَّ مضمونه يوحي بالوعيد والتَّهديد، الأمر الَّذي قد يستدعي منّا الاستعداد للوقوف ضدّه في ساحة المعركة إذا اختار الدّخول فيها، فنحن نملك القوّة العدديّة والعسكريّة الّتي نردّ فيها التحدّي بالشّجاعة الصّلبة الّتي تمكّننا من تحقيق الانتصار، ولكنّنا مع ذلك، نترك الأمر في القرار الحاسم إليك ـ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ ـ فأنت صاحبة القرار الأولى والأخيرة، لأنَّك الملكة القادرة الَّتي تملك الأمر كلَّه ـ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}[4]، في مواجهة هذا الموقف الجديد الغريب الَّذي لم نعهد مثله في الماضي، ونحن مطيعون لكِ في ما تأمرين به.

لقد أرادت منهم أن يقدِّموا إليها نتاج عقولهم وعضلات أفكارهم، ولكنَّهم قدَّموا إليها عضلات سواعدهم، وتحوَّلوا إلى مجرّد جماعةٍ مقاتلةٍ ومطيعة.

اختبار سليمان بالهديّة

ولذلك، انطلقت بعقلها الواسع، وخبرتها العميقة، ومسؤوليَّتها الكبرى، لتفكِّر: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[5]. وبدأت تحسب الحساب الدَّقيق في عمليَّة تساؤل عن شخصيَّة سليمان؛ فهل هو نبيٌّ مرسل يدعو إلى دينه الّذي أرسله به ربّه ليهدي النَّاس إلى ما يراه حقّاً، أو هو ملكٌ يريد السَّيطرة على البلاد والعباد، ويتطلَّب المزيد من المال الَّذي يحصل عليه في احتلاله الممالك، ليعيث في الأرض فساداً، ويقمع النَّاس بالقهر والغلبة؟

ولذلك، قرَّرت اختبار طبيعة هذا الشَّخص بإرسال هديّة كريمة إليه، تدليلاً على الانفتاح عليه، لتعرف موقفه من خلال ردِّ فعله على الهديّة؛ هل هو موقف القبول بها واعتبارها دليل صداقة وعلاقة تقارب، أو هو موقف الرّفض لها بقسوة، واعتبارها لا تتناسب مع مكانته الملوكيَّة التي لا تعطي قيمةً للهدايا الماليّة الكبيرة، لأنّه يملك الكثير منها، فليست هي المطلوب، بل إنَّ المطلوب هو الخضوع له والاستسلام لمركز القوَّة لديه، وتنفيذ أوامره، وإذلال أهل سبأ من قِبَلِهِ، حتى تحدِّد موقفها من الاستعداد للحرب، دفاعاً عن ملكها أو الوقوف في خطِّ السّلم؟

وجاء الرسول الَّذي يحمل الهدية إلى سليمان، فرفضها رفضاً قاطعاً، وردّها ردّاً قاسياً، {فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}[6]. وهكذا أراد أن يوحي إليها وإليهم، أنَّ المسألة ليست مسألة مالٍ يفتح المواقف على علاقات طيِّبة، ويحقِّق النَّتائج التي يخطَّط لها، لأنّ الَّذين ينفتحون على الهدايا وينجذبون بمشاعرهم إلى أصحابها، هم الَّذين يشعرون بالحاجة إلى المال من خلال فقرٍ أو حرمانٍ أو طمع بالاستزادة منه، وهم الَّذين يشعرون بالضَّعف النّفسيّ في مواجهته، وليس هو من هؤلاء، فقد أعطاه الله ملكاً لم يعطه لأحدٍ من النّاس، وهو ملكٌ يصغر معه كلّ مالٍ أو ملكٍ لأحد، بخلاف الملوك الَّذين يفرحون بالهدايا النّفيسة الّتي يرسلونها للتَّدليل على قوّتهم الماليَّة، أو الّتي يقدّمها الآخرون إليهم لاجتذاب مشاعرهم، لأنهم يرون لها شأناً كبيراً نسبةً إلى مستوى مواقعهم المتواضعة، فالمسألة عند سليمان لم تكن في هذا الاتجاه، بل كانت مسألة امتداد للسّلطة الّتي تعمل على أن تبسط ظلَّها على الأرض من حولها، من خلال نشر الدَّعوة إلى الحقّ في توحيد الله وعبادته وطاعته.

رفض الهديَّة

وهكذا، اعتبر أنَّ هذه الطَّريقة التي تحركوا فيها جواباً لرسالته، لا تمثِّل استجابةً لما طرحه عليهم، فكان ردّ فعله التَّهديد بالقوَّة الّتي تسقط أمامها قوَّتهم، ليشتدَّ الضَّغط عليهم لاجتذابهم إلى القدوم إليه، ليلتقوا عنده، وليسمعوا كلامه، فيستجيبوا إلى دعوته القائمة على الحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب الإنسانيّ الّذي يحترم فيه الدَّاعية ـ ولا سيّما إذا كان نبيّاً ـ الشّخص الّذي يريد هدايته إلى الحقّ.

وقال للرَّسول الّذي يحمل الهدية: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}[7]، لأنَّ موقفهم يمثِّل نوعاً من المماطلة والاستعلاء ورفض السَّلام الَّذي دعوتهم إليه، ولذلك، فإنَّ الموقف هو تنفيذ مضمون الرِّسالة واقعيّاً، ليعرفوا أنَّ هناك قوَّة عليا لا يستطيعون مواجهتها ولا التمرّد عليها، مهما كانت قوَّتهم الذاتيَّة، وستكون النَّتيجة أنَّنا سنتغلَّب عليهم، وسنخرجهم من بلادهم أذلّةً صاغرين، في الوقت الّذي كنا نخطِّط لإبقاء ملكهم وعزِّهم وكرامتهم، من خلال التَّقارب بيننا وبينهم، والتَّفاهم على قاعدة الحقّ والهدى والرّشاد.

قال سليمان هذا للرّسول، وقد عرف أنّهم سيبادرون إلى القدوم إليه والاستسلام، عندما يدركون ما لديه من حجم القوَّة ومستوى الردّ، ولكنَّه مع ذلك أراد أن يواجههم بالقوَّة المستمدَّة من الغيب في مواقع القدرة، مما منحه الله إيَّاه في وسائله غير العاديّة، ليفاجئهم بذلك، وليكون ذلك وسيلةً لإقناعهم عندما يعرفون عظمة القدرة الإلهيَّة المتمثِّلة بهذا الفعل العجيب الّذي يدلّ على أنَّ القضيَّة ليست قضيّة مُلكٍ يراد له أن يتوسَّع ويكبر، بل هي قضيَّة رسالةٍ مرتبطةٍ بالله، يراد لها أن تمتدَّ في العقول والقلوب والمواقف...

الإتيان بعرش إبليس

وهكذا، التفت إلى أعوانه من الجنّ الَّذين يملكون العنصر الخفيَّ من القدرة على الحركة السَّريعة غير العاديّة لنقل الأشياء من الأماكن البعيدة واختصار الزّمن، وإلى أعوانه من النّاس الّذين منحهم الله بعض القدرات الرّوحيَّة الَّتي تتيح لهم القيام بذلك بطريقةٍ أسرع بقدرة الله، من خلال ما أعطاهم الله من أسرار العلم الرّوحيّ: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[8]، حتى إذا جاءت وجدت عرشها أمامها، لتعرف موقع قدرة الله فيما أعطاه لسليمان ـ النّبيّ، فتسلم لله من أقرب موقع، بعيداً عن الحاجة إلى الحوار والتَّحليل والتنظير لإقناعها بالعقيدة التوحيديّة.

{قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَـ والعفريت هو المارد الخبيث؛ فقد عرض أن يأتي به بمدَّة زمنيَّة مقدارها انتهاء الجلسة ـ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}[9]، لأنّي أملك القوَّة على حمله والإتيان به، كما أملك الأمانة في حفظه ووضعه حيث تريد، فقد منحني الله القدرة على مثل هذه التَّجربة في اختراق الأجواء البعيدة بأسرع وقت، من دون حاجة إلى التوقّف أمام المسافات، كما منحني القوّة الجسديّة على حمل الأشياء الثَّقيلة، {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}[10].

وقد اختلف المفسِّرون في اسم هذا الشَّخص ـ بعد أن ذكروا أنَّه من الإنس ـ فقيل إنَّه آصف بن برخيا (وزير سليمان ووصيّه)، وقيل: هو الخضر، وقيل رجل كان عنده اسم الله الأعظم الَّذي إذا سئل به أجاب، أو الَّذي يملك العارف به قوّةً معنويّةً تمنحه القيام ببعض الأعمال الخارقة للعادة، مما قد يعهد الله بها إليه على نحو التَّحديد، لا على نحو الإطلاق.

وقد اختُلِفَ أيضاً في المراد بالكتاب الَّذي يملك هذا الشَّخص علمه؛ هل هو الكتاب المعروف مما جاءت به الرّسالات الإلهيَّة وتحدَّث به القرآن، أو هو اللّوح المحفوظ الّذي قد يُطلِع الله عليه أو على بعضِ ما فيه بعضَ عباده، أو هو نوعٌ آخر مما يوحي بالعلم الخفيّ الذي يلهمه الله إيّاه من كتاب العلم اللّدني الَّذي يملك أسرار الأشياء، ويمنح صاحبه بعض القدرات الّتي تفوق القدرة الطبيعيّة للنّاس، والأسباب المألوفة للأمور؟

قد لا يكون هناك كبير فائدة من الاستغراق في هذه الاحتمالات، لأنَّنا لن نصل منها إلى نتيجة معرفيّة حاسمة، بعد أن كانت غيباً لا سبيل إلى الإحاطة به في المصادر الموثوقة، فلنقتصر على ما أجمله القرآن في أمره، ولنكتفِ من ذلك بأنَّه الكتاب الّذي فيه علم الله الذي قد يشتمل على العلم الّذي لا يشبه العلم المألوف لدى الناس ممّا يكسبونه بالفكر والتّجربة والتعلّم من أهل المعرفة، بل هو نوعٌ من العلوم الروحيَّة التي لا نعرف طبيعتها، بحيث تطلُّ بصاحبها على بعض القدرات، وتتيح له أن يتصرَّف في بعض الأمور الكونيَّة بما يشبه المعجزة. ولكنّ السّؤال: كيف تعلّم هذا الرّجل ذلك؟ وما هي خصوصيّته؟ وما هي مكانته عند الله ليعطيه من العلم والقدرة ما لم يعطه للنَّبيّ سليمان الّذي استعان ببعض من حوله للإتيان بعرش ملكة سبأ؟

هذه علامات استفهامٍ لم نجد جواباً عنها، ولا نرى كبير فائدة في إثارتها والبحث فيها فيما يجب علينا معرفته من شؤون العقيدة والحياة، فكلّ ما يمكن التركيز عليه من ذلك، هو أنَّ هذا الرّجل العظيم قد اختصر المدّة الزمنيَّة الَّتي يحتاجها نقل العرش إلى مستوى اللّحظة، في مقابل العرض الذي قدَّمه العفريت بنقله في المدّة التي تسبق قيام سليمان من مكانه.

تفسير علم الكتاب

وقد جاء في تفسير بعض المفسّرين، أنَّ هناك فرقاً في المعنى بين تعبير: {الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} كما في هذه الآية، وتعبير {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}[11]، الذي جاء في الآية 43 من سورة الرّعد، حيث يدلّ الأوّل على العلم الجزئي، بينما يدلّ الثّاني على العلم الكلّي. وقد جاءت الرّواية عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: "سألت رسول الله(ص) عن {الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} الوارد في قصَّة سليمان، فقال: هو وصيّ أخي سليمان بن داود، فقلت: والآية {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}، عمن تتحدَّث؟ فقال(ص): ذلك أخي علي بن أبي طالب"[12].

ولكنَّنا نتحفَّظ عن ذلك:

أوّلاً: لأنّ قوله: {الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ}، لا دلالة ظاهرة فيه على العلم الجزئيّ، لأنَّ ظاهره أنَّ علمه مستمدّ من الكتاب، وهو شامل للعلم الجزئيّ والعلم الكلّيّ، لأنَّ الحديث في الآية هو عن مصدر علمه، وليس عن حجم علمه.

وثانياً: لأنَّ آية سورة الرَّعد لا تنسجم مع اعتبار أنَّ المراد بمن {عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}، هو الإمام عليّ(ع)، لأنّه ليس من الطّبيعيّ أن يستشهد به النبيّ على كونه مرسلاً، لأنه أراد أن يقيم الحجَّة على المشركين بمن يعترفون به من الّذين يقرأون الكتاب وهم اليهود، وقد جاء قوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[13]، مع ملاحظة أنَّ الإمام عليّاً(ع) لم تكن له عندهم مكانة كبرى عند نزول الآية، بل إنهم كانوا يثقون بالنّبيّ محمّد(ص) أكثر من ثقتهم به، لأنهم كانوا يعرفون أنّه تلميذه وصاحبه وأوّل من آمن به.

وثالثاً: إنَّ النّبيّ(ص) كان يحتجّ عليهم بكتاب التّوراة الَّذي يملكونه ويتحدّاهم به، باعتبار أنّه ينصّ على نبوّته، وإذا كانت الرّواية موثوقةً، فقد تكون واردةً مورد تأكيد علم الإمام عليّ(ع) بالكتاب، من دون أن يكون لذلك علاقة بمضمون الآية.

ومن الطَّريف أنَّ بعض القائلين بالولاية التكوينيَّة للأنبياء وللأئمّة (ع)، يستدلّون على قولهم بهذه الآية، باعتبار أنّ ما يملكه الّذي عنده علم من الكتاب من الولاية التكوينيَّة، ناشئ من علمه ببعض الكتاب، بينما يملك الأئمّة(ع) علم الكتاب كلّه، فلا بدَّ من أن تكون لهم هذه الولاية بطريقٍ أولى وأقوى. ويرد على ذلك:

أوّلاً: ما ذكرناه من عدم دلالة الآية على أنَّ صاحب سليمان كان عنده العلم الجزئيّ.

وثانياً: أنَّ ما قام به لا علاقة له بالولاية التكوينيَّة، بل هو مسألة خاصّة قد لا تتعدّى هذه المهمّة.

وثالثاً: أنه ليس من الضَّروري أن يكون لعلمه بالكتاب علاقة بما قام به من القدرة السريعة على نقل عرش ملكة سبأ.

ورابعاً: أنه لو كان هذا العمل من الولاية التكوينيَّة، لكان من اللازم أن نثبتها للعفريت من الجنّ الّذي كان يملك القدرة العجيبة في نقل العرش بما لم يألفه الناس في قدراتهم الطبيعيَّة، إذ لا فرق بينه وبين الَّذي عنده علم من الكتاب إلا في المدة الزمنية مع اتفاقهما في العمل الخارق للعادة. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة


[1]  [النّمل: 27، 28].

[2]  [النّمل: 29 ـ 31].

[3]  [النّمل: 32].

[4]  [النّمل: 33].

[5]  [النّمل: 34، 35].

[6]  [النّمل: 36].

[7]  [النّمل: 37].

[8]  [النّمل: 38].

[9]  [النّمل: 39].

[10]  [النّمل: 40].

[11]  [الرّعد: 43].

[12]  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج 12، ص 74.

[13]  [يونس: 94].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية