انتهينا في الأسبوع الماضي إلى الحديث عن قول الله تعالى في قصَّة سليمان: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ}، والتَّفسيرات الّتي قدِّمت حول المقصود بمن عنده علم من الكتاب. ونكمل في هذا العدد قصَّة سليمان(ع) مع ملكة سبأ وما انتهت إليه.
شكر النِّعم الإلهيَّة
فبعد أن طلب سليمان(ع) إحضار عرش ملكة سبأ أمامه، تطوَّع الَّذي عنده علم من الكتاب لإحضاره بطرفة عين. {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ ـ من خلال اللّطف الإلهيّ الَّذي هيّأه له ـ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ـ الّذي يتفضَّل على عباده بما يسهِّله لهم من الأمور الَّتي تتَّصل بمسؤوليَّاتهم وحاجاتهم، ولا سيّما إذا كانت المسؤوليَّات تتعلَّق بهداية النَّاس إلى توحيد الله، وقيادة الكافرين إلى الإيمان به، في عمليَّة اختبارٍ وامتحانٍ لثباتهم على الخطِّ التّوحيديّ في الانفتاح على نعمه الَّتي تدفعهم إلى الشّكر في القول والعمل ـ لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}[1].
وهكذا كان هذا الحدث العجيب الَّذي حقَّقه الله على يد بعض أتباع سليمان من خلصائه، نعمةً لسليمان فيما يمثّله من مواقع القوَّة، بما يملكه أعوانه من وسائلها الّتي يقدِّمونها له ويساعدونه فيها. وقد تعامل سليمان مع هذا الحدث بخشوعٍ وخضوعٍ لله، حيث أوحى إلى نفسه وإلى الآخرين، أنَّ هذا من فضل الله عليه مما يتفضَّل به على عباده ورسله ليختبرهم: هل يشكرونه بالطّاعة والاعتراف له بالفضل، أو يكفرون به بالتنكّر له ولنعمه؟
{وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}، لأنَّ الله لا يحتاج إلى عباده في كلِّ أفعالهم وأقوالهم، بل هم الَّذين يحتاجون إليه في كلِّ شيء، حتى في الأمور الَّتي يقومون فيها بفروض العبادة الّتي تمثِّل الشّكر العمليّ له، لأنّهم يحصلون من خلالها على صفاء الرّوح والعقل، وعلى استقامة السّلوك العمليّ في الخطِّ الصَّحيح، والانفتاح على العمق الإنسانيّ في شخصيَّاتهم، عندما يعبّرون عن التزامهم بالقيم الروحيَّة في استجابتهم للإحسان الإلهيّ في مواقع النِّعمة الظاهرة والباطنة.
{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[2]، والكفر هنا هو كفر النِّعمة، بأن لا يعبّر الإنسان باللَّفظ والعمل عن شكره لله تجاه ما أنعم به عليه. وكفر الكافر للنِّعمة إنما يرتدُّ إليه وينعكس عليه، لأنّه بكفره يعبّر عن حقارة الشّعور الإنسانيّ لديه، باعتبار أنَّ الفطرة الصّافية تفرض على الإنسان وجوب شكر المنعم، ولا يرتدّ على الله، لأنّه لا يؤثّر في أيِّ موقعٍ من مواقع عظمته المطلقة، وغناه الذّاتي الّذي لا حدَّ له، وكرمه الفيّاض باللّطف والرّحمة الّذي يشمل عباده كلّهم بعطائه، الكافر منهم والشَّاكر، وهذا ما يوحي به قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[3].
وهكذا عاش سليمان أمام هذه النِّعمة الإلهيّة، بتسخير القوَّة له بجميع وسائلها، ليؤكِّد سلطته الّتي لم يحركها في خدمة ذاته، بل في خدمة رسالته.
إحضار ملكة سبأ
وبدأ سليمان يستعدّ للقاء ملكة سبأ الّتي اهتزَّت أمام رسالته وتهديده، فعزمت على القدوم لتتعرَّف إلى أهدافه ومواقفه، ولم يكن الإتيان بعرشها إلى مجلسه وسيلةً من وسائل التّأثير في موقفها النّفسيّ بما يشبه الصَّدمة الَّتي تعبر بها إلى روحيّة الفطرة الصّافية، ولكنّه كان يريد أن يثير فيها التّفكير الذي يتحرك بين السَّلب والإيجاب في الوقوف أمام هذه الظّاهرة العجيبة. ولهذا أراد أن يجري فيه بعض التّغييرات الشكليّة الّتي قد تثير فيها احتمالاً آخر لتتحيّر فيه؛ هل هو عرشها أو هو نسخة منه مشابهة له؟!
{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ـ بالطَّريقة التي قد لا توحي بملامحه التّفصيليَّة الحقيقيَّة ـ نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ}[4]، ليختبر عمق تفكيرها في التَّعاطي مع هذه المسألة، لأنَّ المسألة عنده هي في إعداد الأجواء لهدايتها وهداية قومها من خلالها إلى الدّين الحقّ، لا مجرَّد تأكيدٍ للسّلطة على مواقعها القويّة في السّاحة العامَّة. ولذلك، كانت إثارة التّفكير لديها ولدى قومها هدفاً ملحوظاً في كلِّ حركة الظّاهرة العجيبة على مستوى المرحلة الأولى، من أجل الوصول إلى الهدف الأعمق، وهو الهداية، في المرحلة الأخيرة.
{فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِـ هل يشبه شكله شكله؟ وهل ترين فيه الصّورة الدّقيقة كما لو كان نسخةً أخرى عنه؟ ـ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} في دقَّة الملامح وتفاصيل الصّورة، ولكن ليس من المعقول أن يكون هو، لأنّه لا يزال هناك في مكانه في اليمن، فكيف يمكن أن يكون هنا؟
{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَاـ فيما يتعلَّق بمعرفة حقائق الأمور الّتي قد تؤدّي بالإنسان الّذي يملك الفكر الواسع والتأمّل الدَّقيق إلى الهداية ـ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}[5] لله في اطّلاعنا على آياته، ودلالاتها على الحقّ المنطلق في رحابه والمنـزل منه.
والظّاهر أنّ هذا الكلام هو نوعٌ من التَّعليق على موقفها الحائر وخطّها الضّالّ الّذي تعيش معه القلق، لأنها لا تملك القاعدة الّتي تمنحها سعة المعرفة وشمولها بالمستوى الّذي يجنّبها الاستمرار في الضَّلال وينطلق بها في التصوّرات الّتي تطلّ على الغيب الصَّادر عن قاعدة الإيمان بالله، لتتعرَّف كيف تجري الأمور الخارقة للمألوف على يد أوليائه.
وربما كان المتكلّم هو سليمان، انسجاماً مع تساؤله عمَّا إذا كانت رؤيتها لعرشها تكشف لها سبيل المعرفة بأسباب الهداية لتهتدي بها. وقيل: إنّه من كلام الملكة، فهي لما رأت العرش، وسُئلت عن أمره وطبيعته، أحسَّت بأنَّ ذلك هو تلويحٌ منهم إلى ما آتى الله سليمان من القدرة الخارقة للعادة، فأجابت بقولها: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا ـ أي لا حاجة إلى هذا التَّلويح والتّذكير، فقد علمنا بقدرته قبل هذه الآية أو الحالة ـ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}[6]، لسليمان طائعين له.
وهذا الوجه غير ظاهر، لأنَّ الجوَّ الّذي يوحي به السّياق، هو تأكيد الضَّلال النّاشئ من الجهل الّذي كانت تتخبَّط فيه، والّذي كان يمنعها عن الإسلام الّذي ربما دعاها إليه سليمان عند لقائه بها، كما أنّه لم يظهر من طبيعة حركة الموقف في القصَّة قبل هذه المرحلة، ما يوحي بوجود أساسٍ للعلم بقدرته الغيبيَّة الدالّة على مواقع الإيمان برسالته، مما يقتضي الإسلام له والطّاعة لقيادته.
{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِـ فالّذي جعلها لا تنفتح على الإسلام، هو ما كانت تختزنه في وعيها الدّينيّ من اعتقادٍ حول طبيعة الإله المعبود، وكذلك الحواجز النّفسيَّة الّتي كانت تنتصب في داخل شخصيَّتها الذهنيَّة في عبادتها المنحرفة لغير الله ممّا هو مخلوق له ـ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ}[7]، أي أنَّ السَّبب في عبادتها للشَّمس، كان بفعل البيئة الّتي عاشت فيها وورثت عاداتها وتقاليدها والتزاماتها الدينيَّة، ولم تكن نتيجة قناعة فكريَّة مرتكزة على الحسابات العقليَّة، بما كانت تفكِّر فيه من شؤون العبادة، بل كانت نتيجة التَّقليد للمجتمع الكافر الّذي عاشت في داخله وتأثَّرت به، مما كانت تنتمي إليه بالنّسب والتّربية.
وهذا ما نراه في الكثيرين من الّذين يكفرون بالله ويشركون به ويلتزمون الأفكار الخاطئة والتّقاليد البالية، في حالٍ من التحجّر الفكريّ الّذي يمنعهم من دراسة الحقائق الأصيلة، والتّعرّف إلى ما يؤمن به الآخرون، ما يجعلهم يتعصَّبون للخطأ والباطل، ويمتنعون عن الدّخول في الحوار لمناقشة أفكارهم، مقارنةً بأفكار النَّاس الّذين يختلفون معهم.
أسباب الاهتداء
وأُعِدَّت لها وسائل التَّكريم لتشعر بالأمن والطّمأنينة والدّعة والهدوء النّفسيّ، لتتعرَّف في شخصيَّة هذا الإنسان الّذي استقدمها إليه، القيمة الأخلاقيّة الإنسانيّة الّتي تحترم الإنسان، ولا سيَّما إذا كان في موقعٍ اجتماعيّ كبير: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ـ وهو البناء المشرف العالي الّذي كان معدّاً لنـزولها كضيفةٍ محترمةٍ، مما كان مألوفاً في العرف العام من تكريم العظماء في استقبالهم وإعداد المكان اللائق بهم ـ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ـ وهي الماء الكثير الصّافي ـ وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ـ كما يفعل الإنسان عند خوضه الماء لئلا تبتلّ ثيابه، وقد كان ذلك من خلال صفاء الزّجاج الّذي كان الماء يجري من تحته، حتى خُيِّل إليها من شدَّة صفائه أنها تخوض في الماء ـ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ}[8]، فهو مملَّس من الزّجاج، وليس بلجّةٍ...
وكانت تنظر إلى هذا الجوِّ المثير الّذي يوحي بالعظمة الّتي تفوق عظمة الملوك، وتلتفت إلى سليمان في تواضعه الإنسانيّ في احترامه لها وتعاطفه مع إنسانيَّتها وتقديره لموقعها، فترى فيه تواضع الأنبياء ورحمة الرّساليّين، فلم تلمح فيه أيَّ تكبّر أو تجبّر، بل كانت تجد فيه الوداعة والصّفاء والرّوحيّة الطّاهرة.
وربما دخلت معه في حوارٍ طويلٍ حول عبادة الشَّمس وعبادة الله، فقدَّم لها البرهان العقليّ والحجّة العلميّة على توحيد الله في ربوبيّته للخلق كلّه، بما في ذلك كوكب الشَّمس، فاقتنعت بمنطقه، وعرفت حقيقة الأمر في العقيدة من دون ضغطٍ أو إكراه، لأنَّه كان يخاطبها كإنسانٍ يملك عقلاً يفكِّر ويدير الحوار بطريقةٍ متوازنة، على طريقة الأنبياء الّذين كان أسلوبهم في الدَّعوة ينطلق من الاعتراف بالآخر في التزاماته، لينقله إلى فكرة الإيمان بالوسائل العقليَّة والوجدانيَّة، لتتعمَّق الفكرة عنده، وتثبت معانيها في داخل ذاته...
ولم يدخل القرآن في التّفاصيل، على طريقته في التركيز على المبدأ العامّ واختصاره التَّفاصيل، لاهتمامه بالنَّتائج المتحركة في خطِّ الهداية، لأنَّ طبيعة الجوّ الّذي انتهت إليه القصَّة يوحي بمثل ذلك.
الإسلام لله تعالى
وهكذا دخل الإيمان في عقلها، وتحرّك في كيانها، وأشرق الله في معنى توحيده في روحها، فتوجَّهت إليه بكلِّ خشوعٍ وخضوع: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ـ فيما أسلفته في حياتي الماضية في كلِّ تاريخي من عبادةٍ خاطئةٍ جعلتني أعبدُ مخلوقاً من مخلوقاتك لا يملك إلا ما منحته إيّاه من الإشراق، من دون أن يكون له عقل يدير به الأشياء، ولا إرادة متحركة يحرّك من خلالها أوضاعه.
وهكذا سرت في خطِّ الضَّلال الّذي أبعدني عن معرفتك وعبادتك وطاعتك ومواقع رضاك، فظلمت نفسي بذلك، وأنا الآن تائبة إليك، نادمة على ما مضى، وعازمة على السَّير في الخطِّ المستقيم في العقيدة والعبادة والطَّاعة ـ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[9]، لأنّه ليس ملكاً يريد أن يضمَّ الناس إلى سلطته من موقعٍ ذاتيّ، بل هو رسول يريد أن يجمعهم حول رسالته، ويدلّهم على ربِّ العالمين في عمق المعرفة وامتدادها ورحابتها، ما يجعل القلوب مفتوحةً عليه، والعقول منقادةً إليه، ويجعل النّاس يسيرون معه لا وراءه، من خلال تواضعه وهديه واحترامه لإنسانيّتهم.
وهكذا استطاع سليمان من موقع القوّة الّتي حطّمت الحواجز بينه وبينها، وأسقطت روح التمرّد عندها، وخفَّفت من حال العنفوان لديها، أن ينفذ إلى عقلها وقلبها، من خلال انفتاح فطرتها الصّافية على كلماته ورسالته. وقد يكون هذا الأسلوب حركةً واقعيّةً في طريق الهداية، عندما تكون القوَّة سبيلاً إلى تحطيم الحواجز، لتنطلق الكلمة الهادية الطيّبة العميقة في السّاحة الواسعة الّتي ينفتح فيها العقل والقلب والوجدان على الحقيقة كلّها في مواقع الصّفاء.
المرأة في القرآن
وبقيت لنا كلمة في نهاية هذه القصّة:
1 ـ إنَّ هذا العرض القرآنيّ لشخصيَّة هذه المرأة الملكة، يظهر أنها كانت تملك العقل الإداريّ في إدارتها لمملكتها، فلا تستبدّ بقراراتها بعيداً عن استشارة كبار قومها والتَّداول معهم في الأمور التي يمكن أن تشكِّل خطراً على المملكة من تحدّيات الأقوياء لأوضاعها العامّة واستقلالها الإنساني.
2 ـ إنَّ هؤلاء الكبار من قومها الَّذين أبلغتهم رسالة سليمان، لم يفكّروا في مواجهة ما تتضمّنه الرسالة من دعوةٍ إلى استقدامهم إليه بكلّ انقياد، ومن تهديدٍ لهم في حال لم يستجيبوا للدَّعوة، بل اكتفوا بالإعلان لها أنّهم مستعدّون للدّفاع عن المملكة بما يملكون من القوَّة، وما يتحلّون به من الشّجاعة، ليدفعوا عنها أيَّ خطرٍ محتمل... ثم أرجعوا الأمر إليها لتتّخذ القرار الحاسم الَّذي سوف يتقبّلونه بكلّ خضوع ويطيعونه.
3 ـ إنها لم تشعر بالإحباط أمام هذا الموقف، بل درست الأمر بعقلٍ منفتحٍ على التّفكير في شخصيّة سليمان وصفته الخاصَّة؛ هل هو ملك يفرض قوّته السلطوية على الآخرين، أو أنّه مصلح يهدف إلى اللّقاء بهم والحوار معهم والوصول بهم إلى حالٍ من السَّلام معهم؟!
وهكذا بادرت إلى إرسال الهديّة إليه لتختبره، في محاولةٍ منها للتعرّف إلى طبيعة موقعه، وعندما جاءها الجواب بالتَّهديد، عرفت أنَّ المسألة تخفي وضعاً لا خطورة فيه، ولذلك لم تلجأ إلى المواجهة، بل لجأت إلى الموادعة والمسالمة، وجاءت إليه، وعرفت فيه الإنسان الرّساليّ الّذي يحمل الدّعوة إلى الله وإلى الخير وإلى احترام الإنسان في إنسانيّته، ودخلت معه في الحوار الّذي قادها إلى الإيمان بالله وبرسالته وتوحيده، وأعلنت بعد ذلك إيمانها بالله، وطلبت منه المغفرة والرّحمة.
إنَّ هذه القصَّة القرآنيّة تدلُّ على أنَّ المرأة ـ في نموذج ملكة سبأ ـ كانت أكبر عقلاً من الرّجال، لأنهم سارعوا إلى الحديث عن مواجهة القوَّة المحتملة من دون أن يدرسوا طبيعة هذا الرّجل صاحب الرّسالة، ونتائج الموقف الرّافض لمطلبه، ما قد يؤدّي إلى انهيار المملكة من الأساس، بينما فكّرت هي في الموضوع بعقلٍ مسؤولٍ حتّى انتهت إلى النّتيجة الّتي تحفظ موقعها وقومها وبلدها، وتفتح لها النّافذة على الحقّ، وبقيت في موقع المرأة الّتي تثق بنفسها وعقلها، فآمنت مع سليمان دون ضغطٍ منه عليها.
ونستوحي من ذلك كلّه أيضاً، أنَّ الحديث عن اعتبار عقل المرأة أنقص من عقل الرّجل، هو مما لا أساس له، وخصوصاً عندما تأخذ بأسباب الثّقافة وخطوط المعرفة، إذ قد تكون أكثر عقلاً منه إذا كانت تملك إغناء عقلها بما يؤكِّد فيه القوّة الفكريّة، وقد يكون أكثر عقلاً منها، والاختلاف بينهما هو تماماً كما الاختلاف بين الرّجال أنفسهم في تفاوت مستوى عقولهم فيما بينهم.
إنَّ هذا الإيحاء القرآنيّ يدلّ على هذه الحقيقة، إضافةً إلى أنَّ الله ساوى بين الرّجل والمرأة في المسؤوليّات العامّة، ولم يفرّق بينهما إلا فيما يتميَّز به كلّ واحدٍ منهما من جهة تكوينه الجسديّ وعناصره المتنوّعة الّتي تفرض توزيع الأدوار بينهما في الحياة الخاصَّة والعامَّة.
ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [النّمل: 40].
[2] [النّمل: 40].
[3] [فاطر: 15 ـ 17].
[4] [النّمل: 41].
[5] [النّمل: 42].
[6] [النّمل: 42].
[7] [النّمل: 43].
[8] [النّمل: 44].
[9] [النّمل: 44].