مظاهر ملك النّبيّ سليمان(ع)

مظاهر ملك النّبيّ سليمان(ع)

لا نزال نواصل الحديث عن التَّجربة النَّبويَّة لسليمان(ع)، حيث أعطاه الله ملكاً فريداً لم يعطه أحداً من قبله ولا من بعده، استجابةً منه لطلبه، وتيسيراً له في توسعة الآفاق والمواقع الَّتي يتحرَّك فيها للدَّعوة إلى الله، ولتطبيق شريعته، وتأكيد وحدانيَّته في الطّاعة والعبادة. وقد كان مركز مملكته وعاصمة دولته يفرضان الكثير من المشاريع العمرانيَّة المتميِّزة بهندستها وفنِّها الجميل، وكان النّحاس وغيره من الأمور الضّروريّة لحاجات البناء، كما كان موقعه الَّذي يجعل النّاس يفدون إليه، يستدعي استضافة القادمين إليه وتهيئة الطعام لهم بما يستوعب كثرتهم.

تسخير الرّيح لسليمان

هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، فقد كانت سعة ملكه وانتشاره في أماكن بعيدة عن مركز إقامته، يقتضيان تهيئة الوسائل الكفيلة بإيصال رسله وتعليماته إلى بلدانٍ عديدةٍ خاضعةٍ لحكمه، ومنتظرة لتعليماته في أمورها الخاصَّة والعامَّة، ومن هنا، سخَّر الله له الرّيح الَّتي تسير بأمره. وهذا ما جاءت به الآيات الكريمة في قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ـ بحيث تقطع في وقت الغداة، وهو الصّبح، ما يقطعه الآخرون في شهر كامل ـ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}، وهو وقت العشيّ الَّذي تقطع الرّيح فيه مسيرة شهر مما كان يقطعه المسافرون في ذلك الزَّمان. وربما كان الغدوّ والرّواح كنايةً عن نصف النّهار الأوَّل ونصف النّهار الثّاني.

وهكذا كان سليمان يملك هذه الوسيلة الطّبيعيّة الّتي تخضع لأمره، بعيداً عن الأوضاع الجويّة وعن خصوصيَّات الزّمن في هبوبها وسكونها، لكي يستطيع رئيس الدَّولة تفقّد أطرافها بواسطتها.

إذابة النّحاس

{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ}، وهو النّحاس، فأذابه الله له، وأجراه على الطّريقة الّتي يجري فيها الماء بقدرته الّتي تتصرَّف في الأشياء الجامدة بتحويلها إلى عناصر سائلة.

وهكذا، فبعد أن ألان الله الحديد لداود(ع)، أذاب النّحاس لابنه سليمان، وربما (الرّصاص) أيضاً، ليستعمله في حاجاته العمرانيَّة وغيرها، وقد كان ذلك يشبه المعجزة الَّتي تصدر بقدرة الله سبحانه بعيداً عن أيّة وسيلةٍ ماديّة أخرى مما اكتشفه الإنسان بعد مئات السّنين. ومن خلال ذلك، توفَّرت للنّبيّ سليمان الموادّ الأوليَّة الّتي يستفاد منها في صناعة المعدّات اللازمة لحياة الناس، والصّناعات المختلفة للأغراض المتنوّعة.

السَّيطرة على الجنّ

{وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ـ فقد سخَّر الله الجنّ لخدمته، مما لم يعتادوا عليه في حياتهم وأوضاعهم الخفيَّة من خدمةٍ للإنسان، فكان يستخدمهم في حاجاته العمرانيَّة، من بناء مراكز العبادة، كبيت المقدس، وبيوت السّكنى لأتباعه وجنوده، وقواعد التَّدريب، ونوادي الاجتماعات، ومواقع الاستقبال، ومحلاّت الضّيافة، فكانت له السَّيطرة المطلقة عليهم، وكانوا خاضعين لأوامره وتعليماته ـ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ـ أي عن أمر الله، وينحرف عن شريعته فيما يريد لعباده أن يفعلوه أو يتركوه ـ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}[1]، فذلك هو جزاء العُصاة والمتمرّدين.

وهكذا، هيَّأ الله له قوّةً عاملةً فعّالةً تستطيع الإفادة من تلك الموادّ الموضوعة بين يديه، والوسائل المتوفّرة لديه بدرجة مناسبة، وخصوصاً في الانتقال السَّريع إلى الأماكن البعيدة الَّتي تتوفّر فيها الصّخور والمعادن وعناصر البناء، الأمر الَّذي تقوم به تلك القوَّة الفاعلة، التي تملك من الإمكانات والخبرات والقدرات ما لا يملكه البشر، وتحريك ذلك في التَّصنيع الدَّقيق بالكيفيَّة المناسبة، وسدّ الثّغرات الموجودة في تلك المنطقة في مركز سليمان.

وقد فصَّل الله بعض جوانب عملهم بقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ}، والمحاريب ـ لغةً ـ مكان العبادة، أو القصور والمباني الكبيرة الَّتي بنيت كمعابد، كذلك أطلقت الكلمة على صدر المجلس، ثم عندما اتّخذت المساجد، سمّي صدر المسجد بالمحراب. قيل: "سمي محراب المسجد بذلك، لأنّه موضع محاربة الشّيطان والهوى، وقيل: سمّيَ بذلك لكون حقّ الإنسان فيه أن يكون حريباً من أشغال الدّنيا ومن توزّع الخواطر"[2].

وهكذا، أمر النّبيّ سليمان هؤلاء العمَّال ببناء المعابد الضَّخمة والجميلة، في ظلِّ حكومته الآمرة بعبادة الله في المحاريب، ليستطيع النّاس أداء وظائفهم العباديَّة بيسرٍ وسهولة، {وَتَمَاثِيلَ}[3]، وهي جمع تمثال، بمعنى الرَّسم والصّورة المجسَّمة، وقد كانت مظهراً من مظاهر الفنّ الإبداعيّ الّذي يمثِّل مخلوقات الله الّتي توحي بعظمته، وربما كانت تشمل تماثيل ذوات الأرواح كالحيوانات، لأنها كانت مباحةً في شريعة سليمان، أمَّا في الشّريعة الإسلاميّة، فالمشهور بينهم حرمتها، ولا سيما التَّماثيل المجسَّمة، وربما كانت تصنع لغير ذوات الأرواح، كالأشجار والشّمس والقمر والنّجوم، كما جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصَّادق(ع) في تفسير هذه الآية، قال: "والله ما هي تماثيل الرّجال والنّساء، ولكنَّها الشَّجر وشبهه"[4]. وعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عن تماثيل الشَّجر والشَّمس والقمر؟ فقال(ع): "لا بأس، ما لم يكن شيئاً من الحيوان"[5].

رأي الإسلام في الصّور المجسَّمة

وقد علَّل البعض تحريم هذه الصّور المجسّمة لذوات الأرواح، بأنه قد يكون ناشئاً من مكافحة عبادة الأوثان واقتلاعها من الجذور، في حين أنَّ ذلك لم يكن بمثابة الضَّرورة في عهد سليمان، لذا، كانت مباحةً في شريعته.

ولكنّ بعض الفقهاء استفاد من نفي الإمام الصّادق(ع) لأمر سليمان بها، حرمة صنع تماثيل ذوات الأرواح حتى في عهده. وقد تحفَّظ البعض عن هذه الاستفادة، لأنَّ كفاية المرجوحيّة في صحّة النّفي حتى على مستوى الكراهة، لا تلزم المؤمنين بالترك.

وقد يلاحظ البعض في مسألة الصّور والتّماثيل المجسَّمة، أنَّ المنهيّ عنه هو نصبها على الحائط والسّرير، باعتبار أنَّ ذلك قد يجعل الإنسان، وخصوصاً في حال الصّلاة، متوجِّهاً إليها، مستغرقاً فيها، ما قد يوحي بطريقةٍ لا شعورية بالانشغال بها عن التوجّه الرّوحيّ إلى الله، وهذا ما جاء في الحديث المرويّ عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): إنَّا نبسط عندنا الوسائد فيها التّماثيل ونفترشها؟ فقال: "لا بأس بما يبسط منها ويفترش ويوطأ، إنّما يكره منها ما نصب على الحائط والسّرير"[6]، لأنَّ الجلوس عليها يدلّ على عدم احترام الجالس لها أو انفتاحه عليها، ما يمنع من الاستغراق فيها والانجذاب النَّفسيّ إليها.

هذا إضافةً إلى أنَّ الأدلّة الدّالة على إبقائها والانتفاع بها ووضع غطاء عليها وقت الصَّلاة، إذا كانت موضوعةً أمام المصلّي، لا تدلّ على مبغوضيَّة وجودها والتَّداول بها في المعاملات البيعيّة ونحوها.

ولعلَّ الأساس في هذا الارتكاز الفقهيّ على النَّهيّ عن صناعتها، ناشئ من استغراق الصَّانع لها، ولا سيَّما عندما يبدع في تصويرها، بحيث قد يجعله ذلك يعيش، بوعيٍ أو بلا وعي، إحساس التشبّه بالخالق، ليوحي إلى نفسه بالخالقيَّة والقدرة على مشابهته، وخصوصاً أنَّ الصّورة، ولا سيّما إذا كان هناك إبداع في تجسيمها، هي المظهر لذلك في نماذج ذات الرّوح، وهذا ما نستوحيه من رواية الإمام الصَّادق(ع) عن آبائه(ع) في حديث المناهي، قال: "نهى رسول الله(ص) عن التَّصاوير، وقال: من صوّر صورةً، كلَّفه الله تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ"[7].

وفي روايةٍ أخرى عنه(ع): "من صوَّر صورةً من الحيوان، يُعذَّب حتى ينفخ فيها وليس بنافخٍ فيها"[8].

وهذا يوحي باختصاص النّهي بالتّصوير الّذي يجعل صاحبه يشعر بالتشبّه بالخالق، من خلال استغراقه النفسيّ بما أبدعه من المظهر التصويريّ للحيوان، أو من خلال انجذاب الناس إليه بما يشبه الانجذاب العبادي، ولا سيَّما إذا كان ما صوّره قمّةً في الإبداع الفنّي. أمّا إذا كان الفنّان يستهدف من عمله أهدافاً أخرى محلَّلةً، وكان مؤمناً بالله، خاضعاً لقدرته على الخلق، قاصداً أن يظهر للنّاس عظمة خلق الله، فلا حرمة فيه، وربما يستفاد حلّيَّة ذلك مما ورد في قصّة النّبيّ عيسى(ع) في قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ}[9]، ما قد يوحي بأنَّ صنع الطّير المجسَّد جائز في نفسه، حتى لو كانت خصوصيَّة عمله في اتجاه المعجزة الّتي تبعث فيه الرّوح بقدرة الله، والله العالم.

شكر الله على نعمه

{وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِـ والجفان هي صحاف الطَّعام الكبيرة الواسعة، كالجواب الَّتي هي الحياض التي يجنى فيها الماء، أي ينقل إليها ويجمع فيها ـ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ}، وهي الّتي يطبخ فيها الطَّعام، والرّاسيات هي القدور الثّابتة في الأرض لتأمين حاجاته في تلبية أضيافه أو عمَّاله الكثيرين الّذين يأكلون على مائدته، بما يتحمَّل مسؤوليّته في استضافتهم أو إطعامهم من الأواني الكبيرة الواسعة، كالحياض الواسعة الّتي يجمع فيها الماء.

{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً}، فقد عزَّز الله مكانتكم بالنبوَّة، وأفاض عليكم من نعمه الشَّيء الكثير، وفي مقدَّمها الملك العظيم الواسع الَّذي لم يمنحه لأحدٍ غيركم، حتى لرسله وأوليائه من عباده الصَّالحين، ما يفرض عليكم الشّكر العمليَّ بالخضوع له، والخشوع بين يديه، والاستغراق في أسرار عظمته التّوحيديَّة في ربوبيّته للخلق كلِّه، وفي الدَّعوة إليه، والعمل في سبيله، والسَّير في طريق طاعته.

{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[10]، وهؤلاء هم الَّذي يملكون عمق المعرفة بالله في مواقع عظمته ونعمه وحقّه العظيم على عباده في عبادتهم التّوحيديَّة له. وهذا ما يوحي بأنَّ الكثرة لا تمثِّل بالضّرورة قيمةً إنسانيّةً في مضمون قرارها وحركتها ومنهجها العمليّ في الحياة، لأنها ترتبط ـ غالباً ـ بالسَّطح الظَّاهر للأشياء، ولا ترتبط بالعمق، ما يجعلها بعيدةً عن الصَّواب وعن الوعي التّوحيديّ الّذي تدرك من خلاله عظمة الله وقدرته، وما يفيض به على عباده من نعمه الّتي لا يقدرون بقدراتهم الذاتيَّة الحصول عليها وإنتاجها بشكلٍ مستقلّ.

ولكن ليس معنى ذلك أنَّ القلّة تمثِّل دائماً معنى القيمة الإنسانيَّة في مضمون الفكر وحركته، لتكون هي المقياس في الخطأ والصَّواب، سلباً أو إيجاباً، بل إنَّ المعنى العميق في ذلك هو عدم اعتبار الكثرة العدديَّة أساساً للحقّ، وفي المقابل أيضاً، عدم اعتبار القلَّة العدديَّة أساساً للباطل، الأمر الّذي يفرض على الباحث المتأمِّل أن يقوم بدراسة المضمون الدّاخليّ للفكرة بطريقة موضوعيَّة، للقبول بها أو رفضها، تبعاً للنّتائج الّتي تخرج بها الدّراسة العلميّة. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [سبأ: 12].

[2]  [مفردات الرّاغب، مادّة: حرب].

[3]  [سبأ: 13].

[4]  وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج 5، ص 305.

[5]  المصدر نفسه، ج 5، ص 308.

[6]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 76، ص 289.

[7]  وسائل الشّيعة، ج 17، ص 297.

[8]  بحار الأنوار، ج 7، ص 218.

[9]  [آل عمران: 49].

[10]  [سبأ: 13].


لا نزال نواصل الحديث عن التَّجربة النَّبويَّة لسليمان(ع)، حيث أعطاه الله ملكاً فريداً لم يعطه أحداً من قبله ولا من بعده، استجابةً منه لطلبه، وتيسيراً له في توسعة الآفاق والمواقع الَّتي يتحرَّك فيها للدَّعوة إلى الله، ولتطبيق شريعته، وتأكيد وحدانيَّته في الطّاعة والعبادة. وقد كان مركز مملكته وعاصمة دولته يفرضان الكثير من المشاريع العمرانيَّة المتميِّزة بهندستها وفنِّها الجميل، وكان النّحاس وغيره من الأمور الضّروريّة لحاجات البناء، كما كان موقعه الَّذي يجعل النّاس يفدون إليه، يستدعي استضافة القادمين إليه وتهيئة الطعام لهم بما يستوعب كثرتهم.

تسخير الرّيح لسليمان

هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، فقد كانت سعة ملكه وانتشاره في أماكن بعيدة عن مركز إقامته، يقتضيان تهيئة الوسائل الكفيلة بإيصال رسله وتعليماته إلى بلدانٍ عديدةٍ خاضعةٍ لحكمه، ومنتظرة لتعليماته في أمورها الخاصَّة والعامَّة، ومن هنا، سخَّر الله له الرّيح الَّتي تسير بأمره. وهذا ما جاءت به الآيات الكريمة في قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ـ بحيث تقطع في وقت الغداة، وهو الصّبح، ما يقطعه الآخرون في شهر كامل ـ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}، وهو وقت العشيّ الَّذي تقطع الرّيح فيه مسيرة شهر مما كان يقطعه المسافرون في ذلك الزَّمان. وربما كان الغدوّ والرّواح كنايةً عن نصف النّهار الأوَّل ونصف النّهار الثّاني.

وهكذا كان سليمان يملك هذه الوسيلة الطّبيعيّة الّتي تخضع لأمره، بعيداً عن الأوضاع الجويّة وعن خصوصيَّات الزّمن في هبوبها وسكونها، لكي يستطيع رئيس الدَّولة تفقّد أطرافها بواسطتها.

إذابة النّحاس

{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ}، وهو النّحاس، فأذابه الله له، وأجراه على الطّريقة الّتي يجري فيها الماء بقدرته الّتي تتصرَّف في الأشياء الجامدة بتحويلها إلى عناصر سائلة.

وهكذا، فبعد أن ألان الله الحديد لداود(ع)، أذاب النّحاس لابنه سليمان، وربما (الرّصاص) أيضاً، ليستعمله في حاجاته العمرانيَّة وغيرها، وقد كان ذلك يشبه المعجزة الَّتي تصدر بقدرة الله سبحانه بعيداً عن أيّة وسيلةٍ ماديّة أخرى مما اكتشفه الإنسان بعد مئات السّنين. ومن خلال ذلك، توفَّرت للنّبيّ سليمان الموادّ الأوليَّة الّتي يستفاد منها في صناعة المعدّات اللازمة لحياة الناس، والصّناعات المختلفة للأغراض المتنوّعة.

السَّيطرة على الجنّ

{وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ـ فقد سخَّر الله الجنّ لخدمته، مما لم يعتادوا عليه في حياتهم وأوضاعهم الخفيَّة من خدمةٍ للإنسان، فكان يستخدمهم في حاجاته العمرانيَّة، من بناء مراكز العبادة، كبيت المقدس، وبيوت السّكنى لأتباعه وجنوده، وقواعد التَّدريب، ونوادي الاجتماعات، ومواقع الاستقبال، ومحلاّت الضّيافة، فكانت له السَّيطرة المطلقة عليهم، وكانوا خاضعين لأوامره وتعليماته ـ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ـ أي عن أمر الله، وينحرف عن شريعته فيما يريد لعباده أن يفعلوه أو يتركوه ـ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}[1]، فذلك هو جزاء العُصاة والمتمرّدين.

وهكذا، هيَّأ الله له قوّةً عاملةً فعّالةً تستطيع الإفادة من تلك الموادّ الموضوعة بين يديه، والوسائل المتوفّرة لديه بدرجة مناسبة، وخصوصاً في الانتقال السَّريع إلى الأماكن البعيدة الَّتي تتوفّر فيها الصّخور والمعادن وعناصر البناء، الأمر الَّذي تقوم به تلك القوَّة الفاعلة، التي تملك من الإمكانات والخبرات والقدرات ما لا يملكه البشر، وتحريك ذلك في التَّصنيع الدَّقيق بالكيفيَّة المناسبة، وسدّ الثّغرات الموجودة في تلك المنطقة في مركز سليمان.

وقد فصَّل الله بعض جوانب عملهم بقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ}، والمحاريب ـ لغةً ـ مكان العبادة، أو القصور والمباني الكبيرة الَّتي بنيت كمعابد، كذلك أطلقت الكلمة على صدر المجلس، ثم عندما اتّخذت المساجد، سمّي صدر المسجد بالمحراب. قيل: "سمي محراب المسجد بذلك، لأنّه موضع محاربة الشّيطان والهوى، وقيل: سمّيَ بذلك لكون حقّ الإنسان فيه أن يكون حريباً من أشغال الدّنيا ومن توزّع الخواطر"[2].

وهكذا، أمر النّبيّ سليمان هؤلاء العمَّال ببناء المعابد الضَّخمة والجميلة، في ظلِّ حكومته الآمرة بعبادة الله في المحاريب، ليستطيع النّاس أداء وظائفهم العباديَّة بيسرٍ وسهولة، {وَتَمَاثِيلَ}[3]، وهي جمع تمثال، بمعنى الرَّسم والصّورة المجسَّمة، وقد كانت مظهراً من مظاهر الفنّ الإبداعيّ الّذي يمثِّل مخلوقات الله الّتي توحي بعظمته، وربما كانت تشمل تماثيل ذوات الأرواح كالحيوانات، لأنها كانت مباحةً في شريعة سليمان، أمَّا في الشّريعة الإسلاميّة، فالمشهور بينهم حرمتها، ولا سيما التَّماثيل المجسَّمة، وربما كانت تصنع لغير ذوات الأرواح، كالأشجار والشّمس والقمر والنّجوم، كما جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصَّادق(ع) في تفسير هذه الآية، قال: "والله ما هي تماثيل الرّجال والنّساء، ولكنَّها الشَّجر وشبهه"[4]. وعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عن تماثيل الشَّجر والشَّمس والقمر؟ فقال(ع): "لا بأس، ما لم يكن شيئاً من الحيوان"[5].

رأي الإسلام في الصّور المجسَّمة

وقد علَّل البعض تحريم هذه الصّور المجسّمة لذوات الأرواح، بأنه قد يكون ناشئاً من مكافحة عبادة الأوثان واقتلاعها من الجذور، في حين أنَّ ذلك لم يكن بمثابة الضَّرورة في عهد سليمان، لذا، كانت مباحةً في شريعته.

ولكنّ بعض الفقهاء استفاد من نفي الإمام الصّادق(ع) لأمر سليمان بها، حرمة صنع تماثيل ذوات الأرواح حتى في عهده. وقد تحفَّظ البعض عن هذه الاستفادة، لأنَّ كفاية المرجوحيّة في صحّة النّفي حتى على مستوى الكراهة، لا تلزم المؤمنين بالترك.

وقد يلاحظ البعض في مسألة الصّور والتّماثيل المجسَّمة، أنَّ المنهيّ عنه هو نصبها على الحائط والسّرير، باعتبار أنَّ ذلك قد يجعل الإنسان، وخصوصاً في حال الصّلاة، متوجِّهاً إليها، مستغرقاً فيها، ما قد يوحي بطريقةٍ لا شعورية بالانشغال بها عن التوجّه الرّوحيّ إلى الله، وهذا ما جاء في الحديث المرويّ عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): إنَّا نبسط عندنا الوسائد فيها التّماثيل ونفترشها؟ فقال: "لا بأس بما يبسط منها ويفترش ويوطأ، إنّما يكره منها ما نصب على الحائط والسّرير"[6]، لأنَّ الجلوس عليها يدلّ على عدم احترام الجالس لها أو انفتاحه عليها، ما يمنع من الاستغراق فيها والانجذاب النَّفسيّ إليها.

هذا إضافةً إلى أنَّ الأدلّة الدّالة على إبقائها والانتفاع بها ووضع غطاء عليها وقت الصَّلاة، إذا كانت موضوعةً أمام المصلّي، لا تدلّ على مبغوضيَّة وجودها والتَّداول بها في المعاملات البيعيّة ونحوها.

ولعلَّ الأساس في هذا الارتكاز الفقهيّ على النَّهيّ عن صناعتها، ناشئ من استغراق الصَّانع لها، ولا سيَّما عندما يبدع في تصويرها، بحيث قد يجعله ذلك يعيش، بوعيٍ أو بلا وعي، إحساس التشبّه بالخالق، ليوحي إلى نفسه بالخالقيَّة والقدرة على مشابهته، وخصوصاً أنَّ الصّورة، ولا سيّما إذا كان هناك إبداع في تجسيمها، هي المظهر لذلك في نماذج ذات الرّوح، وهذا ما نستوحيه من رواية الإمام الصَّادق(ع) عن آبائه(ع) في حديث المناهي، قال: "نهى رسول الله(ص) عن التَّصاوير، وقال: من صوّر صورةً، كلَّفه الله تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ"[7].

وفي روايةٍ أخرى عنه(ع): "من صوَّر صورةً من الحيوان، يُعذَّب حتى ينفخ فيها وليس بنافخٍ فيها"[8].

وهذا يوحي باختصاص النّهي بالتّصوير الّذي يجعل صاحبه يشعر بالتشبّه بالخالق، من خلال استغراقه النفسيّ بما أبدعه من المظهر التصويريّ للحيوان، أو من خلال انجذاب الناس إليه بما يشبه الانجذاب العبادي، ولا سيَّما إذا كان ما صوّره قمّةً في الإبداع الفنّي. أمّا إذا كان الفنّان يستهدف من عمله أهدافاً أخرى محلَّلةً، وكان مؤمناً بالله، خاضعاً لقدرته على الخلق، قاصداً أن يظهر للنّاس عظمة خلق الله، فلا حرمة فيه، وربما يستفاد حلّيَّة ذلك مما ورد في قصّة النّبيّ عيسى(ع) في قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ}[9]، ما قد يوحي بأنَّ صنع الطّير المجسَّد جائز في نفسه، حتى لو كانت خصوصيَّة عمله في اتجاه المعجزة الّتي تبعث فيه الرّوح بقدرة الله، والله العالم.

شكر الله على نعمه

{وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِـ والجفان هي صحاف الطَّعام الكبيرة الواسعة، كالجواب الَّتي هي الحياض التي يجنى فيها الماء، أي ينقل إليها ويجمع فيها ـ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ}، وهي الّتي يطبخ فيها الطَّعام، والرّاسيات هي القدور الثّابتة في الأرض لتأمين حاجاته في تلبية أضيافه أو عمَّاله الكثيرين الّذين يأكلون على مائدته، بما يتحمَّل مسؤوليّته في استضافتهم أو إطعامهم من الأواني الكبيرة الواسعة، كالحياض الواسعة الّتي يجمع فيها الماء.

{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً}، فقد عزَّز الله مكانتكم بالنبوَّة، وأفاض عليكم من نعمه الشَّيء الكثير، وفي مقدَّمها الملك العظيم الواسع الَّذي لم يمنحه لأحدٍ غيركم، حتى لرسله وأوليائه من عباده الصَّالحين، ما يفرض عليكم الشّكر العمليَّ بالخضوع له، والخشوع بين يديه، والاستغراق في أسرار عظمته التّوحيديَّة في ربوبيّته للخلق كلِّه، وفي الدَّعوة إليه، والعمل في سبيله، والسَّير في طريق طاعته.

{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[10]، وهؤلاء هم الَّذي يملكون عمق المعرفة بالله في مواقع عظمته ونعمه وحقّه العظيم على عباده في عبادتهم التّوحيديَّة له. وهذا ما يوحي بأنَّ الكثرة لا تمثِّل بالضّرورة قيمةً إنسانيّةً في مضمون قرارها وحركتها ومنهجها العمليّ في الحياة، لأنها ترتبط ـ غالباً ـ بالسَّطح الظَّاهر للأشياء، ولا ترتبط بالعمق، ما يجعلها بعيدةً عن الصَّواب وعن الوعي التّوحيديّ الّذي تدرك من خلاله عظمة الله وقدرته، وما يفيض به على عباده من نعمه الّتي لا يقدرون بقدراتهم الذاتيَّة الحصول عليها وإنتاجها بشكلٍ مستقلّ.

ولكن ليس معنى ذلك أنَّ القلّة تمثِّل دائماً معنى القيمة الإنسانيَّة في مضمون الفكر وحركته، لتكون هي المقياس في الخطأ والصَّواب، سلباً أو إيجاباً، بل إنَّ المعنى العميق في ذلك هو عدم اعتبار الكثرة العدديَّة أساساً للحقّ، وفي المقابل أيضاً، عدم اعتبار القلَّة العدديَّة أساساً للباطل، الأمر الّذي يفرض على الباحث المتأمِّل أن يقوم بدراسة المضمون الدّاخليّ للفكرة بطريقة موضوعيَّة، للقبول بها أو رفضها، تبعاً للنّتائج الّتي تخرج بها الدّراسة العلميّة. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [سبأ: 12].

[2]  [مفردات الرّاغب، مادّة: حرب].

[3]  [سبأ: 13].

[4]  وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج 5، ص 305.

[5]  المصدر نفسه، ج 5، ص 308.

[6]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 76، ص 289.

[7]  وسائل الشّيعة، ج 17، ص 297.

[8]  بحار الأنوار، ج 7، ص 218.

[9]  [آل عمران: 49].

[10]  [سبأ: 13].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية