يحدّثنا ابن سعد في طبقاته عن وفد (تُجيب)، فقال: "قدم وفد تُجيب على رسول الله (ص) سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلاً، وساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فَسُرَّ رسولُ الله (ص) بهم وقال: مرحباً بكم! وأكرم منزلهم وحباهم، وأمر بلالاً أن يُحسن ضيافتهم وجوائزهم، وأعطاهم أكثر ممّا يجيز به الوفد، وقال: هل بقي منكم أحد؟ قالوا: غلام خلفناه على رحالنا، وهو أحدثنا سنّاً، قال: أرسلوه إلينا.
فأقبل الغلام إلى رسول الله (ص) فقال: إنّي امرؤٌ من بني أبناء الرّهط الذين أتوك آنفاً فقضيتَ حوائجهم فاقضِ حاجتي. قال: وما حاجتك؟ قال: تسأل الله أن يغفر لي ويرحمني ويجعل غنايَ في قلبي، فقال (ص): اللّهمَّ اغفرْ له وارْحَمْهُ واجعلْ غِناهُ في قلبه. ثمّ أمر له بمثل ما أمر به لرجلٍ من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثمّ وافوا رسول الله (ص) في الموسم بمنى سنة عشر، فسألهم رسول الله (ص) عن الغلام فقالوا: ما رأينا مثله أقنع منه بما رزقه الله...".
فقد يلفت نظرنا هذا الغلامُ الطيِّبُ الذي لم يشأ أن يطلب لنفسه شيئاً ماديّاً ممّا طلبه قومه، أو ممّا اعتاد الناس أن يطلبوه، بل طلب غفران الله ورحمته، وأن يحقِّق له غنى نفسه الدّاخلي، ما يوحي لنا بالروح الكبيرة التي تتجسَّد في هذا الغلام الذي أدرك أنَّ مطالب النفس لا تنتهي، وأنَّ فقر النفس أشدّ من فقر المال، لأنّه يجعل الإنسان لاهثاً أمام أطماعه وأشواقه ورغباته، ويحطّم عزّته وكرامته ومبادئه أمام أيِّ حاجة إلى غيره إذا فرض عليه غيرُه في مقابلها الذلَّ والانحرافَ.. أمّا الغنى الداخلي، فإنّه يملأ النفس بالشعور العميق وبالاكتفاء بأقلّ شيء، وبذلك يملك نفسه وكرامته ومبادئه بعيداً من أيِّ ضغط ومن أيِّ ابتزاز، لأنّه يشعر في هذه الحالة بأنَّ الآخرين ليسوا قوّة فوقه، بل هم مثله، له حاجاته ولهم حاجاتهم، فإذا كان هو محتاجاً إلى بعض ما لديهم، فإنّهم محتاجون إلى كثيرٍ ممّا في أيدي الآخرين، فلماذا يضع نفسه تحت رحمتهم إزاء بعض رغباته، ليشعروا بالفوقيّة في مقابل شعوره بالدونيّة، ما دام قادراً على أن يصبر على نفسه، من أجل أن تبقى له نفسه؟! كما ورد في الحديث عن الإمام عليّ (ع) في بعض كلماته: "أكْرِم نفسك عن كلِّ دنيئة وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنَّك لن تعتاض بما تبذله من نفسك عِوَضاً".
وهكذا، قضى النبيّ (ص) لهذا الغلام حاجته، فقد دعا له النبيّ (ص) بما طلب، واستجاب له الله دعاءه، حتّى أصبح مضرب المثل في قناعته بما رزقه الله.. ومات على ذلك.
ويظهر من القصّة، أنّ مثل هذا الغلام النموذج قد ملأ قلب النبيّ إعجاباً وتقديراً، ولذلك بدأ النبيّ (ص) قومه بالسؤال عنه، عندما قَدِموا عليه مرّة ثانية في موسم الحجّ بمنى.. وتلك هي بعض عظمة النبيّ محمّد (ص)، فقد كان لا ينسى مثل هذه النّماذج الحيَّة التي ترتبط بالحياة من خلال المبادئ لا من خلال الأطماع، فيبادر بالسؤال عنها، حتّى يشعر الناس بقيمة المعاني الكبيرة التي يجسّدها هؤلاء، ليقتدوا بهم في ذلك كلّه.. وتلك هي دروس السيرة النبويّة التي تواجهك في كلّ موقف وفي كلّ مكان.
*من كتاب "القائد القدوة".

يحدّثنا ابن سعد في طبقاته عن وفد (تُجيب)، فقال: "قدم وفد تُجيب على رسول الله (ص) سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلاً، وساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فَسُرَّ رسولُ الله (ص) بهم وقال: مرحباً بكم! وأكرم منزلهم وحباهم، وأمر بلالاً أن يُحسن ضيافتهم وجوائزهم، وأعطاهم أكثر ممّا يجيز به الوفد، وقال: هل بقي منكم أحد؟ قالوا: غلام خلفناه على رحالنا، وهو أحدثنا سنّاً، قال: أرسلوه إلينا.
فأقبل الغلام إلى رسول الله (ص) فقال: إنّي امرؤٌ من بني أبناء الرّهط الذين أتوك آنفاً فقضيتَ حوائجهم فاقضِ حاجتي. قال: وما حاجتك؟ قال: تسأل الله أن يغفر لي ويرحمني ويجعل غنايَ في قلبي، فقال (ص): اللّهمَّ اغفرْ له وارْحَمْهُ واجعلْ غِناهُ في قلبه. ثمّ أمر له بمثل ما أمر به لرجلٍ من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثمّ وافوا رسول الله (ص) في الموسم بمنى سنة عشر، فسألهم رسول الله (ص) عن الغلام فقالوا: ما رأينا مثله أقنع منه بما رزقه الله...".
فقد يلفت نظرنا هذا الغلامُ الطيِّبُ الذي لم يشأ أن يطلب لنفسه شيئاً ماديّاً ممّا طلبه قومه، أو ممّا اعتاد الناس أن يطلبوه، بل طلب غفران الله ورحمته، وأن يحقِّق له غنى نفسه الدّاخلي، ما يوحي لنا بالروح الكبيرة التي تتجسَّد في هذا الغلام الذي أدرك أنَّ مطالب النفس لا تنتهي، وأنَّ فقر النفس أشدّ من فقر المال، لأنّه يجعل الإنسان لاهثاً أمام أطماعه وأشواقه ورغباته، ويحطّم عزّته وكرامته ومبادئه أمام أيِّ حاجة إلى غيره إذا فرض عليه غيرُه في مقابلها الذلَّ والانحرافَ.. أمّا الغنى الداخلي، فإنّه يملأ النفس بالشعور العميق وبالاكتفاء بأقلّ شيء، وبذلك يملك نفسه وكرامته ومبادئه بعيداً من أيِّ ضغط ومن أيِّ ابتزاز، لأنّه يشعر في هذه الحالة بأنَّ الآخرين ليسوا قوّة فوقه، بل هم مثله، له حاجاته ولهم حاجاتهم، فإذا كان هو محتاجاً إلى بعض ما لديهم، فإنّهم محتاجون إلى كثيرٍ ممّا في أيدي الآخرين، فلماذا يضع نفسه تحت رحمتهم إزاء بعض رغباته، ليشعروا بالفوقيّة في مقابل شعوره بالدونيّة، ما دام قادراً على أن يصبر على نفسه، من أجل أن تبقى له نفسه؟! كما ورد في الحديث عن الإمام عليّ (ع) في بعض كلماته: "أكْرِم نفسك عن كلِّ دنيئة وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنَّك لن تعتاض بما تبذله من نفسك عِوَضاً".
وهكذا، قضى النبيّ (ص) لهذا الغلام حاجته، فقد دعا له النبيّ (ص) بما طلب، واستجاب له الله دعاءه، حتّى أصبح مضرب المثل في قناعته بما رزقه الله.. ومات على ذلك.
ويظهر من القصّة، أنّ مثل هذا الغلام النموذج قد ملأ قلب النبيّ إعجاباً وتقديراً، ولذلك بدأ النبيّ (ص) قومه بالسؤال عنه، عندما قَدِموا عليه مرّة ثانية في موسم الحجّ بمنى.. وتلك هي بعض عظمة النبيّ محمّد (ص)، فقد كان لا ينسى مثل هذه النّماذج الحيَّة التي ترتبط بالحياة من خلال المبادئ لا من خلال الأطماع، فيبادر بالسؤال عنها، حتّى يشعر الناس بقيمة المعاني الكبيرة التي يجسّدها هؤلاء، ليقتدوا بهم في ذلك كلّه.. وتلك هي دروس السيرة النبويّة التي تواجهك في كلّ موقف وفي كلّ مكان.
*من كتاب "القائد القدوة".